الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-50-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٧

وسجود ذرات العالم وكائنات الوجود بين يدي الله تبارك وتعالى.

والمعنى الثّاني محتمل أيضا لأننا نعلم أنّ أي كائن في هذا العالم لا يفنى من الوجود ، وأنّ آثار أقوالنا وأفعالنا سوف تبقى في أعضائنا وجوارحنا ، ومن الطبيعي أن تعتبر «الشهادة التكوينية» هذه من أوضح الشهادات وأجلاها ، إذ لا مجال لإنكارها ، كما في اصفرار الوجه ـ الذي يعتبر عادة دليلا ـ على الخوف لا يمكن إنكاره ، واحمراره دليل على الغضب أو الخجل.

وإطلاق النطق على هذا المعنى يكون مقبولا أيضا.

أمّا الاحتمال الأخير في أن تنطق الأعضاء بإذن الله تعالى دون أن يكون لها شعور بذلك أو يظهر منها اثر تكويني ، فإنّ ذلك بعيد ظاهرا ، لأنّه في مثل هذه الحالة لا تعتبر الحالة مصداقا للشهادة التشريعية ولا مصداقا للشهادة التكوينية ، فلا عقل هناك ولا شعور ، ولا الأثر الطبيعي للعمل ، وسوف تفقد قيمة الشهادة في المحكمة الإلهية الكبرى.

ومن الضروري الانتباه إلى أنّ قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) يبيّن أنّ شهادة أعضاء الإنسان تتمّ في محكمة النّار ، فهل مفهوم ذلك أنّ الشهادة تتمّ في النّار ، في حين أنّ النّار هي نهاية المطاف ، أم أنّ المحكمة تنعقد بالقرب من النّار؟

الاحتمال الثّاني هو الأقرب كما يظهر.

ثمّ ما هو المقصود من (جلود) بصيغة الجمع؟

الظاهر أنّ المقصود بذلك هو جلود الأعضاء المختلفة للجسم ، جلد اليد والرجل والوجه وغير ذلك.

أمّا الروايات التي تفسّر ذلك بـ «الفروج» فهي في الحقيقة من باب بيان المصداق ، وليس حصر مفهوم الجلود في ذلك.

ومن جانب آخر ربّ سائل يسأل : لماذا تشهد العين والأذن والجلود فقط ، دون أعضاء الجسم الأخرى؟ وهل الشهادة مقتصرة على هذه الأعضاء ، أو أنّ

٣٨١

هناك أعضاء اخرى تشهد؟

ما نستفيده من الآيات القرآنية الأخرى أنّ هناك أعضاء اخرى في جسم الإنسان تشهد عليه ، إذ نقرأ في الآية (٦٥) من سورة «يس» قوله تعالى : (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

وفي الآية (٢٤) من سورة «النور» قوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ).

وهكذا يتضح أنّ هناك أعضاء اخرى تقوم بالإدلاء بالشهادة ، إلّا أنّ ما تذكره الآية التي بين أيدينا من أعضاء تعتبر في الدرجة الأولى ، لأنّ معظم أعمال الإنسان تتم بمساعدة العين والأذن ، وإنّ الجلود هي أول من يقوم بملامسة الأعمال.

المجرمون يستغربون هذه الظاهرة ، وآية استغرابهم قوله تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا).

لسان حالهم يقول : لقد كنّا لسنين مديدة نحافظ عليكم من الحر والبرد ونعتني بنظافتكم ، فلما ذا أنتم هكذا؟

وفي الجواب يقولون : (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ).

لقد أعطانا الله مهمّة القيام بالشهادة على أعمالكم في هذه المحكمة العظيمة ، ولا نملك نحن سوى الطاعة ، فالذي أعطى غيرنا من الكائنات قابلية النطق أعطانا ـ أيضا ـ هذه القابلية (١).

والطريف هنا أن أولئك يسألون جلودهم دون باقي الأعضاء من الشهود كالعين والأذن.

__________________

(١) هذا التّفسير وارد عند ما يكون معنى الآية : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ناطق ولكن يحتمل أن يكون معنى أنطق كل شيء بالمعنى المطلق ، بمعنى أنّ الله الذي أنطق جميع الموجودات ، وهو يكشف عن جميع الأسرار اليوم ، هو الذي أنطقنا ، فلا تتعجبوا من كلامنا فجميع كائنات العالم ستنطق في هذا اليوم.

