الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-50-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٧

فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

وأخيرا يقول تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ).

إنّ كفرهم وعنادهم سيكون حجابا على قلوبهم وعقولهم ، ولذلك سيتركون طريق الحق ويسلكون سبيل الباطل ، فيحرمون يوم القيامة من الجنّة وينتهي مصيرهم إلى النّار. وهكذا يضل الله الكافرين.

الآية التي بعدها تشير إلى علة مصائب هذه المجموعة ، حيث يقول تعالى : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ).

كانوا يفرحون بمعارضة الأنبياء وقتل المؤمنين والتضييق على المحرومين ، وكانوا يشعرون بالعظمة عند ارتكاب الذنوب وركوب المعاصي. واليوم عليهم أن يتحملوا ضريبة كلّ ذلك الفرح والغفلة والغرور من خلال هذه النيران والسلاسل والسعير.

«تفرحون» من «فرح» وتعني السرور والابتهاج. وقد يكون الفرح ممدوحا ومطلوبا في بعض الأحيان ، كما تفيد الآيتان (٤) و (٥) من سورة «الروم» في قوله تعالى : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ).

وفي بعض الأحيان يكون الفرح مذموما وباطلا ، كما ورد في قصة قارون ، الآية (٧٦) من سورة «القصص» حيث نقرأ قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ).

طبعا ينبغي التفريق بين الموردين من خلال القرائن ، ولا ريب من أن «الفرح» في الآية التي نبحثها من النوع الثّاني.

«تمرحون» مشتقّة من «مرح» على وزن «فرح» وهي كما يقول اللغويون والمفسرون ، تأتي بمعنى شدة الفرح ، وقال آخرون : إنّها تعني الفرح بسبب بعض القضايا الباطلة.

٣٢١

في حين ذهبت جماعة ثالثة إلى اعتبارها حالة من الفرح المتزامن مع نوع من الطرب والاستفادة من النعم الإلهية في طريق الباطل.

والظاهر أنّ هذه المعاني جميعا تعود إلى موضوع واحد ، ذلك أنّ شدّة الفرح والإفراط فيه يشمل جميع المواضيع والحالات السابقة. وفي نفس الوقت فهو يتزامن مع أنواع الذنوب والآثام والفساد والشهوة (١).

إنّ هذه الأفراح المتزامنة مع الغرور والغفلة والشهوة ، تبعد الإنسان بسرعة عن الله تبارك وتعالى وتمنعه من إدراك الحقيقة ، فتكون الحقائق لديه غامضة والمقاييس معكوسة.

ولمثل هؤلاء يصدر الخطاب الإلهي : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).

هذه الآية تؤّكد مرّة اخرى على أنّ التكبر هو أساس المصائب ، ذلك أنّ التكبر هو قاعدة الفساد ، ويحجب البصائر عن رؤية الحق ويجعل الإنسان يخالف دعوة الأنبياء عليهم‌السلام.

ثم تشير الآية إلى أبواب جهنّم بقوله تعالى : (أَبْوابَ جَهَنَّمَ).

ولكن هل الدخول من أبواب جهنّم يعني أن لكل مجموعة باب معين تدخل منه ، أو أنّ كلّ مجموعة منهم تدخل من أبواب متعدّدة؟

أي أنّ جهنّم تشبه السجون المخيفة التي تتداخل فيها الأبواب والدهاليز والممرات والطبقات ، فبعض الضالين المعاندين يجب أن يسلكوا كلّ هذه الأبواب والممرات والطبقات قبل أن يستقروا في قعر جهنّم.

وممّا يؤيد هذا التّفسير ما يروى عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنّه أجاب عن سؤال في تفسير قوله تعالى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : «الفرح : انشراح الصدر بلذة عاجلة ، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية. والمرح شدة الفرح والتوسع فيه».

٣٢٢

مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) : (١) أنّه قال : إنّ جهنّم لها سبعة أبواب ، أطباق بعضها فوق بعض ، ووضع إحدى يديه على الأخرى ، فقال هكذا» (٢).

