الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-50-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٧

قولهم هذا مصداق للمفهوم الأول.

«الباطل» كما يرى الراغب في مفرداته : هو ما يقابل الحق ، ولكن قد يفسّر أو يراد به أحيانا أحد مصاديقه كالشرك والشيطان والمعدوم والساحر.

ويطلق على الشجاع بـ «البطل» لأنّه يبطل أعداءه ويقتلهم أو يلقي بهم خارجا.

لكن «باطل» في الآية تنطوي على مفهوم مطلق غير محدّد بمصداق معين.

والتعبير الأخير في الآية (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) دليل واضح على عدم وصول الباطل بأي طريق من الطرق إلى القرآن الكريم ، فالباطل قد يسري الى الكلام الذي يصدر من الأفراد ذوي العلم المحدود والقدرات النسبية.

أمّا الذي يتصف بالعلم المطلق والحكمة المطلقة ويجمع كلّ الصفات الكمالية التي تجعله أهلا للحمد ، فلا يطرأ على كلامه التناقض والاختلاف ، ولا ينسخ أو ينقض ، أو تمتد إليه يد التحريف ، ولا يتناقض كلامه مع الكتب السماوية والحقائق السابقة ، ولا يعارض بالمكتشفات العلمية الراهنة ، أو تلك التي يكشفها المستقبل.

وأخيرا ، الآية واضحة الدلالة على نفي التحريف عن القرآن الكريم ، سواء من جهة الزيادة أو النقصان (هناك بحث مفصل حول نفي التحريف أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (٩) من سورة «الحجر».

سؤال :

قد يقال : إذا كان الباطل هو ما أشرنا إليه ، أي كلّ ما يتصف بأنّه «المخالف الحق» فإننا في التفسير الآية (وكذلك المفسّرين الآخرين) فسّرناه بمعنى «المبطل» فكيف يتسق ذلك؟

الإجابة على هذا السؤال تكمن في ملاحظة دقيقة في الأسلوب القرآني ، فالقرآن لا يقول : سوف لا يأتي باطل بعد هذا الكتاب السماوي ، بل يقول لا يأتي الباطل إلى هذا الكتاب (أي القرآن) [ينبغي الانتباه إلى ضمير جملة : يأتيه].

٤٢١

ومعنى الكلام أن لا شيء يستطيع أن يصل إليه ويبطله. (فدقق في ذلك).

* * *

٤٢٢

الآيات

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

التّفسير

كتاب الهداية والشفاء :

قام الكفار والمشركون بمحاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكذيبه ، والتصدي للإسلام والقرآن والآيات السابقة كانت تحكي عن الحادهم وكفرهم بآيات الله لذلك جاءت الآية الأولى من الآيات التي بين أيدينا لمواساة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارشاد

٤٢٣

المسلمين الذين يواجهون الأذى بأنّ لا محيص لهم عن الاستقامة والصبر.

يقول تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ).

فإذا كانوا يتهمونك بالجنون والكهانة والسحر ، فقد أطلقوا هذه الأوصاف على من قبلك من الأنبياء والمرسلين.

إنّ دعوتك لدين الحق ليست جديدة ، وإنّ ما تواجهه وأنت تدعو للدين الجديد ليس جديدا أيضا ، لذلك ما عليك ـ يا رسول الله ـ إلّا أن ترابط بقوّة وتلزم ما أنت عليه ولا تهتم بكلام هؤلاء ، لأنّ الله معك.

احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الآية هو : أنّ الكلام الذي قيل لك من قبل الله هو نفس الكلام الذي قيل لمن قبلك من الأنبياء (١).

لكن المعنى الأوّل أنسب في المقام ، خاصة مع ملاحظة سياق الآيات القادمة.

يقول الله تبارك وتعالى في نهاية الآية : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ).

فرحمته ومغفرته للمصدّقين ، وعذابه للمكذبين والمعارضين.

