الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-56-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٨١

ملاحظة

هل أنّ البشر الموجودين على الأرض هم من ذريّة نوح؟

فسّرت مجموعة من كبار المفسّرين الآية (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) بأنّ كلّ أجيال البشر التي أتت بعد نوح هي من ذريته.

وقد نقل الكثير من المؤرّخين بقاء ثلاثة أولاد من ذريّة نوح هم (سام) و (حام) و (يافث) بعد الطوفان ، وكلّ القوميات الموجودة اليوم على الكرة الأرضية تنتهي إليهم.

وقد أطلق على العرق العربي والفارسي والرومي العرق السامي ، فيما عرف العرق التركي ومجموعة اخرى بأنّهم من أولاد «يافث» ، أمّا «حام» فإنّ ذريّته تنتشر في السودان والسند والهند والنوبة والحبشة ، كما أنّ الأقباط والبربر هم من ذريّته أيضا.

البحث في هذه المسألة ليس المراد منه معرفة إلى أي من أولاد نوح ينتسب كلّ عرق ، لأنّ المسألة بحدّ ذاتها هي مورد اختلاف بين الكثير من المؤرخين والمفسّرين ، ولكن المتوخّى من البحث هو : هل أنّ كلّ القوميات البشرية تعود في أصلها إلى أولاد نوح الثلاثة.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو : ماذا كان مصير المؤمنين الذين ركبوا السفينة مع نوح خلال الطوفان؟ وهل أنّهم جميعا ماتوا من دون أن يتركوا أي خلف لهم وإن كان لهم ذريّة ، فهل كانوا بنات تزوجنّ من أولاد نوح؟

هذه القضيّة من وجهة نظر التأريخ ما تزال غامضة.

على أيّة حال فإنّ هناك أحاديث وآيات قرآنية تشير إلى وجود أقوام وامم على الكرة الأرضية لا ينتهي أصلها إلى أولاد نوح.

منها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الباقر عليه‌السلام في توضيح الآية المذكورة أعلاه : «الحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عقبه ، وليس كلّ من في

٣٤١

الأرض من بني آدم من ولد نوح عليه‌السلام قال الله عزوجل في كتابه : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) ، وقال الله عزوجل أيضا : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) (١).

وعلى هذا فإنّ انتهاء كلّ العروق الموجودة على الأرض إلى أبناء نوح أمر غير ثابت.

* * *

__________________

(١) هذا الحديث ورد المجلّد الرابع من التفسير نور الثقلين في الصفحة ٤٠٥ ، كما ورد في نهاية آيات البحث في تفسير الصافي.

٣٤٢

الآيات

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤))

التّفسير

خطّة إبراهيم الذكيّة في تحطيم الأصنام :

آيات بحثنا هذا تتناول بشيء من التفصيل حياة النّبي الشجاع إبراهيم عليه‌السلام محطّم الأصنام بعد آيات استعرضت جوانب من تاريخ نوح عليه‌السلام المليء بالحوادث.

ففي البداية تحدّثت القصّة عن تحطيم إبراهيم للأصنام ، والموقف الشديد الذي اتّخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم ، فيما يتطرّق القسم الآخر من القصّة للمشهد

٣٤٣

الكبير الذي يتمثّل في تضحيات إبراهيم الخليل وقضيّة ذبح ابنه إسماعيل ، والآيات التي تخصّ هذا القسم ذكرت هنا ـ فقط ـ بهذا التفصيل ، ولم تذكر في موضع آخر بهذا الشكل.

الآية الاولى ، ربطت بين قصّة إبراهيم وقصّة نوح بهذه الصورة (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ).

أي إنّ إبراهيم كان سائرا على خطى نوح عليه‌السلام في التوحيد والعدل والتقوى والإخلاص ، حيث إنّ الأنبياء يبلغون لفكر واحد ، وهم أساتذة جامعة واحدة ، وكلّ واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.

كم هي جميلة هذه العبارة؟ إبراهيم من شيعة نوح ، رغم أنّ الفاصل الزمني بينهما كان كبيرا (قال بعض المفسّرين : إنّ الفاصل الزمني بينهما يقدر بـ ٢٦٠٠ سنة) ، إذ أنّ العلاقات الإيمانية ـ كما هو معروف ـ لا يؤثّر عليها الفاصل الزمني أدنى تأثير (١).

بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل ، قال تعالى : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

حيث فسّر المفسّرون (قلب سليم) بعدّة صور ، أشارت كلّ واحدة منها إلى أحد أبعاد هذه المسألة.

القلب الطاهر من الشرك.

أو القلب الخالص من المعاصي والظلم والنفاق.

