الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-50-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٧

للتأكيد. وأمثال ذلك كثير في الكلمات الفصحى.

ولكن ثمّة تفسير أجمل ، وهو أن يقال أحيانا : مثلك لا يهرب من ساحة الأحداث. أيّ أنّ الذي يملك الشجاعة والعقل والذكاء مثلك ، لا ينبغي عليه الهرب (والخلاصة أن من يملك مثل صفاتك يجب أن يكون هكذا وهكذا).

وفي الآية التي نبحثها سيكون المعنى هكذا : مثل الخالق الذي ذكرنا أوصافه ـ كالعلم الواسع والقدرة العظيمة اللامتناهية ليس له مثل».

ذهب أرباب اللغة وعلماؤها إلى أنّ هناك بعض المصطلحات لها نفس معنى (مثل) إلّا أنّها ليست مثلها فى ـ المفهوم من زاوية عموميتها وشموليتها ، مثلا :

«ند» على وزن «ضد» وتقال عند ما يكون القصد من التشبيه الإشارة إلى المشابهة في الجوهر والماهية.

«شبه» وتقال عند ما يكون الكلام عن الكيفية فقط.

«مساوي» وتقال عند ما يكون الكلام عن الكمية فقط.

«شكل» وتقال عند ما يكون الكلام في التشبيه عن المقدار والمساحة.

إلّا أنّ «مثل» لها مفهوم أوسع وأكثر عمومية ، بحيث تشمل جميع المفاهيم الآنفة الذكر.

لذا فإنّ الله عند ما يريد أن ينفي عن ذاته أي شبيه أو نظير يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١).

٣ ـ بعض الملاحظات حول الرزق الإلهي :

أ: معيار بسط الرزق وتقديره :

يجب أن لا نتصوّر أبدا أن بسط الرزق يعني محبة الله لنا ، أو أن تضييق المعيشة هي دليل غضبه ، لأنّ الله قد يختبر الإنسان بواسطة البسط في رزقه ،

__________________

(١) لاحظ مفردات الراغب مادة «مثل».

٤٨١

وأحيانا يريد أن يمتحن صبره ومقاومته عن طريق التضييق بالمعيشة عليه.

وعن هذا الطريق يصار إلى تربية الإنسان.

إنّ الثروة الكبيرة قد تكون أحيانا سببا لعذاب أهلها وتعبهم وسلب استقرارهم وراحتهم النفسية ، حيث يقول القرآن في الآية (٥٥) من سورة التوبة : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ).

وفي الآيتين (٥٥ ـ ٥٦) من سورة المؤمنين ، نقرأ قوله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ).

ب : تحديد الأرزاق لا يتعارض مع بذل الجهود :

إنّ الآيات التي تتحدث عن تحديد مقدار الرزق لا تتنافي مع سعي الإنسان في مجال تحصيله للرزق. وينبغي أن لا يكون الأمر مبعثا للخمول والكسل والهروب من تحمل مسئوليات الجهاد الفردي الاجتماعي ، إذ هناك آيات قرآنية كثيرة تؤّكد أهمية وقيمة السعي الإنساني.

إنّ الهدف هو أن ندرك أنّنا رغم سعينا وعملنا فهناك يد خفية تقوم أحيانا بحجب نتائج هذه الجهود ، وتقوم في بعض الأحيان بعكس ذلك ، حتى لا ينسى الناس في حياتهم الاجتماعية الطويلة أن ثمّة قدرة اخرى هي قدرة مسبب الأسباب وهي التي تدبر شؤون العالم.

وينبغي هنا أن لا نلقي تبعات الكسل والإهمال والتقاعس على مفهوم الرزق الإلهي المحدود لكل إنسان ، لأنّه تعالى صرّح بأن عطاء الرزق يساوي ما يبذله الفرد من جهد وعناء.

٤٨٢

ج : عدم اقتصار الرزق على المفهوم المادي :

للرزق معنى واسع بحيث يشمل الرزق المعنوي ، بل إنّ الرزق الأصلي هو الرزق المعنوي ، وفي الأدعية نلتقي مع أمثلة كثيرة تؤكّد ذلك ، فنقول حول الحج مثلا :

«اللهم ارزقني حج بيتك الحرام».

