الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-50-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٧

المعاني) على أنّ الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية المذكورة أعلاه ليس مشروطا بشيء غير صحيح ، حتّى أنّ الأدلّة السبعة عشر التي ذكرها بشأن هذا الموضوع غير مقبولة ، لأنّ فيها تعارضا واضحا مع الآيات التالية ، والكثير من هذه الأدلة السبعة عشر يمكن ادغامها في بعضها البعض ، ولا يفهم منها سوى أنّ رحمة الله واسعة تشمل حتّى المذنبين ، وهذا لا يتعارض مع كون الوعد الإلهي مشروطا ، بقرائن الآيات التالية ، وسيأتي مزيد بحث في نهاية هذا البحث. ترشد المجرمين والمذنبين على أبواب الدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) وأصلحوا أموركم ومسير حياتكم (وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ).

بعد طي هاتين المرحلتين «الإنابة» و «التسليم» ، تتحدث الآية عن المرحلة الثّالثة وهي مرحلة (العمل) ، إذ تقول : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ).

وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث :

الخطوة الأولى : التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى الله تعالى.

الخطوة الثّانية : الإيمان بالله والاستسلام له.

الخطوة الثّالثة : العمل الصالح.

فبعد طي هذه المراحل الثلاث يكون الإنسان قد دخل إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع طبقا لوعد الله المؤكد مهما كان ذلك الإنسان مثقلا بالذنوب.

أمّا بشأن المراد من (اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات متعددة. والتّفسير الذي هو أفضل من البقية هو أنّ أوامر متعددة ومختلفة نزلت من عند البارئ عزوجل ، البعض منها واجب والآخر مستحبّ ، والبعض الآخر مباح ، والمراد من (أحسن) هو انتخاب الواجبات

١٢١

والمستحبات ، مع الانتباه إلى تدرّجها.

وقال البعض : إنّه إشارة إلى كون القرآن هو أحسن الكتب السماوية النازلة ، بدليل ما ورد في الآية (٢٣) من هذه السورة الزمر (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ). وبالطبع فإنّه لا يوجد هناك أي تعارض بين التّفسيرين.

* * *

بحثان

١ ـ باب التوبة مفتوح للجميع

من المشاكل التي تقف عائقا في طريق بعض المسائل التربوية ، هو إحساس الإنسان بعقدة الذنب من جزاء الأعمال القبيحة السابقة التي ارتكبها ، خاصة إذا كانت هذه الذنوب كبيرة ، إذ أنّ الذي يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد التوجّه نحو الطهارة والتقوى والعودة إلى الله ، فكيف يتخلص من أعباء الذنوب الكبيرة السابقة.

هذا التفكير يبقى كابوسا مخفيا يرافقه كالظل ، فكلّما خطا خطوة نحو تغيير منهاج حياته وسعى نحو الطهارة والتقوى ، وتحدثه نفسه : ما الفائدة من التوبة؟

فسلاسل أعمالك السابقة تطوق يديك ورجليك ، لقد اصطبغت ذاتك بلون الذنب ، وهو لون ثابت ولا يمكن إزالته والمطلعون على مسائل التربية وتوبة المذنبين يدركون جيدا ما ذكرناه ، يعلمون حجم هذه المشكلة الكبيرة.

التعاليم الإسلامية في القرآن المجيد حلت هذه المشكلة عند ما أفصحت عن أنّ التوبة والإنابة يمكن أن تكون أداة قاطعة وحازمة للانفصال عن الماضي وبدء حياة جديدة ، أو حتى يمكن أن تكون بمثابة (ولادة جديدة) للتائب إذا تحققت بشرطها وشروطها ، إذ تكرر الحديث في الروايات الإسلامية بشأن بعض المذنبين

١٢٢

التائبين ، حيث ورد (كمن ولدته أمه).

وبهذا الشكل فإنّ القرآن الكريم يبقي أبواب اللطف الإلهي مفتّحة أمام كلّ الناس مهما كانت ظروفهم ، والمثال على ذلك الآيات المذكورة آنفا التي تدعو المجرمين والمذنبين بلطف للعودة إلى الله ، وتعدهم بإمكانية محو الماضي.

ونقرا في رواية وردت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (١).

كما ورد حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام جاء فيه : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ» (٢).

ومن البديهي أن هذه العودة لا يمكن أن تتمّ بدون قيد أو شرط ، لأنّ البارئ عزوجل حكيم ولا يفعل شيئا عبثا ، فإذا كانت أبواب رحمته مفتحة أما عباده ، ودعوته إيّاهم للتوبة مستمرة ، فإنّ وجود الاستعداد عند العباد أمر لا بدّ منه.

