الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-50-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٧

حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

وعند ما نجد بعض الرّوايات المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام تفسّر الروح في الآية أعلاه بـ «روح القدس» وتخصّها بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومين من أهل البيت عليهم‌السلام ، فإنّ ذلك لا يتعارض مع ما قلناه ، لأنّ «روح القدس» هي نفس الروح العلوية المقدسة والمنصب المعنوي العظيم الذي يتجسّد كاملا في الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، وكثيرا ما يتجلّى جزء منها في الأشخاص الآخرين الذي متى ما ساعدتهم فيوضات روح القدس فإنّه سيقومون بأعمال مهمّة ، وتنطق لسانهم بالحكمة. (لمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية ٨٧ من سورة البقرة).

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من مطر ونور وهواء ، فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق «الروحي» والمعنوي المتمثل في نزول الوحي.

والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياء عليهم‌السلام ، ولماذا يسلك الأنبياء هذه الطرق الطويلة المليئة بالعقبات والصعاب.

الإجابة يقدمها القرآن في نهاية الآية بقوله : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ).

أنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم ...

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين ...

إنّه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته ، ورموز الباطل وزعامته وأنصاره ...

إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين ...

إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم ...

هو يوم التقاء الإنسان والملائكة ...

وأخيرا ، يوم التلاق ، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة

٢٢١

العدل الإلهي.

إذا ، هدف بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير الإنسان من يوم التلاقي الكبير ... إنّه لاسم عجيب (يوم التلاق) الذي انتخبته الآية اسما ليوم القيامة!

* * *

٢٢٢

الآيتان

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

التّفسير

يوم التلاقي!

هذه الآيات والتي تليها ، هي توضيح وتفسير (ليوم التلاق) وهو اسم ليوم القيامة.

في هاتين الآيتين تمّ ذكر بعض خصوصيات القيامة وكلّ واحدة أكثر إثارة من الأخرى.

يبيّن تعالى أن يوم التلاقي ، هو : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ...) إنّه اليوم الذي تزول فيه جميع الحجب والأستار ، وكتوطئة له ستزول الموانع المادية كالجبال الراسيات مثلا ، وتصبح الأرض (قاعاً صَفْصَفاً) كما يصفها القرآن في الآية (١٠٦) من سورة طه».

ومن جانب آخر سيخرج الناس من قبورهم ، ثمّ تنكشف الأسرا الباطنية

٢٢٣

والمخفية : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (١).

ويوم تخرج الأرض ما تطويه في بطونها : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٢).

ويوم تنشر صحف الأعمال وينكشف محتواها : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (٣).

في يوم التلاق تتجسّد الأعمال التي اقترفها الإنسان وتبدو حاضرة أمامه : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) (٤).

وفي ذلك اليوم تنكشف الأسرار التي كان يطويها الإنسان بداخله ويتكتم عليها : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) (٥).

وفي ذلك اليوم المهول ستشهد الأعضاء على أعمال الإنسان ، وستشهد ـ أيضا ـ الأرض وتكشف ما ارتكب عليها : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٦).

في ذلك اليوم سيطوى الكون ، وسيظهر الإنسان بكل وجوده ، ويبرز الكون وما عليه ، ولا تبقى من خافية : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) (٧).

إنّه منظر مهول ومشهد موحش!!

ويكفينا لتصور هول ذلك اليوم نتخيّل ... ولو للحظة واحدة ... منظر هذه الدنيا وقد حلّت بها شرائط القيامة؟ لنرى أيّ فزع سينتاب البشرية وتحل بها! وكيف تتقطع العلائق والروابط في ذلك اليوم لذلك على الإنسان أن يستعد ، وأن يعيش بشكل لا يخشى فيه انكشاف المستور من أوضاعه ، وأن تكون أعماله وأفعاله بحيث لا يقلق منها لو ظهرت وانكشفت أمام الملأ.

الوصف الثّاني لذلك اليوم المهول ، هو انكشاف أمر الناس بحيث لا يخفى

__________________

(١) الطارق ، الآية ٩.

(٢) الزلزال ، الآية ٢.

(٣) التكوير ، الآية ١٠.

(٤) النبأ ، الآية ٤٠.

(٥) الأنعام ، الآية ٢٨.

(٦) الزلزال ، الآية ٤.

(٧) إبراهيم ، الآية ٢١.