٣٨٢

قد يكون السبب في ذلك أنّ شهادة الجلود هي أغرب وأعجب من جميع الأعضاء الأخرى ، وأوسع منها جميعا ، فتلك الجلود التي يجب عليها أن تذوق طعم العذاب الإلهي ـ قبل غيرها من الأعضاء ـ تقوم بمثل هذه الشهادة ، وهذا الأمر محيّر حقّا!

ثم تستمر الآية بقوله تعالى : (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

ومرة اخرى تضيف : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ).

وإنّ سبب إخفائكم لأعمالكم هو : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ).

كنتم غافلين عن أنّ الله يسمع ويرى ، يشهد أعمالكم في كلّ حال ومكان ، ويعلم أسراركم ما بطن منها وما ظهر ، ثمّ هناك عناصر الرقابة التي ترافقكم وهي معكم في كلّ مكان ، فهل تستطيعون إنجاز عمل مخفي عن أعينكم وآذانكم وجلودكم؟

إنّكم في قبضة القدرة الإلهية وتحت نظر الشهود المستترين والظاهرين حتى أدوات ذنبكم تشهد ضدكم؟!

يروي المفسّرين أنّ الآية أعلاه نزلت في ثلاثة نفر من كفار قريش وطائفة من بني ثقيف ذوي بطون كبيرة ورؤوس صغيرة اجتمعوا بجوار الكعبة وهم يتسارّون ، فقال أحدهم : أتظنون أن الله يسمع كلامنا وحديثنا هذا؟

فأجاب آخر : تكلّم بهدوء واخفض صوتك ، فإذا تحدثنا بصوت عال فهو (أي الله جلّ جلاله) يسمعه ، وإذا خفضنا أصواتنا فلا يسمعنا.

فقال الثّالث : إذا كان الله يسمع الكلام العالي فهو حتما يسمع الصوت الضعيف أيضا.

٣٨٣

وهنا نزلت الآية الكريمة : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ ...) (١).

ثم يقول تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢) (٣).

هل أن هذا الحديث هو من قبل الله تعالى ، وأن كلام الأعضاء والجوارح ينتهي إلى قوله تعالى : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ، أم أنّ ما يليه استمرار له؟

المعنى الثّاني يبدو أكثر توافقا ، وعبارات الآية تتلاءم معه أكثر ، بالرغم من أن أعضاء الجسم وجوارحه إنّما تتحدث هنا بأمر الله تعالى وبإرادته ، والمعنى في الحالتين واحد تقريبا.

* * *

بحثان

الأوّل : حسن الظن وسوء الظن بالله تعالى

توضح الآيات بشكل قاطع خطورة سوء الظن بالله تعالى ، ومآل ذلك إلى الهلاك والخسران.

وبعكس ذلك فإنّ حسن الظن بالله تعالى سبب للنجاة في الدنيا والآخرة.

وفي حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : «ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنّه يشرف على النّار ، ويرجوه رجاء كأنّه من أهل الجنّة ، إنّ الله تعالى يقول : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ...) ثم قال : إنّ الله عند ظن عبده ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر» (٤).

__________________

(١) نقل هذه الحادثة (باختلاف) الكثير من المفسّرين ، منهم : القرطبي ، الطبرسي ، الفخر الرازي ، الألوسي ، المراغي ، وكذلك نقل الحادثة كلّ من البخاري ومسلم والترمذي ، وما أوردناه أعلاه مأخوذ عن القرطبي مع التصرّف. المجلد الثامن ، صفحة ٥٧٩٥.

(٢) «ذلكم» مبتدأ و (ظنكم) خبر له. لكن البعض احتمل أنّ (ظنكم) بدل و (أرداكم) خبر (ذلكم).

(٣) «أرداكم» من «ردى» على وزن «رأى» وتعني الهلاك.

(٤) عن مجمع البيان نهاية تفسير الآية مورد البحث.

٣٨٤

وروي عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الله إذا حاسب الخلق يبقى رجل قد فضلت سيئاته على حسناته ، فتأخذه الملائكة إلى النّار وهو يلتفت ، فيأمر الله بردّه ، فيقول له : لم التفت؟ ـ وهو تعالى أعلم به ـ فيقول : يا ربّ ما كان هذا ظنّي بك ، فيقول الله تعالى : يا ملائكتي! وعزّتي وجلالي والائي وعلوي وارتفاع مكاني ، ما ظن بي عبدي هذا ساعة من خير قط ، ولو ظنّ بي ساعة من خير ما ودعته بالنّار ، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنّة». ثمّ أضاف رسول الله : ليس من عبد يظن بالله عزوجل خيرا إلّا كان عند ظنّه به وذلك قوله عزوجل : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١).

