الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-50-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٧

والحيوان (١).

لكن هذا التّفسير فضلا عن أنّه لا يلائم الآيات أعلاه ، فإنّه أيضا يقصر «اليوم» فيما يتعلق بالأرض ولمواد الغذائية وحسب ، لأنّ معناه يتعلق بالفصول الأربعة فقط ، بينما لا حظنا أن «يوم» في معنى خلق السماوات والأرض يعني بداية مرحلة!

مضافا لذلك تكون النتيجة اختصاص يومين من الأيّام الستة لخلق الأرض ، ويومين آخرين لخلق السماوات ، أمّا اليومان الباقيان اللذيان يتعلقان بخلق الكائنات بين السماء والأرض «ما بينهما» فليس هناك إشارة إليهما!

من كلّ ذلك يتبيّن أنّ التّفسير الأوّل أجود.

وقد لا تكون هناك حاجة للقول بأنّ «اليوم» في الآيات أعلاه هو حتما غير اليوم العادي ، لأنّ اليوم بالمعنى العادي لم يكن قد وجد قبل خلق السماوات والأرض ، بل المقصود بذلك هو مراحل الخلق التي استنفذت من الزمن أحيانا ملايين بل وبلايين السنين. (٢)

* * *

ملاحظتات

تبقى أمامنا ملاحظتان ينبغي أن نشير إليهما :

أوّلا : ما هو المقصود من قوله تعالى : (بارَكَ فِيها)؟

الظاهر أنّها إشارة إلى المعادن والكنوز المستودعة في باطن الأرض ، وما على الأرض من أشجار وأنهار ونباتات ومصادر للماء الذي هو أساس الحياة والبركة ، حيث تستفيد منها جميع الاحياء الأرضية.

__________________

(١) ثمّة حديث بهذا المضمون في تفسير علي بن إبراهيم.

(٢) راجع الآية (٥٤) من سورة الأعراف.

٣٦١

ثانيا : بما تتعلق الأيام الاربعة في عبارة : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)؟

بعض المفسّرين يعتقد أنّها تخص «الأقوات» فقط. لكنّها ليست كذلك ، بل تشمل الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (أي خلق الجبال ، خلق المصادر وبركات الأرض ، خلق الموارد الغذائية) لأنّه ـ خلافا لذلك ـ فإنّ بعض هذه الأمور سوف لا تدخل في الأيام الواردة في الآيات أعلاه ، وهذا أمر لا يتناسب مع نظم الآيات ونظامها.

بعد الانتهاء من الكلام عن خلق الأرض ومراحلها التكاملية ، بدأ الحديث عن خلق السماوات حيث تقول الآية : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً).

فكانت الإجابة : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).

وفي هذه الأثناء : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) ثم : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) وأخيرا : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً) نعم : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

في الآيتين المتقدمتين تستلفت النظر عشر ملاحظات سنقف عليها خلال النقاط الآتية ، التي ننهي من خلالها البحث في هذه المجموعة من الآيات ، وهي :

أولا : كلمة «ثم» تأتي عادة للإشارة إلى التأخير في الزمان ، وتأتي أحيانا للدلالة على التأخير في البيان. فإذا كان المعنى الأوّل هو المقصود فسيكون المفهوم هو أنّ خلق السماوات تمّ بعد خلق الأرض وخلق الجبال والمعادن والمواد الغذائية. أما إذا كان المعنى الثّاني هو المقصود ، فليس هناك مانع من أن تكون السماوات قد خلقت وبعدها تمّ خلق الأرض ، ولكن عند البيان ذكرت الآية أوّلا خلق الأرض والأرزاق ومصادرها التي يحتاجها البشر ، ثمّ عرجت إلى ذكر قضية خلق السماء.

