الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-50-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٧

الآيات

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))

التّفسير

الشرك محبط للأعمال :

آيات بحثنا تواصل التطرق للمسائل المتعلقة بالشرك والتوحيد والتي كانت قد استعرضت في الآيات السابقة أيضا.

الآية الأولى تتحدث بلهجة قاطعة وشديدة حول أخطار الشرك ، وتقول : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

وبهذا الترتيب ، فإنّ للشرك نتيجتين خطيرتين ، تشملان حتى أنبياء الله في مالو أصبحوا مشركين ـ على فرض المحال ـ

١٤١

النتيجة الأولى : إحباط الأعمال ، والثانية : الخسران والضياع.

وإحباط الأعمال يعني محو آثار ثواب الأعمال السابقة ، وذلك بعد كفره وشركه بالله ، لأنّ شرط قبول الأعمال هو الاعتقاد بأصل التوحيد ، ولا يقبل أي عمل بدون هذا الاعتقاد.

فالشرك هو النّار التي تحرق شجرة أعمال الإنسان.

والشرك هو الصاعقة التي تهلك كلّ ما جمعه الإنسان خلال فترة حياته.

والشرك هو عاصفة هو جاء تدمر كلّ أعمال الإنسان وتأخذها معها ، كما ورد في الآية (١٨) من سورة إبراهيم (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ).

لذا ورد في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تعالى يحاسب كلّ خلق إلّا من أشرك بالله فإنّه لا يحاسب ويؤمر به إلى النّار» (١).

وأمّا خسارتهم فإنّها بسبب بيعهم أكبر ثروة يمتلكونها ، ألا وهي العقل والإدراك والعمر في سوق التجارة الدنيوية ، وشراؤهم الحسرة والألم بثمنها.

وهنا يطرح هذا السؤال : هل من الممكن أن يسير الأنبياء العظام في طريق الشرك حتى تخاطبهم الآية الآنفة بهذه اللهجة؟

الجواب على هذا السؤال واضح ، وهو أنّ الأنبياء لم يشركوا قطّ ، مع أنّهم يمتلكون القدرة والإختيار الكاملين في هذا الأمر ، ومعصوميتهم لا تعني سلب القدرة والإختيار منهم ، إلّا أنّ علمهم الغزير وارتباطهم المباشر والمستمر مع البارئ عزوجل يمنعهم حتى من التفكير ولو للحظة واحدة بالشرك ، فهل يمكن أن يتناول السمّ طبيب عالم وحاذق ومطلع بصورة جيدة على تأثير تلك المادة السامة والخطرة ، وهو في حالة طبيعية؟!

الهدف هو اطلاع الجميع على خطر الشرك ، فعند ما يخاطب البارئ عزوجل

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد ٤٩ ، الصفحة ٤٩٧.

١٤٢

أنبياء العظام بهذه اللهجة الشديدة ، فعلى الأمة أن تحسب حسابها ، هذا الأسلوب من قبيل ما نصّ عليه المثل المعروف (إيّاك أعني واسمعي يا جارة).

ونفس المعنى ورد في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أثناء إجابته على سؤال وجهه إليه المأمون ، إذ قال : يا بن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال عليه‌السلام : «بلى» قال : فما معنى قول الله إلى أن قال : فأخبرني عن قول الله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ).

قال الرضا عليه‌السلام : «هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة ، خاطب الله بذلك نبيّه وأراد به أمته» وكذلك قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ...) وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) قال : صدقت يا ابن رسول الله (١).

الآية التالية تضيف للتأكيد أكثر (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٢).

تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر ، وذلك يعني أن ذات الله المنزهة يجب أن تكون معبودك الوحيد ، ثمّ تأمر الآية بالشكر ، لأن الشكر على النعم التي أغدقت على الإنسان هي سلم يؤدي إلى معرفة الله ، ونفي كلّ أشكال الشرك ، فالشكر على النعم من الأمور الفطرية عند الإنسان ، وقبل الشكر يجب معرفة المنعم ، وهنا فإن خط الشكر يؤدي إلى خط التوحيد ، وينكشف بطلان عبادة الأصنام التي لا تهب للإنسان آية نعمة.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم ، وتقول : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). ولهذا تنزلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفا للأوثان!!