الثّاني : الشهود في محكمة القيامة

عند ما تقول : إنّ جميع الناس سيحاكمون في العالم الآخر ، فقد يتبادر إلى الذهن أنّ المحكمة هناك تشبه محاكم هذه الدنيا ، إذ سيحضر كلّ فرد أمام القاضي وبيده ملفه ، وثمّة شهود في القضية ، ثمّ يبدأ السؤال والجواب قبل أن يصدر الحكم النهائي.

وقد أشرنا مرارا إلى أنّ الألفاظ سيكون لها مفهوم أعمق في ذلك العالم بحيث يصعب أو يستحيل علينا تصوّر مداليلها ، لأننا سجناء هذه الدنيا ومقاييسها.

ولكن نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نقترب من بعض حقائق العالم الآخر من خلال ما نستفيده من الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة المسلمين من أهل بيته عليهم‌السلام ، وتبيّن لنا آثار عن عظمة وعمق الحياة في ذلك العالم ومحكمة يوم البعث ، ولو بشكل إجمالي.

فمثلا عند ما يقال : «ميزان الأعمال» قد ينصرف الذهن إلى المعنى الذي نتصوّر فيه أعمالنا في ذلك اليوم خفيفة أو ثقيلة ، حيث توزن في ميزان ذي كفتين.

__________________

(١) عن تفسير علي بن إبراهيم كما نقل عنه تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، صفحة ٥٤٤.

٣٨٥

ولكن عند ما نقرأ في روايات المعصومين عليهم‌السلام أنّ أمير المؤمنين علي عليه‌السلام هو ميزان الأعمال ، بمعنى أنّ قيمة الأعمال وشخصية الأفراد ستقاس بمقياس يكون مركزه شخصيا الإمام العظيم وبمقدار مشابهة الإنسان لسلوك هذا الإمام العظيم واقترابه منه سيكون له وزن أكثر ، وبمقدار بعده عنه سيكون خفيفا في ميزان أعماله وحسابه.

ومن خلال هذا المعنى نفهم ماذا يعني ميزان الأعمال هناك.

وفي مسألة «الشهود» فإنّ الآيات القرآنية تكشف لنا الستار ـ كذلك ـ عن حقائق اخرى ، إذ يتبيّن أنّ مفهوم الشهود هناك يختلف عن شهود محاكم هذه الدنيا.

وفي قضية الشهود ـ بالذات ـ نستفيد من آيات القرآن الكريم أنّ هناك ستة أنواع من الشهود في تلك المحكمة :

١ ـ أنّ أول الشهود وأعلاهم شأنا هو الذات الإلهية الطاهرة : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) (١).

إنّ شهادة الله تكفي لكل شيء ، إلّا أنّ مقتضى اللطف الإلهي والعدالة الربوبية تستوجب أن يضع تعالى شهودا آخرين.

٢ ـ الأنبياء والأوصياء : يقول القرآن الكريم : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢).

ونقرأ في حديث ورد في (الكافي) عن الإمام الصادق عليه‌السلام حول نزول هذه الآية وهو قوله عليه‌السلام : «نزلت في أمّة محمّد خاصة ، في كلّ قرن منهم إمام منّا ، شاهد

__________________

(١) يونس ، الآية ٦١.

(٢) النساء ، الآية ٤١.

٣٨٦

عليهم ومحمّد شاهد علينا» (١).

٣ ـ شهادة اللسان واليد والرجل والعين والاذن : كما في قوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

ومن الآية التي نحن بصددها نستفيد أنّ العين والأذن هما من قائمة الشهود أيضا ، ونستفيد كذلك من بعض الرّوايات أنّ كلّ أعضاء الجسم ستقوم بدورها بالشهادة على الأعمال التي قامت بها (٣).

٤ ـ شهادة الجلود : لقد تحدثت الآيات التي نحن بصددها عن هذا الموضوع بصراحة ، بل وأضافت أنّ المذنبين لم يكونوا يتوقعون أن تشهد عليهم جلودهم ، فخاطبوها بالقول : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)؟ فيأتي الجواب من جلودهم : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٤).

٥ ـ الملائكة : يقول تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٥). ومفهوم الآية الكريمة أنّ كلّ إنسان يحشر إلى القيامة ، يكون معه ملك يسوقه نحو الحساب وتشهد الملائكة عليه.