وثمة تفسير آخر نستطيع أن نقف على خلاصته بالشكل الآتي : إنّ أبواب جهنم ـ كأبواب الجنّة ـ إشارة إلى العوامل المختلفة التي تؤدي بالإنسان إلى دخولها ، فكل نوع من الذنوب أو نوع من أعمال الخير يعتبر بابا.

وثمّة ما يشير الى ذلك في الروايات الإسلامية ، ووفق هذا المعنى فإنّ العدد (٧) هو كناية عن الكثرة ، وما ورد في القرآن الكريم من أنّ للجنّة ثمانية أبواب هو إشارة إلى ازدياد عوامل الرحمة على عوامل العذاب (راجع ذيل الآية ٤٤ سورة الحجر).

وهذان التّفسيران لا يتعارضان فيما بينهما.

* * *

__________________

(١) الحجر ، الآية ٤٤.

(٢) مجمع البيان ، المجلد ٥ ـ ٦ ، صفحة ٣٣٨ ، نهاية الآية ٤٤ من سورة الحجر. هناك روايات اخرى ذكرها العلّامة المجلسي في المجلد ٨ ، من بحار الأنوار ، صفحة ٢٨٩ ، و ٣٠١ و ٢٨٥.

٣٢٣

الآيتان

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨))

التّفسير

فاصبر ... حتى يأتيك وعد الله :

بعد سلسلة البحوث السابقة عن جدال الكافرين وغرورهم وتكذيبهم الآيات الإلهية والدلائل النبوية ، تأتي هاتان الآيتان لمواساة النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأمرانه بالصبر والاستقامة في مواجهة المشاكل والصعاب.

يأتي الأمر أوّلا في قوله تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ).

إنّ وعده بالنصر حق ، ووعده بمعاقبة المستكبرين المغرورين حق ، وكلاهما سيتحققان ، على أعداء الحق أن لا يظنّوا بأنّهم يستطيعون الهروب من العذاب الإلهي بسبب تأخر عقابهم ، لذلك تضيف الآية : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ

٣٢٤

نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (١).

إنّ مسئوليتك هي التبليغ البليغ وإتمام الحجة على الجميع ، حتى تتنور القلوب اليقظة ببلاغك ، ولا يبقى للمعاندين عذر!

عليك أن تهتم بإنجاز مهمتك ولا تنتظر أن تحقق الوعيد عاجلا بإنزال العقاب على هذه الفئة الضالة.

والكلام يتضمّن تهديدا إلى تلك الفئة لكي يعلموا أنّ العذاب لا بدّ مصيبهم ، ونازل بساحتهم ، فكما نال بعضهم العقاب الذي يستحقونه في هذه الدنيا في «بدر» وغيرها ، فهناك أيضا يوم القيامة والعذاب المنتظر.

ثم تشير الآية الكريمة إلى الوضع المشابه الذي واجهه الرسل والأنبياء قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كي تكون في هذه الذكرى مواساة أكثر للرسول الكريم ، حيث واجه الأنبياء السابقين مثل هذه المشاكل ، إلّا أنّهم استمروا في طريقهم واحتفظوا بمسارهم المستقيم.

يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ).

لقد واجه كلّ منهم ما تواجهه أنت اليوم ، فصبروا وكان حليفهم النصر والغلبة على الظالمين.

ومن جهة ثانية كان الجميع يطلبون من الرسل الإتيان بالمعجزة ، ومشركو مكّة لم يشذوا على غيرهم في طلب المعاجز من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك يخاطب الله تعالى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

إنّ جميع المعاجز هي من عند الله وبيده ، وبذلك فهي لا تخضع إلى أمزجة الكفّار والمشركين ، بل إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينبغي له الاستسلام أمام «معجزاتهم المقترحة» بل ما يكون من المعجزة ضروريا لهداية الناس وإحقاق الحق يظهره

__________________

(١) يلاحظ مثلها في الآية (٤٦) من سورة يونس.

٣٢٥

الله على أيدي الأنبياء.

ثم تهدّد الآية من كان يقول : لماذا لا يشملنا العذاب الإلهي إذا كان هذا الرّسول صادقا؟ فتقول الآية : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ).

