الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-56-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٨١

الآيات

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠))

التّفسير

إبراهيم عند المذبح :

بحثنا في الآيات السابقة انتهى عند هجرة إبراهيم عليه‌السلام من بابل بعد أن أدّى رسالته هناك ، وطلبه من الله أن يرزقه ولدا صالحا ، إذ لم يكن له ولد.

وأوّل آية في هذا البحث تتحدّث عن الاستجابة لدعاء إبراهيم ، إذ قالت الآية : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ).

٣٦١

في الواقع إنّ ثلاثة بشائر جمعت في هذه الآية ، الاولى أنّه سيرزق طفلا ذكرا ، والثانية أنّ هذا الطفل يبلغ سنّ الفتوّة ، أمّا الثالثة فهي أنّ صفته حليم.

وكلمة (حليم) تعني الذي لا يعجّل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه ، وقيل : الذي لا يعجّل بالعقوبة ، والذي له روح كبيرة وهو متسلّط على أحاسيسه.

ويرى «الراغب» في مفرداته أنّ كلمة حليم تعني الضابط نفسه في لحظة الإثارة والغضب ، وبسبب كون هذه الحالة تنشأ من العقل والإدراك ، فإنّ كلمة وعكس تعني ـ أحيانا ـ العقل والإدراك.

ولكن المعنى الحقيقي لكلمة حليم هو المعنى الأوّل الذي ذكرناه.

ويمكن الاستفادة من هذا الوصف في أنّ الله بشّر عبده إبراهيم في أنّه سيعطي ابنه إسماعيل عمرا يمكن وصفه فيه بالحليم ، كما أنّ الآيات التالية ستوضّح أنّ إسماعيل بيّن مرتبة حلمه أثناء قضيّة الذبح ، مثلما وضّح أبوه إبراهيم حلمه في أثناء قضيّة الذبح ، وأثناء إحراقه بالنار.

وكلمة (حليم) كرّرت (١٥) مرّة في القرآن المجيد ، وأغلبها وردت وصفا لله ، عدا ثلاث موارد جاءت في وصف إبراهيم وابنه إسماعيل من قبل القرآن الكريم ، والثالثة جاءت في وصف شعيب وعلى لسان الآخرين.

وكلمة (غلام) حسب إعتقاد البعض تطلق على كلّ طفل لم يصل بعد مرحلة الشباب ، والبعض يطلقها على الطفل الذي اجتاز عمره العشر سنوات ولم يصل بعد إلى سنّ البلوغ.

ويمكن الاستفادة من العبارات المختلفة الواردة بلغة العرب في أنّ كلمة (غلام) تطلق على الذكر الذي اجتاز مرحلة الطفولة ولم يصل بعد إلى مرحلة الشباب.

أخيرا ، ولد الطفل الموعود لإبراهيم وفق البشارة الإلهيّة ، وأثلج قلب إبراهيم الذي كان ينتظر الولد الصالح لسنوات طوال ، اجتاز الطفل مرحلة الطفولة وأضحى

٣٦٢

غلاما. وهنا يقول القرآن : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ).

يعني أنّه وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي وبذل الجهد مع والده في مختلف امور الحياة وإعانته على أموره.

وقال البعض : بأنّ (السعي) هنا يعني العمل لله والعبادة ، وبالطبع فإنّ كلمة (السعي) لها مفاهيم ومعان واسعة تشمل هذا المعنى أيضا ، ولكنّها لا يقتصر معناها عليه. و (معه) تدلّ على أنّه كان يساعد والده في امور الحياة.

على كلّ حال ، فقد ذهب جمع من المفسّرين : إنّ عمر إسماعيل كان (١٣) عاما حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحير ، والذي يدلّ على بدء إمتحان عسير آخر لهذا النّبي ذي الشأن العظيم ، إذ رأى في المنام أنّ الله يأمره بذبح ابنه الوحيد وقطع رأسه. فنهض من نومه مرعوبا ، لأنّه يعلم أنّ ما يراه الأنبياء في نومهم هو حقيقة وليس من وساوس الشياطين ، وقد تكرّرت رؤيته هذه ليلتين أخريين ، فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فورا.

وقيل : إنّ أوّل رؤيا له كانت في ليلة التروية ، أي ليلة الثامن من شهر ذي الحجّة ، كما شاهد نفس الرؤيا في ليلة عرفة ، وليلة عيد الأضحى ، وبهذا لم يبق عنده أدنى شكّ في أنّ هذا الأمر هو من الله سبحانه وتعالى.

إمتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن ، إبراهيم الذي نجح في كافّة الامتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس ، الامتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الابوّة جانبا والامتثال لأوامر الله بذبح ابنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة ، وهو الآن غلام يافع قوي.

ولكن قبل كلّ شيء ، فكّر إبراهيم عليه‌السلام في إعداد ابنه لهذا الأمر ، حيث (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى).

الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده ، والذي تعلم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده ، رحّب بالأمر الإلهي بصدر

٣٦٣

واسع وطيبة نفس ، وبصراحة واضحة قال لوالده : (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ).