وفي أدعية طلب الطاعة تقول :

«اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية».

وفي أدعية أيام شهر رمضان نقول :

«اللهم ارزقني فيه طاعة الخاشعين»

(دعاء اليوم الخامس عشر).

وهكذا بالنسبة للهبات المعنوية الأخرى.

د : القرآن والأسباب التي تؤدي إلى زيادة الرزق :

لقد ذكر القرآن الكريم بعض الأمور التي تعتبر بحدّ ذاتها درسا لتربية الإنسان وبنائه ، ففي الآية (٧) من سورة «إبراهيم» نقرأ قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).

وفي الآية (١٥) من سورة «الملك» قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ).

وفي سورة الأعراف ، آية (٩٦) قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

ه : التضييق في الرزق والقضية التربوية :

أحيانا يكون ضيق الرزق لمنع الناس عن الطغيان ، كما نقرأ في قوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) (١).

__________________

(١) الشورى ، الآية ٢٧.

٤٨٣

ز : الرّزاق هو الله

يؤكّد القرآن الكريم أنّ الذي يعطي الرزق للناس هو الله ، وعليهم أن لا يطلبوا من غيره ، وعليهم بعد الإيمان والتوكل أن يعتمدوا على وسعهم وطاقاتهم ، كما ورد في الآية (٣) من سورة «فاطر» في قوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

والآية (١٧) من «العنكبوت» في قوله تعالى : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ).

وهكذا تقطع التربية القرآنية روح الحاجة لدى الإنسان إلى عباد مثله ، وتجعله مرتبطا بخالقه وبارئه ورازقه ، فتنمي فيه روح الإباء ، والعبودية والانقطاع إلى الله.

ولدينا بحيث مفصل بخصوص الأرزاق والسعي للحياة ، وأسباب الرزق ومصادره في نهاية تفسير الآية (٧١) من سورة «النحل» وكذلك في نهاية تفسير الآية (٦) من سورة «هود» ، فليراجع هناك.

* * *

٤٨٤

الآيتان

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

التّفسير

الإسلام عصارة شرائع جميع الأنبياء :

بما أن العديد من بحوث هذه السورة تتعلق بالمشركين ، وأن الآيات السابقة كانت تتحدث عن نفس هذا الموضوع أيضا ، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تبيّن هذه الحقيقة ، وهي أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ليست دعوة جديدة ، إنّها دعوة جميع الأنبياء أولي العزم ، وليس أصل التوحيد فحسب ، بل إن جميع دعوات الأنبياء في

٤٨٥

القضايا الأساسية وفي مختلف الأديان السماوية كانت واحدة.

تقول الآية : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) والذي هو أوّل نبيّ من أولي العزم.

وأيضا : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى).

وبهذا الشكل فما كان موجودا في شرائع جميع الأنبياء موجود في شريعتك أيضا و «ما يمتلكه الصالحون جميعا تملكه لوحدك».

إنّ عبارة (من الدين) تبيّن أن التنسيق بين جميع الشرائع السماوية لم يكن بخصوص التوحيد أو أصول العقائد فحسب ، بل في كلّ مجموعة الدين الإلهي ، فمن حيث الأساس والجذور كانت واحدة ، بالرغم من أن تكامل المجتمع الإنساني يقتضي أن تكون التشريعات والقوانين الفرعية متناسقة مع تكامل الناس ، وتسير نحو التكامل حتى تصل إلى الحد النهائي وتختتم الأديان.

لهذا السبب هناك أدلة كثيرة في آيات قرآنية اخرى تبيّن أن الأصول العامة للعقائد والقوانين والتعليمات واحدة في جميع الأديان.

فمثلا نقرأ في القرآن الكريم بخصوص شرح حال العديد من الأنبياء ، أنّ أوّل دعوة لهم كانت : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) (١).

وفي مكان آخر نقرأ : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ).

وأيضا فقد ورد الإنذار بالبعث في دعوة العديد من الأنبياء (الأنعام ١٣٠ ، الأعراف ٥٩ ، الشعراء ١٣٥ ، طه ١٥ ، مريم ٣١).

أمّا موسى وعيسى وشعيب عليه‌السلام فيتحدثون عن الصلاة (طه ١٤ ، مريم ٣١ ، هود ٨٧).