__________________

(١) بعض المفسّرين أرجعوا ضمير (شيعته) إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين أنّ آيات القرآن الكريم تقول : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّبع ملّة إبراهيم ، علاوة على ذلك فإنّ هذا المرجع ليس له في الآيات السابقة واللاحقة ضمير يدلّ عليه ، ومن الممكن أنّهم تصوّروا أنّ تعبير الشيعة هو دليل على أفضلية نوح من إبراهيم ، في حين أنّ القرآن الكريم تحدّث عن شخصية سامية لإبراهيم ، لكن هذا التعبير خال من أيّة دلالة على هذه المسألة ، بل المقصود استمرار الخطّ الفكري والديني ، كما أنّ أفضلية رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة لكافّة الأنبياء لا تتنافى مع أتباعه لدين إبراهيم التوحيدي يقول القرآن ، في الآية ٩٠ من سورة الأنعام (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

٣٤٤

أو القلب الخالي من حبّ الدنيا ، لأنّ حبّ الدنيا هو مصدر كلّ الخطايا.

وأخيرا هو القلب الذي لا يوجد فيه شيء سوى الله.

في الحقيقة إنّ كلمة (سليم) مشتقّة من (السلامة) ، وعند ما تطرح السلامة.

بصورة مطلقة ، فإنّها تشمل أيضا السلامة من كلّ الأمراض الأخلاقية والعقائدية.

فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ، (١) أي إنّ قلوبهم مصابة بنوع من أنواع المرض ، وإنّ الله سبحانه وتعالى أضاف أمراضا اخرى إلى ذلك المرض على أثر لجاجتهم وارتكابهم المزيد من الذنوب.

وأجمل من فسّر عبارة (القلب السليم) هو الإمام الصادق عليه‌السلام عند ما قال : «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه!» (٢). حيث جمع بقوله كلّ الأوصاف المذكورة مسبقا.

وقد جاء في رواية اخرى للإمام الصادق عليه‌السلام «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم ، لأنّ سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النيّة لله في الأمور كلّها» (٣).

واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة ، حيث نقرأ في سورة الشعراء ، وفي الآيات ٨٨ و ٨٩ على لسان النّبي الكبير إبراهيم عليه‌السلام قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٤).

نعم ، من هنا تبدأ قصّة إبراهيم ذي القلب السليم ، والروح الطاهرة ، والإرادة الصلبة ، والعزم الراسخ ، مع قومه ، إذ كلّف بالجهاد ضدّ عباد الأصنام ، وبدأ بأبيه

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٠.

(٢) ورد في الكافي ونقله صاحب تفسير الصافي في ذيل الآية (٨٩) من سورة الشعراء.

(٣) المصدر السابق.

(٤) في مجال القلب السليم ورد بحث مشروح في ذيل الآيات (٨٨) و (٨٩) من سورة الشعراء (تحت عنوان القلب السليم وحده رأسمال النجاة) ص ٢٧٣.

٣٤٥

وعشيرته (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) ، ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟

أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات ، وأعطاه العقل أن يعظّم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟

ثمّ يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام ، ويقول : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) (١).

استخدام كلمة (إفك) في هذه الآية ، والتي تعني الكذب العظيم أو القبيح ، توضّح حزم وقاطعية إبراهيم عليه‌السلام بشأن الأصنام.

واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) إذ تأكلون ما يرزقكم به يوميّا ، ونعمه تحيط بكم من كلّ جانب ، ورغم هذا تقصدون موجودات لا قيمة لها من دون الله ، فهل تتوقّعون أنّه سيرحمكم وسوف لا يعذّبكم بأشدّ العذاب؟ كم هو خطأ كبير وضلال خطير؟!

عبارة (بِرَبِّ الْعالَمِينَ) تشير إلى أنّ كلّ العالم يدور في ظلّ ربوبيته تبارك وتعالى ، وقد تركتموه واتّجهتم صوب مجموعة من الظنون والأوهام الفارغة.

وجاء في كتب التأريخ والتّفسير ، أنّ عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد يحتفلون به سنويا ، يهيّئون فيه الطعام داخل معابدهم ، ثمّ يضعونه بين يدي آلهتهم لتباركه ، ثمّ يخرجون جميعا إلى خارج المدينة ، وفي آخر اليوم يعودون إلى معابدهم لتناول الطعام والشراب.

وبذلك خلت المدينة من سكّانها ، فاستغلّ إبراهيم عليه‌السلام هذه الفرصة الجيّدة لتحطيم الأصنام ، الفرصة التي كان إبراهيم عليه‌السلام ينتظرها منذ فترة طويلة ، ولم يكن راغبا في إضاعتها.

وحين دعاه قومه ليلا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي

__________________

(١) في تركيب هذه الجملة ذكر المفسرون احتمالين : الأول : أن (إفكا) مفعول بـ لـ (تريدون) و (آلهة) بدله ، والآخر : أن (آلهة) مفعول به و (إفكا) مفعول لأجله تقدم للأهمية.