ولا تفكّر في أمري ، فانّك (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

فما أعظم كلمات الأب والابن وكم تخفي في بواطنها من الأمور الدقيقة والمعاني العميقة؟!

فمن جهة ، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (١٣) عاما بقضيّة الذبح ، ويطلب منه إعطاء رأيه فيها ، حيث جعله هنا شخصيّة مستقلّة حرّة الإرادة.

فإبراهيم لم يقصد أبدا خداع ولده ، ودعوته إلى ساحة الامتحان العسير بصورة عمياء ، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضدّ النفس ، وجعله يستشعر حلاوة لذّة التسليم لأمر الله والرضى به ، كما استشعر حلاوتها هو.

ومن جهة اخرى ، عمد الابن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به ، إذ لم يقل له : اذبحني ، وإنّما قال له : افعل ما أنت مأمور به ، فإنّني مستسلم لهذا الأمر ، وخاصّة أنّه خاطب أباه بكلمة (يا أَبَتِ) كي يوضّح أنّ هذه القضيّة لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرّة ، وأنّ أمر الله هو فوق كلّ شيء.

ومن جهة ثالثة ، أظهر أدبا رفيعا اتّجاه الله سبحانه وتعالى ، وأن لا يعتمد أحد على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط ، وإنّما يعتمد على إرادة ومشيئة الله ، وبعبارة اخرى : أن يطلب توفيق الاستعانة والاستقامة من الله.

وبهذا الشكل يجتاز الأب وابنه المرحلة الاولى من هذا الامتحان الصعب بانتصار كامل.

ماذا يدور في هذا الوسط؟ القرآن الكريم لم يفصل مجريات الحدث ، وركّز فقط على النقاط الحسّاسة في هذه القصّة العجيبة.

كتب البعض : إنّ إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي ، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته.

فعند ما أخذه والده للذبح وسط الجبال الجرداء والحارقة في أرض (منى) قال

٣٦٤

إسماعيل لوالده :

يا أبت ، أحكم من شدّ الحبل كي لا تتحرّك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي ، أخاف أن يقلّل ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله.

والدي العزيز اشحذ السكّين جيّدا ، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلا بالنسبة لي ولك.

والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوّث بالدم ، لأنّي أخاف أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها.

ثمّ أضاف : أوصل سلامي إلى والدتي ، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها كي يسلّي خواطرها ويهدّئ من آلامها ، لأنّها ستشمّ رائحة ابنها منه ، وكلّما أحسّت بضيق القلب ، تضعه على صدرها ليخفّف الحرقة الموجودة في أعماقها.

قربت اللحظات الحسّاسة ، فالأمر الإلهي يجب أن ينفّذ ، فعند ما رأى إبراهيم عليه‌السلام درجة استسلام ولده للأمر الإلهي احتضنه وقبّل وجهه ، وفي هذه اللحظة بكى الاثنان ، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية ومقدّمة الشوق للقاء الله.

القرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنّها مليئة بالمعاني ، فيقول تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١).

مرّة اخرى تطرّق القرآن هنا باختصار ، كي يسمح للقارئ متابعة هذه القصّة بانشداد كبير.

قال البعض : إنّ المراد من عبارة (تَلَّهُ لِلْجَبِينِ) هو أنّه وضع جبين ولده ـ طبقا لاقتراحه ـ على الأرض ، حتّى لا تقع عيناه على وجه ابنه فتهيج عنده عاطفة الابوّة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهي.

__________________

(١) (تلّه) من مادّة (تلّ) وتعني في الأصل المكان المرتفع ، و (تلّه للجبين) تعني أنّه وضع أحد جوانب وجه ابنه على مكان مرتفع من الأرض.

(جبين) تعني أحد جانبي الجبهة أو الوجه ، وطرفي الوجه أو الجبهة يقال لهما (جبينان).

٣٦٥

على أيّة حال كبّ إبراهيم عليه‌السلام ابنه على جبينه ، ومرّر السكّين بسرعة وقوّة على رقبة ابنه ، وروحه تعيش حالة الهيجان ، وحبّ الله كان الشيء الوحيد الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر ومن دون أي تردّد.

إلّا أنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة.

وهنا غرق إبراهيم في حيرته ، ومرّر السكّين مرّة اخرى على رقبة ولده ، ولكنّها لم تؤثّر بشيء كالمرّة السابقة.

نعم ، فإبراهيم الخليل يقول للسكّين : اذبحي ، لكنّ الله الجليل يعطي أوامره للسكّين أن لا تذبحي ، والسكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباري عزوجل.

وهنا ينهي القرآن كلّ حالات الانتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

إذ نمنحهم توفيق النجاح في الامتحان ، ونحفظ لهم ولدهم العزيز ، نعم فالذي يستسلم تماما وبكلّ وجوده للأمر الإلهي ويصل إلى أقصى درجات الإحسان ، لا يمكن مكافأته بأقلّ من هذا.

ثمّ يضيف القرآن الكريم (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ).