وهذا الجزء من الآية هو بشارة للمؤمنين وتشويق لهم ، وإنذار للكفار وتهديد لهم.

إنّ تقديم (المغفرة) على (العقاب) يشبه ـ في الواقع ـ الموارد الأخرى ، وهو دليل على تقدّم رحمته تعالى على غضبه ، كما جاء في المأثور من الدعاء : «يا من سبقت رحمته غضبه» (٢).

الآية التي بعدها تتحدث عن ذرائع هؤلاء المعاندين ، وترد على واحدة منها ، إذ هم كانوا يقولون : لماذا لم ينزل القرآن بلسان الأعاجم حتى نهتم به أكثر ويستفيد منه غير العرب؟

__________________

(١) هذا الاحتمال يمكن ملاحظته في تفسير «مجمع البيان» و «التّفسير الكبير» ولكنّ كليهما رجح التفسير الأوّل.

(٢) عن دعاء الجوشن الكبر. الفصل (١٩) الجملة الثامنة.

٤٢٤

إنّها حجّة عجيبة!

ولعلّهم كانوا يستهدفون منها عدم فهم الناس القرآن حتى لا يضطروا إلى منعهم عنه ، كما حكى القرآن عن سلوكهم هذا في آية سابقة في قوله تعالى : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) (١).

هنا يجيب القرآن على هذا القول بقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ).

ثم يضيفون : يا للعجب قرآن أعجمي من رسول عربي؟ : (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ).

أو يقولون : كتاب أعجمي لأمّة تنطق بالعربية؟!

والآن وبالرغم من نزوله بلسان عربي ، والجميع يدرك معانيه بوضوح ويفهم عمق دعوة القرآن ، إلّا أنّهم ومع ذلك نراهم يصرخون : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ).

إنّ الآية تتحدث في الواقع عن المرض الكامن في نفوس هؤلاء وعجزهم عن مواكبة الهدى والنور الذي أنزل عليهم من ربّهم ، فإذا جاءهم بلسانهم العربي قالوا : هو السحر و، الأسطورة ، وإذا جاءهم بلسان أعجمي فإنّهم سيعتبرونه غير مفهوم ، وإذا جاءهم مزيجا من الألفاظ العربية والأعجمية عندها سيقولون بأنّه غير موزون (٢)!!

وينبغي الانتباه هنا إلى أنّ كلمة (أعجمي) من «عجمة» على وزن «لقمة» وتعني عدم الفصاحة والإبهام في الكلام ، وتطلق «عجم» على غير العرب لأن العرب لا يفهمون كلامهم بوضوح ، وتطلق «أعجم» على من لا يجيد الحديث والكلام سواء كان عربيا أو غير عربي.

بناء على هذا فإنّ (أعجمي) هي (أعجم) منسوبة بالياء.

__________________

(١) في تفسير الفخر الرازي نقرأ قوله : نقلوا في سبب نزول هذه الآية أنّ الكفار لأجل التعنت قالوا : لو نزل القرآن بلغة العجم».

(٢) بعض المفسّرين فسّر قوله تعالى : (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) بنفس معناه المباشر أي مزيج وخليط بين العربي والأعجمي.

٤٢٥

ثم يخاطب القرآن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ).

أمّا لغيرهم : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أيّ «ثقل» ولذلك لا يدركونه.

ثم إنّه : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (١). أيّ أنّهم لا يرونه بسبب عماهم ، فهؤلاء كالاشخاص الذين ينادون من بعيد : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ).

ومن الواضح أنّ مثل هؤلاء الأشخاص لا يسمعون ولا يبصرون. فلأجل العثور على الطريق والوصول إلى الهدف لا يكفي وجود النور وحده ، فيجب أن تكون هناك عن تبصر ، كذلك يقال في مسألة التعلّم ، حيث لا يكفي وجود المبلّغ والداعية الفصيح ، بل ينبغي أن تكون هناك أذن تسمع وتعي ، فلا شك في بركة المطر وتأثيره في نمو النباتات. ولكن المسألة في الأرض. طيبة أم خبيثة!!