٦ ـ الأرض : إنّ الأرض التي تحت أقدامنا ، وتؤمن لنا مختلف البركات والنعم ، تقوم أيضا بمراقبتنا بدقّة ، وتحدّث في ذلك اليوم ما كان منّا عليها ، يقول تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٦).

٧ ـ شهادة الزمان : بالرغم من عدم إشارة نصوص الآيات القرآنية إلى هذه الشهادة ، ولكن نستفيد هذه الشهادة من أحاديث الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، فعن أمير

__________________

(١) أصول الكافي ، المجلد الأول ، صفحة ١٩٠

(٢) النور ، الآية ٢٤.

(٣) لئالي الأخبار ، صفحة ٤٦٢.

(٤) فصلت ، الآية ٢١.

(٥) سورة ق ، الآية ٢١.

(٦) الزلزال ، الآية ٤.

٣٨٧

المؤمنين علي بن أبي طالب قوله عليه‌السلام : «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم : يا ابن آدم! أنا يوم جديد ، وأنا عليك شهيد ، فقل فيّ خيرا واعمل فيّ خيرا ، أشهد لك يوم القيامة» (١).

ما أعجب هذه الشهود التي تشهد علينا في تلك المحكمة! إنّه خليط عجيب من الملائكة وأعضاء الجسم والأنبياء والأوصياء ، والأعظم من ذلك هي شهادة الله تبارك وتعالى علينا الذي يسمع ويرى ويحيط علمه بكل شيء ، فيراقب أعمالنا ويشهد علينا ... لكنّا لا نبالي!!؟

ألا يكفي الإيمان بوجود مثل هؤلاء الشهود أن يسير الإنسان في طريق الحق والعدالة والتقوى والنزاهة!؟

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الثّاني ، مادة يوم.

٣٨٨

الآيتان

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥))

التّفسير

قرناء السوء :

في أعقاب البحث السابق الذي تحدثت في الآيات الكريمة عن مصير «أعداء الله» جاءت الآيتان أعلاه لتشيران إلى نوعين من العقاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء في الدنيا والآخرة.

يقول تعالى : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (١) ولا يمكنهم الخلاص منها لأنّها مصيرهم سواء صبروا أو لم يصبروا.

«مثوى» من «ثوى» على وزن «هوى» وتعني المقر ومحل الاستقرار.

والآية الكريمة هذه تشبه الآية (١٦) من سورة «الطور» حيث قوله تعالى :

__________________

(١) يكون التقدير هكذا : «فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنار مثوى لهم».

٣٨٩

اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ).

وكذلك تشبه الآية (٢١) من سورة «إبراهيم» حيث قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ).

وللتأكيد على هذا الأمر تضيف الآية : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ).

«يستعتبون» مأخوذه في الأصل من (العتاب) وتعني إظهار الخشونة ، ومفهوم ذلك أنّ الشخص المذنب سيستسلم للوم صاحب الحق كي يعفو عنه ويرضى عنه ، لذلك فإنّ كلمة (استعتاب) تعني الاسترضاء وطلب العفو (١).

ثم تشير الآية الثانية إلى العذاب الدنيوي لهؤلاء فتقول : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) حيث قام هؤلاء الجلساء بتصوير المساوئ لهم حسنات.

«قيضنا» من (قيض) على وزن (فيض) وتعني في الأصل قشرة البيضة الخارجية ، ثمّ قيلت لوصف الأشخاص الذين يسيطرون على الإنسان بشكل كامل ، كسيطرة القشرة على البيضة.

وهذه إشارة إلى أنّ أصدقاء السوء والرفاق الفاسدين يحيطون بهم من كل مكان ، حيث يصادرون أفكارهم ، ويهيمنون عليهم بحيث يفقدون معه قابلية الإدراك والإحساس المستقل ، وعندها ستكون الأمور القبيحة السيئة جميلة حسنة في نظرهم ، وبذلك ينتهي الإنسان إلى الوقوع في مستنقع الفساد وتغلق بوجهه أبواب النجاة.

في بعض الأحيان تستخدم كلمة «قيضنا» لتبديل شيء مكان شيء آخر ، ووفقا لهذا المعنى سيكون مقصود الآية ، هو أنّنا سنأخذ منهم الأصدقاء الصالحين ونسلب منهم رفاق الخير ، لنبدلهم بأصدقاء السوء والقرناء الفاسدين.

لقد ورد فهذا المعنى بشكل أوضح في الآيتين (٣٦ ـ ٣٧) من سورة «الزخرف»

__________________

(١) يلاحظ «مفردات الراغب» و «لسان العرب» في مادة «عتب».