المعنى الثّاني بالإضافة إلى أنّه أكثر تناسقا وانسجاما مع الاكتشافات العلمية ،

٣٦٢

فهو أيضا يتفق مع الآيات القرآنية الأخرى ، كقوله تعالى في الآيات (٢٧ ـ ٣٣) من سورة «النازعات» : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

إنّ هذه المجموعة من الآيات الكريمة تكشف بوضوح أنّ دحو وتوسيع الأرض وتفجر العيون ونبات الأشجار والموارد الغذائية ، قد تمّ جميعا بعد خلق السماوات. أما لو فسّرنا معنى «ثم» بالتأخير في الزمان ، فعلينا أن نقول : إنّ كلّ تلك قد تكونت قبل خلق السماء ، وهذا يتنافى مع المعنى الواضح للمراد من قوله تعالى : (بَعْدَ ذلِكَ) أي أن كلّ ما ذكر قد تم خلقه بعد ذلك (أي بعد السماوات).

وبذلك نفهم أن (ثم) هنا قد استخدمت للتدليل على التأخير البياني (١).

ثانيا : «استوى» من «استواء» وتعني الاعتدال أو مساواة شيئين ببعضهما ، ولكن ذهب علماء اللغة والتّفسير إلى أنّ هذه الكلمة عند ما تتعدّى بـ «على» يصبح معناها الاستيلاء والتسلّط على شيء ما مثل (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢).

وعند ما تتعدى بـ «إلى» فهي تعني القصد ، كما في الآية التي نبحثها (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) اي قصد الى السماء.

ثالثا : جملة «هي دخان» تبيّن أن بداية خلق السماوات كان من سحب الغازات الكثيفة الكثيرة ، وهذا الأمر يتناسب مع آخر ما توصلت إليه البحوث العلمية بشأن بداية الخلق والعالم.

والآن فإنّ الكثير من النجوم السماوية هي على شكل سحب مضغوطة من الغازات والدخان.

__________________

(١) أما ما نقل عن ابن عباس من قوله : إنّ خلق الأرض كان قبلا ، وأما «دحو الأرض» فجاء بعد ذلك ، فهو لا يحل المشكلة ، وكأن ابن عبّاس لم يهتم عما بعد الآية من حديث عن خلق الجبال والمواد الغذائية!

(٢) طه ، الآية ٥.

٣٦٣

رابعا : قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) لا تعني أن كلاما قد جرى باللفظ ، وإنّما قول الخالق وأمره هو نفسه الأمر التكويني ، وهو عين إرادته في الخلق. أما التعبير بـ «طوعا أو كرها» فهو إشارة إلى أنّ الإرادة الإلهية الحتمية قد ارتبطت يتكوّن السماوات والأرض. والمعنى أنّه يجب أن يحدث هذا الأمر شاءت أم أبت.

خامسا : الجملة في قوله تعالى : (أَتَيْنا طائِعِينَ) تشير إلى أنّ المواد التي تتشكل منها السماء والأرض من ناحية التكوين والخلقة ، كانت مستسلمة تماما لإرادة الله وأمره ، فتقبلت شكلها المطلوب ولم تعترض أمام هذا الأمر الإلهي مطلقا.

ومن الواضح أنّ هذا الأمر وهذا الامتثال ليس لهما طبيعة تكليفية وتشريعية ، بل حدثت بمحض التكوين فقط.

سادسا : قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) يشير إلى وجود مرحلتين في خلق السماوات ، كلّ مرحلة استمرت لملايين أو مليارات السنين ، وكل مرحلة تتضمن مراحل اخرى ، ومن المحتمل أن تكون هاتان المرحلتان هما مرحلة تبديل الغازات المضغوطة إلى سوائل ومواد مذابة ، ثمّ مرحلة تبديل المواد المذابة إلى مواد جامدة.

كلمة «يوم» استخدمت هنا ـ كما أشرنا سابقا ـ بمعنى مرحلة ، وهو ممّا يشبع استخدامه في عدّة لغات ، ويشبع استخدامه أيضا في كلامنا اليومي ، فعند ما تقول مثلا : يوم لك ويوم عليك ، إنّما تشير إلى مراحل الحياة المختلفة. (هناك بحث مفصل حول هذا الموضوع في نهاية تفسير الآية (٥٤) من سورة الأعراف).