في ذلك اليوم المهول تغلق أبواب التوبة ، ولا تنفع الآهات والصرخات ، ويخسر أهل الباطل صفقتهم ، ويشملهم العذاب الإلهي الأليم ، إذا فلما ذا كلّ هذا الإصرار على مجيء ذلك اليوم؟!

وفقا لهذا التّفسير ينصرف معنى الآية والمقصود بالعذاب فيها إلى «عذاب الاستئصال».

ولكن بعض المفسّرين اعتبر هذه الآية بمثابة بيان للعذاب في يوم القيامة. فهناك يكون القضاء الحق بين الجميع ، ويشاهد أنصار الباطل خسرانهم المريع.

إنّ فيما تضمّنته الآية (٢٧) من سورة «الجاثية» يؤكّد هذا التّفسير ، إذ يقول تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ).

ولكن تمّ استخدام «أمر الله» وما شابهها في الآيات المتعدّدة التي تختص بعذاب الدنيا (١).

ويحتمل أن يكون للآية معنى أوسع يشمل عذاب الدنيا والآخرة ، وفي المشهدين يتوضح خسران المبطلين.

ومن الضروري هنا الإشارة إلى الحديث الذي رواه الشيخ الصدوق رحمة الله في أماليه بإسناده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : كان في المدينة رجل يضحك الناس ، فقال : قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه ـ يعني علي بن الحسين عليه‌السلام ـ قال : فمرّ عليه‌السلام وخلفه موليان له ، فجاء الرجل حتى انتزع رداءه من رقبته ، ثمّ مضى فلم يلتفت إليه الإمام عليه‌السلام فاتبعوه وأخذوا الرداء منه ، فجاءوا به فطرحوه عليه فقال لهم : من

__________________

(١) كما في «هود» الآيات : (٤٣) ، (٧٦) ، (١٠١).

٣٢٦

هذا؟ فقالوا : هذا رجل بطال يضحك أهل المدينة ، فقال : قولوا له إن لله يوما يخسر فيه المبطلون» (١).

* * *

ملاحظة في عدد الأنبياء؟!

للمفسّرين كلام كثير حول عدد أنبياء الله ورسله.

والرواية المشهورة في هذا المجال تذكر أنّ عددهم مائة وعشرون ألف نبي ، في حين تقتصر روايات اخرى على ثمانية آلاف ، أربعة آلاف منهم هم أنبياء بني إسرائيل ، والباقون من غيرهم (٢).

وقد جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «خلق الله عزوجل مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبيّ ، أنا أكرمهم على الله ولا فخر ، وخلق الله عزوجل مائة ألف وصي وأربعة وعشرين ألف وصي ، وعلي أكرمهم على الله وأفضلهم» (٣).

وفي رواية اخرى عن أنس بن مالك أنّ رسول الله قال : «بعثت على أثر ثمانية آلاف نبيّ ، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل» (٤).

هذان الحديثان لا يتناقضان فيما بينهما ، إذ يمكن أن يكون الحديث الثّاني قد أشار إلى الأنبياء العظام ، كما يذكر ذلك العلّامة المجلسي في توضيح هذا الكلام.

وفي حديث آخر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجاب على سؤال لأبي ذر رضى الله عنه عن عدد الأنبياء قائلا بأنّهم (١٢٤) ألف نبي ، وعن سؤال حول عدد الرسل منهم ، أنّهم

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٥٢٧ ، حديث ١١٨.

(٢) مجمع البيان : أثناء الحديث عن هذه الآية.

(٣) بحار الأنوار ، مجلد ١١ ، صفحة ٣٠ ، حديث رقم ٢١.

(٤) بحار الأنوار ، مجلد ١١ ، صفحة ٣١ ، حديث رقم ٢٢.

٣٢٧

(٣١٣) رسول فقط (١).

وفي حديث آخر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن ذكر العدد (١٢٤) ألف قال : خمسة منهم أولو العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وهناك روايات اخرى في هذا المجال تؤيد العدد المذكور أعلاه.

من هنا يتضح أنّ هذه الرواية (حول عدد الأنبياء) ليست خبرا واحدا كما يقول «برسوئي» نقلا عن بعض العلماء في تفسير «روح البيان» ، بل هناك روايات متعدّدة ومستفيضة تؤّكد أنّ عدد الأنبياء الإلهيين كان (١٢٤) ألف نبي. وأنّ مثل هذه الروايات موجودة في المصادر الإسلامية المختلفة.