نعم ، فمصدر الشرك هو عدم معرفة البارئ عزوجل بصورة صحيحة ، فالذي

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) (الفاء) في (فاعبد) زائدة للتأكيد على ما قيل ، وقال البعض : إنّها (فاء) الجزاء وقد حذف شرطه والتقدير (إن كنت عابدا فاعبد الله) ، ثمّ حذف الشرط ، وقدم المفعول مكانه.

١٤٣

يعلم :

أوّلا : أنّ الله مطلق وغير محدود من جميع النواحي.

وثانيا : أنّه خالق كلّ الموجودات التي تحتاج إليه في كلّ لحظة من لحظات وجودها.

وثالثا : أنّه يدير الكون ويحل كلّ عقد المشاكل ، وأنّ الأرزاق بيده ، وحتى الشفاعة إنّما يتمّ بإذنه وأمره ، فما معنى توجه من يعلم بكلّ هذه الحقائق إلى غير الله.

وأساسا فإنّ وجود مثل هذه الصفات في موجودين اثنين أمر محال ، لأنّه من غير الممكن عقلا وجود موجودين مطلقين من جميع الجهات.

ثمّ يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة ، وذلك لبيان عظمة وقدرة البارئ عزوجل ، إذ يقول كلام الله المجيد : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).

«القبضة» : الشيء الذي يقبض عليه بجميع الكف ، تستخدم ـ عادة ـ للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلط التام ، مثلما نقول في الاصطلاحات اليومية الدارجة : إن المدينة الفلانية هي بيدي ، أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي.

«مطويات» : من مادة (طي) وتعني الثني ، والتي تستعمل أحيانا كناية عن الوفاة وانقضاء العمر ، أو عن عبور شيء ما.

والعبارة المذكورة أعلاه استخدمت بصورة واضحة بشأن السماوات في الآية (١٠٤) من سورة الأنبياء (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ).

فالذي يثني طومارا ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد ، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأن أكثر الأشخاص يؤدون أعمالهم المهمّة باليد اليمنى ويحسون بأنّها ذات قوة وقدرة أكثر.

خلاصة الكلام ، أنّ كلّ هذه التشبيهات والتعابير هي كناية عن سلطة الله

١٤٤

المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر ، حتى يعلم الجميع أن مفتاح النجاة وحل المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية ، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم.

ولكن هل أنّ السماء والأرض ليستا في قبضته في الحياة الدنيا؟ فلم الحديث عن الآخرة؟

الجواب : إنّ قدرة البارئ عزوجل تظهر وتتجلّى في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى ، وتصل إلى مرحلة التجلّي النهائي ، وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كلّ شيء هو من عند الله وتحت تصرفه. إضافة إلى أنّ البعض اتجه إلى غير الله بذريعة أنّ أولئك سينقذونه يوم القيامة ، كما فعل المسيحيون ، إذ أنّهم يعبدون عيسى عليه‌السلام متصورين أنّه سينقذهم يوم القيامة ، وطبقا لهذا فمن المناسب التحدث عن قدرة البارئ عزوجل في يوم القيامة.

ويتّضح بصورة جيدة ممّا تقدم أنّ طابع الكناية يطغى على هذه العبارات ، وبسبب قصور الألفاظ المتداولة فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين إلى صبّ تلك المعاني العميقة في قو هذه الألفاظ البسيطة ، ولا يرد إمكانية تجسيم البارئ عزوجل من خلالها ، إلّا إذا كان الشخص الذي يتصور ذلك ذا تفكير ساذج وعقل بسيط جدّا ، حيث نفتقد ألفاظا تبيّن مقام عظمة البارئ عزوجل بصورة واضحة ، إذن فيجب الاستفادة بأقصى ما يمكن من الكنايات التي لها مفاهيم كثيرة ومتعددة.

على أية حال ، فبعد التوضيحات التي ذكرت آنفا ، يعطي البارئ عزوجل في آخر الآية نتيجة مركزة وظاهرية ، إذ يقول : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات الله المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة ، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة الأصنام.

* * *

١٤٥

ملاحظتان

١ ـ مسألة إحباط الأعمال

هل يمكن حقّا أن تحبط الأعمال الصالحة للإنسان بسبب أعمال سيئة يرتكبها؟ وهل أنّ هذه المسألة لا تتعارض مع عدالة البارئ عزوجل من جهة ، ومع ظواهر الآيات التي تقول : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)؟.