٢٢٤

شيء منها على الله تعالى : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ).

بالطبع ... في هذه الحياة لا يخفى من أمر الإنسان شيء على الله العالم المطلق ، إذ يتساوى لذي ذاته المطلقة غير المتناهية المخفي والظاهر ، والشاهد والغائب. فلما ذا ـ إذا ـ ذكر القرآن الجملة أعلاه على أنّها تفسير لجملة (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ)؟

إن سبب ذلك يعود إلى أنّ «البروز» في ذلك اليوم يكون مؤكّدا أكثر ، بحيث أنّ الآخرين سيطّلعون على أسرار بعضهم البعض. أمّا بالنسبة لله فالمسألة لا تحتاج إلى بحث أو كلام.

الخصوصية الثّالثة ليوم التلاقي هو انبساط الحاكمية المطلقة لله تعالى ، ويظهر ذلك من خلال نفس الآية التي تسأل عن الحكم والملك في ذلك اليوم : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟

يأتي الجواب : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

من الذي يطرح السؤال ، ومن الذي يجيب عليه؟

الآية لا تتحدّث عن ذلك ، والتفاسير مختلفة في هذا الصدد.

ذهب البعض الى أنّ السؤال يطرح من قبل الله جلّ وعلا ، أمّا الجواب فيأتي من الجميع ، مؤمنين وكافرين (١).

وذهب آخرون الى أن السؤال والجواب كلاهما من قبل الخالق عزوجل (٢).

قسم ثالث يعتقد أنّ «المنادي الإلهي» هو الذي يطرح السؤال ، وهو الذي يجيب عليه.

ولكن يبدو من الظاهر أنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معين ، بل هو سؤاله يطرحه الخالق والمخلوق ، الملائكة والإنسان ، المؤمن والكافر ،

__________________

(١) مجمع البيان ، أثناء تفسير الآية.

(٢) الميزان : ذيل الآية مورد البحث.

٢٢٥

تطرحه جميع ذرات الوجود ، وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم ، بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته ، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحه.

فلو أصحت السمع إلى أي ذرة من ذرات الوجود ، لسمعتها تقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ) وفي الجواب تسمعها نفسها تقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

وقد نرى في هذه الدنيا نموذجا مصغرا لذلك ، فعند ما ندخل إلى بيت أو مدينة أو بلد معين ، فإنّنا نحسن بقدرة شخص معين ، وبانبساط حاكميته ، وكأنّ الجميع يقولون ـ كلّ بلسان حاله ـ إنّ المالك أو الحاكم هو فلان ، وتشهد على ذلك حتى الجدران!!

وبالطبع ، في هذا اليوم أيضا تطغى الحاكمية الإلهية على كلّ شيء ، وتبسط قدرتها في كلّ الأرجاء ، لكن في يوم القيامة سيكون لها ظهور وبروز من نوع جديد ، فهناك لا يوجد كلام عن حكومة الجبارين ، ولا نسمع ضجيج الطواغيت السكارى ، ولا نرى أثرا لإبليس وجنوده وجيوشه من الإنس والجن.

الخصوصية الرابعة لذلك اليوم ، هو كونه يوم جزاء : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ). أجل ، إن ظهور وبروز الاحاطة العلمية لله تعالى وحاكميته ومالكيته وقهاريته كلها أدلة واضحة على هذه الحقيقة العظيمة المخيفة من جهة ، والمفرحة من جهة اخرى.

أمّا الخصوصية الخامسة لذلك اليوم ، فهي ما يختصره قوله تعالى : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ).

وكيف يمكن أن يحصل الظلم ، في حين أن الظلم إمّا أن يكون عن جهل ، والله عزوجل قد أحاط بكل شيء علما.

وإمّا أن يكون عن عجز ، والله عزوجل هو القاهر والمالك والحاكم على شيء ، لذا لا مجال لظلم أحد في محضر القدس الإلهي وفي ساحة القضاء الإلهي العادل.

٢٢٦

الصفة السادسة والأخيرة ليوم التلاقي ، هي سرعة الحساب لأعمال العباد ، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

وسرعة الحساب بالنسبة لله تعالى تجري كلمح البصر ، وهي بدرجة بحيث نقرأ عنها

في حديث : «إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر» (١).