٣٤٦

النُّجُومِ).

فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ).

وبهذا الشكل اعتذر عن مشاركتهم.

بعد اعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ).

وهنا يطرح سؤالان.

الأوّل : لماذا نظر إبراهيم عليه‌السلام في النجوم ، وما هو هدفه من هذه النظرة؟

والثاني : هل أنّه كان مريضا حقّا حينما قال : إنّني مريض؟ وما هو مرضه؟

جواب السؤال الأوّل ، مع أخذ اعتقادات أهل بابل وعاداتهم بنظر الإعتبار ، يتّضح أنّهم كانوا يستقرئون النجوم ، وحتّى أنّهم كانوا يقولون بأنّ أصنامهم كانت هياكل النجوم على الأرض ، ولهذا السبب فإنّهم يكنّون لها الاحترام لكونها تمثّل النجوم.

وبالطبع فإلى جانب استقرائهم للنجوم ، كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم ، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم ، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة ، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.

ولكي يوهمهم إبراهيم عليه‌السلام بأنّه يقول بمثل قولهم ، نظر إلى السماء وقال حينذاك : إنّي سقيم ، فتركوه ظنّا منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

أمّا بعض كبار المفسّرين ، فقد احتملوا أنّه كان يريد من حركة النجوم تعيين الوقت الدقيق لمرضه ، لأنّه كان مصابا بحمى تعتريه في أوقات معيّنة ، ولكن الاحتمال الأوّل يعدّ مناسبا أكثر ، مع الأخذ بنظر الإعتبار معتقدات أهل بابل السائدة آنذاك.

فيما احتمل البعض الآخر أنّ نظرة إلى السماء هو التفكّر في أسرار الخلق ، رغم أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ نظراته إلى السماء هي نظرات منجم يريد من خلال حركة

٣٤٧

النجوم توقّع الحوادث القادمة.

أمّا بخصوص السؤال الثاني فقد ذكروا أجوبة متعدّدة :

منها : أنّه كان مريضا حقّا ، وحتّى إن لم يكن مريضا فإنّه لن يشارك في مراسم عيدهم ، فمرضه كان عذرا جيّدا لعدم مشاركته في تلك المراسم وفي نفس الوقت فرصة ذهبية لتحطيم الأصنام ، ولا نمتلك دليلا يمكننا من القول بأنّه استخدم التورية ، كما أنّ استخدام التورية من قبل الأنبياء يعدّ عملا غير مناسب.

وقال البعض الآخر : إنّ إبراهيم لم يكن مصابا بمرض جسدي ، وإنّما روحه متعبة ، من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم ، فبهذا أوضح لهم الحقيقة ، رغم أنّهم تصوّروا شيئا آخر ، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.

واحتمل البعض أنّه استخدم التورية في كلامه معهم ، فمثلا يأتي شخص ويطرق باب البيت ، ويستفسر : هل فلان موجود في البيت ، فيأتيه الجواب : إنّه ليس هنا ، والمراد من هنا هو خلف باب البيت وليس البيت كلّه ، في حين أنّ السامع يفهم أنّه ليس موجودا في البيت ، (مثل هذه العبارات التي هي ليست بكذب وظاهرها يعطي مفهوما آخر يطلق عليها في الفقيه اسم «التورية») ومقصود إبراهيم عليه‌السلام انّني يمكن أنّ أمراض في المستقبل ، قال ذلك ليتخلّص منهم ويتركوه وحيدا.

ولكن التّفسير الأوّل والثاني أنسب حسب الظاهر.

وبهذه الطريقة بقي إبراهيم عليه‌السلام وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجّهين إلى خارجها ، فنظر إبراهيم حوله ونور الاشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه ، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها ، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها ، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

فذهب إلى معبد الأصنام ، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد ، ثمّ نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئا ، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم

٣٤٨

عبدتكم ، إنّه غذاء دسم ولذيذ ومتنوّع ، ما لكم لا تأكلون؟ (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) (١).

ثمّ أضاف ، لم لا تتكلّمون؟ لم تعجز ألسنتكم عن النطق؟ (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ).

وبهذا استهزء إبراهيم عليه‌السلام بكلّ معتقداتهم الخرافية ، ومن دون أي شكّ فإنّه كان يعرف أنّها لا تأكل ولا تتحدّث ، وأنّها جماد. وأراد من وراء ذلك عرض حادثة تحطيم الأصنام بصورة جميلة ولطيفة.

بعد ذلك شمر عن ساعديه ، فأمسك الفأس وانقضّ على تلك الأصنام بالضرب بكلّ ما لديه من قوّة (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ).