عمليّة ذبح الابن البارّ المطيع على يد أبيه ، لا تعدّ عمليّة سهلة وبسيطة بالنسبة لأب انتظر فترة طويلة كي يرزقه الله بهذا الابن ، فكيف يمكن إماتة قلبه تجاه ولده؟ والأكثر من ذلك استسلامه ورضاه المطلق ـ من دون أي انزعاج ـ لتنفيذ هذا الأمر ، وتنفيذه كافّة مراحل العملية من بدايتها إلى نهايتها ، بصورة لا يغفل فيها عن أي شيء من الاستعداد لعملية الذبح نفسيا وعمليّا.

والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر الله ، إذ استقبل أمر الذبح بصدر مفتوح واطمئنان يحفّه اللطف الإلهي ، واستسلام في مقابل هذا الأمر.

لذا فقد ورد في بعض الروايات أنّ جبرئيل هتف «الله أكبر» «الله أكبر» أثناء

٣٦٦

عمليّة الذبح لتعجّبه.

فيما هتف إسماعيل «لا إله إلّا الله ، والله أكبر».

ثمّ قال إبراهيم «الله أكبر ولله الحمد» (١).

وهذه العبارات تشبه التكبيرات التي نردّدها في يوم عيد الأضحى.

ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصا ، وتتحقّق أمنية إبراهيم في تقديم القربان لله ، بعث الله كبشا كبيرا إلى إبراهيم ليذبحه بدلا عن ابنه إسماعيل ، ولتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ وتأتي إلى أرض (منى) (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

ما المراد بالذبح العظيم؟

هل أنّه يقصد منه الجانب الجسمي والظاهري؟

أو لأنّه كان فداء عن إسماعيل؟

أو لأنّه كان لله وفي سبيل الله؟

أو لأنّ هذه الاضحية بعثها الله تعالى إلى إبراهيم؟

المفسّرون قالوا الكثير بشأنها ، ولكن لا يوجد أي مانع يحول دون جمع كلّ ما هو مقصود أعلاه.

وإحدى دلائل عظمة هذا الذبح ، هو اتّساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن ، وحاليا يذبح في كلّ عام أكثر من مليون اضحية تيمنّا بذلك الذبح العظيم وإحياء لذلك العمل العظيم.

«فديناه» مشتقّة من (الفداء) وتعني جعل الشيء مكان الشيء لدفع الضرر عنه ، لذا يطلق على المال الذي يدفع لإطلاق سراح الأسير (الفدية) كما تطلق (الفدية) على الكفّارة التي يخرجها بعض المرضى بدلا عن صيامهم.

وبشأن كيفية وصول الكبش العظيم إلى إبراهيم عليه‌السلام ، أعرب الكثير من

__________________

(١) تفسير القرطبي ، وتفسير روح البيان.

٣٦٧

المفسّرين عن اعتقادهم في أنّ جبرئيل أنزله ، فيما قال البعض الآخر : إنّه هبط عليه من أطراف جبال (منى) ، ومهما كان فإنّ وصوله إلى إبراهيم كان بأمر من الله.

النجاح الذي حقّقه إبراهيم عليه‌السلام في الامتحان الصعب ، لم يمدحه الله فقط ذلك اليوم ، وإنّما جعله خالدا على مدى الأجيال (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ).

إذ غدا إبراهيم عليه‌السلام «أسوة حسنة» لكلّ الأجيال ، و «قدوة» لكلّ الطاهرين ، وأضحت أعماله سنّة في الحجّ ، وستبقى خالدة حتّى تقوم القيامة ، إنّه أبو الأنبياء الكبار ، وإنّه أبو هذه الامّة الإسلامية ورسولها الأكرم محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولمّا امتاز به إبراهيم عليه‌السلام من صفات حميدة ، خصّة الباري عزوجل بالسلام (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ).

نعم ، إنّا كذلك نجزي ونثيب المحسنين (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) جزاء يعادل عظمة الدنيا ، جزاء خالد على مدى الزمان ، جزاء يجعل من إبراهيم أهلا لسلام الله عزوجل عليه.

وعبارة (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تثير الانتباه ، إذ أنّها أتت قبل عدّة آيات ، وتكرّرت ثانية هنا ، فهناك حتما علّة لهذا التكرار.

المرحلة الاولى ربّما كانت بسبب أنّ الله سبحانه وتعالى صادق على نجاح إبراهيم في الامتحان الصعب ، وأمضى نتيجة قبوله ، وهذه بحدّ ذاتها أهمّ مكافأة يمنحها الله سبحانه وتعالى لإبراهيم ، ثمّ تأتي قضيّة (الفدية بذبح عظيم) و (بقاء اسمه وسنّته خالدين على مدى التاريخ) و (إرسال الباري عزوجل سلامه وتحيّاته إلى إبراهيم) التي اعتبرت ثلاث نعم كبيرة منحها الله سبحانه وتعالى لعبده إبراهيم بعنوان أنّها مكافأة وجزاء للمحسنين.