ومن جهة اخرى يجب أن تكون عودة الإنسان صادقة ، وأن تحدث انقلابا وتغيرا في داخله وذاته.

ومن ناحية ثانية يجب أن يبدأ الإنسان بعد توبته باعمار وبناء أسس الإيمان والعقيدة التي كانت قد دمّرت بعواصف الذنوب.

ومن ناحية ثالثة يجب أن يصلح الإنسان بالأعمال الصالحة عجزه الروحي وسوء خلقه ، فكلّما كانت الذنوب السابقة كبيرة ، عليه أن يقوم بأعمال صالحة أكثر وأكبر ، وهذا بالتحديد ما بيّنه القرآن المجيد في الآيات الثلاث المذكورة أعلاه تحت عنوان (الإنابة) و (التسليم) و (اتباع الأحسن).

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الاول ، الصّفحة ١٢٧ ، مادة التوبة.

(٢) أصول الكافي ، المجلد ٢ ، الصفحة ٢١٦ ، باب التوبة ، الحديث ١٠.

١٢٣

٢ ـ اصحاب الأحمال الثقيلة

بعض المفسّرين أوردوا أسبابا متعددة لنزول الآيات آنفة الذكر ، ويحتمل أن تكون جميعها من قبيل التطبيق وليس من قبيل أسباب النّزول.

ومنها قصة (وحشي) الذي ارتكب أفظع جريمة في ساحة معركة أحد ، عند ما قتل حمزة عمّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غدرا ، وقد كان حمزة قائدا شجاعا كرّس كلّ حياته في سبيل الدفاع عن النّبي الكريم. وبعبارة اخرى : إنّه كان درعا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فبعد أن بلغ الإسلام أوج عظمته وانتصر المسلمون على أعدائهم ، أراد وحشي أن يدخل الدين الإسلامي ، ولكنّه كان خائفا من عدم قبول إسلامه ، ولما أسلم قال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوحشي؟» قال : نعم ، قال : «أخبرني كيف قتلت عميّ» فأخبره ، فبكى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : «غيب وجهك عنّي فإنّي لا أستطيع النظر إليك» فلحق بالشام فمات في الخمر (١). وهنا تساءل أحدهم : هل أن هذه الآية تخص وحشيا فقط أم تشمل كلّ المسلمين ، فأجاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّها تشمل الجميع.

ومنها قصة النباش ـ قال : دخل معاذ بن جبل على رسول الله باكيا فسلّم فردّ عليه‌السلام ثمّ قال : «ما يبكيك ، يا معاذ؟» فقال : يا رسول الله ، إنّ بالباب شابا طريّ الجسد نقي اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادخل عليّ الشاب يا معاذ» فأدخله عليه فسلم فردّ عليه‌السلام قال : «ما يبكيك يا شاب؟»

قال : كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا ، إن أخذني الله عزوجل ببعضها أدخلني نار جهنم؟ ولا أراني إلّا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبدا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل أشركت بالله شيئا؟».

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد ٢ ، الصفحة ٦٣٧ ، مادة (وحش) وتفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، الصفحة ٤ ، وتفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٩٣.

١٢٤

قال : أعوذ بالله أن أشرك بربّي شيئا.

قال : «أقتلت النفس التي حرّم الله؟».

قال : لا.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل الجبال الرواسي».

فقال الشاب : فإنّها أعظم من الجبال الرواسيّ.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق».

قال : فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها ، وأشجارها وما فيه من الخلق.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي».

قال : فإنّها أعظم من ذلك.

قال : فنظر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال : «ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربّك؟».

فخّر الشاب لوجهه وهو يقول : سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربّي ، ربّي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فهل يغفر الذنب العظيم إلّا الربّ العظيم».

قال الشاب : لا والله يا رسول الله ، ثمّ سكت الشاب فقال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟».

قال : بلى ، أخبرك : إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين ، أخرج الأموات وأنزع الأكفان ، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليهم الليل ، أتيت قبرها فنبشتها ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجرّدة على شفير قبرها ومضيت

١٢٥

منصرفا ، فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لي ... ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها. فإذا أنا بصوت من ورائي يقول : يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين ، ... فما أظن أنّي أشم رائحة الجنّة أبدا فما ترى يا رسول الله.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تنحى عنّي يا فاسق ، إنّي أخاف أن أحترق بنارك ، فما أقربك من النّار! ...

فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها متعبّدا فيها ، ولبس مسحا وغل يديه جميعا إلى عنقه ، ونادى : يا ربّ هذا عبدك (بهلول) بين يديك مغلول ... ثمّ قال : اللهم ما فعلت في حاجتي إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيّك ، وإن لم تستجب لي دعائي ... فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ...) (١).

الظاهر أنّ تلاوة جبرائيل لهذه الآية هنا لم تكن لأوّل مرّة كي تعدّ من أسباب النّزول ، وإنّما هي آية مكررة ونزلت من قبل ، وتكرارها إنّما هو للتأكيد وجلب الانتباه أكثر ، وإعلان عن قبول توبة ذلك الرجل المذنب. ونكرر مرّة اخرى : إن مثل أولئك الأشخاص الذين يحملون على أكتافهم ذنوبا ثقيلة عليهم أداء واجبات كثيرة لمحو آثار الماضي.

وقد ذكر «الفخر الرازي» أسبابا أخرى لنزول هذه الآيات إذ قال : إنّها نزلت في أهل مكّة حيث قالوا : يزعم محمّد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له ، وقد عبدنا وقتلنا ، فكيف نسلم؟! (٢).

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٦ ، الصفحة ٢٤ (طبع بيروت).

(٢) التّفسير الكبير لفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، الصفحة ٤ ذيل آيات البحث.

١٢٦

الآيات

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

التّفسير

الندم لا ينفع في ذلك اليوم :

الآيات السابقة أكّدت على التوبة وإصلاح الذات وإصلاح الأعمال السابقة ، وآيات بحثنا الحالي تواصل التطرق لذلك الموضوع ، ففي البداية تقول : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (١).

«يا حسرتا» : هي في الأصل (يا حسرتي) ، (حسرة أضيفت إليها ياء

__________________

(١) في بداية الآية عبارة تتعلق بالآيات السابقة ، ويكون التقدير (لئلا تقول نفس) أو (حذرا أن تقول نفس) وفي الحالة الثانية تكون مفعولا له لعبارة (أنيبوا واسلموا واتبعوا). (إن) في عبارة (وإن كنت لمن الساخرين) مخففة من الثقيلة إذ أنّها كانت في الأصل ، (إنّي كنت من الساخرين).

١٢٧

المتكلم) ، والتحسر معناه الحزن ممّا فات وقته لانحساره ممّا لا يمكن استدراكه.

ويرى الراغب في مفرداته (يا حسرتا) من مادة (حسر) على وزن (حبس) وتعني التعري والتجرد من الملابس ، وبما أن الندم والحزن على ما مضى بمنزلة زوال حجب الجهل ، فلا اطلاق على هذه الموارد.

نعم ، فعند ما يرد الإنسان إلى ساحة المحشر ، ويرى بأمّ عينيه نتائج إفراطه وإسرافه ومخالفته واتخاذه الأمور الجدية هزوا ولعبا ، يصرخ فجأة (وا حسرتاه) إذ يمتلئ قلبه في تلك اللحظات بغمّ كبير مصحوب بندم عميق ، وهذه الحالة النفسية التي وردت في الآيات المذكورة.

أما فيما يخصّ معنى (جَنْبِ اللهِ) هنا؟ فإنّ المفسّرين ذكروا تفاسير ومعاني كثيرة لها. وكلمة (جنب) تعني في اللغة «الخاصرة» ، كما تطلق على كلّ شيء يستقر إلى جانب شيء آخر ، مثلما أن اليمين واليسار يعنيان الطرف الأيمن والأيسر للجسم ، ثمّ يقال لكل شيء في يسار أو يمين الجسم ، وهنا (جَنْبِ اللهِ) تعني أن الأمور ترجع إلى جانب الله ، فأوامره وإطاعته والتقرب إليه ، والكتب السماوية كلها نزلت من جانبه ، وكلها مجموعة في هذا المعنى.

وبهذا الترتيب فإنّ المذنبين يكشفون في ذلك اليوم عن ندامتهم وحسرتهم وأسفهم على تقصيرهم وتفريطهم تجاه الله سبحانه وتعالى ، خاصة فيما يتعلق بسخريتهم واستهزائهم بآيات الله ورسله ، لأنّ السبب الرئيسي لتفريطهم هو العبث والسخرية من هذه الحقائق الكبيرة بدافع الجهل والغرور والتعصب.

ثمّ تضيف الآية (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

يبدو أنّ هذا الكلام يقوله الكافر عند ما يوقف أمام ميزان الحساب ، حيث يرى البعض يقادون إلى الجنّة وهم محملون بأعمالهم الحسنة ، وهنا يتمنى الكافر لو أنّه كان أحد هؤلاء المتوجهين إلى جنّة الخلد.