فالذين يتعاملون مع القرآن بروح تبحث عن الحقيقة سيهتدون وستشفى نفوسهم وصدورهم به ، حيث يعالج القرآن الكريم الأمراض الأخلاقية والروحية ، ثم يشدّون الرحال للسفر نحو الآفاق العالية في ظل نور القرآن وهداه.

أمّا ماذا يستفيد المعاندون والمتعصبون وأعداء الحق والحقيقة وأعداء الأنبياء والرسل ، من كتاب الله تعالى ، فهم في الواقع مثلهم مثل الأعمى والأصم ومن ينادى من مكان بعيد ، فهل تراه يسمع النداء أو يستجيب لهداه ، إنّهم كمن أصيب بالعمى والصمم المضاعف ، وهو بعد ذلك في مكان بعيد!!

ونقل بعض المفسّرين أنّ أهل اللغة يقولون لمن يفهم : أنت تسمع من قريب.

ويقولون لمن لا يفهم : أنت تنادى من بعيد (٢).

«وثمّة شرح مفصل حول شفاء القرآن ومعالجته لآلام الإنسان الروحية ،

__________________

(١) بعض المفسّرين ذهب إلى القول بأنّ الجملة أعلاه معناها هو : أنّ القرآن هو سبب في عمى هذه الفئة وعدم رؤيتها» في حين أنّ الراغب في المفردات وابن منظور في لسان العرب اعتبروا قول العرب «عمي عليه» بمعنى أنّه «اشتبه حتى صار الإضافة إليه كالأعمى» وبناء على هذا يكون المراد من الآية هو ما ذهبنا إليه في المتن.

(٢) يلاحظ ذلك في تفسير القرطبي حديثه عن الآية.

٤٢٦

يمكن مراجعته ذيل الآية (٨٢) من سورة الإسراء.»

الآية التالية تستمر في مواساة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين معه وتقول لهم : إنّ للعناد والإنكار تأريخ طويل في حياة النبوات : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ).

وإذ ترى أنّنا لا نعجل في عقاب هؤلاء الأعداء المعاندين ، فذلك لأنّ المصلحة ، تقتضي أن يكونوا أحرارا حتى تتمّ الحجّة عليهم : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لكان العقاب قد شملهم بسرعة.

إنّ التأجيل الإلهي إنما يتم هنا لمصلحة الناس ومن أجل المزيد من فرص الهداية والنور ، وبغية إتمام الحجة عليهم ، وهذه السنّة كانت نافذة في جميع الأقوام السابقة ، وهي تجري في قومك أيضا.

لكنّهم لم يصدّقوا بهذه الحقيقة بعد : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).

«مريب» من «ريب» بمعنى الشك الممزوج بسوء الظن والقلق ، لذلك فمعنى الآية : إنّ المشركين لا يشكون في كلامك وحسب ، بل يزعمون وجود القرائن على بطلانه والتي تؤدي بزعمهم إلى الريب.

بعض المفسّرين احتمل أنّ مراد الجملة الأخيرة هم اليهود وكتاب موسى عليه‌السلام ، بمعنى أنّ هؤلاء القوم لا يزالون يشكون في التوراة ، لكن بعد هذا المعنى يرجح التّفسير الأول (١).

في الآية الأخيرة ـ من المجموعة ـ نقف أمام قانون عام يرتبط بأعمال الناس ، وقد أكّده القرآن مرارا. وهذا القانون يكمل البحث السابق بشأن استفادة المؤمنين من القرآن ، بينما يحرم غير المؤمنين أنفسهم من فيض النور الإلهي والهدى الرّباني.

يقول تعالى في هذا القانون : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما

__________________

(١) ينبغي أن يلاحظ أن الآية بعينها وردت في سورة هود آية (١١٠).