والمراد من (اليمين) إمّا يد الإنسان اليمنى ، والتي ينجز الإنسان بها معظم أعماله ، أو أنّها كناية عن القدرة والقوّة ، ويمكن أن تجمع بين المعنيين.

على أيّة حال ، فإنّ انقضاض إبراهيم عليه‌السلام على الأصنام ، حوّل معبد الأصنام المنظّم إلى خربة موحشة ، حيث لم يبق صنم على حالته الاولى ، فالأيدي والأرجل المحطّمة تفرّقت هنا وهناك داخل المعبد ، وكم كان منظر المعبد بالنسبة لعبدة الأصنام مؤثّرا ومؤسفا ومؤلما في نفس الوقت.

وبعد انتهائه من تحطيم الأصنام ، غادر إبراهيم ـ بكلّ هدوء واطمئنان ـ معبد الأصنام عائدا إلى بيته ليعدّ نفسه للحوادث المقبلة ، لأنّه كان يعلم أنّ عمله كان بمثابة انفجار هائل سيهزّ المدينة برمّتها ومملكة بابل بأجمعها ، وسيحدث موجة من الغضب العارم ، الموجة التي سيكون إبراهيم عليه‌السلام وحيدا في وسطها. إلّا أنّ له ربّا يحميه ، وهذا يكفيه.

وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم ، واتّجهوا فورا إلى معبدهم ، فشاهدوا مشهدا رهيبا وغامضا ، ومن شدّة رهبة المشهد تجمّد البعض في مكانه ، فيما فقد البعض الآخر عقله وهو ينظر بدهشة وتحيّر لجذاذ آلهته المنتشرة هنا

__________________

(١) (راغ) من مادّة (روغ) وتعني التوجّه والتمايل بشكل سرّي ومخفي أو بشكل مؤامرة وتخريب.

٣٤٩

وهناك ، تلك الأصنام التي خالوها ملجأ وملاذا لهم يوم لا ملجأ لهم ، أصبحت بلا ناصر ولا معين.

ثمّ تحوّل جوّ السكوت الذي خيّم عليهم لحظة مشاهدة المشهد ، تحوّل إلى صراخ واستفسار عمّن فعل ذلك بآلهتهم؟

ولم يمرّ وقت طويلا ، حتّى تذكّروا وجود شاب يعبد الله في مدينتهم اسمه إبراهيم ، كان يستهزئ بأصنامهم ، ويهدّد بأنّه أعدّ مخطّطا خطيرا لأصنامهم.

من هنا استدلّوا على أنّ إبراهيم هو الفاعل ، فأقبلوا عليه جميعا غاضبين (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ).

«يزفّون» مشتقّة من (زفّ) على وزن (كفّ) وتستعمل بخصوص هبوب الرياح والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران ، ثمّ تستخدم للكناية عن (زفاف العروس) إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها.

على أيّة حال ، المراد هنا هو أنّ عبدة الأصنام جاؤوا مسرعين إلى إبراهيم ، وسنقرأ تتمّة الأحداث في الآيات القادمة.

* * *

ملاحظات

١ ـ هل أنّ الأنبياء يستخدمون التورية؟

«التورية» ـ ويعبّر عنها أحيانا بلفظة (معاريض) ـ تعني أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده. فمثلا شخص يسأل آخر : متى رجعت من السفر؟ فيجيبه : قبل غروب الشمس ، في الوقت الذي كان قد عاد من سفره قبل الظهر ، فالسائل يفهم من ظاهر الكلام ، أنّه عاد قبل غروب الشمس بقليل ، في حين أنّه كان يقصد قبل الظهر ، لأنّ قبل الظهر يعدّ أيضا قبل غروب الشمس. أو شخص يسأل آخر : هل تناولت الطعام ، فيجيبه : نعم. فالسائل يفهم من الكلام أنّه تناول

٣٥٠

الطعام اليوم ، في حين أنّ قصد المجيب هو أنّه تناول الطعام يوم أمس.

مسألة هل أنّ التورية كذب أم لا؟ مطروحة في الكتب الفقهية ، فمجموعة من كبار العلماء ومنهم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه يعتقدون أنّ التورية ليست كذبا ، فلا العرف ولا الروايات تعدها كذبا ، وإنّما وردت بشأنها روايات تنفي عنها صفة الكذب ، إذ قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية قولي ليس هو هاهنا. فقال عليه‌السلام : لا بأس ليس بكذب» (١).

والحقّ هو لزوم القول بالتفصيل ، ولا بدّ من وضع ضابطة كليّة : فإذا كان للفظ في اللغة والعرف معنيان ، والمخاطب تصوّر معنى خاصّا من تلك الكلمة ، في حين أنّ المتحدّث يقصد معنى آخر ، مثل هذا يعدّ تورية وليس بكذب ، حيث يستخدم لفظ مشترك المعاني يفهم منه المخاطب شيئا ، في حين أنّ المتحدّث يقصد منه معنى آخر.