وتضيف الآية مرّة اخرى (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ

١٢٨

الْمُحْسِنِينَ).

وهذا ما يقوله الكافر ـ أيضا ـ حينما تقوده الملائكة الموكلة بالنّار نحو جهنم ، وترى عيناه نار جهنم ومنظر العذاب الأليم فيها ، وهنا يتأوه من أعماق قلبه ويتوسل لكي يسمح له بالعودة مرّة اخرى إلى الحياة الدنيا ليطهر نفسه من الأعمال السيئة والقبيحة بأعمال صالحة تهيئه وتعده للوقوف في صفوف المحسنين والصالحين.

والملاحظ أنّ كلّ عبارة من هذه العبارات الثلاث يقولها المجرمون عند مشاهدة مشهد معين من عذاب يوم القيامة الرهيب.

حيث أنّهم يتحسرون على ما فرطوا في جنب الله فور دخولهم ساحة المحشر.

ويتمنون لو أنّهم فازوا بما فاز به المتقين ، عند ما يرون الثواب الجزيل الذي أغدقه البارئ عزوجل على عباده المتقين.

ويتوسلون إلى البارئ عزوجل ليعيدهم إلى الحياة الدنيا ليصلحوا ماضيهم الفاسد ، عند ما يرون العذاب الإلهي الأليم.

القرآن المجيد يردّ على القول الثّاني من بين الأقوال الثلاثة إذ يقول : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١).

إنّ قولك : لو كانت الهداية قد شملتني لأصبحت من المتقين ، فما هي الهداية الإلهية؟ هل هي غير الكتب السماوية ورسل الله ، وآياته وعلاماته الصادقة في الآفاق والأنفس؟! إنّك سمعت بأذنيك وشاهدت بعينيك كلّ هذه الآيات ، فما كان ردّ فعلك إزاءها غير التكذيب والتكبير والكفر!

__________________

(١) رغم أنّ المتحدّث هي النفس وهي مؤنث ، وأنّ القرآن أورد أوصافها وأفعالها بصيغة المؤنث في آياته ، ولكن في هذه الآية ورد ضمير (كذبت) وما بعدها بصيغة المذكر ، وذلك لأنّ المقصود هنا هو الإنسان ، وقد قال البعض : إنّ (النفس) يمكن أن تأتي بصيغتي المذكر والمؤنث.

١٢٩

فهل يمكن أن يعاقب البارئ عزوجل أحدا من دون أن يتمّ حجّته عليه؟ وهل كان هناك فرق بينك وبين الذين اهتدوا إلى طريق الحق من حيث المناهج التربوية الإلهية التي أعدّت لكم ولهم؟ لهذا فأنت المقصر الرئيسي ، وأنت بنفسك جلبت اللعنة إليك!

فمن بين تلك الأعمال الثلاثة يعد (الاستكبار) الجذر الرئيسي ، ومن بعد يأتي التكذيب بآيات الله ، وحصيلة الاثنين هو الكفر وعدم الإيمان.

ولكن لماذا لم يجيب القرآن على القول الأول؟

الجواب : لأنّ هناك حقيقة لا مناص منها ، وهي أنّهم يجب أن يتحسروا ويغرقوا في الغم والهم.

وأما بشأن قولهم الثّالث الذي يتوسلون فيه إلى البارئ عزوجل كي يسمح لهم بالعودة إلى الحياة الدنيا ، فإنّ القرآن الكريم يجيبهم في عدّة آيات منها الآية (٢٨) من سورة الأنعام : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) والآية (١٠٠) من سورة المؤمنون ، ولا حاجة لتكرار تلك الأجوية.

والملاحظ هنا أنّ الرد على قولهم الثّاني ، يمكن أن يكون في الوقت نفسه إجابة على السؤال الثّالث أيضا ، لأنّهم ماذا يهدفون من عودتهم إلى الحياة الدنيا؟ هل أنّه أمر آخر غير إتمام الحجة ، في حين أنّ البارئ عزوجل أتمّ الحجة عليهم بصورة كاملة لا نقص فيها ، فانتباه المجرمين من غفلتهم فور مشاهدتهم للعذاب ، إنّما هو نوع من اليقظة الاضطرارية التي لا يبقى لها أي أثر عند ما يعودون إلى حالتهم الطبيعية. حقا إنّه نفس الموضوع الذي يشير إليه القرآن الكريم بشأن الكافرين والمشركين الذين يدعون الله مخلصين له الدين عند ما يبتلون بخطر ما في وسط البحر المتلاطم الأمواج ، ثمّ ينسون الله بمجرّد أن ينجيهم ويوصلهم بسلام إلى ساحل النجاة (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ

١٣٠

إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (١).