٣٩٠

في قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).

إنّ التمعّن بالمجتمعات الفاسدة والفئات المنحرفة الضالة ينتهي بنا ـ بسهولة ـ إلى اكتشاف آثار أقدام الشياطين في حياتهم ، إذ يحاصرهم رفاق السوء وقرناء الشر من كلّ جانب وصوب ، ويسيطرون على أفكارهم ويقلبون لهم الحقائق.

قوله تعالى : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) لعله إشارة لإحاطة الشياطين من كل جانب وتزيين الأمور لهم.

وقيل أيضا في تفسيرها أنّ (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) إشارة إلى لذات الدنيا وزخارفها ، (وَما خَلْفَهُمْ) هو إنكار القيامة والبعث.

وقد يكون (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) إشارة إلى وضعهم الدنيوي (وَما خَلْفَهُمْ) إلى المستقبل الذي سينتظرهم وأبناءهم ، إذ عادة ما يرتكب هذه الجرائم تحت شعار تأمين المستقبل.

وبسبب هذا الوضع تضيف الآية بأن الأمر الالهي صدر بعذابهم وان مصيرهم هو مصير الأمم السالفة : (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (١).

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ).

إنّ هذه الآيات تعتبر ـ في الواقع ـ الصورة المقابلة والوجه الآخر ، وسوف تتحدث الآيات القادمة عن المؤمنين الصالحين المنصورين في الدنيا والآخرة بالملائكة التي تبشرهم بكل خير ، وتكشف عنهم الغم والحزن.

* * *

__________________

(١) «في أمم» متعلقة بفعل محذوف ، وفي التقدير تكون الجملة : «كائنين في أمم قد خلت». ومن المحتمل أن تكون «في» هنا بمعنى «مع».

٣٩١

الآيات

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

التّفسير

الضجيج في مقابل صوت القرآن!!

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الأقوام الماضين كقوم عاد وثمود ، وتحدثت عن جلساء السوء وقرناء الشر ، تتحدث المجموعة التي بين أيدينا من الآيات البينات عن جانب من جوانب الانحراف لمشركي عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقد ورد في بعض الرّوايات أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أن يرفع صوته في مكّة ليتلو القرآن بصوته الجميل وأسلوبه الخاشع ، حتى كان المشركون يقومون بإبعاد الناس

٣٩٢

عنه ويقولون : أطلقوا الصفير وارفعوا أصواتكم بالشعر حتى لا تسمعوا كلامه (١)! القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في هذه الآيات ، حيث يقول : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).

هذا الأسلوب في مواجهة تأثير الحق ونفوذه بالرغم من كونه أسلوبا قديما ، إلّا أنّه يستخدم اليوم بشكل أوسع وأخطر لصرف أفكار الناس وخنق أصوات المنادين بالحق والعدالة ، فهؤلاء يقومون بملء المجتمع بالضوضاء حتى لا يسمع صوت الحق. ومع الالتفات الى أن معنى كلمة «والغوا» المشتقة من «لغو» لها معنى واسع يشمل أي كلام فارغ ، ندرك جيدا سعة هذا المنهج المتبع.

فتارة يتمّ اللغو بواسطة الضجة والضوضاء والصفير.

واخرى بواسطة القصص الكاذبة والخرافية.

وثالثة بواسطة قصص الحب والعشق المثيرة للشهوات!

وقد يتجاوز مكرهم مرحلة القول فيقومون بتأسيس مراكز خاصة بالفساد وأنواع الأفلام المبتذلة والمطبوعات المنحرفة الرخيصة ، ، والألاعيب السياسية الكاذبة والمثيرة ، إنّهم يعمدون إلى الاستعانة بأي أسلوب يؤدي إلى حرف أفكار الناس واهتماماتهم عن الحق.

والانكى من ذلك طرح بعض البحوث والقضايا الفارغة التافهة في الاوساط العلمية لتثأر حولها ضجة تهيمن على اهتمامات الناس ووعيهم ، وتصدّهم عن التفكير بالقضايا الأساسية والأمور المهمّة.

لكن .. هل استطاع المشركون التغلّب على القرآن الكريم بأعمالهم هذه؟! لقد عمّهم الفناء وذهبت أساليبهم الشريرة ادراج الرياح ، وامتد القرآن واتسع في تأثيره حتى استوعب أرجاء الدنيا.

الآية الأخرى تشير إلى عذاب هؤلاء فتقول : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً

__________________

(١) تفسير المراغي ، المجلد ٢٤ ، صفحة ١٢٥ ، وتفسير روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، أيضا ، صفحة ١٠٦.