وإبراهيم يدعو إلى الحج (الحج ٢٧).

وكان الصوم مشرّعا عند جميع الأقوام السابقين (البقرة ١٨٣).

__________________

(١) الأعراف (٥٩ ، ٦٥ ، ٧٣ ، ٨٥) هود (٥٠ ، ٦١ ، ٨٤) حيث جاءت بالترتيب بخصوص نوح ، هود وصالح عليهم‌السلام.

٤٨٦

لذا ، وكتعليمات عامّة لجميع الأنبياء العظام تقول الآية في الجملة الأخرى : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).

فهي توصي بأمرين مهمّين :

الأوّل : إقامة دين الخالق في كلّ الأرض (وليس العمل فحسب ، بل إقامته وإحياؤه ونشره).

الثّاني : الاحتراز عن البلاء العظيم ، يعني الفرقة والنفاق في الدين.

وبعد ذلك تقول : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ).

فلقد تطبع هؤلاء على الشرك وعبادة الأصنام بسبب الجهل والتعصب لسنين طويلة ، وعشعش ذلك في أعماقهم بحيث أصبحت الدعوة إلى التوحيد تخيفهم وتوحشهم ، إضافة لذلك فإن مصالح زعماء المشركين اللامشروعة محفوظة في الشرك ، في حين أن التوحيد هو أساس ثورة المستضعفين ، ويقف حائلا دون أهواء الطغاة ومظالمهم.

وكما أن انتخاب الأنبياء بيد الخالق ، كذلك فإنّ هداية الناس بيده أيضا : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ).

* * *

ملاحظات

وهناك ملاحظات في هذه الآية يجب الانتباه إليها :

١ ـ (شرع) من كلمة (شرع) وهي في الأصل تعني الطريق الواضح ، حيث يقال (الشريعة) للطريق المؤدي إلى النهر ، ثمّ استخدمت هذه الكلمة بخصوص الأديان الإلهية والشرائع السماوية ، لأن طريق السعادة الواضح يتمثل فيها ، وهي طريق الوصول إلى الإيمان والتقوى والصلح والعدالة.

وبما أنّ الماء هو أساس النظافة والطهارة والحياة ، لذا فإنّ لهذا المصطلح

٤٨٧

تناسب واضح مع الدين الإلهي الذي يؤدّي نفس هذه الأعمال من الناحية المعنوية مع روح الإنسان والمجتمع البشري (١).

٢ ـ لقد أشارت هذه الاية إلى خمسة من الأنبياء الإلهيين فقط (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم‌السلام) لأنّ هؤلاء الخمسة هم الأنبياء أولو العزم ، أيّ أصحاب الدين والشرائع ، وفي الحقيقة فإنّ الآية تشير إلى انحصار الشريعة بهؤلاء الخمسة من الأنبياء.

٣ ـ في البداية ذكرت الآية نوحا ، لأنّ أوّل شريعة (أو الدين الذي يحتوي على كلّ القوانين العبادية والاجتماعية) نزلت عن طريقه ، وكانت هناك تعليمات وبرامج محدودة للأنبياء الذين سبقوه (٢).

ولهذا السبب لم يشر القرآن ولا الرّوايات الإسلامية إلى الكتب السماوية قبل نوح عليه‌السلام.

٤ ـ من الضروري أن نشير إلى أنّه عند ذكر هؤلاء الخمسة ، ثمّ ذكر نوح عليه‌السلام في البداية ثمّ نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد ذلك إبراهيم عليه‌السلام وموسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام ، وهذا الترتيب بسبب أن نوحا كان هو البادئ والفاتح ، ونبيّ الإسلام ذكر بعد ذلك بسبب عظمته ، وذكر الآخرون حسب الترتيب الزمني لظهورهم.

٥ ـ من الضروري أيضا أن نشير إلى هذه الملاحظة ، وهي أن القرآن يستخدم عبارة : (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) بخصوص نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه استخدم عبارة «وصيّنا» بالنسبة الى الآخرين ، قد يكون هذا الاختلاف في التعبير بسبب أهمية الإسلام بالنسبة لسائر الأديان السماوية الأخرى.