البحث في هذه المسألة طويل وعريض سواء من حيث الأدلة العقلية أو النقلية ، وقد أوردنا جزاء منه في ذيل الآية (٢١٧) من سورة البقرة ، وسندكره في نهاية بعض الآيات التي تتناسب مع الموضوع في المجلدات القادمة إن شاء الله.

وممّا تجب الإشارة إليه هنا هو : إذا كان هناك شك في مسألة (إحباط الأعمال) بسبب المعاصي ، فإنّه لا ينبغي أن يشكّ أبدا في تأثير الشرك على إحباط الأعمال ، لأن آيات كثيرة في القرآن المجيد أشير إلى بعضها آنفا ـ تقول وبصراحة (إنّ الوفاة على الإيمان) هي شرط قبول الأعمال ، وبدونها لا يقبل من الإنسان أي عمل.

فقلب المشرك كالأرض السبخة التي مهما بذرت فيها أنواع بذور الورد ، ومهما هطل عليها المطر الذي هو مصدر الحياة ، فإنّ تلك البذور سوف لن تنبت أبدا.

٢ ـ هل عرف المؤمنون الله؟

قرأنا في الآيات الآنفة أنّ المشركين لم يعرفوا الله حق معرفته ، إذ أنّهم لو عرفوه لما ساروا في طريق الشرك ومعنى هذا الكلام أن المؤمنين الموحدين هم وحدهم الذين عرفوا الله حق معرفته.

وهنا يطرح هذا السؤال وهو : كيف يتلاءم هذا الكلام مع الحديث المشهور

١٤٦

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي يقول فيه : «ما عرفناك حق معرفتك ، وما عبدناك حق عبادتك».

وللجواب على هذا السؤال يجب القول : إنّ للمعرفة مراحل ، أعلاها هي تلك المعرفة التي تخص ذات الله المقدسة ، والتي لا يمكن لأي أحد أن يعرفها أو يطلع عليها غير ذاته المقدسة التي تعرف كنه ذاته المقدسة ، والحديث الشريف المذكور يشير إلى هذا المعنى.

أمّا بقية المراحل التي تأتي بعد هذه المرحلة والتي يمكن للعقل البشري أن يتعرف عليها ، هي مرحلة معرفة صفات الله بصورة عامة ومعرفة أفعاله بصورة مفصلة ، وهذه المرحلة كما ذكرنا ممكنة بالنسبة للإنسان ، والمراد من معرفة الله الوصول إلى هذه المرحلة ، والآية مورد بحثنا تحدثت عن هذه المرحلة ، حيث أن المشركين يجهلون هذا المقدار من المعرفة أيضا.

* * *

١٤٧

الآية

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨))

التّفسير

(النفخ في الصور) وموت وإحياء جميع العباد :

الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن يوم القيامة ، وآية بحثنا الحالي تواصل الحديث عن ذلك اليوم مع ذكر إحدى الميزات المهمة له ، إذ تبدأ الحديث بنهاية الحياة في الدنيا ، وتقول : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ).

يتّضح بصورة جيدة من هذه الآية أنّ حادثتين تقعان مع نهاية العالم وعند البعث ، في الحادثة الأولى يموت الأحياء فورا ، وفي الحادثة الثانية ـ التي تقع بعد فترة من وقوع الحادثة الأولى ـ يعود كلّ الناس إلى الحياة مرّة اخرى ، ويقفون بانتظار الحساب.

القرآن المجيد عبّر عن هاتين الحادثتين بـ «النفخ في الصور» ، وهذا التعبير كناية عن الحوادث المفاجئة والمتزامنة التي ستقع و «الصور» بمعنى البوق الذي يتخذ من قرن الثور ويكون مجوفا عادة حيث يستخدم مثل هذا البوق في حركة

١٤٨

القوافل أو الجيش وتوقفها ، وطبعا هناك تفاوت بين النفخة للحركة والنفخة للتوقف.

كما يبيّن هذا التعبير سهولة الأمر ويوضح كيف أن البارئ عزوجل ـ من خلال أمر بسيط وهو النفخ في الصور ـ يميت كلّ من في السماء والأرض ، وكيف أنّه يبعثهم من جديد بنفخة صور اخرى.