٤٢٧

رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

لذا فإنّ من لم يؤمن بهذا الكتاب والدين العظيم فسوف لن يضروا الله تعالى ولا يضروك ، لأن الحسنات والسيئات تعود إلى أصحابها ، وهم الذين سينالون حلاوة أعمالهم ومرارتها.

* * *

مسائل :

أوّلا : الإختيار والعدالة

قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) دليل واضح على قانون الإختيار وحربة الإرادة ، وفيه حقيقة أنّ الله لا يعاقب أحدا بدون سبب ، ولا يزيد في عقاب أحد دون دليل ، فسياسته في عباده العدالة المحضة ، لأنّ الظلم يكون بسبب النقص والجهل والأهواء النفسية ، والذات الإلهية المقدسة منزّهة عن كلّ هذه العيوب والنواقص.

كلمة «ظلّام» والتي هي صيغة مبالغة بمعنى «كثير الظلم» ، يمكن أن تشير ـ هنا وفي آيات قرآنية اخرى ـ إلى أنّ العقاب دون سبب من قبل الخالق العظيم يعتبر مصداقا للظلم الكثير ، لأنّه تعالى منزّه عن هذا الفعل.

وذهب بعضهم الى أن الله تعالى له عباد كثر ، فلو أراد أن يظلم كلّ واحد منهم بجزء يسير قليل ، عندها سيكون مصداقا لـ «ظلّام».

وهذان التّفسيران لا يتعارضان فيما بينهما.

المهم هنا أنّ القرآن وفي هذه الآيات البينات نفى الجبر الذي يؤدي الى اشاعة الفساد وارتكاب أنواع القبائح ، والاعتقاد به يؤدي إلى إلغاء أي نوع من المسؤولية والتكليف ، بينما الجميع مسئولون عن أعمالهم ، نتائجها تعود بالدرجة الأولى عليهم.

٤٢٨

لذلك نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في الإجابة على هذا السؤال : هل يجبر الله عباده على المعاصي؟

فقال : «لا ، بل يخيرهم ويمهلهم حتى يتوبوا».

فسئل عليه‌السلام مجددا : هل كلف عباده ما لا يطيقون؟

أجاب الإمام عليه‌السلام : «كيف يفعل ذلك وهو يقول : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)».

ثم أضاف الإمام الرضا عليه‌السلام : «إنّ أبي موسى بن جعفر نقل عن أبيه جعفر بن محمّد من زعم أنّ الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته ، ولا تقبلوا شهادته ، ولا تصلوا وراءه ولا تعطوه من الزكاة شيئا» (١).

إنّ هذا الحديث الشريف يشير ـ ضمنا ـ إلى هذه الملاحظة الدقيقة. وهي إنّ الجبريين ينتهون في عقيدتهم إلى القول بـ «التكليف بما لا يطاق» لأنّ الإنسان إذا كان مجبورا على الذنب من ناحية ، وممنوعا عنه من ناحية اخرى ، فهذا يكون مصداقا واضحا للتكليف بما لا يطاق.

ثانيا : الذنوب وسلب النعم

في حديث عميق الدلالة لأمير المؤمنين نقرأ قوله عليه‌السلام : «وأيم الله! ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها ، لأنّ الله ليس بظلام للعبيد».

ثم أضاف عليه‌السلام :

«ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم ، وتزول عنهم النعم ، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نياتهم ، ووله من قلوبهم ، لردّ عليهم كلّ شارد ، وأصلح لهم كلّ فاسد.» (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ، نقلا عن نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ٥٥٥.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٨.

٤٢٩

إنّ هذا النص العلوي الكريم يوضح ـ بجلاء ـ علاقة الذنوب بسلب النعم وزوالها.

ثالثا : لماذا كلّ هذا التحجج؟!

لا شك أنّ اللغة العربية أغنى اللغات وأوسعها ، ولكن مع هذا فإنّ عظمة القرآن ليست لأنّه باللغة العربية ، بل تعود عربية القرآن إلى أنّ الله يرسل الرسل بلسان قومهم كي يؤمنوا أولا ، ثمّ ينتشر الدين إلى الآخرين.