سابعا : إنّ العدد «سبع» ربّما جاء هنا للكثرة ، بمعنى أنّ هناك سماوات كثيرة وأجرام كثيرة. ومن المحتمل أن يكون الرقم للعدد ، أي إن عدد السماوات هي سبع بالتحديد. ومع هذا التقييد فإنّ جميع ما نرى من كواكب ونجوم ثابتة وسيّارة هي

٣٦٤

من السماء الأولى ، وبذلك يكون عالم الخلقة متشكلا من سبع مجموعات كبرى ، واحدة منها فقط أمام أنظار البشرية ، وإنّ الأجهزة العلمية الفلكية الدقيقة وبحوث الإنسان ، لم تتوصل إلى ما هو أبعد من السماء الأولى.

ولكن كيف تكون العوالم الستة لأخرى؟ وممّ تتشكّل؟ فهو أمر لا يعلمه إلّا الله تعالى.

والمعتقد هنا أنّ هذا التّفسير هو الأصح. (في هذا الموضوع يمكن مراجعة نهاية تفسير الآية (٢٩) من سورة البقرة).

ثامنا : قوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) تشير إلى أنّ المسألة لم تنته بخلق السماوات وحسب ، بل إنّ في كل منها مخلوقات وكائنات ونظام خاص وتدبير معين ، بحيث أن كلّ واحدة تعتبر بحد ذاتها دليلا على العظمة والقدرة والعلم.

تاسعا : قوله تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) تدل على أنّ جميع النجوم زينة للسماء الأولى ، وتبدو في نظر الإنسان كالمصابيح المعلقة في سقف هذه السماء الزرقاء ، وهي ليست للزينة وحسب ، حيث تجذب بتلألؤها الخاص المتعاقب قلوب عشاق أسرار الخلقة ، بل في الليالي المعتمة تكون مصابيح للتائهين وأدلة لمن يسير في الطريق ، تعينهم على تعيين اتجاه الحركة.

أمّا «الشهب» التي تظهر كنجوم سريعة تظهر في السماء بوميض سريع قبل أن تنطفئ ، فهي في الواقع سهام تستقر في قلوب الشياطين وتحفظ السماء من نفوذهم. (راجع تفسير الآية ١٧ من سورة الحجر ونهاية الآية السابعة من سورة الصافات).

عاشرا : قوله تعالى : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) تكملة للجمل التسع السابقة ، وتشكل بمجموعها عشرة كاملة ، تقول : إنّ ما حدث في السماء والأرض منذ بداية الخلق إلى مرحلة التشكّل والنظام الدقيق ، كان وفق برنامج محسوب ومقدّر ، تمّ

٣٦٥

تنظيمه من قبل المبدأ الأزلي ذي العلم والقدرة المطلقتين ، وإن أي تفكير في أي بحر من هذه البحور يقودنا نحو المبدأ العظيم جلّت قدرته.

* * *

٣٦٦

الآيات

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦))

التّفسير

أحذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود!

بعد البحث المهم الذي تضمّنته الآيات السابقة حول التوحيد ومعرفة الخالق جلّ وعلاه تنذر الآيات ـ التي بين أيدينا ـ المعارضين والمعاندين الذين تجاهلوا كلّ هذه الدلائل الواضحة والآيات البينات ، وتحذرهم أن نتيجة الإعراض نزول

٣٦٧

العذاب بهم ، يقول تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١).

عليكم أن تخافوا هذه الصاعقة المميتة المحرقة التي إذا نزلت بساحتكم تنفيكم وتحل بداركم الدمار.

لاحظنا في بداية هذه السورة المباركة أنّ بعض زعماء الشرك في مكّة مثل «الوليد بن المغيرة» وبرواية اخرى «عتبة بن ربيعة» جاءوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحقيق حول القرآن ودعوة الرّسول وطرحوا عليه بعض الأسئلة وفي سياق إجابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم تلا عليهم الآيات الاولى من هذه السورة ، وعند ما وصل النّبي في تلاوته إلى الآيات أعلاه وهدّدهم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، ارتعشت أجسادهم وأصيبوا بالخوف بحيث أنّهم لم يكونوا قادرين على الاستمرار في الكلام ، لذلك عادوا إلى قومهم وذكروا لهم تأثرهم العميق واضطرابهم ووجلهم من هذه الكلمات.