٦ ـ وردت عبارة (من يشاء) بالنسبة الى كيفية انتخاب الأنبياء في نهاية الآية ، والتي قد تكون إشارة مجملة للمؤلهات الذاتية للرسل الإلهيين.

__________________

(١) لقد جاء هذا المعنى بشكل مجمل في لسان العرب والمفردات للراغب وبقية كتب اللغة.

(٢) هناك شرح أوردناه بهذا الخصوص في نهاية الآية ٢١٣ من سورة البقرة.

٤٨٨

أمّا بخصوص الأمم فقد تم استخدام عبارة (من ينيب) «والتي تعني الرجوع إلى الخالق والتوبة عن الذنب» حتى يتّضح معيار الهداية الإلهية وشرائطها للجميع ، ويعثروا على طريق الوصول إلى بحر رحمته.

جاء في الحديث القدسي «من تقرب منّي شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» (١).

وقد ورد هذا الاحتمال أيضا في تفسير الجملة الأخيرة ، وهو أن (الاجتباء) لا يختص بالأنبياء فحسب ، بل يشمل جميع العباد المخلصين الذين لهم المقام المحمود عند الخالق.

وبما أن أحد أركان دعوة الأنبياء أولى العزم هو عدم التفريق في الدين ، فقد كانوا يدعون لذلك حتما ، لذا فقد يطرح هذا السؤال : ما هو أساس كلّ هذه الاختلافات المذهبية؟

وقد أجابت الآية الأخرى على هذا السؤال وذكرت أساس الاختلافات الدينية بأنّه : (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) ، فالاختلافات لم تحدث إلّا بسبب حب الدنيا والمنصب والظلم والحسد والعداوة.

نعم ، فعبيد الدنيا الظلمة والحسودون الحاقدون وقفوا حيال أديان الأنبياء جميعا ، ودفعوا كلّ مجموعة باتجاه معين كيما يثبتوا أركان زعامتهم ويؤمّنوا مصالحهم الدنيوية ، ويكشفوا ـ علانية ـ حسدهم وعداوتهم للمؤمنين الحقيقيين دين الأنبياء ، ولكن كلّ هذا حصل بعد إتمام الحجة.

وبهذا الترتيب فإنّ أساس التفرق في الدين لم يكن الجهل ، بل كان الظلم والبغي والانحراف عن الحق ، والأهواء والآراء الشخصية.

«فالعلماء الذين يطلبون الدنيا» و «والحاقدون من الناس والمتعصبون» اتحدوا معا لزرع هذه الاختلافات.

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، ص ١٥٧ (نهاية الآيات التي نبحثها).

٤٨٩

وتعتبر هذه الآية ردّا واضحا على الذين يقولون بأن الدين أوجد الاختلاف بين البشر ، وأدى الى إراقة دماء كثيرة على مدى التاريخ ، فلو دققوا في الأمر لوجدوا أن الدين دائما هو أساس لوحدة والاتحاد في المجتمع (كما حصل للإسلام وقبائل الحجاز وحتى الأقوام في خارج الجزيرة حيث انتهت الاختلافات وأصبحوا أمة واحدة).

إلّا أن السياسات الاستعمارية هي التي أوجدت الفرقة بين الناس ، وحرضت على الاختلافات ، وكانت أساسا لإراقة الدماء ، ففرض سياساتها وأهوائها على الأديان السماوية كان عاملا كبيرا آخر في إيجاد الفرقة ، وهذا بحد ذاته ينبع من (البغي) أيضا.

«البغي» كما يكشف أساسه اللغوي ، يعني (طلب التجاوز والانحراف عن خط الوسط والميل نحو الإفراط أو التفريط) سواء تمّ تطبيق هذا الطلب أم لا ، وتختلف كميته وكيفيته ، ولهذا السبب فغالبا ما يستخدم بمعنى الظلم.

وأحيانا يقال لأي طلب بالرغم من كونه أمرا جيدا ومرغوبا.

لذا فإنّ الراغب في مفرداته يقسم (البغي) إلى نوعين : (ممدوح) و (مذموم) فالأوّل يتجاوز حد العدالة ويصل إلى الإحسان والإيثار ، وتجاوز الواجبات والوصول إلى المستحبات ، والثّاني يتجاوز الحق نحو الباطل.

ثم يضيف القرآن الكريم : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) حيث يهلك أتباع الباطل وينصر أتباع الحق.