لكن أصحاب الذرائع والحجج يطرحون في كلّ موقف حجة أو ذريعة غير منطقية ، وهم يعلمون أنّهم بأسلوبهم هذا لا يبحثون عن الحقيقة ولا ينشدونها.

إنّهم يقولون مرّة : لماذا نزل القرآن بالعربية؟ ألم يكن من الأفضل أن ينزل كلّه أو جزء منه بلغة اخرى حتى يفهمه الآخرون؟ (في حين أنّهم كانوا يهدفون إلى تحقيق شيء آخر هو أن لا ينجذب عامة العرب نحو القرآن الكريم).

ولو حقّق لهم هذا الطلب فسيقولون : كيف يكون الرّسول عربيا وكتابه غير عربي؟

هؤلاء إنّما يهربون من الحق من خلال هذا التذرّع. وعادة ما يكون أسلوب التذرّع وإثارة الحجج دليلا على وجود علة اخرى وهدف آخر يخفيه الإنسان ويغطّي عليه ، وعلّة هؤلاء القوم كانت أنّ عامة الناس شغفوا بالقرآن الكريم وانجذبوا إليه ، فأصبحت مصالحهم في خطر ، لذا فقد استخدموا كلّ الوسائل المتاحة لهم لمواجهة الإسلام دعوة وكتابا ونبيّا.

* * *

٤٣٠
٤٣١

بداية الجزء الخامس والعشرون

من

القرآن الكريم

٤٣٢

الآيات

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

التّفسير

الله العالم بكلّ شيء :

الآية الأخيرة ـ في المجموعة السابقة ـ تحدثت عن قانون تحمّل الإنسان لمسؤولية أعماله خيرا كانت أم شرا ، وعودة آثار أعماله على نفسه ، وهي إشارة ضمنية لقضية الثواب والعقاب في يوم القيامة.

وهنا يطرح المشركون هذا السؤال : متى تكون هذه القيامة التي تتحدّث عنها؟ الآيتان اللتان نبحثهما تجيبان أولا عن هذا السؤال ، إذ يقول القرآن : إنّ الله وحده يختص بعلم قيام الساعة : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ).

فلا يعلم بذلك نبيّ مرسل ولا ملك مقرّب ، ويجب أن يكون الأمر كذلك لأغراض تربوية يكون فيها المكلّف على استعداد دائم للمحاسبة في أي ساعة.

٤٣٣

ثم تضيف الآية : ليس علم الساعة لوحدها من مختصات العلم الإلهي فحسب ، بل يندرج معها أشياء اخرى مثل أسرار هذا العالم ، وما يختص بالكائنات الظاهرة والمخفية : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) (١). إنّ النباتات لا تنمو ، والحيوانات لا تتكاثر ، ولا يضع الإنسان نطفة إلّا بأمر الخالق العظيم و، بمقتضى علمه وحكمته.

«أكمام» جمع «كم» على وزن «جم» وتعني الغلاف الذي يغطّي الفاكهة و «كم» على وزن «قم» تعني الجزء من الرداء الذي يغطّي اليد. أمّا «كمة» على وزن «قبة» فهي القلنسوة على الرأس (٢).

قال العلّامة الطبرسي في مجمع البيان : تكمم الرجل في ثوبة ، أي غطّى الشخص نفسه بلباسة.

أمّا الفخر الرازي فيفسّر «الأكمام» بمعنى القشرة التي تغطي الفاكهة.

وهناك من المفسّرين من فسروها بأنّها : «وعاء الثمرة» (٣).

ويبدو أنّ جميع هذه الآراء تعود إلى معنى واحد ، ولأنّ أدق المراحل في عالم الكائن الحي هي مرحلة النمو في الرحم والولادة ، لذلك أكّد القرآن على هاتين القضيتين ، سواء في عالم الإنسان والحيوان ، أم في عالم النبات.