والطريق في الأمر أن عدد الأنبياء الذين صرح القرآن بأسمائهم هو (٢٦) نبي فقط هم : آدم ـ نوح ـ إدريس ـ صالح ـ هود ـ إبراهيم ـ إسماعيل ـ إسحاق ـ يوسف ـ لوط ـ يعقوب ـ موسى ـ هارون ـ زكريا ـ شعيب ـ يحيى ـ عيسى ـ داود ـ سليمان ـ إلياس ـ اليسع ـ ذو الكفل ـ أيوب ـ يونس ـ عزير ـ ومحمّد (عليهم الصّلاة والسلام).

ولكن هناك أنبياء آخرون أشار إليهم القرآن وإن لم يذكر أسماءهم صراحة مثل «أشموئيل» الذي ورد ذكره في الآية (٢٤٨) من سورة «البقرة» في قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ).

والنّبي «أرميا» الوارد في الآية (٢٥٩) من سورة البقرة في قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ...) (٣).

و «يوشع» المذكور في الآية (٦٠) من سورة «الكهف» في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ).

__________________

(١) بحار الأنوار ، مجلد ١١ ، صفحة ٣٢ ، حديث رقم ٢٤.

(٢) بحار الأنوار ، مجلد ١١ ، صفحة ٤١ ، حديث رقم ٢٤.

(٣) ثمّة بحث بين المفسّرين عن اسم هذا النّبي ، إذ فيهم من قال : إنّه «أرميا» والبعض قال : إنّه «الخضر» وقال جمع : إنّه «عزير».

٣٢٨

و «الخضر» الوارد ذكره إشارة في الآية (٦٥) من سورة الكهف في قوله تعالى : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا).

وورد ذكر لأسباط بني إسرائيل ، وهم زعماء قبائل بني إسرائيل كما في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) (١).

وإذا كان هناك أنبياء من بين إخوة يوسف عليه‌السلام فقد أشير إليهم مرات عديدة في سورة يوسف.

وخلاصة القول هنا أنّ القرآن أشار إلى قصص وحوادث ترتبط بأكثر من (٢٦) نبيا وهم المصرّح بأسمائهم مباشرة في القرآن الكريم.

ويستفاد من بعض الروايات الواردة في مصادر السنة والشيعة أنّ الله بعث بعض الأنبياء من ذوي البشرة السوداء ، كما يقول العلامة الطبرسي مثلا في «مجمع البيان» روي عن علي أنّه قال : «بعث الله نبيّا أسود لم يقص قصته» (٢).

* * *

__________________

(١) النساء ـ ١٦٣.

(٢) مجمع البيان نهاية الآية التي تبحثها. وفي هوامش تفسير الكشّاف هناك روايات عديدة في هذا المجال. يلاحظ المجلد الرابع ، صفحة ١٨٠ ، طبعة دار الكتاب العربي.

٣٢٩

الآيات

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))

التّفسير

منافع الأنعام المختلفة :

تعود الآيات التي بين أيدينا للحديث مرّة اخرى عن علائم قدرة الخالق (جلّ وعلا) ومواهبه العظيمة لبني البشر ، وتشرح جانبا منها كي تزيد من وعي الإنسان ومعرفته بالله تعالى ، وليندفع نحو الثناء والشكر فيزداد معرفة بخالقه.

يقول تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ).

فبعضها يختص بالغذاء كالأغنام ، وبعضها للركوب والغذاء كالجمال التي تعتبر بحق سفن الصحاري.

«أنعام» جمع «نعم» على وزن «قلم» وتطلق في الأصل على الجمال ، لكنّها توسعت فيما بعد لتشمل الجمال والبقرة والأغنام ، والمصطلح مشتق من «النعمة»

٣٣٠

بسبب أنّ أحد أكبر النعم على الإنسان هي هذه الأنعام. وفي يومنا هذا ـ بالرغم من تقدم التكنولوجيا في مجال النقل البري والجوي ـ إلّا أنّ الإنسان ما زال يستفيد من الأنعام ، خصوصا في الأماكن الصحراوية الرملية ، التي يصعب فيها استخدام وسائل النقل الأخرى. ويتمّ استخدام الأنعام والحيوانات في بعض المضايق والمناطق الجبلية ، حيث يتعذر استخدام غيرها من وسائل النقل الحديث.