نعم ، فالدنيا هي محل الاختبار والتربية والتكامل ، ولا يحصل هذا بدون حرية العمل ، وهذا هو الأمر التكويني الإلهي الذي كان موجودا منذ بدء خلق الإنسان ولا يقبل التغيير. إن هذه هي طبيعة الحياة الدنيوية ، ولكن ما يمتاز به عالم الآخرة هو أن جميع هذه الاختلافات ستنتهي وسوف تصل الإنسانية إلى الوحدة الكاملة ، ولهذا السبب يتمّ استخدام عبارة (يوم الفصل) للقيامة.

٤٩٠

أمّا آخر جملة فتقوم بتوضيح حال الأشخاص الذين جاؤوا بعد هذه المجموعة ، أي الذين لم يدركوا عصر الرسل ، بل جاؤا في فترة طبع فيها المنافقون والمفرقون المجتمع البشري بطابعهم الشيطاني ، لذا لم يستطيعوا إدراك الحق بشكل جيد ، حيث تقول : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١).

وقد ذكروا في حقيقة معنى كلمة (ريب) أن هذه الكلمة تطلق على الشك الذي يتبدل إلى الحقيقة أخيرا بعد أن يزال الستار عنه ، وقد يكون هذا الأمر إشارة إلى ظهور نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأدلة الواضحة ، حيث محى آثار الشك والريب من قلوب طلّاب الحق.

* * *

ملاحظة

نقل تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه‌السلام في قول الله تعالى : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) قال الأمام ، (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) كناية عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام ثمّ قال : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من أمر ولاية علي (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) كناية عن علي (ع) (٢).

وبديهي أنّ المقصود ليس تحديد الدين في ولاية علي عليه أفضل الصلاة والسلام ، بل الهدف هو بيان هذه الحقيقة ، وهي أنّ قضية ولاية أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام تعتبر من أركان الدين أيضا.

* * *

__________________

(١) وفقا لهذا التّفسير الذي يتناسق بشكل كامل مع الجمل السابقة ، فإن ضمير (بعدهم) يعود إلى الأمم الأولى التي أوجدت الفرقة بين المذاهب والأديان ، وليس إلى الأنبياء المذكورين في الآية السابقة (فدقق ذلك).

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٦٧.

٤٩١

الآية

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥))

التّفسير

فاستقم كما أمرت!

بما أن الآيات السابقة تحدثت عن تفرق الأمم بسبب البغي والظلم والانحراف ، لذا فإنّ الآية التي نبحثها تأمر النّبي بمحاولة حل الاختلافات وإعادة الحياة إلى دين الأنبياء ، وأن يبذل منتهى الاستقامة في هذا الطريق ، فتقول : (فَلِذلِكَ فَادْعُ) (١) أي ادعوهم إلى الدين الإلهي الواحد وامنع الاختلافات.

ثم تأمره بالاستقامة في هذا الطريق ، فتقول : (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ).

ولعل جملة «كما أمرت» إشارة إلى المرحلة العالية من الاستقامة ، أو إلى أن

__________________

(١) بعض المفسّرين اعتبر «اللام» في «لذلك» بمعنى «إلى» ، والبعض الآخر بمعنى (التعليل) وفي الحالة الأولى تكون كلمة (ذلك) إشارة إلى دين الأنبياء السابقين ، وفي الحالة الثانية إشارة إلى اختلاف الأمم.

٤٩٢

الاستقامة يجب أن تكون من حيث الكمية والكيفية والزمن والخصوصيات الأخرى مطابقة للقانون الإلهي.

وبما أن أهواء الناس تعتبر من الموانع الكبيرة في هذا الطريق ، لذا تقول الآية في ثالث أمر لها : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) ، لأن كلّ مجموعة ستدعوك إلى أهوائها ومصالحها الشخصية ، تلك الدعوة التي يكون مصيرها الفرقة والاختلاف والنفاق ، فعليك القضاء على هذه الأهواء ، وجمع الكل في ظل الدين الإلهي الواحد.