فالله هو الذي يعلم بالنطف وزمان انعقادها في الأرحام ولحظة ولادتها ، ويعلم متى تتشكل الثمار وتنمو ، ومتى تخرج من أغلفتها.

ثم يضيف السياق القرآني : إنّ هذه المجموعة التي تنكر القيامة وتستهزئ بها ، ستتعرض إلى مشهد يقال لهم فيه : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٤).

__________________

(١) «من» في «من الثمرات» و «من أثنى» وكذلك في «من شهيد» تأتي في نهاية الآية كلّها ، زائدة جاءت هنا للتأكيد.

(٢) يلاحظ الراغب في المفردات.

(٣) تفسير الميزان وتفسير المراغي.

(٤) «آذناك» من «إيذان» بمعنى الإعلان ، وجملة «يوم يناديهم» تتعلق بمحذوف. والتقدير : «اذكر يوم يناديهم ...».

٤٣٤

فما كنّا نقوله هو كلام باطل كان كلاما نابعا من الجهل والعناد والتقليد والأعمى ، واليوم عرفنا مدى بطلان ادعاءاتنا الواهية.

وهؤلاء في نفس الوقت الذي يسجلون اعترافهم السابق ، فهم أيضا لا يشاهدون أثرا للمعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله من قبل : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ).

إنّ مشهد القيامة مشهد موحش مهول بحيث يأخذ منهم الألباب ، فينسون خواطر تلك الأصنام والمعبودات التي كانوا يعبدونها ويسجدون لها ويذبحون لها القرابين ، بل وكانوا أحيانا يضحون بأرواحهم في سبيلهم ، وكانوا يظنون أنّها تحل لهم مشكلاتهم وتنفعهم يوم الحاجة ... إنّ كلّ ذلك أصبح وهما كالسراب.

ففي ذلك اليوم سيعلمون : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).

«محيص» من «حيص» على وزن «حيف» وتعني العدول والتنازل عن شيء ، ولأنّ (محيص) اسم مكان ، فهي تعني هنا الملجأ والمفر.

«ظنوا» من «ظنّ» ولها في اللغة معنى واسع ، فهي أحيانا بمعنى اليقين ، وتأتي أيضا بمعنى الظن. وفي الآية مورد البحث جاءت بمعنى اليقين ، إذ أنّهم سيحصل لهم في ذلك اليوم اليقين حيث لا مفرّ ولا نجاة من عذاب الله.

يقول الراغب الأصفهاني في المفردات : «ظن» تعني الاعتقاد الحاصل من الدليل والقرينة ، وهذا الاعتقاد قد يكون قويا في بعض الأحيان ويصل إلى مرحلة اليقين ، وأحيانا يكون ضعيفا لا يتجاوز حدّ الظن.

* * *

__________________

ـ لقد ذكروا لهذه الجملة تفسيرا آخر هو : لا يوجد بيننا اليوم من يشهد بوجود شريك لك ، والكل ينكر وجود الشريك.

٤٣٥

الآيات

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢))

التّفسير

في نفس الاتجاه الذي تحدّثت فيه الآيات السابقة ، نلتقي مع مضمون المجموعة الجديدة من الآيات التي بين أيدينا ، والتي تواصل حديثها عن صور اخرى حيّة وناطقة من حياة أناس من عديمي الإيمان وضعافه ، الذين يحملون أفكارا غير ناضجة ومواقف مهزوزة ولا يمتلكون القدرة على تحمل الصعاب.

٤٣٦

يقول تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ).

فليس لحرص الإنسان من نهاية ، فكلما يحصل على شيء يطالب بالمزيد ، ومهما يعطى لا يكتفي بذلك.

ولكنّه : (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ).