وقلنا سابقا إنّ الألفاظ التي نستخدمها في حياتنا اليومية عاجزة عن توضيح الحقائق المتعلقة بعالم ما وراء الطبيعة أو نهاية العالم وبدء عالم آخر بدقّة ، ولهذا السبب يجب الاستفادة من أوسع معاني الألفاظ الدارجة والمتداولة مع الالتفات إلى القرائن الموجودة.

توضيح : لقد وردت تعبيرات مختلفة في القرآن المجيد عن نهاية الحياة في هذا العالم وبدء حياة اخرى في عالم آخر ، حيث ورد الحديث عن (النفخ في الصور) في أكثر من عشر آيات (١).

في إحداها استخدمت عبارة النفر في الناقور (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) (٢).

وفي بعضها استخدمت عبارة (القارعة) كما في الآيات (١ و ٢ و ٣ من سورة القارعة) (الْقارِعَةُ ، مَا الْقارِعَةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ).

وأخيرا استخدمت في بعضها عبارة «صحيحة» والتي تعني الصوت العظيم ، كما ورد ذلك في الآية (٤٩) من سورة يس (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) التي تتحدث عن الصيحة التي تقع في نهاية العالم وتفاجئ كل بني آدم.

__________________

(١) الآيات التي ورد فيها ما يشير إلى النفخ في الصور هي : (الكهف ـ ٩٩) و (المؤمنون ـ (١٠١) ، (يس ـ ٥١) ، (الزمر ـ ٦٨) ، (ق ـ ٢٠) ، (الحاقة ـ ١٣) ، (الأنعام ـ ٧٣) ، (طه ـ ١٠٢) ، (النمل ـ ٨٧) ، (النبأ ـ ١٨).

(٢) المدثر ، الآية ٨.

١٤٩

أمّا الآية (٥٣) من سورة يس (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) فإنّها تتحدث عن صيحة (الإحياء) التي تبعث الناس من جديد وتحضرهم إلى محكمة العدل الإلهية.

من مجموع هذه الآيات يمكن أن يستشف بأن نهاية أهل السموات والأرض تتمّ بعد صيحة عظيمة وهي (صيحة الموت) وأنّهم يبعثون من جديد وهم قيام بصيحة عظيمة أيضا ، وهذه هي (صيحة بعث الحياة).

وأمّا كيف تكون هاتان الصيحتان؟

وما هي آثار الصيحة الأولى وتأثير الصيحة الثانية؟ فلا علم لأحد بهما إلّا الله سبحانه وتعالى ، ولذا ورد في بعض الرّوايات التي تصف (الصور) الذي ينفخ فيه «إسرافيل» في نهاية العالم ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام : ـ «وللصور رأس واحد وطرفان ، وبين طرف رأس كلّ منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء إلى الأرض» قال : فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي بلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلّا صعق ومات ، ويخرج الصوت من الطرف الذي بلي السماوات فلا يبقى في السماوات ذو روح إلّا صعق ومات إلّا إسرافيل ، قال : فيقول الله لإسرافيل : يا إسرافيل ، مت ، فيموت إسرافيل ...» (١).

على أية حال ، فإنّ أكثر المفسّرين اعتبروا (النفخ في الصور) كناية لطيفة عن كيفية نهاية العالم وبدء البعث ، ولكن مجموعة قليلة من المفسّرين قالوا : إن (صور) هي جمع (صورة) وطبقا لهذا القول ، فقد اعتبروا النفخ في الصور يعني النفخ في الوجه ، مثل نفخ الروح في بدون الإنسان ، ووفق هذا التّفسير ينفخ مرّة واحدة في وجوه بني آدم فيموتون جميعا ، وينفخ مرة اخرى فيبعثون جميعا (٢).

هذا التّفسير إضافة إلى كونه لا يتطابق مع ما جاء في الروايات ، فإنّه

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٥٠٢.

(٢) يرجى الانتباه إلى أنّ (صور) هي على وزن (نور) ، و (صور) هي على وزن (زحل) هما جمع (الصورة).

١٥٠

لا يتطابق أيضا مع الآية مورد بحثنا ، لأنّ الضمير في عبارة (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) مفرد مذكر يعود على الصور ، في حين لو كان يراد منه المعنى الثّاني لكان يجب استعمال ضمير المفرد المؤنث في العبارة لتصبح (نفخ فيها).