وبما أن لكل دعوة نقطة بداية ، لذا فإن نقطة البداية هي شخص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تقول الآية في رابع أمر لها : (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ). فأنا لا أفرّق بين الكتب السماوية ، اعترف بها جميعا ، وكلها تدعو إلى التوحيد والمعارف الدينية الطاهرة والتقوى والحق والعدالة ، وفي الحقيقة فإن ديني جامع لها ومكملها.

فأنا لست مثل أهل الكتاب حيث يقوم كلّ واحد بإلغاء الآخرين ، فاليهود يلغون المسيحيين ، والمسيحيون يلغون اليهود ، وحتى أن أتباع كلّ دين أيضا يقبلون ما يتلاءم مع حاجاتهم ورغباتهم من كتبهم الدينية ، فانا أقبل بالكل لأن الكل له أصول أساسية واحدة.

وبما أن رعاية (أصل العدالة) ضروري لإيجاد الوحدة ، لذا فإن الآية تطرح ذلك في خامس أمر لها فتقول : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) ، سواء في القضاء والحكم ، أو في الحقوق الاجتماعية والقضايا الأخرى (١).

وبهذا الشكل فإنّ الآية التي نبحثها مؤلفة من خمس تعليمات مهمّة ، حيث تبدأ من أصل الدعوة ، ثمّ تطرح وسيلة انتشارها ـ يعني الاستقامة ـ ثمّ تشير إلى الموانع في الطريق «كعبادة الأهواء» ثمّ تبين نقطة البداية التي تبدأ من النفس ، وأخيرا الهدف النهائي والذي هو توسيع وتعميم العدالة.

__________________

(١) بعض المفسّرين حدّد (العدالة) هنا بالقضاء ، في حين أنّه لا توجد قرينة على هذه المحدودية في الآية.

٤٩٣

بعد هذه التعليمات الخمس ، تشير إلى المشتركات بين الأقوام والتي تتلخص بخمس فقرات ، حيث تقول : (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) وكل واحد مسئول عن اعماله (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) وليس بيننا نزاع وخصومة ، ولا امتياز لأحدنا على الآخر وليست لدينا أغراض شخصية اتجاهكم.

وعادة لا توجد حاجة إلى الاستدلال والإحتجاج ، لأن الحق واضح ، إضافة إلى ذلك فإننا جميعا سوف نجتمع في مكان واحد : (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) (١).

والذي سوف يقضي بيننا في ذلك اليوم هو الأحد الذي : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

وعلى هذا الأساس فإنّ إلهنا واحد ، ونهايتنا ستكون في مكان واحد ، والقاضي الذي إليه المصير واحد ، وبالرغم من كلّ هذا فإننا مسئولون جميعا حيال أعمالنا ، وليس هناك فرق لإنسان على آخر إلّا بالإيمان والعمل الصالح.

وننهي هذا البحث بحديث جامع ، فقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاث منجيات ، وثلاث مهلكات ، فالمنجيات : العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وخشية الله في السر والعلانية ، والمهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه» (٢).

* * *

__________________

(١) الضمير المتكلم مع الغير في (بيننا) يشير إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وضمير الجمع في (بينكم) يشير إلى جميع الكفار ، سواء كانوا أهل الكتاب أو المشركين.

(٢) مجمع البيان ، نهاية الآيات التي نبحثها. وتحف العقول كلمات الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤٩٤

الآيات

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))

التّفسير

لا تستعجلوا بالساعة!!

الآيات السابقة كانت تتحدث عن واجبات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كاحترامه لمحتوى الكتب السماوية ، وتطبيق العدالة بين جميع الناس وترك أي محاججة أو خصومة بينه وبينهم. أمّا الآيات التي نبحثها ، فلكي تكمّل البحث السابق وتثبت أن حقانية نبيّ الإسلام لا تحتاج إلى دليل ، تقول : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وبما أن نقاشهم ومحاججتهم ليس لكشف الحقيقة ، بل للعناد والإصرار تقول الاية (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ).

٤٩٥

(وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لعدم وجود غير هذا الجزاء للمعاندين.

وقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المقصود من جملة : (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ).

فقالوا : إنّ المقصود هو استجابة عامة الناس من ذوي القلوب الطاهرة ، والذين ليست لهم نوايا خبيثة ، يستسلمون للحق ويخضعون له مستلهمين ذلك من الفطرة الإلهية ومشاهدة محتوى الوحي والمعاجز المختلفة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد يكون المقصود بها استجابة دعاء الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحق معارضيه كما في يوم معركة بدر ، حيث أدى ذلك إلى فناء قسم عظيم من جيش العدو وانكسار شوكته.