والمقصود بالإنسان هنا الإنسان غير المتربي بعد بأصول التربية الإسلامية ، والذي لم يتنور قلبه بالمعرفة الإلهية والإيمان بالله ، ولم يحسّ بالمسؤولية بشكل كامل. إنّها كناية عن الناس المتقوقعين في عالم المادة بسبب الفلسفات الخاطئة ، فهم لا يملكون الروح العالية التي تؤهلهم للصبر والثبات ، وتجاوز الحدود المادية إلى ما وراءها من القيم العظيمة.

هؤلاء يفرحون إذا أقبلت الدنيا عليهم ، وييأسون ويحزنون إذا ما أدبرت عنهم ، ولا يملكون ملجأ يلجأون إليه ، ولا يدخل نور الأمل والهداية إلى قلوبهم.

وينبغي أن نشير أيضا إلى أنّ «دعاء» تأتي أحيانا بمعنى المناداة ، وأحيانا بمعنى الطلب ، وفي الآية التي نبحثها جاءت بالمعنى الثّاني.

لذا فقوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) يعني لا يمل ولا يتعب الإنسان أبدا من طلب الخير والجميل.

وثمّة بيّن المفسّرين اختلاف في الرأي حول «يؤوس» و «قنوط» فيما إذا كانا بمعنى واحد أم لا؟

يرى البعض أنّهما بمعنى واحد ، والتكرار للتأكيد (١).

وقال البعض الآخر : «يؤوس» من «يئس» بمعنى اليأس في القلب ، أمّا «قنوط» فتعني إظهار اليأس على الوجه وفي العمل (٢).

أمّا «الطبرسي» فقد قال في مجمع البيان : إنّ الأوّل هو اليأس من الخير ، بينما

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلد ١٧ ، صفحة ٤٢٦.

(٢) الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، المجلد ٢٧ ، صفحة ١٣٧ ، وروح المعاني ، المجلد ٢٥ ، صفحة ٤.

٤٣٧

الثّاني هو اليأس من الرحمة (١).

ولكن الذي نستفيد ، من الاستخدام القرآني أنى الاثنين يستخدمان تقريبا للدلالة على معنى واحد ، فنقرأ في قصة يوسف ـ مثلا ـ أنّ يعقوب عليه‌السلام حذّر أبناءه من اليأس من رحمة الله ، في حين كانت قلوبهم يائسة من العثور على يوسف ، وكانوا أيضا يظهرون علامات اليأس. (٢).

وفي حالة إبراهيم عليه‌السلام نرى أنّه عجب من البشارة التي زفتها إليه الملائكة بالولد ، لكن الملائكة قالت له : (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) (٣).

الآية التالية تشير إلى صفة اخرى من صفات الإنسان الجاهل البعيد عن العمل والإيمان متمثلة بالغرور : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) (٤) أي إنّني مستحق ولائق لمثل هذه المواهب والمقام.

إنّ الإنسان المغرور ينسى أنّ البلاء كان من الممكن أن يشمله عوضا عن النعمة ، تماما كما قال قارون : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (٥).

تضيف الآية بعد ذلك أنّ هذا الغرور يقود الإنسان في النهاية إلى إنكار الآخرة حيث يقول : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً). ولنفرض أنّ هناك قيامة فإنّ حالي سيكون أحسن من هذا : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى).

إنّ هذه الحالة تشابه ما استمعنا إليه في سورة الكهف من قصة الرجلين الذين كان أحدهما غنيا مغرورا ، والثّاني عارفا مؤمنا ، حيث حكت الآية على لسان الثري المغرور قوله : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٨.

(٢) يوسف ، الآية ٨٧ فما فوق.

(٣) الحجر ـ ٥٥.

(٤) ذهب بعض المفسرين للقول بأن جملة «هذا لي» تعني أن هذه النعمة ستبقى دائما لي ، أي إنها في الحقيقة توضح دوام ذلك ، إلا أن التفسير الذي عرضناه أعلاه أنسب بالرغم من إمكان الجمع بين الإثنين ، أي إنهم يعتبرون أنفسهم مستحقين للنعم ، ويتصورونها دائمة لهم أيضا.