* * *

ملاحظتان

١ ـ التفريط في جنب الله

قلنا : إنّ (جَنْبِ اللهِ) التي وردت في آيات بحثنا لها معان واسعة ، تشمل كلّ ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى ، وبهذا الشكل فإنّ التفريط في جنب الله يشمل كلّ أنواع التفريط في طاعة أوامر الله ، واتباع ما جاء في الكتب السماوية ، والتأسي بالأنبياء والأولياء.

ولهذا السبب ورد في العديد من روايات أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ الأئمّة الأطهار هم المقصودون بـ (جَنْبِ اللهِ) ، ومن تلك الروايات ما ورد في أصول الكافي نقلا عن الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام إذ قال في تفسير : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) : «جنب الله أمير المؤمنين وكذلك من كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم» (٢).

كما نقرأ في تفسير عليّ بن إبراهيم نقلا عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «نحن جنب الله» (٣).

والمعنى ذاته ورد في روايات اخرى لأئمّة أهل البيت الأطهار عليهم‌السلام.

وكما قلنا مرارا فإنّ هذه التفاسير إنّما هي من قبيل بيان المصاديق الواضحة ، لأنّ من المسلّم أنّ اتباع نهج الأئمّة إنّما هو اتباع للرسول وطاعة لله ، إذ أنّ الأئمة عليهم‌السلام لا ينطقون بشيء من عندهم.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية ٦٥.

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، الصفحة ٤٩٥.

(٣) تفسير نور الثقلين المجلد الرابع الصفحة ٤٩٥.

١٣١

وفي حديث آخر تمّ تعريف العلماء غير العالمين بأنّهم مصداق واضح للمتحسرين ، وحيث ورد في كتاب (المحاسن) حديث للإمام الباقر عليه‌السلام ، جاء فيه : «إن أشد الناس حسرة يوم القيامة الذين وصفوا بالعدل ثمّ خالفوه ، وهو قول الله عزوجل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله» (١).

٢ ـ على أعتاب الموت أو القيامة؟

هل أنّ تلك الأقوال الثلاثة قالها المجرمون عند ما شاهدوا العذاب الإلهي في الدنيا وهو عذاب الاستئصال والهلاك في نهاية أعمارهم؟ أم عن زمان دخولهم ساحة القيامة؟

المعنى الثّاني أنسب ، لأنّ الآيات السابقة تتحدث عن عذاب الاستئصال والآية التالية تتحدث عن يوم القيامة ، والشاهد على هذا القول هو الآية (٣١) من سورة الأنعام التي تقول : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها).

والروايات المذكورة أعلاه خير شاهد على هذا المعنى.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٤٩٦.

١٣٢

الآيات

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤))

التّفسير

الله خالق كلّ شيء وحافظه :

الآيات السابقة تتحدث عن المشركين الكذابين والمستكبرين الذين يندمون يوم القيامة على ما قدمت أيديهم ويتوسلون لإعادتهم إلى الدنيا ، ولكن هيهات أن يستجاب لهم طلبهم ، وآيات بحثنا هذه تواصل الحديث عن هذا الأمر ، إذ تقول : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ).

ثم تضيف (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ).

لا شكّ أن عبارة (كَذَبُوا عَلَى اللهِ) لها مفاهيم ومعان واسعة وعميقة ، لكن

١٣٣

الآية ـ هنا ـ تستهدف أولئك الذين قالوا بوجود شريك لله ، أو باتخاذ الله ولدا من الملائكة أو الذين يزعمون أنّ المسيح عليه‌السلام هو ابن الله ، وأمثال هذه المزاعم والادعاءات.

وكلمة «مستكبر» تطلق دائما على أولئك الذين يرون أنفسهم ذات شأن وقدر كبير ، ولكن المراد منها ـ هنا ـ أولئك الذين يستكبرون على الأنبياء ، والذين يتركون اتباع الشريعة الحقة ، ويرفضون قبولها واتباعها.

اسوداد وجوه الكاذبين يوم القيامة دليل على ذلتهم وهوانهم وافتضاحهم ، وكما هو معروف فإن ساحة القيامة هي ساحة ظهور الأسرار والخفايا وتجسيد أعمال وأفكار الإنسان ، فالذين كانت قلوبهم سوداء ومظلمة في الدنيا ، وأعمالهم وأفكارهم سوداء ومظلمة أيضا ، يخرج هذا السواد والظلام من أعماقهم إلى خارجهم في يوم القيامة ليطفح على وجوههم التي تكون في ذلك اليوم مسودّة ومظلمة.