* * *

٣٦٨

بحوث

١ ـ من هو ذبيح الله؟

اختلف المفسّرون بشأن الولد الذي امر إبراهيم بذبحه ، هل كان (إسماعيل أم إسحاق) الذي لقّب بذبيح الله؟ إذ أنّ هناك نقاشا بين المفسّرين ، فمجموعة تقول : إنّ (إسحاق) هو (ذبيح الله) فيما تعتبر مجموعة اخرى (إسماعيل) هو الذبيح ، التّفسير الأوّل أكّد عليه الكثير من مفسّري أهل السنّة ، فيما أكّد مفسّر والشيعة على أنّ إسماعيل هو الذبيح.

وظاهر آيات القرآن الكريم المختلفة تؤكّد على أنّ إسماعيل هو ذبيح الله ، وذلك للأسباب التالية :

أوّلا : في إحدى آيات القرآن الكريم نقرأ (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ). (١) هذه العبارة توضح بصورة جيّدة ، أنّ الله سبحانه وتعالى بشّر إبراهيم بولادة إسحاق بعد قضيّة الذبح ، نتيجة تضحياته ، ولهذا فإنّ قضيّة الذبح لا تخصّه أبدا ، إضافة إلى أنّ الباري عزوجل عند ما يبشّر أحدا بالنبوّة ، فذلك يعني بقاء ذلك الشخص حيّا ، وهذا لا يتناسب مع قضيّة الذبح التي خصّت غلاما.

ثانيا : نقرأ في الآية ٧١ من سورة هود ، قوله تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) هذه الآية توضّح أنّ إبراهيم كان مطمئنا على بقاء ولده إسحاق ، وأنّ الله سيرزق إسحاق ولدا اسمه يعقوب ، وهذا يعني أنّ الذبح لا يشمله أبدا. فالذين اعتبروا إسحاق هو الذبيح ، يبدو أنّهم لم يأخذوا بنظر الإعتبار حقيقة هذه الآيات.

ونقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث موثوق ، جاء فيه : «أنا ابن الذبيحين» والمقصود من الذبيحين ، الأوّل هو والده (عبد الله) الذي كان أبوه عبد المطّلب قد

__________________

(١) الصافات ، ١١٢.

٣٦٩

نذر بذبحه تقرّبا إلى الله تعالى والذي (فداه) بأمر من الله بـ (١٠٠) بعير ، وقصّته معروفة ، والثاني هو (إسماعيل) لأنّ من الأمور الثابتة كون نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو من أبناء إسماعيل وليس من أبناء إسحاق (١).

وورد في الدعاء الذي رواه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (يا من فدا إسماعيل من الذبح) (٢).

وجاء في روايات اخرى عن الإمامين المعصومين الباقر والصادق عليهما‌السلام ، أنّهما أجابا على أسئلة تستفسر عن الذبيح ، فأجابا أنّه إسماعيل.

وجاء في حديث نقل عن الإمام الرضا عليه‌السلام «لو علم الله عزوجل شيئا أكرم من الضأن لفدى به إسماعيل» (٣).

خلاصة الأمر ، هو أنّ الروايات والأحاديث التي وردت بهذا الشأن كثيرة ، وإذا أردنا استعراضها جميعا ، فإنّ البحث يتّسع كثيرا.

وفي مقابل هذه الروايات الكثيرة المتناسبة مع ظاهر الآيات القرآنية ، هناك روايات شاذّة تدلّ على أنّ إسحاق هو المقصود (بذبيح الله) ولا تتطابق مع روايات المجموعة الاولى ولا مع ظاهر الآيات القرآنية.

وبغضّ النظر عمّا قيل ، فهناك قضيّة مسلّم بها ، وهي أنّ الطفل الذي جاء به إبراهيم مع امّه إلى مكّة المكرّمة بأمر من الله ثمّ تركهما هناك ، وساعده من بعد في بناء الكعبة المشرفة ، وأدّى مراسم الطواف والسعي هو إسماعيل ، وهذا يدلّ على أنّ الذبيح هو إسماعيل ، لأنّ عملية الذبح تكمل الأعمال المذكورة أعلاه.

ممّا يذكر أنّ كتاب (التوراة) الحالي والمعروف بالعهد القديم يؤكّد على أنّ الذبيح كان إسحاق.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان في ذيل الآيات المتعلّقة بالبحث.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٢١.

(٣) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٢٢.

٣٧٠

هنا يستشف أنّ بعض الروايات الإسلامية غير المعروفة والتي تؤكّد على أنّ إسحاق هو (ذبيح الله) متأثّرة ببعض الروايات الإسرائيلية ، ويحتمل أنّ اليهود وضعوها ، وذلك لأنّهم من ذريّة (إسحاق) ، وقد حاولوا نسب هذا الفخر لهم ، حتّى ولو كان عن طريق تزييف الوقائع والحقائق ، وسلبه من المسلمين الذين كان نبيّهم نبي الرحمة أحد أحفاد إسماعيل.