«الصاعقة» كما يقول الراغب في المفردات ، تعني الصوت المهيب في السماء ، ويشتمل على النّار أو الموت أو العذاب. (ولهذا السبب تطلق الصاعقة على الموت أحيانا ، وعلى النّار وفي أحيان اخرى).

والصاعقة ـ وفقا للتحقيقات العلمية الراهنة ـ هي شرارة كهربائية عظيمة تحدث بين مجموعة من الغيوم التي تحمل الشحنات الكهربائية الموجبة ، وبين الأرض التي تكون شحنتها «سالبة» وتصيب عادة قمم الجبال والأشجار وأي شيء مرتفع ، وفي الصحاري المسطحة تصيب الإنسان والأنعام ، كما أن حرارتها شديدة للغاية بحيث أنّها تحيل أي شيء تصيبه إلى رماد ، وتحدث صوتا مهيبا وهزّة أرضية قوية في المكان الذي تضربه.

__________________

(١) «الفاء» في «فإن اعرضوا» هي «فاء التفريع» كما قيل ، بناء على ذلك فإنّ هذا الإنذار الحاسم يعتبر فرعا ونتيجة للإعراض عن الآيات التوحيدية السابقة.

٣٦٨

الله تبارك وتعالى ـ كما تنص على ذلك آيات القرآن ـ عاقب بعض الأقوام الأشقياء من الأمم السابقة بالصاعقة.

والطريف هنا أنّ عالم اليوم برغم التقدم الهائل في العلوم ، بقي عاجزا عن اكتشاف وسيلة لمنع الصاعقة.

وسيبقى هذا السؤال : لماذا ذكر هنا قوم عاد وثمود من بين جميع الأقوام السابقة؟

السبب يعود إلى أنّ العرب كانوا على اطّلاع بخبر أولئك الأقوام ، وكانوا قد شاهدوا بأعينهم آثار مدنهم المدمّرة ، إضافة إلى أنّهم كانوا يعرفون أخطار الصواعق ، لأنّهم يعيشون في الصحراء والبادية.

يواصل الحديث القرآني سياقه بالقول : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ).

إنّ استخدام تعبير (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) هو إشارة إلى ما ذكرناه أعلاه من أنّ الأنبياء قد استخدموا جميع الوسائل والأساليب لهدايتهم ، وحاولوا طرق كلّ الأبواب حتى ينفذوا إلى قلوبهم المظلمة.

وقد يكون التعبير إشارة إلى الأنبياء الذين بعثوا خلال أزمنة مختلفة إلى هؤلاء الأقوام ، وطرحوا عليهم نداء التوحيد.

لكن لنرى ماذا كان جوابهم حيال هذه الجهود العظيمة الواسعة لرسل الله تعالى؟

يقول تعالى : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) لإبلاغ رسالته بدلا من إرسال الناس.

والآن وما دام الأمر كذلك : (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ). وما جئتم به لا نعتبره من الله.

إنّ مفهوم هذا الكلام لا يعني إيمان هؤلاء بأنّ هؤلاء رسل الله حقّا ، و. أنّهم

٣٦٩

لا يؤمنون بهم ، وإنّما مفهوم الكلام رفض هؤلاء دعوة الرسل في أنّهم مبلغوا رسالات الله من الأساس ، حيث حملوهم على الكذب والادّعاء. (ذلك فإنّ جملة (بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) هي للاستهزاء أو السخرية ، أو أن يكون المقصود بها هو : طبقا لادعائكم بأنّكم رسل الله تبلغون عنه).

إنّها نفس الذريعة التي ينقلها القرآن مرارا على لسان منكري النبوات ورسالات الله ومكذبي الرسل ، من الذين كانوا يتوقعون أن يكون الأنبياء دائما ملائكة ، وكأنما البشر لا يستحقون مثل هذا المقام.

مثال ذلك قولهم في الآية (٧) من سورة الفرقان : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً).