وأساسا فإنّه مع القبول بمسألة تجسّم الأعمال وبقاء آثار الخير والشر فإن مسألة الحساب مسألة محلولة؟ فهل أنّ الأجهزة المتطورة في هذه الدنيا التي تحسب مقدار العمل في أثناء العمل بحاجة الى زمان؟!

وقد يكون الغرض من تكرار (سَرِيعُ الْحِسابِ) في مواضع مختلفة من القرآن الكريم هو عدم انخداع الناس العاديين بوساوس الشيطان وإغواءاته ، ومن يتبعه من الذين يثيرون الشكوك بإمكانية محاسبة الخلائق على أعمالهم التي قاموا بها خلال آلاف سحيقة من السنين وعصور التأريخ.

إضافة إلى أنّ هذا التعبير يستبطن معنى التحذير لجميع الناس بأنّ ذلك اليوم لا مجال فيه للمجرمين والظالمين والقتلة ، ولا تعطى لهم الفرصة كما يحصل في هذه الدنيا ، حيث يترك ملف الظلمة والقتلة لشهور وسنين.

* * *

__________________

(١) في مجمع البيان ، نهاية الحديث عن الآية (٢٠٢) من سورة البقرة.

٢٢٧

الآيات

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

التّفسير

يوم تبلغ القلوب الحناجر :

هذه الآيات تستمر ـ كالآيات السابقة ـ في وصف القيامة ـ يوم التلاقي ـ وتحدّد سبع خصائص للقيامة والحوادث المهولة والمدهشة التي تدفع بكل انسان مؤمن نحو التفكير والتأمل بالحياة والمصير.

يقول تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ).

«الآزفة» باللغة بمعنى (القريب) ويا لها من كناية عجيبة ، حيث أطلق سبحانه على يوم القيامة يوم الآزفة كي لا يظن الجهلة أن هناك فترة طويلة تفصلهم عن ذلك اليوم ، فلا ينبغي ـ والحال هذه ـ أن ينشغل المرء بالتفكير به!

وإذا نظرنا بتأمّل فسنجد أنّ عمر الدنيا بأجمعه لا يعادل سوى لحظة زائلة

٢٢٨

حيال يوم القيامة ، ولأنّ الله تبارك وتعالى لم يذكر أىّ تأريخ لهذا اليوم المهول ، حتى للأنبياء عليهم‌السلام ، لذا يجب الاستعداد دائما لاستقبال ذلك اليوم.

الوصف الثّاني ليوم الأزقة هو : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) من شدة الخوف.

فعند ما تواجه الإنسان الصعويات يشعر وكأنّ قلبه يفر من مكانه ، وكأنّه يريد أن يخرج من حنجرته ، والعرب في ثقافتها اللغوية التي نزل بها القرآن تطلق على هذه الحالة وصف «بلغت القلوب الحناجر».

ويمكن أن يكون (القلب) كناية عن (الروح) بمعنى أنّ روحه بلغت حنجرته هلعا وخوفا ، كأنما تريد أن تفارق بدنه تدريجيا ولم يبق منها سوى القليل.

إنّ هول الخوف من الحساب الإلهي الرباني الدقيق ، والخشية من الافتضاح وانكشاف الستر والحجب أمام جميع الخلائق ، وتحمّل العذاب الأليم الذي لا يمكن الخلاص منه ، كلّ هذه أمور سيواجهها الإنسان ولا يمكن وصفها وشرحها بأي بيان.

الصفة الثّالثة لذلك اليوم تعبر عنها الآية بـ (كاظِمِينَ) أي إنّ الهم والغم سيشمل كل وجودهم ، إلّا أنّهم لا يستطيعون إظهار ذلك أو إبداءه.

«كاظم» مشتقّة من «كظم» وهي في الأصل تعني غلتي فوهة القربة المملوءة بالماء ، ثمّ أطلقت بعد ذلك على الأشخاص المملوئين غضبا إلّا أنّهم لا يظهرونه لسبب من الأسباب.

قد يستطيع الإنسان المغموم المحزون أن يهدأ او يستريح بالصراخ ، لكن المصيبة حينما لا يستطيع هذا الإنسان حتى عن الصراخ ... فما ذا ينفع الصراخ في محضر الخالق جلّ وعلا وفي ساحة عدله وعند ما تنكشف جميع الأسرار امام جميع الخلائق.