لقد خلق الله الأنعام بأشكال مختلفة ، وبروح تستسلم للإنسان وتنصاع إليه وتخضع لأوامره وتلبي له احتياجاته ، في حين أنّ بعضها أقوى من أقوى الناس ، وهذا الانصياع في حدّ ذاته دليل من أدلة الخالق العظيم الذي سخّر لعباده هذه الأنعام.

إنّ من الحيوانات الصغيرة ما يكون خطره مميتا للإنسان ، في حين أن قافلة من الجمال يكفي صبي واحد لقيادها!

إضافة لما سبق تقول الآية التي بعدها : إنّ هناك منافع اخرى : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ).

الإنسان يستفيد من لبنها وصوفها وجلدها وسائر أجزائها الأخرى ، بل يستفيد حتى من فضلاتها في تسميد الأرض وإخصاب الزرع. وخلاصة القول : إنّه لا يوجد شيء غير نافع في وجود هذه الأنعام ، فكل جزء منها مفيد ونافع ، حتى أنّ الإنسان بدأ يستخلص بعض الأدوية من امصال هذه الحيوانات ، والملفت أن «منافع» جاءت نكرة في الآية لتبيّن أهمية ذلك).

ثم تضيف الآية : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ).

احتمل بعض المفسّرين أن معنى الآية ينصرف إلى حمل الأثقال الذي يتمّ بواسطة الأنعام ، لكن يحتمل أن يكون المقصود بقوله تعالى : (حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) الإشارة إلى بعض المقاصد والأهداف والرغبات الشخصية ، إذ يستفاد من الإنعام

٣٣١

في الترفيه والهجرة والسياحة والتسابق والتفاخر ، وما إلى ذلك من رغبات تنطوي عليها نفس الإنسان.

ولأنّ الأنعام تعتبر وسيلة سفر على اليابسة ، لذلك تقول الآية في نهايتها : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) هناك بحث عن منافع الحيوانات يمكن مراجعته أثناء الحديث عن الآية الخامسة من سورة النحل).

لقد جاء التعبير القرآني «عليها» (أي الأنعام) بالرغم من الإشارة المباشرة إليها سابقا ، ليكون مقدمة لذكر (الفلك). والمعنى أنّ الله جلّ وعلا سخّر لكم الوسائل في البر والبحر للانتقال ولحمل الأثقال كي تستطيعوا أن تبلغوا مقاصدكم بسهولة.

لقد جعلت للسفينة صفة خاصة بحيث تستطيع أن تبقى على سطح الماء بالرغم من الأثقال والأوزان الكبيرة التي عليها ، وجعل الله تعالى الحركة في الريح بحيث تستطيع الفلك الاستفادة منها لتحديد وجهة سفر الإنسان ومقصده.

الآية الأخيرة هي قوله تعالى : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) هل تستطيعون إنكار آياته في الآفاق وفي أنفسكم؟ أم هل تنكرون آياته في خلقكم من تراب وتحويلكم عبر مراحل الخلق إلى ما أنتم عليه ، أم أنّكم تنكرون آياته في الحياة والموت والمبدأ والمعاد؟ وهل يمكنكم إنكار آياته في خلق السماء والأرض أو الليل والنهار ، أو خلقه لأمور تساعد في استمرار حياتكم كالأنعام وغيرها؟

أينما تنظر وتمد البصر فثمة آيات الله وآثار العظمة في خلقه سبحانه وتعالى : «عميت عين لا تراك».

يقول المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في تفسيره «مجمع البيان» في جوابه على هذا السؤال : ما هو سبب مثل هذا الإنكار مع وضوح الدلائل والعلامات؟

يقول : إنّ ذلك يمكن أن يعود إلى ثلاثة أسباب هي :

٣٣٢

١ ـ عبادة الأهواء والانقياد إليها ، لأنّ ذلك يؤدي إلى حجب الإنسان عن رؤية الحق ، (وينساق وراء غرائزه ، لأنّ الحق يحدّد هذه الغرائز من خلال فرض التكاليف والوظائف الربانية. لذلك يعمد هؤلاء إلى إنكار الحق برغم دلائله الواضحة).