على أيّة حال ، فإنّ ظواهر آيات القرآن الكريم هي أقوى دليل لنا ، إذ توضّح بصورة كافية ، أنّ الذبيح هو إسماعيل ، رغم أنّه لا فرق بالنسبة لنا إن كان الذبيح إسماعيل أو إسحاق ، فالإثنان هما أبناء إبراهيم عليه‌السلام ، وكلاهما من أنبياء الله العظام ، ولكن الهدف هو توضيح هذه الحادثة التاريخية.

٢ ـ هل أنّ إبراهيم كان مكلّفا بذبح ابنه؟

من الأسئلة المهمّة الاخرى التي تطرح نفسها في هذا البحث ، والتي تثير التساؤل في أوساط المفسّرين ، هي : هل أنّ إبراهيم كان حقّا مكلّفا بذبح ابنه أم أنّه كان مكلّفا بتنفيذ مقدّمات الذبح؟

فإن كان مكلّفا بالذبح ، فكيف ينسخ هذا الحكم الإلهي قبل تنفيذ عمليّة الذبح ، في حين أنّ النسخ قبل العمل غير جائز ، وهذا المعنى ثابت في علم (اصول الفقه).

وإن كان مكلّفا بتنفيذ مقدّمات عملية الذبح ، فهذا لا يعتبر فخرا له. وما قيل من أنّ أهميّة المسألة نشأت من أنّ إبراهيم بعد تنفيذه لهذا الأمر وتهيئة مقدّماته كان ينتظر نزول أمر بشأن الذبح وكان هذا هو الامتحان الكبير له ـ فهو كلام غير جدير بالردّ.

باعتقادنا ، أنّ التقوّلات هذه ناشئة عن عدم التفريق بين الأوامر الامتحانية وغير الامتحانية ، فالأمر الصادر إلى إبراهيم هو أمر امتحاني ، وكما هو معروف فإنّ الأوامر الامتحانية لا تتعلّق فيها الإرادة الحقيقيّة بطبيعة العمل ، وإنّما الهدف

٣٧١

منها توضيح مقدار الاستعداد الموجود عند الإنسان الممتحن بالنسبة إلى طاعته للأوامر؟ كما أنّ الشخص الممتحن ليس له اطلاع بخفايا الأمور. وبهذا الشكل فإنّ عملية النسخ لم تحصل هنا حتّى تناقش قضيّة صحّتها ووقوعها قبل العمل.

مخاطبة الباري عزوجل عبده إبراهيم بعد الحادثة (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) إنّما جاءت بسبب إثبات مقدرته على ذبح ابنه العزيز ، واستعداده روحيّا لتنفيذ هذا الأمر ، ونجاحه في هذا الامتحان.

٣ ـ كيف يمكن أن تكون رؤيا إبراهيم حجّة؟

بشأن (الرؤيا) هناك كلام كثير ، ورد جزء يسير منه في تفسير سورة يوسف بعد الآية الرابعة.

لا بدّ هنا من الالتفات إلى أمر وهو : كيف اعتبر إبراهيم منامه حجّة ، واتّخذه معيارا لعمله؟

في الجواب على هذا السؤال ، يقال : إنّ رؤيا الأنبياء لا يمكن أن تكون رؤيا شيطانية ، وإنّها ليست ناشئة عن فعّالية قوّة وهمية ، وإنّما هي جانب من نظام النبوّة والوحي.

وبتعبير آخر : إنّ ارتباط الأنبياء مع الوحي يكون أحيانا بشكل إلقاء في القلب.

وأحيانا عن طريق مشاهدة الوحي.

وأحيانا عن طريق سماع أمواج صوتية ، بعثت بأمر من الله.

وأحيانا عن طريق المنام.

وبهذا الشكل لا يمكن وقوع أي خطأ أو اشتباه في رؤيتهم ، والذي يشاهدونه في منامهم هو كالذي يشاهدونه في يقظتهم.

وقيل : إنّ إبراهيم أمر عن طريق الوحي أثناء يقظته بأن ينفّذ ما يراه بشأن الذبح في المنام.

٣٧٢

وقيل أيضا : إنّ القرائن المختلفة التي كانت في هذا المنام ، ومنها تكراره ثلاث ليال متتالية ، أوجد عنده علما ويقينا بأنّ ما شاهده في المنام هو تكليف إلهي وليس أمرا آخر.

على أيّة حال ، يمكن أن تكون كلّ هذه التفاسير صحيحة ، ولا يوجد تناقض بينها ، كما أنّها لا تتعارض وظواهر آيات القرآن الكريم.

٤ ـ عدم تأثّر روح إبراهيم الكبيرة بوساوس الشيطان :

لأنّ إمتحان إبراهيم كان من أكبر الامتحانات على طول التاريخ ، إذ كان الهدف منه إخلاء قلبه في أيّ حبّ لغير الله ، وجعله متنوّرا ـ فقط ـ بعشق وحبّ الله ، فقد عمد الشيطان ـ كما جاء في بعض الروايات ـ إلى تكريس كلّ طاقاته لعمل شيء ما يحول دون خروج إبراهيم منتصرا من الامتحان.

فأحيانا كان يذهب إلى زوجته (هاجر) ويقول لها : أتعلمين بماذا يفكّر إبراهيم؟ إنّه يفكّر بذبح ولده إسماعيل اليوم!