وأحيانا اعتبروا ذلك إشارة إلى قبول أهل الكتاب ، حيث كانوا ينتظرون نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ظهوره ، ويذكرون علامات ظهوره للناس من خلال كتبهم ، وكانوا يظهرون الإيمان والحب له ، إلّا أنّه بعد ظهور الإسلام أنكروا كلّ ذلك ، لأن مصالحهم غير المشروعة أصبحت في خطر.

ويبدو أن التّفسير الأوّل هو الأفضل ، لأن التّفسير الثّاني يقتضي أن تكون هذه الآيات نازلة بعد معركة بدر ، في حين أنّه لا دليل على هذا الأمر ، ويظهر أن جميع هذه الآيات نزلت في مكّة.

والتّفسير الثّالث لا يتلاءم مع أسلوب الآية ، لأنّه يجب أن يقال : «من بعد ما استجابوا له».

إضافة إلى أن ظاهر جملة : (يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) يشير إلى محاججة المشركين بخصوص الخالق ، وليس أهل الكتاب بالنسبة الى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن ما هي المواضيع المطروحة المشار إليها في هذه المحاججة الباطلة؟ هناك اختلاف بين المفسّرين :

فقال البعض : إنّ المقصود هو ادعاء اليهود الذين يقولون بأن دينهم كان

٤٩٦

موجودا قبل الإسلام وإن اسبقيته دليل على أفضليته.

أو ، ما دمتم تدّعون الوحدة فتعالوا وآمنوا بدين موسى عليه‌السلام لأن الطرفين يقبلانه.

ولكن ـ كما قلنا ـ فإن من المستبعد أن يكون الكلام في هذه الآيات مع اليهود أو أهل الكتاب ، لأن «المحاججة في الله» أكثر ما تخص المشركين ، لذا فإنّ الجملة أعلاه تشير إلى الأدلة الواهية للمشركين في قبولهم بالشرك ، والتي منها شفاعة الأصنام أو اتباع دين الآباء والأجداد.

على أية حال ، فالمعاندون الذين يصرون على عنادهم بعد وضوح الحق ، سيفتضح أمرهم بين خلق الله ، وسيشملهم غضب الخالق في هذا العالم والعالم الآخر.

ثم يشير القرآن إلى أحد أدلة التوحيد وقدرة الخالق ، وفي نفس الوقت يتضمّن إثبات النبوة حيال المتحاججين ذوي المنطق الواهي ، حيث تقول الآية : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ).

«الحق» كلمة جامعة تشمل المعارف والعقائد الحقة ، والأخبار الصحيحة والبرامج المتطابقة مع الحاجة الفطرية والاجتماعية ، وما شابه ذلك ، لأن الحق هو الشيء الموجود الذي يطابق مصداقه الخارجي ، وليس له جنبة ذهنية وخيالية.

وأمّا «الميزان» فله معنى عام في مثل هذه الموارد ، بالرغم من أن معناه اللغوي هو وسيلة لقياس الوزن ، إلّا أنّه في معناه الكنائي يطلق على أي معيار للقياس والقانون الإلهي الصحيح ، وحتى شخص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، حيث أن وجودهم معيار لتشخيص الحق من الباطل وميزان يوم القيامة ، والميزان في القيامة يراد به هذا المعنى.

بناء على هذا فإنّ الخالق أنزل كتابا على نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث يعتبر هو الحق ، والميزان للتقييم ، والتدقيق في محتوى هذا الكتاب سواء معارفه وعقائده ،

٤٩٧

واستدلالاته المنطقية ، أو قوانينه الاجتماعية ، وحتى برامجه لتهذيب النفوس وتكامل البشر ... كلّ ذلك يعتبر دليلا على حقانيته.

إنّ هذا المحتوى العظيم ـ بهذا العمق ـ من شخص أمّي لا يعرف القراءة والكتابة ، وقد نشا في مجتمع يعتبر من أكثر المجتمعات تخلفا ، يعتبر بحدّ ذاته دليلا على عظمة الخالق ، ووجود عالم ما وراء الطبيعة ، وحقانية من جاء به.