إنّ قائد البشر يجب أن يكون من صنف البشر ، كي يعرف مشاكل الإنسان واحتياجاته ويحس آلامهم ويتفاعل مع قضاياهم ، وكي يستطع أن يكون القدوة والأسوة ، لذلك يصرح القرآن في الآية (٩) من سورة «الأنعام» بقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً).

بعد المجمل الذي بينته الآيات أعلاه ، تعود الآيات الآن ـ كما هو أسلوب القرآن الكريم ـ إلى تفصيل ما أوجز من خبر قوم عاد وثمود ، فتقول : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).

إنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في أرض «الأحقاف» من (حضرموت) جنوب الجزيرة العربية ، وكانوا يتصفون بوضع استثنائي فريد من حيث القوّة الجسمانية والمالية والتمدّن المادي ، فكانوا يبنون القصور الجميلة والقلاع المحكمة ، خاصة في الأماكن المرتفعة ، حيث يرمز ذلك إلى قدرتهم ويكون وسيلة لاستعلائهم.

لقد كانوا رجالا مقاتلين أشدّاء ، فأصيبوا بالغرور بسبب قدراتهم الظاهرية ومجدهم المادي ، حتى ظنّوا أنّهم أفضل من الجميع ، وأنّ قوّتهم لا تقهر ، ولذلك قاموا بتكذيب الرسل والإنكار عليهم ، وتكالبوا على نبيّهم «هود».

٣٧٠

لكن القرآن يرد على هؤلاء ودعواهم بالقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً).

أليس الذي خلقهم خلق السماوات والأرض؟

بل هل يمكن المقايسة بين هاتين القدرتين ، فأين القدرة المحدودة الفانية من القدرة المطلقة اللامتناهية الأزلية؟!

ما للتراب وربى الأرباب (١)؟!

تضيف الآية في النهاية قوله تعالى : (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).

نعم ، إنّ الإنسان الضعيف المحدود سوف يطغى بمجرّد أن يشعر بقليل من القدرة والقوة ، وأحيانا بدافع من جهله ، فيتوهم أنّه يصارع الله جلّ وعلا!!

لكن ما أسهل أن يبدل الله عوامل حياته إلى موت ودمار ، كما تخبرنا الآية عن مآل قوم عاد : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

إنّ هذه الريح الصرصر ، وكما تصرح بذلك آيات اخرى ، كانت تقتلعهم من الأرض بقوّة ثمّ ترطمهم بها ، بحيث أصبحوا كأعجاز النخل الخاوية. (يلاحظ الوصف في سورة «القمر» الآية ١٩ ـ ٢٠ وسورة الحاقة الآية ٦ فما بعد).

لقد استمرت هذه الريح سبع ليال وثمانية أيّام ، وحطّمت كيانهم وكل وسائل عيشهم ، نكالا بما ركبوا من حماقة وعلوا وغرور ، ولم يبق منهم سوى أطلال تلك القصور العظيمة ، وآثار تلك الحياة المرفهة.

هذا في الدنيا ، وهناك في الآخرة : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى).

إنّ العذاب الأخروي هو في الواقع كالشرارة في مقابل بحر لجي من النّار.

__________________

(١) إنّ هذا التعبير يشبه في الواقع جملة : «الله أكبر» حيث تقوم بتعريف الله (جلّ وعلا) بأنّه أعظم وأكبر من جميع الموجودات ، ذلك أنّنا نعلم أن لا قياس بين الإثنين (التراب ورب الأرباب) ولكن الله يتحدّث إليها بلساننا ، لذلك نرى أمثال هذه الألفاظ والتعابير في كلامه تعالى

٣٧١

والأنكى من ذلك أن ليس هناك من ينصرهم : (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ).

فبعد عمر من الجد والعمل في سبيل التظاهر بالعظمة والعلو ، يصيبهم الله تعالى بعذاب أذلهم في هذه الدنيا ، وفي العالم الآخر ينتظرهم ما هم أشد وأصعب!