الصفة الرّابعة ليوم التلاقي هو يوم : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ). أي صديق نعم ، أنّ تلك المجموعة من الأصدقاء الكاذبين التي تحيط بالشخص كذبا وتملقا ـ كما

٢٢٩

يحيط بالذباب بالحلويات ـ طمعا في مقامه وقدرته وجاهه وماله. إنّ هؤلاء في هذا اليوم مشغولون بأنفسهم لا ينفعون أحدا ... وهو يوم لا تنفع فيه لا صداقة ولا خلّة.

الصفة الخامسة تقول عنها الآية : (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ).

ذلك أنّ شفاعة الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء والأولياء إنّما تكون بإذن الله تعالى ، وعلى هذا الأساس لا مجال لتلك التصورات السقيمة لعبدة الأصنام ، الذين كانوا يعتقدون في الحياة الدنيا أنّ أصنامهم ستشفع لهم في حضرة الله جلّ وعلا.

وفي المرحلة السادسة تذكر الآية أحد صفات الخالق جلّ وعلا ، والتي تعتبر في نفس الوقت وصفا لكيفية القيامة ، حيث تقول : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١).

إنّ الله تبارك وتعالى يعلم الحركات السرية للعيون وما تخفيه الصدور من أسرار ، وسيقوم تعالى بالحكم والقضاء العادل عليها ، وهو بعلمه سيجعل صباخ الظالمين المذنبين مظلما.

وعند ما سئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن معنى الآية فأجاب : «ألم تر إلى الرجل ينظر إلى الشيء وكأنّه لا ينظر إليه ، فذلك خائنة الأعين» (٢). أي يوهم أنّه لا ينظر إليه.

قد يتأول البعض بنظره إلى أعراض الناس وإلى ما يحرم النظر إليه ، وقد يستطيع الفاعل أن يخفي فعلته عن الآخرين ، لكن ذلك لا يخفى عن علم الله المحيط بكل ذرات الوجود إذ : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي

__________________

(١) هناك احتمالان من حيث التركيب النحوي لجملة «يعلم خائنة الأعين» : الأول : أن (خائنة) لها معنى مصدري وتعني الخيانة (مثل كاذبة ولاغية بمعنى كذب ولغو). ويحتمل أن تكون (اسم فاعل) من باب تقديم الصفة ، أي أنها تعني في الأصل (الأعين الخائنة).

(٢) تفسير الصافي أثناء الحديث عن الآية.

٢٣٠

الْأَرْضِ) (١).

وقد روي أنّه (لما جيء بعبد الله بن أبي سرح إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما اطمأن أهل مكّة وطلب له الأمان عثمان صمت رسول الله طويلا ثمّ قال (نعم) فلما انصرف قال رسول الله لمن حوله : «ما صمّت طويلا إلّا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» فقال رجل من الأنصار : فهلا أو أومأت إليّ يا رسول الله ، فقال : «إن النّبي لا تكون له خائنة الأعين» (٢).

وبالطبع فإنّ لخيانة العين أشكال مختلفة ، إذ تتمثل في بعض الأحيان باستراق النظر إلى ما يحرم كالنساء وغيرهن ، وأحيانا تتمثل بإشارات معينة للعين تهدف تحقير الآخرين والاستهزاء بكلامهم. وقد تكون حركات العين مقدمة المخططات شيطانية ضدّ الآخرين.

إنّ من يؤمن بالحساب الدقيق في الآخرة ، عليه أن يراعي حدود التقوي في خائنة الأعين وخطرات الفكر ، وواضح أنّ استحضار عناصر الرقابة هذه لها مؤدّاها التربوي الكبير في سلوك الإنسان وحياته.

وفي قصص الوعظ المتداولة في مجالس العلماء ، يقال أن أحد كبار العلماء عند ما أنهى دراسته الدينية في النجف الأشرف ، طلب من أستاذه عند ما أراد الرجوع إلى بلده أن يعظه وينصحه ، فقال له الأستاذ : بعد كلّ هذا التعب وتحمّل مضايق الدراسة والتحصيل فإنّ آخر نصيحتي لك هي أن لا تنسى أبدا قوله تعالى (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (٣).

المؤمن الحقيقي يعتبر العالم كلّه حاضرا عند الله تعالى ، وإنّ كلّ الأعمال تتمّ في حضوره ، وينبغي لهذا الحضور الإلهي أن يكون رادعا كافيا للخجل والكف

__________________

(١) سبأ ، الآية ٣.

(٢) تفسير القرطبي ذيل الآية.