وعلى سبيل المثال ، جاء في شرح حال «سعيد بن جبير» ، أنّ الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي سأل سعيد بالقول : ما هو تقييمك لي ، فأجابه سعيد : إنّك (عادل) ، ففرح جلاوزة الحجّاج ، في حين قال الحجّاج : إنّه بكلامه هذا كفّرني ، لأنّ أحد معاني (العادل) هو العدول من الحقّ إلى الباطل.

أمّا إذا كان للفظ معنى لغوي وعرفي واحد من حيث المفهوم ، والمتحدّث يترك المعنى الحقيقي ويستخدمه كمعنى مجازي من دون أن يذكر قرائن المجاز ، فمثل هذه التورية ـ من دون أيّ شكّ ـ حرام ، ولربّما تمكّنا بهذا التفصيل الجمع بين آراء مختلف الفقهاء.

ولكن ، يجب الانتباه إلى أنّه في بعض الأحيان حتّى في الموارد التي لا تكون فيها التورية مصداقا للكذب ، تكون للتورية أحيانا مفاسد ومضارّ وإيقاع الناس في الخطأ ، ومن هذا الباب قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الحرمة ، ولكن إن

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٥٨٠ ، (الباب ١٤١ في أبواب العشرة الحديث ٨).

٣٥١

لم تكن قد اشتملت على مفسدة ، ولم تكن مصداقا للكذب ، فليس هناك دليل على حرمتها. ورواية الإمام الصادق عليه‌السلام هي من هذا القبيل.

بناء على ذلك فإنّ عدم وجود الكذب في التورية ليس كافيا ، بل يجب أيضا أن لا تشتمل التورية على مفاسد ومضارّ اخرى. وبالطبع ففي الحالات التي تقتضي الضرورة فيها أن يقول الإنسان كذبا ، فمن المسلّم به جواز استعمال التورية ما دام هناك مجال لاستخدامها ، لكي لا يكون كلامه مصداقا للكذب.

لكن هل أنّ التورية جائزة أيضا للأنبياء ، أم لا؟

يجب القول : إنّه طالما كانت سببا في تزلزل ثقة الناس المطلقة فهي غير جائزة ، لأنّ الثقة المطلقة هذه هي رأسمال الأنبياء في طريق التبليغ ، وأمّا في موارد مثل ما ورد عن تمارض إبراهيم عليه‌السلام ونظره في النجوم ، ووجود هدف مهمّ في ذلك العمل ، دون أن تتسبّب في تزلزل أعمدة الثقة لدى مريدي الحقّ ، فلا تنطوي على أي إشكال.

٢ ـ إبراهيم والقلب السليم :

كما هو معروف فإنّ كلمة (القلب) تعني في الاصطلاح القرآني الروح والعقل ، ولهذا فإنّ (القلب السليم) يعني الروح الطاهرة السالمة الخالية من كافّة أشكال الشرك والشكّ والفساد.

والقرآن الكريم وصف بعض القلوب بـ (القاسية) (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ...). (١)

وأحيانا وصفها بأنّها غير طاهرة ، كما ورد في (سورة المائدة ـ ٤١).

واخرى وصفها بالمريضة (سورة البقرة ـ ٦).

ورابعة وصفها بالقلوب المغلقة المختوم عليها (سورة التوبة ـ ٨٧).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١٣.

٣٥٢

وفي مقابل هذه القلوب طرح القلب السليم الخالي من العيوب المذكورة أعلاه ، حيث أنّه صاف ورقيق مليء بالعطف وسالم ولا ينحرف عن الحقّ ، القلب الذي وصف في الروايات بـ (حرم الله) إذ جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله) (١).

وهو القلب الذي يتمكّن من رؤية الحقائق الغيبية والنظر إلى الملكوت الأعلى ، إذ ورد في حديث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت» (٢).

الملاحظ أنّ (القلب السليم) هو خير رأسمال للنجاة في يوم القيامة ، وبه التحق إبراهيم عليه‌السلام بملكوت ربّه وتسلّم أمر الرسالة.

نختتم هذا البحث بحديث آخر ، إذ ورد في الروايات «إنّ لله في عباده آنية وهو القلب فأحبّها إليه (أصفاها) و (أصلبها) و (أرقّها) : أصلبها في دين الله ، وأصفاها من الذنوب ، وأرقّها على الاخوان» (٣).

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٢٥ ، باب حبّ الله الحديث ٢٧.

(٢) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٥٩ ، باب القلب وصلاحه الحديث ٣٩.

(٣) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٥٦ ، باب القلب وصلاحه الحديث ٢٦.