«صرصر» : على وزن (دفتر) مشتقّة في الأصل من كلمة «صرّ» على وزن «شرّ» وتعني الغلق بإحكام ، لذا تستعمل كلمة «صرّه» للكيس الذي يحتوي على المال وهو مغلق بشكل جيّد. ثمّ أطلقت على الرياح الباردة جدا ، أو التي فيها صوت عال ، أو الرياح المسمومة القاتلة. وقد تكون الرياح العجيبة التي شملت قوم «عاد» تحمل كلّ هذه الصفات جميعا.

(أَيَّامٍ نَحِساتٍ) تعني الأيام المشؤومة التي اعتبرها البعض بأنّها الأيّام المليئة بالتراب والغبار ، أو الأيّام الباردة جدا ، وهذه المعاني يمكن أن تكون مرادة من الآيات التي نحن بصددها.

لقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في خطب نهج البلاغة إلى قصة عاد ، كي تكون درسا أخلاقيا تربويا يتعظ منه الآخرون. يقول عليه‌السلام : «واتعظوا فيها بالذين قالوا : من أشدّ منّا قوّة؟ حملوا إلى قبورهم ، فلا يدعون ركبانا ، وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا ، وجعل لهم من الصفيح أجنان ، ومن التراب أكفان ، ومن الرفات جيران» (١).

* * *

ملاحظتان

أوّلا : ما هي وسيلة فناء قوم عاد؟

وفقا للآية (١٣) من هذه السورة ، فإنّ قوم عاد وثمود أهلكوا بالصاعقة. في حين أنّ الآيات التي نبحثها تقول : إنّهم أبيدوا بالريح الصرصر العاتية ، فهل هناك

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم (١١١).

٣٧٢

تعارض بين الاثنين؟

في الجواب ذكر المفسّرون وعلماء اللغة معنيين للصاعقة ، أحدهما عام ، والآخر خاص.

فالصاعقة بمعناها العام تعني أي شيء يهلك الإنسان ، وهي كما يقول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان : «المهلكة من كلّ شيء».

أمّا المعنى الخاص ، فالصاعقة شرارة عظيمة من النّار تنزل من السماء ، وتحرق كلّ ما يوجد في طريقها ، كما وضحنا ذلك آنفا.

بناء على هذا ، لو كانت الصاعقة بالمعنى الأوّل فلا تعارض بينها وبين الرياح القوية.

يقول الراغب في المفردات : «قال بعض أهل اللغة : الصاعقة على ثلاثة أوجه : الموت كقوله : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) وقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) والعذاب كقوله : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) والنّار كقوله : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) وما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجوّ ، ثمّ يكون منه نار فقط أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد وهذه الأشياء تأثيرات منها».

وثمة احتمال آخر ، هو أن قوم عاد قد شملهم نوعان من العذاب : الأوّل الرياح الشديدة التي دمّرت كلّ شيء والتي سلطها الله عليهم أيّاما عديدة ، ثم جاء بعد ذلك دور الصاعقة النّارية المميتة التي شملتهم بأمر الله.

لكن المعنى الأوّل يبدو أكثر تناسبا مع الموضوع ، خصوصا إذا لا حظنا الآيات الأخرى التي تتحدث عن عقاب قوم عاد وهلاكهم. (راجع الآيات في سورة الذاريات ـ آية ٤١ ، وسورة الحاقة ـ آية ٦ ، والقمر الآيتان (١٨) و (١٩)).

٣٧٣

ثانيا : أيام قوم عاد النحسة

البعض يعتقد أنّ أيّام السنة نوعان : أيّام نحسة مشؤومة ، وأيام سعيدة مباركة.

ويستدلون على ذلك بالآيات أعلاه ، فيقولون : هناك تأثيرات مجهولة تؤثر في الليالي والأيّام ، ونشعر نحن بآثار ذلك ، بينما أسبابها ما تزال مبهمة بالنسبة لنا.

وقال البعض : إنّ الأيام النحسة في الآية التي نبحثها هي الأيّام المملوءة بالتراب والغبار.