٣٩٣

شَدِيداً) خاصة أولئك الذين يمنعون الناس من سماع آيات الله.

وهذا العذاب يمكن أن يشملهم في الدنيا بأن يقتلوا على أيدي أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يقعوا في أسرهم ، وقد يكون في الآخرة ، أو يكون العذاب في الدنيا والآخرة معا.

قوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ).

فهل لهؤلاء عمل أسوأ من الكفر والشرك وإنكار آيات الله ومنع الناس وصدّهم عن سماع كلام الحق؟

لكن لماذا أشارت الآية إلى «أسوأ» بالرغم من أنّهم يرون جزاء كلّ أعمالهم؟ قد يكون هذا التعبير للتأكيد على موضوع الجزاء والتهديد به بيان حديثه ، وفيه إشارة لمنعهم الناس عن سماع كلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما أنّ قوله تعالى : (كانُوا يَعْمَلُونَ) دليل على أنّه سيتمّ التأكيد على الأعمال التي كانوا يقومون بها دائما ، وبعبارة اخرى : إنّ ما يعملونه لم يكن أمرا مؤقتا بل كانت سنتهم وسيرتهم الدائمة.

وللتأكيد على قضية العذاب ، يأتي قوله تعالى : (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ) (١).

وهذه النّار ليست مؤقتة زائلة بل : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) نعم ، فذلك : (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٢).

إنهم لم ينكروا الآيات الإلهية وحسب ، بل منعوا الآخرين من سماعها.

«يجحدون» من «جحد» على وزن «عهد» وتعني في الأصل كما يرى «الراغب» في «المفردات» : إلغاء ونفي شيء ثابت في القلب ، أو إثبات شيء منفي في القلب. أو هو بعبارة اخرى : إنكار الحقائق مع العلم بها ، وهذا من أسوأ أنواع

__________________

(١) «النّار» يمكن أن تكون «عطف بيان» أو «بدل» لـ «جزاء» أو أن تكون (خيرا لمبتدأ محذوف) والتقدير هو النّار».

(٢) «جزاء» يمكن أن تكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «يجزون جزاء» أو أن تكون مفعولا لأجله.

٣٩٤

الكفر (راجع نهاية الآية (١٤) من سورة النمل).

إنّ الإنسان عند ما يصاب ببلاء معين ، خاصة إذا كان بلاء شديدا ، فإنّه يفكر بمسببه الأصلي كي يعثر عليه وينتقم منه ، وأحيانا يود تقطيعه قطعة قطعة إذا استطاع ذلك.

لذلك تشير الآية التالية إلى هذا المعنى الذي سيشمل الكفار وهم في الجحيم فيقول : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ).

إنّ أولئك كانوا ينهونا عن سماع قول النّبي وكانوا يقولون : إنّه ساحر مجنون ، ثم كانوا يكثرون من اللغو حتى لا نسمع صوته وكلامه ، وبدلا عن ذلك كانوا يشغلوننا بأساطيرهم وأكاذيبهم.

أمّا الآن وقد فهمنا أن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو روح الحياة الخالدة ، وأنّ نغمات صوته حياة النفوس الميتة ، ولكن «ولات ساعة ندم».

لا ريب أنّ المقصود من الجن والإنس ـ في الآية هم الشياطين ، والناس الذين يقومون بالغواية مثل الشياطين ، وليس هما شخصان معينان.

ولا مانع من تثنية الفعل عند ما يكون الفاعل مجموعتان ، كما في قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

قال بعض المفسّرين في تفسير قوله تعالى : (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) : المقصود أنّ المضلين من الجن والإنس سيكونون في أسفل درك من الجحيم ، ولكن الأظهر منه أنّ شدة غضبهم يدفعهم إلى وضع من أغواهم تحت أقدامهم ليركلونهم ويكونوا في أدنى مقام في مقابل ما كان لهم من مقام ومكانة عليا في الحياة الدنيا.

* * *

٣٩٥

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢))

التّفسير

نزول الملائكة على المؤمنين الصامدين :

يعتمد القرآن الكريم في أسلوبه وضع صور متقابلة ومتعارضة للحالات التي يتناولها كي يوضحها بشكل جيد من خلال المقايسة والمقارنة فبعد أن تحدث عن المنكرين المعاندين الذين يصدون عن آيات الله ، وأبان جزاءهم وعقوبتهم ، بدأ الآن (في الصورة المقابلة) في الحديث عن المؤمنين الراسخين في إيمانهم ، وأشار إلى سبعة أنواع من الثواب الذي يشملهم جزاء ومثوبة لهم.

يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا).

٣٩٦

إنّه تعبير جميل وشامل يتضمّن كلّ الخير والصفات الحميدة ، فأولا يوجّه القلب إلى الله ويوثق الإيمان به تعالى ويقويه ، ثمّ سيطرة هذا الإيمان وهيمنته على كلّ مرافق الحياة ، وثبات السير في هذا الطريق ، طريق الاستقامة (١).

هناك الكثير من الذين يدّعون محبة الله ، إلّا أنّنا لا نرى الاستقامة واضحة في عملهم وسلوكهم ، فهم ضعفاء وعاجزون بحيث عند ما يشملهم طوفان الشهوة يودّعون الإيمان ويشركون في عملهم ، وعند ما تكون منافعهم في خطر يتنازلون عن إيمانهم الضعيف ذلك.

ففي حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه بعد أن تلا الآية قال : «قد قالها الناس ثمّ كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها» (٢).

وفي نهج البلاغة يفسّر الإمام علي عليه‌السلام هذه الآية بعبارات حيّة وناطقة عميقة المعنى يقول عليه‌السلام : «وقد قلتم «ربنا الله» فاستقيموا على كتابه ، وعلى منهاج أمره ، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته ، ثمّ لا تمرقوا منها ، ولا تبتدعوا فيها ، ولا تخالفوا عنها» (٣).

وفي مكان آخر نرى أنّ الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أجاب في تفسير معنى الاستقامة بقوله : «هي والله ما أنتم عليه» (٤).

وهذا لا يعني أنّ الاستقامة تختص بالولاية فقط ، بل إنّ قبول قيادة أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام سيضمّن بقاء خط التوحيد ، والطريق الإسلامي الأصيل ، واستمرار العمل الصالح ، وهذا هو تفسيره عليه‌السلام لمعنى الاستقامة.

وخلاصة القول أن قيمة الإنسان هي بالإيمان والعمل الصالح ، وهذه القيمة

__________________

(١) «استقاموا» من «الاستقامة» وتعني الثبات على الطريق المستقيم الخط الصحيح. وفسرها بعض علماء اللغة بمعنى «الاعتدال» ولا يستبعد الجمع بين المعنيين.

(٢) مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٧٦.

(٤) مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية.

٣٩٧

يتحدث عنها الله تبارك وتعالى بقوله : (قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا).

لذلك فقد روي أنّ رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : أخبرني بأمر أعتصم به؟ فقال رسول الله : «قل ربّي الله ثمّ استقم».

ثم سأل الرجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أخطر شيء ينبغي عليه أن يخشاه. فمسك رسول الله لسانه وقال : هذا (١).

والآن لنر ما هي المواهب الإلهية التي سيشمل من يتمسك بهذين الأصلين؟ القرآن الكريم يشير إلى سبع مواهب عظيمة تبشرهم ملائكة الله بها عند ما تهبط عليهم. ففي ظل الإيمان والاستقامة يصل الإنسان إلى مرحلة بحيث تنزل عليه الملائكة وتعلمه.

فبعد البشارتين الأولى والثانية والمتمثلتين بعدم (الخوف) و (الحزن) تصف الآية المرحلة الثّالثة بقوله تعالى : (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).

والبشارة الرّابعة يتضمّنها قوله تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فلن نترككم وحيدين ، بل نعينكم في الخير وتعصمكم عن الانحراف حتى تدخلوا الجنّة.

والبشارة الخامسة قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) أي في الجنّة.

أمّا البشارة السادسة فلا تختص بالنعم المادية وما تريدونه. بل الاستجابة إلى العطايا والمواهب المعنوية : (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ).

أمّا البشارة السابعة والأخيرة فهي أنّكم ستحلون ضيوفا لدى البارئ عزوجل وفي جنته الخالدة ، وستقدم لكم كلّ النعم تماما مثلما يتمّ الترحيب بالضيف العزيز من قبل المضيف : (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).

* * *

__________________

(١) روح البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٢٥٤.