فكانت تجيبه هاجر : اذهب ولا تتحدّث بأمر محال ، فإنّه أرحم من أن يقتل ولده ، فهل يمكن العثور في هذه الدنيا على إنسان يذبح ولده بيده؟

الشيطان هنا يواصل وساوسه ، ويقول : إنّه يزعم بأنّ الله أمره بذلك.

فتجيبه هاجر : إذا كان الله قد أمره بذلك فعليه أن يطيع أوامر الله ، وليس هناك طريق آخر سوى الرضى والتسليم لأمر الله.

وأحيانا كان يذهب صوب (الولد) ليوسوس في قلبه ، لكنّه فشل أيضا إذ لم يحصل على أيّة نتيجة لأنّ إسماعيل كان كلّه قطعة من الرضى والتسليم لذلك الأمر.

وأخيرا اتّجه نحو الأب ، وقال له : يا إبراهيم إنّ المنام الذي رأيته هو منام شيطاني! لا تطع الشيطان!

٣٧٣

فعرفه إبراهيم الذي كان يسطع بنور الإيمان والنبوّة ، وصاح به : ابتعد من هنا يا عدوّ الله (١).

وورد في حديث آخر أنّ إبراهيم جاء في البداية إلى (المشعر الحرام) ليذبح ابنه هناك ، ولكن الشيطان تبعه ، فترك المحلّ وذهب إلى مكان (الجمرة الاولى) فتبعه الشيطان أيضا ، فرماه إبراهيم بسبع قطع من الحجارة ، وعند وصوله إلى (الجمرة الثانية) شاهد الشيطان أمامه أيضا فرماه بسبع قطع اخرى من الحجارة ، وحالما وصل إلى جمرة العقبة وشاهد الشيطان ثالثة رماه بسبع اخرى ، وبهذا جعل الشيطان ييأس منه إلى الأبد (٢).

من هنا يتّضح أنّ وساوس الشياطين أثناء أداء الامتحان الكبير يتعدّد أشكالها ، إذ أنّها تعترض طريق الإنسان من عدّة جهات وتتلوّن بعدّة ألوان ، فلذا يجب على المؤمنين أن يكونوا كإبراهيم قادرين على تشخيص الشيطان ومعرفته بسرعة مهما كان متسترا بشكل من الأشكال ، وإغلاق كلّ طريق يحتمل أن يرد منه ورميه بالحجارة ، فما أعظم هذا الدرس!!

٥ ـ فلسفة التكبيرات في (منى):

وكما هو معروف فإنّ من الأعمال الواردة في الروايات الإسلامية بشأن عيد الأضحى ، هي التكبيرات الخاصّة التي يردّدها المسلمون بعد الصلاة ، سواء كانوا من المشاركين في مراسم الحجّ بمنى ، أو ممّن لم يشارك فيها من المسلمين في سائر بقاع الأرض. (غاية الأمر انّ الحجّاج في منى يكبّرون بعده صلاة أوّلها بعد صلاة الظهر من يوم العيد ، وفي المناطق الاخرى يكبّر المسلمون هذه التكبيرات بعد ١٠ صلوات).

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، المجلّد ٩ ، الصفحة ٣٢٦ ، في ذيل الآيات المتعلّقة بالبحث.

(٢) تفسير (أبو الفتوح الرازي) المجلّد (٩) الصفحة (٣٢٦) في ذيل الآيات الخاصّة بالبحث.

٣٧٤

وكيفيّة هذه التكبيرات هي : (الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلّا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا). فعند ما نقارن بين هذا الأمر والحديث الذي ذكرناه سابقا ، تتّضح حقيقة هذه التكبيرات ، وهي أنّها مجموع تكبيرات جبرئيل وإسماعيل ووالده إبراهيم ، وشيء أضيف إليه.

وبعبارة اخرى فإنّ هذه العبارات تحيي في الأذهان خاطرة انتصار إبراهيم وابنه إسماعيل في الامتحان الكبير ، وتعطي العبر لكلّ المسلمين ، سواء كانوا في منى أو في غيرها.

وقد اتّضح من الروايات الإسلامية أنّ سبب تسمية أرض (منى) بهذا الاسم ، إنّما يعود إلى أنّ إبراهيم عند ما وصل إلى هذه الأرض ، بعد ما اجتاز ـ بنجاح ـ الامتحان الصعب ، نزل عليه جبرئيل وقال له : اطلب ما شئت من ربّ العالمين ، فتمنّى من الله أن يأمره بذبح كبش فدية عن ابنه إسماعيل ، وقد تحقّقت أمنيته هذه (١).

٦ ـ الحجّ عبادة مهمّة تبني الإنسان :

السفر للحجّ ـ في الحقيقة ـ هو سفر عظيم ، إذ أنّه سفر إلهي ، وساحة واسعة لبناء النفس والجهاد الأكبر.