(٣) العلق ، الآية ١٤.

٢٣١

عن المعاصي والذنوب.

الآية التي تليها تتحدث عن صفة سابعة للقيامة تتمثل في قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ).

أمّا غيره : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ).

في ذلك اليوم يختص الله وحده بالقضاء ، وهو جلّ جلاله لا يقضي إلّا بالحق ، لأنّ القضاء بغير الحق ـ بالظلم مثلا والانحياز ـ إمّا أن يعود إلى الجهل وعدم المعرفة ، والله محيط بكل شيء ، حتى بما يموج في الضمائر وما تكنّه السرائر. أو أنّه يكون نتيجة للعجز والاحتياج ، وهذه صفات هي أبعد ما تكون عن ذات الله جلّ جلاله.

إنّ هذا التعبير يحمل في مؤدّاه دليلا كبيرا على توحيد المعبود والعبادة ، لأنّ من يكون له حق القضاء في النهاية يستحق العبادة حتما أمّا الأصنام التي لا تنفع شيئا في هذا العالم ، ولا تكون في القيامة مرجعا للحكم والقضاء ، فكيف تستحق العبادة.

ومن الضروري أن نشير أيضا إلى أنّ للحكم والقضاء بالحقّ معاني واسعة ، إذ هي تشمل عالم التكوين وعالم التشريع ، حيث ، وردت كلمة «قضى» في الآيات القرآنية لتشمل المعنيين ، ففي مكان نقرأ قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (١) حيث تنطوي الآية على القضاء التشريعي. وفي آية اخرى نقرأ قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢).

وفي الختام وللتأكيد على المطالب المذكورة في الآيات السابقة تضيف الآية (إن الله هو السميع البصير).

__________________

(١) الإسراء ، الآية ٢٣.

(٢) آل عمران ، الآية ٤٧.

٢٣٢

فهو تعالى سميع وبصير بمعنى الكلمة ، أي إنّ كلّ المسموعات والمبصرات حاضرة عنده ، وهذا تأكيد على إحاطته وعلمه بكل شيء ، وقضاوته بالحق ، إذ ما لم يكن الشخص سميعا وبصيرا مطلقا فلا يستطيع أن يقضي بالحق ،

* * *

٢٣٣

الآيتان

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))

التّفسير

اعتبروا بعاقبة أسلافكم الظالمين :

إنّ أسلوب القرآن الكريم في كثير من الآيات أنّه بعد أن يتعرض لكليات القضايا الحساسة والمهمّة يمزجها ببعض المسائل الجزئية والمحسوسة ويأخذ بيد الإنسان ليريه الحوادث الماضية والحالية. لذلك فإنّ الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن أحوال الأمم الظالمة السابقة ومنهم فرعون والفراعنة وما حلّ بهم من جزاء أليم ، وتدعوا الناس للاعتبار بمصير أولئك ، بعد ما كانت الآيات السابقة قد حدّثتنا عن يوم القيامة وصفاته وطبيعة الحساب الدقيق الذي ينطوي عليه.

يقول تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا

٢٣٤

مِنْ قَبْلِهِمْ).

إنّ الذي تحكيه الآيات وتدعونا للاعتبار به ليس تأريخا مدونا نستطيع أن نشكّك في طبيعة الوثائق والنصوص المكوّنة له ، وإنّما هو تأريخ حي ينطق عنه نفسه ، وينبض بالعبرة والعظمة ، فهذه قصور الظالمين الخربة ، وما تركوه ، من جنات وعيون ، وهذه مدن الأشقياء التي نزل بساحتها العذاب والانتقام الإلهي ، وها هي عظامهم النخرة التي يطويها التراب ، والقصور المدفونة تحت الأرض ... ها هي كلّها تحكي عظمة الدرس ، وعظيم العبرة ، خصوصا وأنّ القرآن يزيدنا معرفة بهؤلاء فيقول عنهم : (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ).

كانوا يملكون السلطات القوية ، والجيوش العظيمة ، والمدنية الباهرة التي لا يمكن مقايستها بحياة مشركي مكّة.

إنّ تعبير (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) يكشف عن قوتهم السياسية والعسكرية ، وعن قوته الاقتصادية والعلمية أيضا.

أمّا التعبير في قوله تعالى : (آثاراً فِي الْأَرْضِ) فلعله إشارة إلى تقدمهم الزراعي العظيم ، كما ورد في الآية (٩) من سورة «الروم» في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها).