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الإنسان يطابق باطنه يوم القيامة ، ولون الوجه يكون بلون القلب ، فالذي قلبه أسود ومظلم ، يكون وجهه مظلما وأسود ، والذي قلبه ساطع بالنور يكون وجهه كذلك ساطعا بالنور.

وهو ما ورد في الآيتين (١٠٦) و (١٠٧) من سورة آل عمران (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

والملفت للنظر أنّه قد ورد في بعض الروايات أهل البيت عليهم‌السلام ، أن الكذب على الله ، الذي هو أحد أسباب اسوداد الوجه يوم القيامة ، له معان واسعة تشمل حتى الادعاء بالإمامة والقيادة كذبا ، كما ذكر ذلك الشيخ الصدوق في كتاب (الاعتقادات) نقلا عن الإمام الصادق عليه‌السلام عند ما أجاب الإمام على سؤال

١٣٤

يتعلق بتفسير هذه الآية ، وقال : «من زعم أنّه إمام وليس بإمام ، قيل : وإن كان علويا فاطميا؟ قال : وإن كان علويا فاطميا» (١).

وهذا في الحقيقة بيان لمصداق بارز ، لأنّ الادعاء المزيف بالإمامة والقيادة الإلهية هو أوضح مصاديق الكذب على الله.

وكذلك فإنّ من نسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى الإمام المعصوم حديثا مختلقا ، اعتبر كاذبا على الله ، لأنّهم لا ينطقون عن الهوى.

لهذا فقد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «من تحدث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما فإن صدق علينا فإنّما يصدق على الله وعلى رسوله ، وإن كذب علينا فإنّه يكذب على الله ورسوله ، لأنّا إذا حدثنا لا نقول قال فلان وقال فلان ، إنّما نقول قال الله وقال رسوله ثمّ تلا هذه الآية (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ...) (٢).

الحديث المذكور يبيّن بصورة واضحة أنّ أئمة أهل البيت الأطهار ، لم يقولوا شيئا من عندهم ، وإن كلّ الأحاديث التي وردت عنهم صحيحة وموثوقة ، لأنّها تعود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الحقيقة مهمّة جدا ، وعلى علماء الإسلام أن يلتفتوا إليها ، فالذين لا يقبلون بإمامة أهل البيت عليهم‌السلام ، عليهم أن يقبلوا بأن الأحاديث التي يرويها أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، إنّما هي منقولة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبهذا الشأن ورد في كتاب الكافي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام :

«حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول الله عزوجل» (٣).

__________________

(١) الإعتقادات الإمامية ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٩٦ ، ونفس المعنى نقل عن تفسير علي بن إبراهيم وكتاب الكافي (يراجع المجلد الأوّل من كتاب الكافي (باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل) الحديث الأوّل والثّالث).

(٢) مجمع البيان ذيل آية البحث.

(٣) أصول الكافي ، المجلد ١ ، صفحة ٥١ (باب رواية الكتب والأحاديث) الحديث ١٤.

١٣٥

هذا الكلام يدعو إلى الإمعان والتأمل أكثر في آيات القرآن المجيد ، لأن التكبر هو المصدر الرئيسي للكفر ، كما نقرأ ذلك بشأن الشيطان (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١). ولهذا السبب فلا يمكن أن يكون للمستكبرين مكان آخر غير جهنم ليحترقوا بنارها ، وقد ورد في حديث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

«إنّ في جهنم لواد للمتكبرين يقال له سقر ، شكى إلى الله عزوجل شدة حرّه ، وسأله أن يتنفس فأذن له فتنفس فأحرق جهنم» (٢).

الآية التالية تتحدث عن طائفة تقابل الطائفة السابقة ، حيث تتحدث عن المتقين وابتهاجهم في يوم القيامة ، إذ تقول : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) (٣).

ثم توضح فوزهم وانتصارهم من خلال جملتين قصيرتين مفعمتين بالمعاني ، (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

نعم ، إنّهم يعيشون في عالم لا يوجد فيه سوى الخير والطهارة والسرور ، وهذه العبارة القصيرة جمعت ـ حقّا ـ كلّ الهبات الإلهية فيها.

الآية التالية تتطرق من جديد إلى مسألة التوحيد والجهاد ضدّ الشرك ، وتواصل مجادلة المشركين ، حيث تقول : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

العبارة الأولى في هذه الآية تشير إلى (توحد الله في الخلق) والثانية تشير إلى (توحده في الربوبية).