إنّ النفخ في الوجه في مجال إحياء الأموات يعد أمرا مناسبا (كما في معجزات عيسى عليه‌السلام) إلّا أنّ هذا التعبير لا يمكن استخدامه في مجال قبض الأرواح.

* * *

بحوث

١ ـ هل أنّ النفخ في الصور يتمّ مرتين ، أو أكثر؟

المشهور بين علماء المسلمين أنّه يتمّ مرّتين فقط ، وظاهر الآية يوضّح هذا أيضا ، كما أنّ مراجعة آيات القرآن الأخرى تبيّن أنّ هناك نفختين فقط ، لكن البعض قال : إنّها ثلاث نفخات ، والبعض الآخرة قال : إنّه أربع.

وبهذا الشكل فالنفخة الأولى يقال لها نفخة (الفزع) ، وهذه العبارة وردت في الآية (٨٧) من سورة النمل (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ).

والنفختان الثانية والثّالثة يعتبرونها للإماتة والإحياء ، والتي أشير إليها في آيات بحثنا وفي آيات قرآنية اخرى ، أولاهما يطلقون عليها نفخة (الصعق) (الصعق تعني فقدان الإنسان حالة الشعور ، أي يغشى عليه ، وتعني أيضا الموت) والثانية يطلق عليها نفخة (القيام).

أمّا الذين احتملوا أن النفخات أربع ، فيبدو أنّهم استشفوا ذلك من الآية (٥٣) من سورة يس والتي تقول بعد نفخة الإحياء (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) وهذه النفخة هي (لجمعهم وإحضارهم).

١٥١

والحقيقة أنّه ليس هناك أكثر من نفختين ، ومسألة الفزع والرعب العام في الواقع هي مقدمة لموت جميع البشر والذي يتم بعد النفخة الأولى أو الصيحة الأولى ، كما أن نفخة الجميع هي تتمة لنفخة الإحياء والبعث ، وبهذا الشكل فلا يوجد أكثر من نفختين (نفخة الموت) و (نفخة الإحياء) ، وهناك شاهد آخر على هذا القول وهو الآيتان (٦ و ٧) من سورة النازعات ، اللتان تقولان : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ).

٢ ـ ما هو صور إسرافيل :

هناك سؤال يتبادر إلى الذهن ، وهو : كيف تملأه أمواج الصور الصوتية كلّ العالم في نفس اللحظة؟ رغم أنّنا نعلم أنّ سرعة الأمواج الصوتية بطيئة ولا تتجاوز ال (٢٤٠) مترا في الثانية ، في حين أنّ سرعة الضوء هي أكثر بمليون مرة من هذه السرعة إذ تبلغ (٣٠٠) ألف كيلومتر في الثانية.

يجب الاعتراف في البداية بأنّ معلوماتنا بشأن هذا الموضوع هي كمعلوماتنا بشأن الكثير من المسائل المتعلقة بيوم القيامة ، فهي معلومات عامة لا أكثر ، إذ نجهل الكثير من تفاصيل ذلك اليوم كما قلنا.

والتدقيق في الروايات الواردة في المصادر الإسلامية بشأن تفسير كلمة (الصور) تبيّن عكس ما يتصور البعض من أنّ (الصور) هو (زمارة) أو (مزمار) أو (بوق) اعتيادي.

وقد جاء في رواية عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الصور قرن عظيم له رأس واحد وطرفان ، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى الذي يلي السماء مثل تخوم الأرضين إلى فوق السماء السابعة ، فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق» (١).

__________________

(١) لئالي الأخبار ، الصفحة ٤٥٣.

١٥٢

وفي حديث ورد عن رسول الله ، جاء فيه : «الصور قرن من نور فيه أثقاب على عدد أرواح العباد» (١).

طرح مسألة النور هنا بمثابة جواب على السؤال الثّاني المذكور أعلاه ، ويوضح أن الصيحة العظيمة ليست من قبيل الأمواج الصوتية الاعتيادية ، وإنّما هي صيحة أعظم وأعظم ، وتكون أمواجها ذات سرعة فائقة وغير طبيعية حتى أنّها أسرع من الضوء الذي يجتاز السماء والأرض بفترة زمنية قصيرة جدّا ، ففي المرّة الأولى تكون مميتة ، في المرة الثانية تكون باعثة للأموات.