٣٥٣

الآيات

(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠))

التّفسير

فشل مخطّطات المشركين :

بعد أن حطّم إبراهيم الأصنام ، استدعي إبراهيم بهذه التهمة إلى المحكمة ، وهناك سألوه وطلبوا منه الجواب عن اليد التي نفذت هذا الفعل في معبدهم ، وقد شرح القرآن الكريم في سورة الأنبياء الحادثة بصورة مفصّلة ، بينما اكتفى القرآن في آيات بحثنا بالإشارة لمقطع حسّاس واحد من مواقف إبراهيم عليه‌السلام وهو آخر كلامه معهم في مجال بطلان عقيدتهم في عبادة الأصنام (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ).

فهل هناك شخص عاقل يعبد شيئا من صنع يديه؟ وما هو الدافع لأي ذي شعور للسجود لشيء صنعه هو بنفسه؟ فأي عقل ومنطق يسمح بفعل هذا؟

٣٥٤

فالمعبود يجب أن يكون خالق الإنسان ، وليس صنيعة يده ، من الآن فكّروا واعرفوا معبودكم الحقيقي (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ).

فهو خالق الأرض والسماء ، ومالك الوقت والزمان ، ويجب السجود لهذا الخالق وحمده وعبادته.

إنّ هذه الحجّة كانت من الوضوح والقوّة إلى حدّ جعلتهم يقفون أمامها مبهوتين وغير قادرين على ردّها ودحضها.

و (ما) في عبارة (ما تَعْمَلُونَ) هي (ما) الموصولة وليست (ما) المصدرية ، ومنها يراد القول ، إنّ الله خلقكم وكذلك ما تصنعون ، وعند ما يقال : إنّ الأصنام هي من صنع أو أعمل الإنسان ، فذلك يعني أنّ الإنسان أعطاها الشكل فقط ، وإلّا فالمادّة التي تصنع منها الأصنام هي من خلق الله أيضا.

صحيح ما يقال من أنّ هذه السجّادة وذلك البيت وتلك السيارة هي من صنع الإنسان ، ولكن المراد ليس أنّ الإنسان هو الذي خلق المواد الأوّلية لتلك الأشياء ، وإنّما الإنسان صاغ تلك المواد الأوّلية بشكل معيّن.

أمّا إذا اعتبرنا (ما) مصدرية ، فالعبارة تعني ما يلي : إنّ الله خلقكم وأعمالكم.

وبالطبع فإنّ المعنى هذا ليس خطأ ، وعلى خلاف ما يظنّه البعض ليس فيه ما يدلّ على الجبر ، لأنّ الأعمال التي نقوم بها رغم أنّها تتمّ بإرادتنا ، إلّا أنّ إرادة وقدرة التصميم وغيرها من القوى التي تنفذ من خلالها أفعالنا كلّها من الله سبحانه وتعالى ، وبهذا الشكل فإنّ الآية لا تقصد هذا الأمر ، وإنّما تقصد الأصنام ، وتقول : إنّ الله خلقكم أنتم والأصنام التي صنعتموها وصقلتموها. وجمال هذا الحديث يتجسّد هنا ، لأنّ البحث يخصّ الأصنام ولا يخصّ أعمال البشر.

في الحقيقة إنّ موضوع هذه الآية يشبه الموضوع الذي ورد في قصّة موسى والسحرة والتي تقول : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (١) ، فالمقصود هنا الأفعى التي هي

__________________

(١) الأعراف ، ١١٧.

٣٥٥

من صنع السحرة.

ومن المعروف أنّ الطغاة والجبابرة لا يفهمون لغة المنطق والدليل ، ولهذا لم تؤثّر عليهم الأدلّة والبراهين الظاهرية والقويّة التي بيّنها إبراهيم عليه‌السلام على قلوب الجبابرة الحاكمين في بابل حينذاك ، رغم أنّ مجموعات من أبناء الشعب المستضعف هناك استيقظت من غفلتها وآمنت بدعوة إبراهيم عليه‌السلام.

ولإيقاف انتشار منطق التوحيد بين أبناء مدينة بابل ، عمد الطغاة الذين أحسّوا بخطر انتشار على مصالحهم الخاصّة إلى استخدام منطق القوّة والنار ضدّ إبراهيم عليه‌السلام ، المنطق الذي لا يفهمون سواه. حيث هتفوا بالاعتماد على قدراتهم الدنيوية : أن ابنوا له بنيانا عاليا ، واشعلوا في وسطه النيران ثمّ ارموه فيه (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ).

ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأوامر كانت قد صدرت ببناء أربعة جدران كبيرة ، ومن ثمّ إشعال النيران في داخلها ، وبناء الجدران الأربعة الكبيرة ، إنّما تمّ ـ كما يحتمل ـ للحئول دون امتداد النيران إلى خارجها ، ومنع وقوع أخطار محتملة قد تنجم عنها ، ولإيجاد جهنّم واقعية كتلك التي كان إبراهيم يتهدّد ويتوعّد عبدة الأوثان بها.