٣٩٨

ملاحظات

في طيات هذه الآيات المبينة ، والتعابير القرآنية القصيرة البليغة ذات المعاني الكبيرة ، ثمّة ملاحظات دقيقة ولطيفة نقف عليها من خلال النقاط الآتية :

١ ـ هل نزول الملائكة على المؤمنين المستقيمين يتمّ أثناء الموت والانتقال من هذا العالم إلى العالم الآخر ، كما يحتمل ذلك بعض المفسّرين ، أم أن نزولهم يكون في ثلاثة مواطن ، عند (الموت) وعند (دخول القبر) وعند (الإحياء والبعث والنشور) ، أو إنّ هذه البشائر تكون دائمة ومستمرة ، وتتمّ بواسطة الإلهام المعنوي ، حيث تستقر الحقائق في أعماق المؤمنين بالرغم من أنّها في لحظة الموت ولحظة الحشر تكون بشائر الملائكة أجلى وأوضح؟

يبدو أن المعنى الأخير أنسب ، وذلك لعدم وجود قيد أو شرط في الآية.

ويؤيد ذلك أنّ الملائكة تقول في البشارة الرّابعة : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) وهذا دليل على أنّ المؤمنين من ذوي الاستقامة يسمعون هذا الكلام من الملائكة في الدنيا عند ما يكونون أحياء ، إلّا أنّ ذلك لا يكون باللسان واللفظ ، بل يسمعون ذلك بأذان قلوبهم بما يشعرون به من هدوء واستقرار وسكينة وإحساس كبير بالراحة عند المشاكل والصعاب.

صحيح أنّ بعض الروايات قيدت نزول الملائكة وحضورهم عند الموت ، إلّا أن ثمّة روايات اخرى إشارات إلى معنى أوسع يشمل الحياة أيضا (١).

ويمكن أن نستنتج من مجموع الروايات أنّ ذكر خصوص الموت هو بعنوان المصداق لهذا المفهوم الواسع ، ونعرف هنا أنّ التفاسير الواردة في الروايات غالبا ما توضح المصاديق.

إنّ بشائر الملائكة ستشع في أرواح المؤمنين وأعماق ذوي الاستقامة حتى تهبهم القوّة والقدرة على مواجهة أعاصير الحياة ومشقاتها ، وتثبّت أقدامهم من

__________________

(١) يمكن ملاحظة ذلك في نور الثقلين ، المجلد الرابع ، الصفحات ٥٤٦ و ٥٤٧ الروايات رقم : ٣٨ ـ ٤٠ ـ ٤٥ ـ ٤٦.

٣٩٩

السقوط والانحراف.

٢ ـ قال بعض المفسّرين في التفريق بين الخوف والحزن ، أنّ (الخوف) يختص بالحوادث التي تثير القلق لدى الإنسان لكنّها تقع في المستقبل ، فيبقى الإنسان قلقا حذرا إزاءها ومنتظر وقوعها. أمّا (الحزن) فهو ممّا يختص بالحوادث المؤسفة التي وقعت في الماضي.

وعلى أساس هذا المعنى يأتي خطاب الملائكة : أن لا تقلقوا من الصعوبات التي تنتظركم ، سواء في هذه الدنيا أو عند الموت أو في مراحل البعث ، ولا تحزنوا على ذنوبكم الماضية أو الأبناء الذين سيبقون بعدكم.

وتقديم (الخوف) على (الحزن) قد يكون بسبب أنّ المؤمن أكثر ما يكون قلقا إزاء حوادث المستقبل ، خاصة ما يتعلق منها بالحشر والجزاء واليوم الآخر.

وقال البعض أيضا : إنّ (الخوف) من العذاب ، بينما (الحزن) على ما فات من الثواب ، والملائكة تقوم بزرع الأمل عندهم في الحالتين بواسطة الألطاف الإلهية والمواهب والعطايا الربانية.

٣ ـ قوله تعالى : (كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) هو تعبير جامع تتداعى فيه كلّ صفات الجنّة في ذهن المؤمنين ذوي الاستقامة ، بمعنى أنّ الجنّة كلّها وبكل ما سمعتم عنها وعن نعيمها مسخّرة لكم ، ومن حورها وقصورها إلى مواهبها الكثيرة وعطاياها المعنوية التي لا يدركها الإنسان ، ولم تخطر ببال أحد : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١).

٤ ـ في البشارة الرّابعة تعرّف الملائكة نفسها بأنّها تلتزم جانب المؤمنين في الدنيا والآخرة ، تقوم بنصرهم وإنزال السكينة عليهم ، وهي صورة تقابل الآيات السابقة من هذه السورة المباركة عند ما وصفت أعداء الله من الكفار من المعاندين والمكذبين ، وكيف أنّهم يتأوهون من عذاب النّار ويمتلئون غيظا وغضبا على من

__________________

(١) الم سجدة ، الآية ١٧.

٤٠٠