أمّا كيف يتسبب مثل هذا الصوت في إماتة العالمين ، فإنّ كان هذا الأمر عجيبا في السابق ، فإنه غير عجيب اليوم ، لأننا سمعنا كثيرا بأن الأمواج الانفجارية تسببت في تمزق أجساد البعض وإصابة آخرين بالصميم ، ورمي آخرين إلى مسافة بعيدة عن مكانهم ، وتسببت في تدمير البيوت أيضا ، كما شاهد الكثير منّا كيف أنّ زيادة سرعة الطائرة وبعبارة اخرى (اختراق حاجز الصوت) يولّد صوتا مرعبا وأمواجا مدمّرة ، قد تحطم زجاج نوافذ الكثير من العمارات والبيوت.

فإذا كانت الأمواج الصوتية الصغيرة التي هي من صنع الإنسان تحدث مثل هذا التأثير ، فما هي الآثار التي تتركها الصيحة الإلهية العظيمة ، هي بلا شكّ انفجار عالمي كبير.

ولهذا السبب لا عجب أيضا إن قلنا بوجود أمواج تقابل تلك الأمواج ، وأنّها تهز الإنسان وتوقظه وتحييه ، رغم أنّه من العسير علينا تصور هذا المعنى ، ولكننا نرى دائما كيف يوقظ النائم من نومه بواسطة الصوت ، وكيف يعود الإنسان المغمى عليه إلى حالته الطبيعية بواسطة عدّة صعقات شديدة ، ونكرر القول مرّة اخرى ، ونقول : إنّ علمنا المحدود لا يمكنه إدراك سوى ظلّ هذه الأمور ومن بعيد.

__________________

(١) علم اليقين ، الصفحة ٨٩٢.

١٥٣

٣ ـ من هم المستثنون؟

كما مرّ علينا في الآية المبحوثة عنها فإنّ كلّ أهل السموات والأرض يموتون سوى مجموعة واحدة (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) فمن هي هذه المجموعة؟ هناك اختلاف بين المفسّرين بشأن هذا الأمر :

فمجموعة من المفسّرين قالوا : إنّهم ملائكة الله الكبار ، كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وقد أشارت رواية إلى هذا المعنى (١).

البعض أضاف إلى أولئك الملائكة الكبار حملة عرش الله (كما وردت في رواية اخرى) (٢).

ومجموعة اخرى قالت : إنّ أرواح الشهداء مستثناة من الموت ، وفقا لما جاء في آيات القرآن المجيد (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) كما ورد في رواية تشير إلى هذا المعنى (٣).

وبالطبع فإنّ هذه الروايات لا تتعارض مع بعضها البعض ، ولكن في كلّ الصور فإنّ هذه المجموعة المتبقية تموت في نهاية الأمر ، كما أوضحته تلك الرّوايات ، ولا يبقى أحد حيا في هذا العالم سوى البارئ عزوجل إذ هو (الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ).

وعن كيفية موت الملائكة وأرواح الشهداء والأنبياء والأولياء ، فيحتمل أنّ المراد من موت أولئك هو قطع ارتباط الروح عن قالبها المثالي ، أو تعطيل نشاط الروح المستمر.

__________________

(١) مجمع البيان ذيل آيات البحث.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ٦ ، الصفحة ٣٢٩.

(٣) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٥٠٣ ، الحديث ١١٩.

١٥٤

٤ ـ فجائية النفختين :

آيات القرآن الكريم توضح بصورة جيدة أنّ النفختين تقعان بصورة مفاجئة ، والنفخة الأولى تكون فجائية بحيث أنّ مجموعة كبيرة من الناس تكون منشغلة بالتجارة والجدال والنقاش في أموالهم وبيعهم وشرائهم ، وفجأة يسمعون الصيحة ، فيسقطون في أماكنهم ميتين ، كما صرحت بذلك الآية (٢٩) في سورة يس (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ).

وأمّا (الصيحة الثانية) فإنّ آيات القرآن الكريم ـ ومنها الآية التي هي مورد بحثنا ـ تبيّن بأنّها تقع فجأة أيضا.