(٥) القصص ، الآية ٧٨.

٤٣٨

إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (١).

لكنّ الله يحذّر أمثال هؤلاء بقوله تعالى : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ).

«العذاب الغليظ» هو العذاب الشديد المتراكم.

نفس هذا المعنى لاحظناه في مكان آخر من القرآن ، في قوله تعالى في الآية (١٠) من سورة هود : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).

الآية التي بعدها تذكر حالة ثالثة لمثل هؤلاء ، هي حالة النسيان عند النعمة وفزع والجزع عند المصيبة.

يقول تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أما : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ).

«نآ» من «نأي» على وزن «رأي» وتعني الابتعاد ، وعند ما تقترن مع كلمة «بجانبه» فتكون كناية عن التكبر والغرور ، لأنّ المتكبرين ينأون بوجوههم دون اهتمام ويبتعدون.

«العريض» مقابل الطويل ، ويستخدم العرب هاتين الكلمتين للدلالة على الزيادة والكثرة.

وفي الاية (١٢) من سورة يونس نرى معاني شبيهة لما نحن بصدده ، حيث يقول تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

إنّ الإنسان الذي يفتقد الإيمان والتقوى يكون عرضة لمثل هذه الحالات ، فهو مع إقبال النعم مغرور ناس لله ، وإذا أدبرت عنه قنوط يائس كثير الجزع.

وفي الجانب المقابل نرى أنّ رجال الحق وأتباع الأنبياء والرسل لا يتغيرون

__________________

(١) الكهف ، الآيات ، ٣٥ ـ ٣٧.

٤٣٩

إذا أقبلت عليهم النعم ، ولا يهنون أو ييأسون أن يجزعون عند إدبارها ، إنّهم مصداق قوله تعالى : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) فأربح التجارة لا تنسيهم ربّهم ، إنّهم عارفون حق المعرفة بفلسفة النعمة والبلاء في هذه الدنيا ، يعلمون أنّ الابتلاءات ناقوس خطر لهم ، بينما النعم اختبار وامتحان إلهي لهم.

ومن الابتلاء ما يكون أحيانا عقوبة للغفلة والنسيان ، والنعم لإثارة دوافع الشكر لدى العباد.

ويلفت النظر هنا طرافة الاستخدام القرآني لكلمتي «أذقنا» و «مسه» والتي تعني أنّهم مع قليل جدا من إقبال الدنيا عليهم يتغيرون وينسون ويصابون بالغرور ، وهؤلاء مع «مسّة» قليلة من ضرر أو بلاء يصابون باليأس والقنوط.

من هنا نقف على قيمة سعة الروح ، وتدفق النفس بالإيمان ، واتساع آفاق الفكر ، وانشراح الصدر ، واستعداد الإنسان لمواجهة المشاكل والصعاب ، وتحدي المزالق والأهواء ، التي تعتبر جميعا من ثمار الإيمان والتقى.

يقول شهيد المحراب الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في أحد أدعيته التي تعتبر درسا لأصحابه : «نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممن لا تبطره نعمة ، ولا تقصر به عن طاعة ربّه غاية ، ولا تحل به بعد الموت ندامة وكئابة» (١).

الآية الأخيرة تتضمن الخطاب الأخير لهؤلاء ، وتبيّن لهم ـ بوضوح ـ الأصل العقلي المعروف بدفع الضرر المحتمل ، حيث تخاطب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٢).

ومن الواضح أن هذا الكلام إنّما يقال للاشخاص الذين لا ينفع معهم أيّ دليل منطقي لشدّة عنادهم وتعصبهم. فالآية تقول لهؤلاء : إذا كنتم ترفضون حقانية

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ٦٤.

(٢) «أرأيتم» تأتي عادة بمعنى «أخبروني» وتفسّر بنفس المعنى.

٤٤٠