فمسألة (توحده في الخلق) هي حقيقة اعترف بها حتى المشركون ، كما ورد

__________________

(١) البقرة ، ٣٤.

(٢) تفسير علي بن إبراهيم ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٩٦ ، كما ورد نفس المعنى في تفسير الصافي في ذيل آيات البحث.

(٣) «مفازة» : مصدر ميمي بمعنى الفوز والظفر ، و (الباء) في (بمفازتهم) للملابسة أو السببية ، وبالنسبة إلى الحالة الأولى يكون المعنى إن الله يعطيهم النجاة المقترنة بالخلاص والفلاح ، أمّا بالنسبة إلى الحالة الثانية فالمعنى يكون (إن الله أنقذهم ونجاهم بسبب إخلاصهم) كناية عن الأعمال الصالحة والإيمان ـ.

١٣٦

في الآية (٣٨) من السورة هذه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

ولكنّهم ابتلوا بالانحراف فيما يتعلق بمسألة (توحده في الربوبية) ، في بعض الأحيان اعتبروا الأصنام هي التي تحفظهم وتحميهم وتدبر أمرهم ، وكانوا يلجؤون إليها عند ما يواجهون أي مشكلة. والقرآن المجيد ـ من خلال الآية المذكورة أعلاه ـ يشير إلى حقيقة أنّ تدبير أمور الكون وحفظه هي بيد خالقه ، وليس بيد أحد آخر ، ولهذا يجب اللجوء إليه دائما.

وقد ذكر «ابن منظور» في كتاب (لسان العرب) معاني متعددة لكلمة (وكيل) منها : الكفيل ، والحافظ ، والمدبر للأمر.

ومن هنا يتضح أنّ الأصنام ليست مصدر خير أو شر ، وأنّها عاجزة عن حل أبسط عقدة ، حيث أنّها موجودات ضعيفة وعاجزة ، ولا يمكن أن تقدم أدنى فائدة للإنسان.

وقد عمد بعض المؤيدين للمذهب الجبري إلى الاستدلال على بعض الأمور من عبارة (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) لتأكيد ما جاء في معتقداتهم المنحرفة ، إذ قالوا : إنّ هذه الآية تشمل الأعمال أيضا ، ولهذا فإنّ أعمالنا تعد من خلق الله ، رغم أنّ أعضاءنا هي التي تقوم بها.

إنّ خطأ أولئك هو أنّهم لم يدركوا هذه الحقيقة جيدا ، وهي أنّ خالقية الله سبحانه وتعالى لا يوجد فيها أي تعارض مع حرية الإرادة والإختيار لدينا ، لأنّ التناسب فيما بينهما طولي وليس عرضي.

فأعمالنا تتعلق بالله ، وتتعلق بنا أيضا ، لأنّه لا يوجد هناك شيء في هذا الكون يمكن أن يكون خارج إطار سلطة البارئ عزوجل ، وعلى هذا الأساس فإن أعمالنا هي من خلقه ، وإنه أعطانا القدرة والعقل والإختيار والإرادة وحرية العمل ، ومن هذه الناحية يمكن أن ننسب أعمالنا إليه ، حيث إنّه أراد أن نكون

١٣٧

أحرارا وننفذ الأعمال بأختيارنا ، كما أنّه وضع كلّ ما نحتاجه تحت تصرفنا.

لكننا في الحال ذاته أحرار مخيرون في تنفيذ الأعمال ، وعلى ذلك فإنّ أفعالنا منسوبة إلينا ونحن المسؤولون عنها.

فإذا قال أحد : إنّ الإنسان يخلق أعماله ، ولا دخل لله عزوجل فيها ، فإنّه قد أشرك لأنّه في هذه الحالة يعتقد بوجود خالقين ، خالق كبير وخالق صغير ، وإذا قال آخر : إنّ أعمالنا هي من خلق الله ولا دخل لنا فيها ، فقد انحرف ، لأنّه أنكر بقوله هذا حكمة وعدالة الله ، إذ لا يصح أن يجبرنا في الأعمال ، ثمّ يحمّلنا مسئوليتها! لأنّ في هذه الحالة ، يصبح الجزاء والثواب والحساب والمعاد والتكليف والمسؤولية كلّها عبثا.

لذا فإن الاعتقاد الإسلامي الصحيح والذي يمكن أن يستشف من مجموع آيات القرآن المجيد ، هو أن كلّ أعمالنا منسوبة لله وإلينا ، وهذه النسبة لا يوجد فيها أي تعارض ، لأنّها طولية وليست عرضية.