٥ ـ ما هي الفاصلة الزمنية بين النفختين؟

الآيات القرآنية لم تذكر توضيحا حول هذا الأمر ، سوى كلمة (ثم) التي وردت ضمن آية بحثنا والتي تدل على وجود فاصل زمني بين النفختين ، إلّا أنّ بعض الرّوايات ذكرت بأن هذه الفاصلة مقدارها (٤٠) عاما (١). والمجهول بالنسبة لنا هو معيار هذه السنين ، فهل هي سنوات اعتيادية كالتي نعيشها نحن ، أم أنّها سنوات وأيّام كسنوات وأيّام القيامة.

على أية حال فالتفكر في نفخة الصور ونهاية العالم ، وكذلك بالنفخة الثانية وبدء عالم جديد ، ومع ملاحظة الإشارات التي وردت في القرآن المجيد ، والتفاصيل الأخرى في الرّوايات الإسلامية بهذا الشأن ، يعطي دروسا تربوبة عميقة للإنسان ، وخاصة أنّها توضح هذه الحقيقة ، وهي البقاء على استعداد دائم لاستقبال مثل هذا الحادث العظيم والرهيب في كلّ لحظة ، لأنّه لم يحدد لوقوعها تاريخ معين ، إذ يحتمل وقوعها في أية لحظة ، إضافة إلى أنّها تقع من دون مقدمات ، لذا ورد في ذيل إحدى الرّوايات الخاصة بنفخ الصور والمذكورة آنفا أنّ

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٥٠٣ ، الحديث ١١٩.

١٥٥

الراوي قال ، عند ما وصل الكلام إلى هذا الأمر «رأيت علي بن الحسين يبكي عند ذلك «بكاء شديدا» ، إذ كان قلقا جدّا من مسألة نهاية العالم ويوم القيامة ، وإحضار الناس للحساب في محكمة العدل الإلهية» (١).

* * *

__________________

(١) تفسير الصافي ذيل آية البحث.

١٥٦

الآيتان

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

التّفسير

ذلك اليوم الذي تشرق الأرض بنور ربّها :

آيتا بحثنا تواصلان استعراض الحديث عن القيامة والذي بدأ قبل عدّة آيات ، وهاتان الآيتان تضمان سبع عبارات منسجمة ، كلّ واحدة تتناول أمرا من أمور المعاد ، لتكمل بعضها البعض ، أو أنّها تقيم دليلا على ذلك.

في البداية تقول : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها).

وقد اختلف المفسّرون في معنى إشراق الأرض بنور ربها ، إذ ذكروا تفسيرات عديدة ، اخترنا ثلاثا منها ، وهي :

١ ـ قالت مجموعة : إنّ المراد من نور الرب هما الحق والعدالة ، الذي ينير بهما ربّ العالمين الأرض في ذلك اليوم ، حيث قال العلامة المجلسي في بحار الأنوار : «أي أضاءت الأرض بعدل ربها يوم القيامة ، لأن نور الأرض

١٥٧

بالعدل» (١).

والبعض الآخر اعتبر الحديث النبوي (الظلم ظلمات يوم القيامة) شاهدا على هذا المعنى (٢).

فيما قال «الزمخشري» في تفسير الكشاف : (وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات).

٢ ـ البعض الآخر يعتقد أنّه إشارة إلى نور غير نور الشمس والقمر ، يخلقه الله في ذلك اليوم خاصة.

٣ ـ أمّا المفسّر الكبير العلّامة الطباطبائي أعلى الله مقامه الشريف صاحب تفسير الميزان فقد قال : إنّ المراد من إشراق الأرض بنور ربّها هو ما يخصّ يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وبدو الأعمال من خير أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين. وقد استدل العلّامة الطباطبائي على هذا الرأي بالآية (٢٢) من سورة (ق) (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). وهذا الإشراق ـ وإن كان عاما لكل شيء يسعه النور ـ لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذ من الشأن خصها بالبيان.

وبالطبع فإن هذه التفاسير لا تتعارض فيما بينها ، ويمكن القول بصحتها جميعا ، مع أن التّفسيرين الأوّل والثّالث أنسب من غيرهما.

ومن دون شك فإنّ هذه الآية تتعلق بيوم القيامة ، وإن وجدنا بعض روايات أهل البيت الأطهار (عليهم‌السلام) تفسّرها على أنّها تعود إلى ظهور القائم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه ،

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٦ ، الصفحة ٣٢١.