مراسم الحجّ توضّح ـ في الواقع ـ عبادة ممزوجة ـ بصورة عميقة ـ بخاطرات جهاد إبراهيم وابنه إسماعيل وزوجته هاجر ، فلو أغفلنا عن هذه النقطة أثناء مطالعتنا الأمور الخاصّة بأسرار الحجّ ، فإنّ الكثير من مراسمه ستبدو لنا كألغاز ، نعم إنّ مفتاح حلّ هذه الألغاز هو الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الامتزاج العميق.

فعند ما نأتي إلى مكان ذبح الأضاحي في أرضي (منى) نتعجّب لأيّ شيء تذبح هذه الأضاحي؟ فهل أنّ ذبح الحيوان يمكن أنّ يكون حلقة من مجموعة حلقات

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٢٠ ، الحديث ٦٨.

٣٧٥

العبادة؟

إلّا أنّنا عند ما نتذكّر إيثار إبراهيم عليه‌السلام الذي أراد ذبح أعزّ أعزّائه وأطيب ثمار عمره (إسماعيل) في تلك الأرض في سبيل الله ، العملية التي غدت سنّة فيما بعد وبعنوان ذبح الأضاحي في منى ، ندرك فلسفة هذا العمل.

فالذبح إشارة إلى اجتياز كلّ شيء في سبيل التوجّه إلى الله ، وهو مظهر لإخلاء القلب من كلّ شيء عدا ذكر الله ، ويمكن استمداد التربية الكافية من هذه المناسك ، إذا تجسّد لنا مشهد ذبح إسماعيل ، ومعنويات الأب وابنه إسماعيل أثناء عملية الذبح ، وهذا المشهد يجعل معنويات الإنسان تسطع بأنوارها (١).

أمّا أثناء توجّهنا إلى رمي الجمرات (وهي ثلاثة أعمدة مبنية من الحجر يرميها الحجّاج أثناء تأديتهم لمراسم الحجّ ، وفي كلّ مرّة يرمون سبعة أحجار عليها وفق مراسم خاصّة) فيتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي : ماذا يعني رمي هذا المقدار من قطع الحجارة على عمود من الحجر لا روح فيه؟ وأي مشكلة سيحلّ هذا العمل؟

إلّا أنّنا عند ما نتذكّر أنّها تمثّل جهاد الموحّد إبراهيم ضدّ وساوس الشيطان الذي ظهر له ثلاث مرّات في الطريق ، وهو مصمّم على أن يثني إبراهيم عن عزمه في ساحة الجهاد الأكبر ، وكلّما ظهر له رماه بالحجر ، فإنّ محتوى هذه الشعيرة يتوضّح أكثر.

فمعنى هذه الشعيرة هو أنّكم طوال فترة عمركم تعيشون في ساحة الجهاد الأكبر ضدّ وساوس الشيطان ، وإن لم ترموا هذا الشيطان وتبعدوه عنكم فلن تنتصروا أبدا.

وإن كنتم تنتظرون أن يشملكم الله بلطفه ورحمته ، كما شمل إبراهيم بذلك

__________________

(١) ممّا يوسف له أنّ مراسم ذبح الأضاحي في عصرنا الحالي لا تتمّ بالشكل المطلوب ، ولذا على علماء الإسلام أن يبذلوا الجهد لإنقاذ هذه المراسم العظيمة ، وبهذا الشأن وبخصوص فلسفة الحجّ أوردنا بحوثا مفصّلة في ذيل الآية (٣٨) من سورة الحجّ.

٣٧٦

وبعث إليه بالسلام وأبقى رسالته وذكراه خالدتين في العالمين ، عليكم أن تسيروا على خطاه.

وفور ما نصل إلى الصفا والمروة ونشاهد أفواجا أفواجا من الناس تنساب من هذا التل الصغير إلى ذلك التل الأصغر ، وتعود مرّة اخرى من هنا إلى هناك ، وتكرّر هذا العمل من دون أن تحصل على شيء ، وأحيانا تهرول وأحيانا اخرى تمشي ، ومن الطبيعي أن يثير هذا العمل العجب ، فما ذا يفعل هؤلاء هنا ، وما هي المفاهيم التي يحملها هذا العمل؟

إلّا أنّنا لو رجعنا إلى الوراء ، واستذكرنا الجهود التي بذلتها تلك المرأة المؤمنة (هاجر) لإنقاذ حياة ابنها الرضيع (إسماعيل) في تلك الأرض القاحلة والحارقة ، وكيف أنّ الله سبحانه وتعالى أعطاها ما تريد بعد جهدها وسعيها ، عند ما فجّر عين زمزم من تحت رجلي ولدها الرضيع ، فجأة ترجع بنا عجلة الزمن إلى الوراء ، ويكشف لنا عن الحجب ، ونشاهد أنفسنا في تلك اللحظة واقفين قرب هاجر عليها‌السلام ، فنشترك معها في السعي والجهد ، لأنّ الذي لا يسعى ولا يبذل الجهد في سبيل الله ، لا يصل إلى نتيجة.