وقوم عاد قد أصيبوا بمثل هذه الرياح الشديدة بحيث باتوا لا يرى أحدهم الآخر ، كما تفيد ذلك الآيتان (٢٤ ـ ٢٥) من سورة «الأحقاف» في قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

وسوف نقوم ببحث مفصل حول مفهوم الأيّام النحسة والأيّام السعيدة ، في نهاية حديثنا عن الآية (١٩) من سورة القمر ، إن شاء الله تعالى.

* * *

٣٧٤

الآيتان

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))

التّفسير

عاقبة قوم ثمود :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد ، تبحث هاتان الآيتان في قضية قوم ثمود ومصيرهم ، حيث تقول : إنّ الله قد بعث الرسل والأنبياء لهم مع الدلائل البينة ، إلّا أنّهم : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى).

لذلك : (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

وهؤلاء مجموعة تسكن «وادي القرى» (منطقة بين الحجاز والشام) وقد وهبهم الله أراضي خصبة خضراء مغمورة ، وبساتين ذات نعم كثيرة وكانوا يبذلون الكثير من جهدهم في الزراعة. ولقد وهبهم الله العمر الطويل والأجسام القوية ، وكانوا مهرة في البناء القوي المتماسك ، حيث يقول القرآن عنهم في ذلك : (وَكانُوا

٣٧٥

يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) (١).

لقد جاءهم نبيّهم بمنطق قوي وقلب ملؤه الحبّ ، ومعه المعاجز الإلهية ، إلّا أنّ هؤلاء القوم المغرورين المستعلين لم يرفضوا دعوته ـ وحسب ـ بل آذوه وأتباعه القليلين ، لذلك شملهم الله بعقابه في الدنيا ، ولن يغني ذلك عن عذاب الآخرة شيئا.

نقرأ في الآية (٧٨) من سورة الأعراف أنّهم أصيبوا بزلزلة عظيمة ، فبقيت أجسادهم في المنازل بدون حراك : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ).

وفي الآية (٥) من سورة الحاقة قوله تعالى بشأنهم : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ).

أمّا الآية (٦٧) من سورة هود فتقول عنهم : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ).

أمّا الآية التي نحن بصددها فقد استخدمت تعبير «صاعقة».

قد يتصور البعض أن هناك تعارضا بين هذه التعابير ، ولكن عند التدقيق يظهر أنّ الكلمات الأربع أعلاه (رجفة ، طاغية ، صيحة ، صاعقة) ترجع جميعا إلى حقيقة واحدة ، لأنّ الصاعقة ، ـ كم قلنا سابقا ـ لها صوت مخيف ، بحيث يمكن أن نسميها بالصيحة السماوية ، ولها أيضا نارا محرقة ، وهي عند ما تسقط على منطقة معينة تحدث هزّة شديدة ، وكذلك هي وسيلة للتخريب.

في الواقع إنّ البلاغة القرآنية تستوجب أن تبيّن الأبعاد المختلفة للعذاب الإلهي بتعابير مختلفة وفي سياق آيات عديدة كيما تخلّف أثرا عميقا في نفس الإنسان.

وهؤلاء القوم قد واجهتهم عوامل مختلفة للموت في إطار حادثة واحدة ، بحيث أن كلّ عامل لوحده يكفي لإبادتهم كالصيحة المميتة مثلا ، أو الهزة الأرضية

__________________

(١) الحجر ، الآية ٨٢.

٣٧٦

القاتلة ، أو النّار المحرقة ، وأخيرا الصاعقة المخفية.

ولكن قد يتساءل عن مصير الأشخاص الذين آمنوا بصالح عليه‌السلام بين هذه الأمواج القاتلة من الصواعق ، فهل احترقوا بنيران غيرهم؟

القرآن يجيبنا على ذلك بقول الله عزوجل : (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

لقد أنجى هذه المجموعة إيمانها وتقواها ، بينما شمل العذاب تلك الكثرة الطاغية بسبب كفرها وعنادها ، والمجموعتان يمكن أن تكونا نموذجا لفئات من هذه الأمة.

قال بعض المفسّرين : لقد آمن بنبيّ الله صالح (١١٠) أشخاص من بين مجموع القوم ، ولقد أنقذ الله هؤلاء وأنجاهم في الوقت المناسب.