وهكذا فإنّ الجملة أعلاه تعتبر جوابا للمشركين ولأهل الكتاب.

وبما أن نتيجة كلّ هذه الأمور ، خاصة ظهور الحق بشكل كامل والعدالة والميزان تتّضح في يوم القيامة ، لذا فإن الآية تقول في نهايتها : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ).

فالقيامة عند ما تقام يحضر الجميع في محكمة عدله ، ويواجهون الميزان الذي يقيس حتى حبّة الخردل أو أصغر منها.

ثم يشير القرآن إلى موقف الكفار والمؤمنين حيال القيامة ، فتقول الآية : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها).

فهؤلاء لا يقولون ذلك بسبب عشقهم للقيامة والوصول إلى لقاء المحبوب أبدا ، إنّ كلامهم هذا من قبيل الاستهزاء والإنكار ، ولو كانوا يعلمون ما سيحل عليهم يوم القيامة لم يطلبوا مثل هذا الأمر.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) (١).

طبعا لحظة قيام القيامة خافية على الجميع ، حتى بالنسبة للأنبياء المرسلين والملائكة المقربين ، ليكون هذا الأمر أسلوبا تربويا مستمرا للمؤمنين ، واختبارا وإتمام حجة للمنكرين ، ولكن لا يوجد أي شك في أصل وقوعها.

__________________

(١) «مشفقون» من كلمة (إشفاق) وتعني العلاقة المقترنة مع الخوف ، فمتى ما تعدت بحرف (من) يطغى جانب الخوف عليها ، وعند ما تتعدى بحرف (على) يطغى جانب الانتباه والمراقبة عليها ، ولذا فإن الإنسان يقول لصاحبه وصديقه : «أنا مشفق عليك» (تفسير روح المعاني ومفردات الراغب).

٤٩٨

ومن هنا يتّضح مدى التأثير التربوي العميق للإيمان بالقيامة ومحكمة العدل الإلهي الكبيرة على المؤمنين خاصة في احتمالهم حصول هذا الأمر في أية لحظة من اللحظات.

وكإعلان عام ، تقول الآية في نهايتها : (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) لأن نظام هذا العالم يعتبر ـ بحد ذاته ـ دليلا على أنّه مقدمة لعالم آخر وبدونه سيكون خلق هذا العالم عبثا وليس له أي معنى ، وهذا لا يتناسب مع حكمة الخالق ولا مع عدالته.

وتشير عبارة (ضلال بعيد) إلى أنّ الإنسان قد يضل الطريق أحيانا ، إلّا أنّه لا يبتعد عنه كثيرا ، وبقليل من البحث والجهد يمكنه أن يكتشف الطريق وأحيانا يكون البعد كبيرا جدا بحيث يصعب ـ أو يستحيل ـ عليه العثور على الطريق مرّة اخرى.

والطريف في الأمر أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سأل رجل رسول الله في إحدى سفراته وبصوت مرتفع : يا محمّد ... ، فأجابه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبصوت مرتفع مثل صوته «ما تقول؟».

قال الرجل : متى الساعة؟

قال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّها كائنة فما أعددت لها؟».

قال الرجل : حبّ الله ورسوله!

قال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت مع من أحببت» (١).

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، المجلد الخامس والعشرون ، ص ٣٢.

٤٩٩

الآيتان

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠))

التّفسير

مزرعة الدنيا والآخرة :

بما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن العذاب الإلهي الشديد وعن طلب منكري المعاد للتعجيل بقيام القيامة ، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها هنا تقرن «الغضب» الالهي مع «اللطف» الالهي في معرض ردها على استعجال منكري المعاد : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ).

فعند ما يهددهم بالعذاب الشديد في موضع ، يعدهم باللطف في موضع آخر ، ذلك اللطف الواسع غير المحدود ولا يعجّل في عقاب الجاهلين المغرورين.

ثم تطرح الآية أحد مظاهر لطفه العام وهو الرزق ، فتقول : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ). وهذا لا يعني أن هناك جماعة محرومون من رزقه ، بل المقصود البسط في الرزق لمن يشاء ، كما جاء في الآية ٢٦ من سورة الرعد : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ

٥٠٠