(٢) روح المعاني وروح البيان ذيل آية البحث.

١٥٨

وتأكيد لهذا المعنى ، وهو عند ظهور المهدي (عج) تصبح الدنيا نموذجا حيا من مشاهد القيامة ، إذ يملأ هذا الإمام بالحق ونائب الرّسول الأكرم وخليفة الله الأرض بالعدل إلى الحد الذي ترتضيه الحياة الدنيا.

ونقل (المفضل بن عمر) عن الإمام الصادق عليه‌السلام «إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها واستغنى العباد عن ضوء الشمس وذهبت الظلمة» (١).

العبارة الثّانية في هذه الآية تتحدث عن صحائف الأعمال ، إذ تقول : (وَوُضِعَ الْكِتابُ).

الصحائف التي تتضمن جميع صغائر وكبائر أعمال الإنسان ، وكما يقول القرآن المجيد في الآية (٤٩) من سورة الكهف (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها).

وتضيف العبارات التي تتحدث عن الشهود (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ).

فالأنبياء يحضرون ليسألوا عن أدائهم لمهام الرسالة ، كما ورد في الآية (٦) من سورة الأعراف (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

كما يحضر شهداء الأعمال في محكمة العدل الإلهية ليدلوا بشهاداتهم ، صحيح أن البارئ عزوجل مطلع على كلّ الأمور ، ولكن للتأكيد على مقام العدالة يدعو شهداء الأعمال للحضور في تلك المحكمة.

ذكر المفسّرون آراء عديدة بشأن أولئك الشهداء على الأعمال ، حيث قال البعض : إنّهم الصالحون والطاهرون والعادلون في الأمّة ، الذين يشهدون على أداء الأنبياء لرسالتهم ، وعلى أعمال الناس الذين كانوا يعاصرونهم ، و (الأئمة المعصومون) هم في طليعة شهداء الأعمال.

__________________

(١) إرشاد المفيد والخبر ذاته في تفسير الصافي ونور الثقلين في ذيل آيات البحث ، ونفس المعنى ، ورد في المجلد الثّاني والخمسين الصفحة ٣٣٠ من بحار الأنوار للمرحوم العلّامة المجلسي ، مع شيء من الاختصار.

١٥٩

في حين يعتقد البعض الآخر بأنّ الملائكة هم الشهداء على أعمال الإنسان ، والآية (٢١) في سورة (ق) تعطي الدليل على هذا المعنى (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ).

وقال البعض : إن أعضاء بدن الإنسان ومكان وزمان الطاعة والمعصية هم الذين يشهدون على الإنسان يوم القيامة.

ويبدو أن كلمة (شهداء) لها معان واسعة ، أشار كلّ مفسر إلى جانب منها في تفسيره.

واحتمل البعض أنّها تخص «الشهداء» الذين قتلوا في سبيل الله ، ولكن هذا الاحتمال غير وارد وبعيد ، لأن الحديث هو عن شهداء محكمة العدل الإلهي ، وليس عن شهداء طريق الحق ، مع إمكانية انضمامهم إلى صفوف الشهود.

العبارة الرّابعة تقول : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ).

والخامسة تضيف : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

فمن البديهيات ، عند ما يكون الحاكم هو البارئ عزوجل ، وتشرق الأرض بنور عدالته ، وتعرض صحائف أعمال الإنسان التي تبيّن كلّ صغيرة وكبيرة بدقّة ، ويحضر الأنبياء والشهود والعدول ، فلا يحكم البارئ عزوجل إلا بالحق ، وفي مثل هذا المحاكم لا وجود للظالم والاستبداد مطلقا.

العبارة السادسة في الآية التالية أكملت الحديث بالقول : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ).

إنّ جزاء الأعمال وعواقبها سترد إليهم ، وهل هناك مكافأة ومجازاة أعلى من أن يريد عمل الإنسان بصورة كاملة إلى الإنسان نفسه (نلفت الانتباه إلى أن كلمة (وفيت) تعني الأداء بصورة كاملة) ويبقى مرافقا له إلى الأبد.

فالذي يتمكن من تنفيذ مثل هذه المناهج العادلة بدقّة ، هو الذي أحاط علمه

١٦٠