وبسهولة نستطيع تلخيص ما قلناه ، وهو أنّ الحجّ يجب أن يقترن بتعلّم هذه الرموز ، وتتجسّد ذكريات إبراهيم وابنه وزوجته خطوة خطوة ، كي يدرك الحاجّ فلسفة الحجّ وتشعّ أنوار آثاره الأخلاقية العميقة في نفوس الحجيج ، فبدون تلك المعاني والدروس يكون الحجّ مجرّد قشر ليس أكثر.

* * *

٣٧٧

الآيات

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

التّفسير

إبراهيم ذلك العبد المؤمن :

الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصّة إبراهيم وابنه وتكملها ، وفي الحقيقة إنّها دليل يوضّح ما مضى ، وفي نفس الوقت هي نتيجة له.

في البداية تصف الآية القرآنية الكريمة إبراهيم (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

وفي الواقع إنّ هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل ، كما توضّح حقيقة مفادها أنّ إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كلّ وجوده وكيانه وحتّى ابنه العزيز البارّ ، في صحن الإخلاص فداء لربّه سبحانه وتعالى.

نعم كلّ هذه هي من ثمار الإيمان ، وتجلّياته ، وما أعجب هذه الثمار

٣٧٨

والتجلّيات!!

هذا التعبير يعطي أبعادا أوسع وأعمّ لما جرى لإبراهيم وابنه ، ويخرج هذه المجريات من بعدها الشخصي والخاص ، ويوضّح أنّه أينما كان الإيمان كان هناك إيثار وحبّ وفداء وعفو ، وأنّ إبراهيم كان يختار كلّ ما يختاره الله ويريد كلّ ما أراده الله ، وكلّ مؤمن يستطيع أن يكون كذلك.

ثمّ تتناول هذه الآيات نعمة اخرى من النعم التي وهبها الله تعالى لإبراهيم (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).

فبالانتباه إلى الآية (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) التي ذكرناها في مقدّمة هذه الأحداث ، يتّضح بصورة جيّدة أنّ هاتين البشارتين تتعلّقان بولدين ، وبما أنّ البشرى الأخيرة وفق ما جاء في الآية تخصّ (إسحاق) ، فإنّ (الغلام الحليم) بالتأكيد هو (إسماعيل) فالذين يصرّون على أنّ الذبيح هو (إسحاق) عليهم أن يعرفوا أنّهم اعتبروا الآيتين تشيران إلى موضوع واحد مع هذا التفاوت ، وهو أنّ الآية الاولى بشّرت بالولد والآية الثانية بشّرت بالنبوّة ، ولكن هذا المعنى مستبعد جدّا ، والآيات المذكورة أعلاه تبيّن بوضوح أنّ البشارتين تتعلّقان بولدين.

على أيّة حال فإنّ بشرى النبوّة تكشف عن أنّ إسحاق يجب أن يبقى حيّا وأن يؤدّي تكاليف ومهمّة النبوّة ، وهذا لا يتلاءم مع قضيّة الذبح.

مرّة اخرى سنتطرّق إلى عظمة مرتبة الصالحين ، إذ وصفت الآية الكريمة إسحاق بأنّه (يجب أن يصبح نبيّا وأن يكون من الصالحين) فكم هي رفيعة مرتبة الصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟

الآية الأخيرة تتحدّث عن البركة التي أنزلها الباري جلّ وعلا على إبراهيم وابنه إسحاق (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ).

ولكن البركة في أي شيء؟ لم يرد بهذا الشأن أي توضيح ، وكما هو معلوم فإنّ

٣٧٩

الفعل عند ما يأتي بصورة مطلقة ومن دون أي قيد أو شرط ، فإنّه يعطي معنى عاما ، فبهذا تكون البركة شاملة لكلّ شيء ، في الحياة ، في الأجيال القادمة ، في التأريخ ، والرسالة ، وفي كلّ شيء.

فكلمة (بركة) مشتقّة من (برك) على وزن (درك) وتعني صدر البعير ، وعند ما يضع صدره على الأرض يقال (برك البعير).

وتدريجيّا أعطت هذه الكلمة معنى الثبات وبقاء شيء ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي فيه ماء ثابت ومستقر (بركة) في حين يقال لمّا كان خيره باقيا وثابتا مبارك.

ومن هنا يتّضح أنّ الآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهيّة على إبراهيم وإسحاق وعلى اسرتهم ، وإحدى البركات التي أنعم الله بها على إبراهيم وإسحاق أن جعل كلّ أنبياء بني إسرائيل من ذريّة إسحاق ، في حين أنّ نبي الإسلام العظيم هو من ذريّة إسماعيل.

وهذه البركات لا تشمل كلّ أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته ، وإنّما تشمل ـ فقط ـ المؤمنين والمحسنين منهم ، إذ تقول الآية في آخرها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ).

كلمة (محسن) جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع لله ، وهل يتصوّر أنّ هناك إحسان وعمل حسن أرفع من هذا؟

و (ظالم) جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب.

وعبارة (لنفسه) إشارة إلى الكفر وارتكاب الذنوب يعدّ أوّلا ظلم للنفس ، الظلم الواضح والمكشوف.

فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء ، وتقول لهم : إنّ صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للافتخار ، إن لم ترافقها

٣٨٠