وقد يكون التعبير القرآني إشارة إلى البناء المحكم العظيم للأمم السابقة ، ممّا قاموا به في أعماق الجبال وبين السهول ، كما يصف القرآن ذلك في حال قوم «عاد» : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (١).

ولكن عاقبة هؤلاء القوم ، بكل ما انطوت عليه حياتهم من مظاهر قوّة وحياة ونماء ، هي كما يقول تعالى : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ).

فلم تنفعهم كثرتهم ولم تمنعهم أموالهم وقدرتهم وشوكتهم من العذاب الإلهي

__________________

(١) الشعراء ، الآية ١٢٨ ـ ١٢٩.

٢٣٥

عند ما نزل بساحتهم.

لقد وردت كلمة «أخذ» مرارا في القرآن الكريم بمعنى العقاب ، وهي إشارة إلى «أخذ» القوم أو الجماعة قبل أن ينزل بها العقاب ، تماما كما يقبض أوّلا على الشخص المجرم ، ثمّ يتمّ عقابه.

الآية التي بعدها فيها تفصيل لما قيل سابقا بإيجاز ، بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا). فلم يكن الأمر أنّهم كانوا غافلين ولم يعرفوا الأمر ، ولم يكن كفرهم وارتكابهم الذنوب بسبب عدم إتمام الحجّة عليهم ، فلقد كانت تأتيهم رسلهم تترا ، كما يستفاد من قوله تعالى : (كانَتْ تَأْتِيهِمْ) إلّا أنّهم لم يخضعوا للأوامر الإلهية ، كانوا يحطمون مصابيح الهداية ، ويديرون ظهورهم للرسل ، وكانوا ـ أحيانا ـ يقتلونهم!

وحينئذ : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) وعاقبتهم أشدّ العقاب ـ (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ). إذ هو في مواطن الرأفة أرحم الراحمين وفي مواضع الغضب أشد المعاقبين.

* * *

٢٣٦

الآيات

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧))

التّفسير

ذروني أقتل موسى!!

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى العاقبة الأليمة للأقوام السابقة ، فقد شرعت الآيات التي بين أيدينا بشرح واحدة من هذه الحوادث ، من خلال قصة موسى وفرعون ، وهامان وقارون.

قد يبدو للوهلة الأولى أنّ قصة موسى عليه‌السلام مكررة في أكثر من سورة من سور

٢٣٧

القرآن الكريم ، ولكن التأمّل في هذه الموارد يظهر خطأ هذا التصوّر ، إذ يتبيّن أن القرآن يتطرف الى ذكر القصة في كلّ مرّة من زاوية معينة ، وفي هذه السورة يتعرض القرآن للقصة من زاوية دور «مؤمن آل فرعون» فيها. والباقي هو بمثابة أرضية ممهّدة لحكاية هذا الدور.

يقول تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ).

أرسله تعالى : (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ).

لقد ذكر المفسرون عدّة تفاسير في الفرق بين «الآيات» و «السلطان المبين» فالبعض اعتبر «الآيات» الأدلة الواضحة ، بينما «السلطان المبين» هي المعجزات.

والبعض الآخر اعتبر «الآيات» آيات التوراة ، بينما «السلطان المبين» المعجزات.

واحتمل البعض الثّالث أنّ «الآيات» تشمل كلّ معاجز موسى عليه‌السلام ، أمّا «السلطان المبين» فهو المعاجز الكبيرة كالعصا واليد البيضاء ، التي تسببت في غلبته الواضحة على فرعون.

ومنهم من اعتبر «الآيات» المعجزات ، بينما فسّر «السلطان المبين» بالسلطة القاهرة والنفوذ الإلهي لموسى عليه‌السلام والذي كان سببا في عدم قتله وعدم فشل دعوته.

لكن الملاحظ أنّ هذه الآراء بمجموعها لا تقوم على أدلة قوية واضحة ، ولكن نستفيد من الآيات القرآنية الأخرى أنّ «السلطان المبين» يعني ـ في العادة ـ الدليل الواضح القوي الذي يؤدي إلى السلطة الواضحة ، كما نرى ذلك واضحا في الآية (٢١) من سورة «النمل» أثناء الحديث عن قصة سليمان عليه‌السلام والهدهد حيث يقول تعالى على لسان سليمان : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) فالسلطان المبين هنا هو الدليل الواضح للغيبة.