* * *

ملاحظة

أنواع الهداية الإلهية :

الهداية على نوعين : أوّلا «الهداية التشريعة» وهي تشمل إبانة الطريق والكشف عنه بجميع العلائم. ثمّ هناك «الهداية التكوينية» التي هي في واقعها إيصال إلى المطلوب أو الوصول إلى الهدف.

لقد تجمعت الهدايتان معا في الآيات التي نبحثها ، فالآيات تتحدث أولا عن هداية ثمود وهذه هي الهداية التشريعية التي استبانوا من خلالها الطريق.

ثم أضافت الآية عن وصف حالهم بأنّهم استحبوا العمى على الهدى ، وهذه هي عين الهداية التكوينية والتوصّل نحو الهدف.

وهكذا فإنّ الهداية بمعناه الأوّل قد تمّت من خلال بعثة الرسل والأنبياء ، أمّا الهداية بمعناها الثّاني والتي ترتبط بإرادة واختيار أي إنسان ، فلم تتمّ بسبب غرور

٣٧٧

القوم وتكبرهم وعلوهم ، لأنّهم : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى).

إنّ هذا ـ بحدّ ذاته ـ دليل على مبدأ «حرية الإرادة الإنسانية» وعدم الجبر.

ولكن ـ برغم صراحة ووضوح الآيات ـ نرى أنّ بعض المفسّرين كالفخر الرازي يصرون على إنكار دلالة الآية ، وذكروا كلاما لا يليق بمنزلة الباحث المحقق ، وذلك بسبب ميولهم نحو عقيدة الجبر (١)!!

* * *

__________________

(١) يلاحظ الفخر الرازي في التّفسير الكبير في نهاية حديثه عن هذه الآية.

٣٧٨

الآيات

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣))

التّفسير

كانت الآيات السابقة تتحدث عن الجزاء الدنيوي للكفار المغرورين والظالمين والمجرمين. أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدث عن العذاب الأخروي ، وعن مراحل مختلفة من عقاب أعداء الله.

يقول تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ).

٣٧٩

وكي تتصل الصفوف ببعضها يتمّ تأخير الصفوف (١) حتى تلتحق بها الصفوف الأخرى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ).

وحينذاك : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

يا لهم من شهود؟ فأعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار شهادتها ، لأنّها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال ، وهي إذ تتحدث فبأمر الله تعالى.

وهنا يثار سؤال : هل تعني شهادة هذه الأعضاء من جسم الإنسان أنّ الله تبارك وتعالى يخلق فيها قدرة الإحساس والإدراك والشعور ، وبالتالي القدرة على الكلام؟

أم أنّ آثار الذنوب سوف تظهر في ذلك اليوم (يوم البروز) لأنّها مطبوعة عليها طوال عمر الإنسان ، كما نقول في تعبيراتنا الشائعة : إن صفحة وجهه تحكي وتخبر ما يخفيه فلان في سرّه؟

أو أنّ الأمر يكون كما في حال الشجرة التي أوجد الله تعالى فيها الصوت وأسمعه موسى عليه‌السلام؟

في الواقع يمكن قبول كلّ هذه التفاسير ، وقد جاءت مبثوثة في تفاسير المفسّرين.

طبعا لا يوجد مانع من أن يقوم تعالى بخلق الإدراك والشعور في الأعضاء ، فتشهد في محضر الله تعالى عن علم ومعرفة ، خصوصا وأن ظاهر الآيات يشير للوهلة الأولى إلى هذا المعنى. وهو ما يعتقده البعض فيما يخص تسبيح وحمد

__________________

(١) «يوزعون» من «وزع» وهي بمعنى المنع ، وعند ما تستخدم للجنود أو الصفوف الأخرى ، فإن مفهومها يعني أن يبقى المجموع إلى أن يلتحق بهم آخر نفر.

(٢) «ما» في قوله تعالى : (إِذا ما جاؤُها) زائدة ، وهي هنا للتأكيد.

٣٨٠