صحيح أنّ كميّة قليلة من الحطب كانت تكفي لحرق إنسان كإبراهيم ، لكنّهم فعلوا ذلك ليطفؤا غيظ قلوبهم من جرّاء تحطيم أصنامهم ، وبمعنى آخر الانتقام من إبراهيم بأشدّ ما يمكن ، لعلّهم بذلك يعيدون العظمة والابّهة لأصنامهم إضافة إلى أنّ عملهم هذا كان تخويفا وتحذيرا لمعارضيهم ، كي لا تتكرّر مثل هذه الحادثة مرّة اخرى في تأريخ بابل ، لذلك فقد أوقدوا نارا عظيمة.

«الجحيم» في اللغة هي النار التي تجتمع بعضها على بعض.

هذا ، وقد فسّر البعض «البنيان» بأنّه المنجنيق ، والمنجنيق ـ كما هو معروف ـ أداة لقذف الأشياء الثقيلة إلى مكان بعيد ، لكن أكثر المفسّرين انتخبوا التّفسير

٣٥٦

الأوّل ، أي أنّ البنيان هو ذلك البناء المكوّن من أربعة جدران كبيرة.

وآيات القرآن الكريم هنا لم تشر إلى دقائق وتفاصيل هذا الحادث الذي ورد في سورة الأنبياء ، وإنّما أنهت هذه الحادثة بخلاصة مركّزة ولطيفة (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ).

(كيد) في الأصل تعني الاحتيال ، أكان بطريقة صحيحة أم غلط ، مع أنّها غالبا ما تستعمل في موارد مذمومة ، وبما أنّها جاءت بحالة النكرة هنا ، فإنّها تدلّ على عظمة الشيء وأهميّته ، وهي إشارة إلى المخطّط الواسع الذي وضعه طغاة بابل للقضاء على دعوة إبراهيم للناس بقوله وعمله ومحو آثارها.

نعم ، لقد وضعهم الله سبحانه وتعالى في أسفل السافلين ، فيما رفع إبراهيم عليه‌السلام إلى أعلى علّيين ، كما كان أعلى منطقا ، وجعله هو الأعلى في حادثة إشعال النيران ، وأعداءه الأقوياء هم الأخسرين ، فكانت النار عليه بردا وسلاما دون أن تحرق حتّى شعرة واحدة من جسد إبراهيم عليه‌السلام وخرج سالما من ذلك البحر الجهنّمي.

فإرادته تقتضي أن ينجي في يوم من الأيّام نوحا من «الغرق» ، وفي يوم آخر ينقذ إبراهيم من «الحرق» ، وذلك لكي يوضّح أنّ الماء والنار عبدان مطيعان له سبحانه وتعالى ومستجيبان لأوامره.

إبراهيم عليه‌السلام الذي نجا بإرادة الله من هذه الحادثة الرهيبة والمؤامرة الخطيرة التي رسمها أعداؤه له ، وخرج مرفوع الرأس منها ، صمّم على الهجرة إلى أرض بلاد الشام ، إذ أنّ رسالته في بابل قد انتهت ، (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ).

من البديهيات أنّ الله لا يحويه مكان ، والهجرة التي تتمّ في سبيله من المجتمع الملوّث الفاسد إلى المجتمع الطاهر الصافي ، فإنّها هجرة إلى الله.

فالهجرة إلى أرض الأنبياء والأولياء ومهبط الوحي الإلهي ، هي هجرة إلى الله ، مثلما يعرف السفر إلى مكّة المكرّمة بأنّه سفر إلى الله ، خاصّة وأنّ هجرة إبراهيم عليه‌السلام

٣٥٧

كانت من أجل تنفيذ واجب رسالي إلهي ، وأنّ الله كان هاديه ومرشده خلال السفر.

الآيات ـ هنا ـ عكست أوّل طلب لإبراهيم عليه‌السلام من الباري عزوجل ، إذ طلب الولد الصالح ، الولد الذي يتمكّن من مواصلة خطّة الرسالي ، ويتمم ما تبقّى من مسيرته ، وذلك حينما قال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ).

إنّها حقّا لعبارة جميلة (الولد الصالح واللائق) الصالح من حيث الإعتقاد والإيمان ، والصالح من حيث القول والعمل ، والصالح من جميع الجهات.

والذي يلفت النظر أنّ إبراهيم عليه‌السلام كان قد طلب من الله في إحدى المرّات أن يجعله من مجموعة الصالحين ، كما نقل القرآن ذلك عن إبراهيم ، (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). (١)

فيما طلب من الله هنا أن يمنحه الولد الصالح ، حيث أنّ كلمة صالح تجمع كلّ الأشياء اللائقة والجيّدة في الإنسان الكامل.