٢٣٨

وفي الآية (١٥) من سورة الكهف قوله تعالى : (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ).

أمّا «الآيات» فقد وردت في القرآن مرارا بمعنى المعاجز.

وبناء على هذا فإنّ «آيات» في الآية التي نحن بصددها تشير إلى «معجزات موسى» بينما يشير «سلطان مبين» إلى منطق موسى عليه‌السلام القوي وأدلته القاطعة في مقابل الفراعنة.

إنّ موسى عليه‌السلام كان يزاوج بين منطق العقل ، وبين الأعمال الإعجازية التي تعتبر علامة كافية على ارتباطه بعالم الغيب وبالله تعالى ، ولكن في المقابل لم يكن للفراعنة من منطق سوى اتهامه بالسحر أو الكذب. لقد اتهموه بالسحر في مقابل الآيات والمعجزات التي أظهرها ، وكذّبوه مقابل منطقه واستدلاله العقلاني على الأمور. وهذا ما يؤيد الرأي الذي اخترناه في تفسير «آيات» و «سلطان مبين».

وبالنسبة للطواغيت والفراعنة لا يملكون أصلا سوى منطق الاتهام ، وأسلوب إطلاق الشبهات على رجال الحق ودعاته.

والذي يلفت النظر في الآية الكريمة إشارتها إلى ثلاثة أسماء ، كلّ واحد منها يرمز لشيء معين في سياق الحالة السائدة آنذاك ، والتي يمكن أن تجد مماثلاتها في أي عصر.

«فرعون» نموذج للطغاة والعصاة وحكّام الظلم والجور.

«هامان» رمز للشيطنة والخطط الشيطانية.

«قارون» نموذج للأثرياء البغاة ، والمستغلين الذين لا يهمهم أي شيء في سبيل الحفاظ على ثرواتهم وزيادتها.

وبذلك كانت دعوة موسى عليه‌السلام تستهدف القضاء على الحاكم الظالم ، والمخططات الشيطانية لرموز السياسة في حاشية السلطان الظالم ، وبتر تجاوزات الأثرياء المستكبرين ، وبناء مجتمع جديد يقوم على قواعد العدالة الكاملة في

٢٣٩

المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية. ولكن من وقعت مصالحه اللامشروعة في خطر! قصدوا لمقاومة هذه الدعوة الإلهية.

الآية التي بعدها تتعرض إلى بعض مخططات هؤلاء الظلمة في مقابل دعوة النّبي موسى عليه‌السلام : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ).

وما نستفيده من الآية هو أنّ قضية قتل الأبناء والإبقاء على النساء فقط لم يقتصر ـ كأسلوب طاغوتي ـ على الفترة التي سبقت ولادة موسى عليه‌السلام فحسب ، وإنّما تمّ تكرار هذه الممارسة أثناء نبوة موسى عليه‌السلام ، فالآية (١٢٩) من سورة الأعراف تؤيد هذا الرأي ، حيث تحكي على لسان بني إسرائيل قولهم لموسى عليه‌السلام : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا).

لقد صدر هذا القول عن بني إسرائيل بعد أن قام فرعون بقتل أبناء المؤمنين منهم بدعوة موسى عليه‌السلام.

وفي كلّ الأحوال ، يعبّر هذا الأسلوب عن واحدة من الممارسات والخطط المشؤومة الدائمة للقدرات الشيطانية الظالمة التي تستهدف إبادة وتعطيل الطاقات الفعّالة ، وترك غير الفاعلين للإفادة منهم في خدمة النظام.

لقد كان «بنور إسرائيل» قبل موسى عليه‌السلام عبيدا للفراعنة ، لذلك لم يكن من العجيب أن تبادر سلطات فرعون بعد بعثة موسى عليه‌السلام وشيوع دعوته إلى اعتماد الخطة المعادية في قتل الأبناء واستحياء النساء ، بهدف الانتقام والإبادة الشديدة لبني إسرائيل كي تتعطل فيهم عوامل الصمود والمقاومة.

ولكن ما هي نتيجة كلّ هذا الكيد؟

القرآن يجيب : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).

أعمالهم سهام تطلق في ظلام الجهل والضلال فلا تصيب سوى الحجارة! لقد قضى الله تعالى بمشيئته أن ينتصر الحق وأهله ، وأن يزهق الباطل وأنصاره.

٢٤٠