٢ ـ التقليد الأعمى للآخرين ـ خصوصا السابقين ـ وهذا أمر يحجب الإنسان عن الحق.

٣ ـ الأحكام والإعتقادات الباطلة المترسخة في وعي الإنسان ، فيذعن لها وتحجبه عن دراسة الحق والانفتاح على آيات الله تبارك وتعالى.

* * *

٣٣٣

الآيات

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

التّفسير

لا ينفع الإيمان عند نزول العذاب :

هذه الآيات هي آخر مجموعة من سورة المؤمن ، ونستطيع أن نعتبرها نوعا من الاستنتاج للبحوث السابقة ، فبعد بيان كلّ الآيات الإلهية في الآفاق والأنفس ، وكل تلك المواعظ اللطيفة التي تحدثت عن المعاد ، ومحكمة البعث الكبيرة ، هددت هذه الآيات الكافرين المستكبرين والمنكرين المعاندين تهديدا شديدا ،

٣٣٤

وواجهتهم بالمنطق والاستدلال ، وأوضحت لهم عاقبة أعمالهم.

فأوّلا تقول : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

فإذا كان عندهم شك في صحة التأريخ المدون على الأوراق ، فهل عندهم شك فيما يلمسونه من الآثار الموجودة على سطح الأرض ، من القصور الخربة للملوك ، والعظام النخرة تحت التراب ، أو المدن التي أصابها البلاء والعذاب وبقيت آثارها شاهدة على ما جرى عليها؟!

فأولئك : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ). حيث يمكن معرفة عددهم ووقّتهم من آثارهم المتمثلة في قبورهم وقصورهم ومدنهم.

عبارة : (آثاراً فِي الْأَرْضِ) ـ سبق تفسيرها في الآية (٢١) من نفس السورة ـ فلعلها إشارة إلى تقدمهم الزراعي ، كما جاء في الآية (٩) من سورة الروم ، أو إشارة إلى النباء العظيم للأقوام السابقين في قلب الجبال والسهول (١).

ومع هذه القوّة والعظمة التي كانوا يتمتعون بها ، فإنّهم لم يستطيعوا مواجهة العذاب الإلهي : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢).

بل إنّ كلّ قواهم وقدراتهم أبيدت خلال لحظات قصيرة ، حيث خربت القصور وهلكت الجيوش التي كان يلوذ بها الظالمون ... وسقطوا كما تسقط أوراق الخريف ، أو أغرقوا في خضم الأمواج العاتية.

فإذا كان هذا هو مصير أولئك السابقين مع كلّ ما لديهم ، فبأي مصير ـ يا ترى ـ يفكّر مشركو مكّة وهم أقل من أولئك؟!

الآية التي بعدها تنتقل للحديث عن تعاملهم مع الأنبياء ومعاجز الرسل البينة ،

__________________

(١) كما تذكره الآيات (١٢٨) و (١٢٩) من سورة الشعراء.

(٢) هناك احتمالان في (ما) في جملة «ما أغنى» فإمّا نافية أو استفهامية ، لكن يظهر أنّ الأوّل هو الصحيح ، وهناك أيضا احتمالان في «ما» في جملة (ما كانوا يكسبون) فإما موصولة أو مصدرية ولكن الأوّل هو المرجح

٣٣٥

حيث يقول تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (١) أيّ إنّهم فرحوا بما عندهم من المعلومات والأخبار ، وصرفوا وجوههم عن الأنبياء وأدلتهم. وكان هذا الأمر سببا لأن ينزل بهم العذاب الالهي : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

وذكر المفسّرون احتمالات عديدة عن حقيقة العلم الذي كان عندهم ، والذي اغتروا به وشعروا معه بعدم الحاجة إلى تعليمات الأنبياء ، والاحتمالات هذه هي :

أوّلا : لقد كانوا يظنون أنّ الشبهات الواهية والسفسطة الفارغة هي العلم ، ويعتمدون عليها. لقد ذكر القرآن الكريم أمثلة متعدّدة لهذا الاحتمال ، كما في قوله تعالى : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٢) والآية حكاية على لسانهم.