فاستجاب الله لدعاء عبده إبراهيم ، ورزقه أولادا صالحين (إسماعيل وإسحاق) وذلك ما وضحته الآيات التالية في هذه السورة (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).

وبخصوص إسماعيل يقول القرآن الكريم : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢).

* * *

بحثان

١ ـ خالق كلّ شيء :

وردت في آيات بحثنا أنّ إبراهيم عليه‌السلام خاطب عبدة الأصنام قائلا : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ).

__________________

(١) الشعراء ، ٨٣.

(٢) الأنبياء ، ٨٥ و ٨٦.

٣٥٨

وقد زعم البعض أنّ هذه الآيات تدلّ على ما جاء في مذهب الجبر الفاسد ، وذلك عند ما اعتبروا (ما) في عبارة (ما تَعْمَلُونَ) (ما) المصدرية ، وقالوا : إنّ هذه الآية تعني أنّ الله خلقكم وأعمالكم ، وبما أنّ أعمالنا هي من خلق الله ، فإنّنا لا نمتلك الإختيار ، أي إنّنا مجبرون.

هذا الكلام لا أساس له من الصحّة لعدّة أسباب :

أوّلا : كما قلنا فإنّ المراد من (ما تَعْمَلُونَ) هنا ، هي الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم ، وليست أعمال الإنسان ، ومن دون أي شكّ فإنّهم كانوا يأخذون المواد من هذه الأرض التي خلقها الله ، وينحتونها بالشكل الذي يروق لهم ، ولهذا فإنّ (ما) هنا هي (ما) الموصولة.

ثانيا : إذا كان مفهوم الآية كما تصوّر أولئك ، فإنّها تكون دليلا لصالح عبدة الأصنام ، وليس ضدّهم ، لأنّهم يستطيعون القول : صناعة الأصنام وعبادتها إنّما هو من خلق الله ، ونحن في هذه الحالة لسنا بمذنبين.

وثالثا : على فرض أنّ معنى الآية هو هكذا ، فليس هناك دليل على الجبر ، لأنّه مع الحرية والإرادة والاختيار فإنّ الله هو خالق أعمالنا ، لأنّ هذه الحرية والإرادة والقدرة على التصميم وكذلك القوى البدنية والفكرية الماديّة والمعنوية لم يعطها غير الله؟ إذا فالخالق هو ، مع أنّ الفعل هو باختيارنا نحن.

٢ ـ هجرة إبراهيم عليه‌السلام :

الكثير من الأنبياء هاجروا خلال فترة حياتهم من أجل أداء رسالتهم ، ومنهم إبراهيم الذي استعرضت آيات مختلفة في القرآن المجيد قضيّة هجرته ، ومنها ما جاء في سورة العنكبوت الآية (٢٦) (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

في الحقيقة ، إنّ أولياء الله عند ما كانوا يتّمون مهام رسالتهم في إحدى المناطق ،

٣٥٩

أو أنّهم كانوا يحسّون بأنّ المجتمع لا يتقبّل رسالتهم ، كانوا يهاجرون كي لا تتوقّف رسالتهم.

وهذه الهجرة كانت مصدر بركات كثيرة على طول تاريخ الأديان ، حتّى أنّ تاريخ الإسلام من الناحيتين الظاهرية والمعنوية يدور حول محور هجرة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو لا الهجرة لكان الإسلام قد غرق ـ وإلى الأبد ـ في مستنقع عبدة الأصنام في مكّة. فالهجرة هي التي أعطت روحا جديدة للإسلام والمسلمين ، وغيّرت كلّ شيء لصالحهم ، وخطت للبشرية طريقا جديدا للسير عليه.

وبعبارة واحدة : فالهجرة برنامج عام لكلّ مؤمن عند ما يشعر في وقت من الأوقات أنّ الجو الذي يعيش فيه غير متناسب مع أهدافه المقدّسة ، ويبدو كأنّه مستنقع عفن يفسد كلّ ما فيه ، فتكليفه الهجرة ، وعليه أن يحزم حقائب السفر ، وينتقل إلى مناطق أفضل ، فأرض الله واسعة.

والهجرة قبل أن تكون ذات طابع ذاتي خارجي ، فهي ذات طابع ذاتي داخلي ، ففي بداية الأمر يجب على القلب والروح هجر الفساد إلى الطهارة ، وهجر الشرك إلى الإيمان ، وهجر المعاصي إلى طاعة الله العظيم.

فالهجرة الداخلية هي بداية تغيّر الفرد والمجتمع ، ومقدّمة للهجرة الخارجية ، وقد بحث هذا الموضوع بصورة مفصّلة في هذا التّفسير وفي موضوع يتحدّث عن الإسلام والهجرة ، وذلك بعد الآية (١٠٠) في سورة النساء.

* * *

٣٦٠