أمّا الآية التالية فقد تطرقت (توحيد الله في المالكية) لتكمل بحث التوحيد الذي ورد في الآيات السابقة ، إذ تقول : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

«مقاليد» : كما يقول أغلب اللغويين ، جمع (مقليد) (مع أن الزمخشري يقول في الكشاف : إن هذه الكلمة ليس لها مفرد من لفظها) و (مقليد) و (إقليد) كلاهما تعني المفتاح ، وعلى حدّ قول صاحب كتاب (لسان العرب) وآخرين غيره فإن كلمة (مقليد) مأخوذة من (كليد) الفارسية الأصل ، ومن العربية تستعمل بنفس المعنى ، ولذا فإن (مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تعني مفاتيح السماوات والأرض.

هذه العبارة تستخدم ككناية عن امتلاك شيء ما أو التسلط عليه كأنّ يقول أحد : مفتاح هذا العمل بيد فلان. لذا فإنّ الآية المذكورة أعلاه يمكن أن تشير إلى (وحدانية الله في الملك) وفي نفس الوقت تشير إلى وحدانيته في التدبير والربوبية والحاكمية على هذا العالم الكوني.

١٣٨

ولهذا السبب أوردت الآية المذكورة بمثابة استنتاج (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

لأنّهم تركوا المصدر الرئيسي والمنبع الحقيقي لكل الخيرات والبركات وتاهوا في صحاري الضلال عند ما أعرضوا بوجوههم عن مالك مفاتيح السماوات والأرض ، وتوجهوا نحو موجودات عاجزة تماما عن تقديم أدنى عمل لهم.

وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه طلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضيح معنى كلمة (مقاليد) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا علي ، لقد سئلت عن عظيم المقاليد ، هو أن تقول عشرا إذا أصبحت ، وعشرا إذا أمسيت ، لا إله الّا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله (هو) الأوّل والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد (يحيي ويميت) بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير» (١).

ثم أضاف : «من قالها عشرا إذا أصبح ، وعشرا إذا أمسى ، أعطاه الله خصالا ستا ... أوّلها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان».

أمّا من ردد هذه الكلمات بصورة سطحية فإنّه ـ حتما ـ لا يستحق كل ، هذه المكافآت ، فيجب الإيمان بمحتواها والتخلق بها.

هذا الحديث يمكن أن يشير إلى أسماء الله الحسنى التي هي أصل الحاكمية والمالكية لهذا العالم الكوني.

من مجموع كلّ الأمور التي ذكرناها في الآيات السابقة بشأن فروع التوحيد ، يمكن الحصول على نتيجة جيدة ، وهي أنّ التوحيد في العبادة هو حقيقة لا يمكن نكرانها وعلى كلّ إنسان عاقل أن لا يسمح لنفسه بالسجود للأصنام ، ولهذا فإن

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد الثامن ، الصفحة ٥٧١٩ ، وتفسير أبو الفتوح الرازي ، المجلد ٩ ، الصفحة ٤١٧ ذيل آيات البحث (مع اختصار ذيل الحديث).

١٣٩

البحث ينتهي بآية تتحدث بلهجة حازمة ومتشددة (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ).

هذه الآية ـ وبالنظر الى أنّ المشركين والكفرة كانوا أحيانا يدعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى احترام آلهتهم وعبادتها ، أو على الأقل عدم الانتقاص منها أو الهي عن عبادتها ، ـ أعلنت وبمنتهى الصراحة أنّ مسألة توحيد الله وعدم الإشراك به هي مسألة لا تقبل المساومة والاستسلام أبدا ، إذ يجب أن تزال كافة أشكال الشرك وتمحى من على وجه الأرض.

فالآية تعني أنّ عبدة الأصنام على العموم هم أناس جهلة ، لأنّهم لا يجهلون فقط البارئ عزوجل ، بل يجهلون حتى مرتبة الإنسان الرفيعة.

إنّ التعبير بـ «تأمروني» ، الذي ورد ـ في الآية الآنفة ـ يشير إلى أنّ الجهلة كانوا يأمرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يعبد أصنامهم بدون أيّ دليل منطقي ، وهذا الموقف ليس بعجيب من أفراد جهلة.

أليس من الجهل والغباء أن يترك الإنسان عبارة الباري عزوجل رغم مشاهدته للكثير من الأدلّة في هذا العالم والتي تدلّ على علمه وقدرته وتدبيره وحكمته ، ثمّ يتمسّك بعبادة موجودات تافهة لا قيمة لها وعاجزة عن تقديم أدنى مساعدة وعون لعبدتها.

* * *

١٤٠