وممّا حكاه القرآن عنهم أيضا ، قوله تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٣).

وقولهم في الآية (٢٤) من سورة الجاثية : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ).

وهناك أمثلة اخرى لإعاءاتهم.

ثانيا : المقصود بها العلوم المرتبطة بالدنيا وتدبير أمور الحياة ، كما كان يدّعي «قارون» مثلا ، كما يحكي عنه القرآن الكريم في قوله تعالى : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (٤).

ثالثا : المقصود بها العلوم ذات الأدلة العقلية والفلسفية ، حث كان يعتقد البعض ممن يمتلك هذه العلوم أنّ لا حاجة له للأنبياء ، وبالتالي فهو لا ينصاع لنبواتهم

__________________

(١) احتمل البعض أن يعود الضمير في (جاءتهم) إلى الأنبياء ، لذا يكون المقصود بالعلوم علوم الأنبياء ، بينما المقصود من (فرحوا) هو ضحك واستهزاء الكفّار بعلوم الأنبياء ، لكن هذا التّفسير احتماله بعيد.

(٢) سورة يس ، الآية ٧٨.

(٣) السجدة ، الآية ١٠.

(٤) القصص ، الآية ٧٨.

٣٣٦

ودلائل إعجازهم.

التفاسير الآنفة الذكر لا تتعارض فيما بينها ، لأنّها جميعا تقصد اعتماد البشر على ما لديهم ، واستعلاءهم بهذه «المعرفة» على دعوات الرسل ومعاجز الأنبياء. بل واندفع هؤلاء حتى إلى السخرية بالوحي والمعارف السماوية.

لكن القرآن الكريم يذكر مآل غرور هؤلاء وعلوّهم وتكبرهم إزاء آيات الله ، حينما يقول : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ).

ثم تأتي النتيجة سريعا في قوله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا).

لماذا؟ لأنّه عند نزول «الاستئصال» تغلق أبواب التوبة ، وعادة ما يكون مثل هذا الإيمان إيمانا اضطراريا ليس له ثمرة الإيمان الاختياري ، إذ أنّه تحقق في ظل شروط غير عادية ، لذا من المحتمل جدّا أن يعود هؤلاء إلى سابق وضعهم عند ما ترتفع الشروط الاستثنائية التي حلّت بهم.

لذلك لم يقبل من «فرعون» إيمانه وهو في الأنفاس الأخيرة من حياته وعند غرقه في النيل.

وهذا الحكم لا يختص بقوم دون غيرهم ، بل هو : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ).

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى : (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ).

ففي ذلك اليوم عند ما ينزل العذاب بساحتهم سيفهم هؤلاء بأنّ رصيدهم في الحياة الدنيا لم يكن سوى الغرور والظنون والأوهام ، فلم يبق لهم من دنياهم سوى التبعات والعذاب الإلهي الأليم ، وهل ثمّة خسران أكبر من هذا؟!

وهكذا تنتهي السورة المباركة (المؤمن) التي بدأت بوصف حال الكافرين المغرورين ، ببيان نهاية هؤلاء وما آل إليه مصيرهم من العذاب والخسران.

* * *

٣٣٧

المغرورون بالعلم!

في الآيات المختلفة لهذه السورة المباركة ـ كما أوضحنا ذلك ـ يتبيّن أنّ أساس انحراف قسم كبير من الناس هو التكبر والغرور.

قد يكون امتلاك المال من أسباب العلو والتكبر ، أو كثرة الأفراد وامتلاك القدرات العسكرية. أو كمية محدودة من المعلومات في فرع من فروع المعرفة ، يظن الإنسان أنّها كبيرة وكثيرة ، فتدفعه إلى العلو والاستغناء السخرية.

إنّ حالة عصرنا الراهن تعكس نموذج «الغرور العلمي» بشكل جلّي واضح ، ففي ظل التقدم السريع الذي أحرزته المجتمعات المادية في المجالات العلمية والتقنية ، نراها عمدت إلى إلغاء دور الدين من الحياة ، وقد سيطر الغرور العلمي على بعض علماء الطبيعة الى درجة أنّهم تصوروا أن لا يوجد في هذا العالم شيء خارج اطار علومهم ومعارفهم ، وبما أنّهم لم يروا الله في مختبراتهم أنكروا وجوده وجحدوا نعمته.

لقد ذهب بهم الغرور إلى أكثر من ذلك عند ما أصبحوا يجهرون أن الدين ووحي الأنبياء إنّما كانا بسبب الجهل أو الخوف ، أما وقد حلّ عصر التقدم العلمي فإنّ الحاجة إلى مثل هذه المسائل انعدمت تماما ، بل وعمدوا إلى فرض تفسير معين لتطوّر الحياة يماشي ادعاءهم هذا ، فقالوا : إنّ الحياة الفكرية للبشر مرّت عبر المراحل الآتية :

١ ـ مرحلة الأساطير.

٢ ـ مرحلة الدين.

٣ ـ مرحلة الفلسفة.

٤ ـ مرحلة العلم ، والمقصود بها العلوم الطبيعية.

بالطبع ، نحن لا ننكر أنّ السلطة الديكتاتورية للكنيسة على عقول الناس في أوروبا ، وشيوع الخرافات وأنواع التفكير الأسطوري لقرون مديدة في تأريخ تلك

٣٣٨

القارة ، بالإضافة إلى القمع الذي كانت تمارسه طبقة رجال الدين الكنسي (الإكليروس) هناك ؛ كلّ هذه العوامل ساهمت ـ إلى درجة كبيرة ـ في نمو المذاهب التي تقوم على أساس رفض الدين والإيمان والغيب ، والاعتماد بدلا عنها على أسس المادة والتجربة والإلحاد.

ولحسن الحظ لم تستمر هذه المرحلة طويلا ، إذا اجتمعت مجموعة عوامل وساعدت للقضاء على مثل هذه التصورات المنحرفة ، وكأنّ العذاب قد مسّهم عند ما ركبهم الغرور والعلو.

فمن ناحية أظهرت الحرب العالمية الأولى والثانية أنّ التقدم العلمي والصناعي قد جعل البشرية على حافة السقوط والدمار.

ومن ناحية ثانية ، فإنّ ظهور المفاسد الأخلاقية والاجتماعية والقتل والإبادة وأنواع الأمراض النفسية ، وسلسلة الاعتداءات المالية والجنسية ، كلّ ذلك كشف عن عجز العلوم وقصورها لوحدها عن بناء الحياة الإنسانية بشكل سليم صحيح.

من جانب ثالث ، عملت المساحات المجهولة في وعي الإنسان العلمي وقصوره عن الإحاطة بكافة أسباب الظواهر الطبيعية والحياتية إلى اعترافه بالعجز عن إدراك مطلق لأسباب المعرفة من خلال العلم وحده ، فعاد الكثير من العلماء إلى ساحة الإيمان وجادّة الدين ، وضعفت نوازع الدعاوى الإلحادية.

وفي المعترك الصعب هذا تألق الإسلام بتعليماته الشاملة والجامعة ، وبدأت موجات العودة نحو الإسلام الأصيل.

ونأمل أن تكون هذه اليقظة عميقة شاملة قبل أن يشمل البأس الإلهي مرّة اخرى أجزاء من هذا العالم ، ونأمل أن تزول آثار ذلك الغرور باسم العلم حتى لا يكون مدعاة للخسران الكبير.

اللهم احفظنا من الغرور ومن التكبر والعناد وحبّ الذات الذي يقودنا إلى الهلاك وسوء العاقبة والافتضاح.

٣٣٩

إلهي ، اهد المجتمعات البشرية في عصرنا الحاضر إلى ظل تعليمات أنبيائك ، قبل أن يشملهم بأسك الشديد أناس هذا العصر.

اللهم ، اجعلنا ممن يأخذ العبرة من مصير الأقوام السالفة لكي لا نمسي عبرة للآخرين ...

أمين رب العالمين

نهاية سورة المؤمن

* * *

٣٤٠