الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-56-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٨١

الآيات

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

التّفسير

لا يغرنكم الشيطان والدنيا

ينتقل القسم الثاني من هذه المجموعة من الآيات ـ وبعد أن كان الحديث حول توحيد الخالقية والرازقية ـ إلى الحديث في تفصيل البرامج العملية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويوجّه الخطاب إليه أوّلا ، ثمّ لعموم الناس وبيان المناهج العملية لهم بعد تفصيل البرامج العقائدية سابقا.

في البداية تقدّم الآيات للرسول درس الاستقامة على الصراط السوي ، والذي

٢١

هو أهمّ الدروس له ، فتقول الآية الكريمة : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فهؤلاء الرسل الذين سبقوك قاوموا ، ولم يهدأ لهم بال في أداء رسالتهم ، وأنت أيضا يجب أن تقف بصلابة ، وتؤدّي رسالتك ، والبقية بعهدة الله. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فهو الناظر والرقيب على كلّ شيء ، وسوف يحاسب على جميع الأعمال.

فهو تعالى لا يتغافل عن المشاق التي تتحمّلها في هذا الطريق ، كما أنّه لن يترك هؤلاء المكذّبين المخالفين المعاندين يمضون دون عقاب ، فقد يكون للقلق محلّ لو لم يكن ليوم القيامة وجود ، أمّا مع وجود تلك المحكمة الإلهية العظيمة ، وتلك الكتابة لكلّ أعمال البشر لذلك اليوم العظيم ، فأيّ داع للقلق بعد؟

ثمّ تنتقل الآيات لتوضيح أهم البرامج للبشرية ، فتقول الآية الكريمة : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فالقيامة والحساب والكتاب والميزان والجزاء والعقاب والجنّة والنار كلّها وعود إلهية لا يمكن أن يخلفها الله تعالى.

ومع الانتباه إلى هذه الوعود الحقّة : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) فلا ينبغي أن تخدعكم الحياة الدنيا ، ولا يخدعكم الشيطان بعفو الله ورحمته ..

أجل ، إنّ عوامل الإثارة ، وزخارف الدنيا وزبارجها ، إنّما تريد أن تملأ قلوبكم ، وتلهيكم عن تلك الوعود الإلهيّة العظيمة ، وكذلك فإنّ شياطين الجنّ والإنس دائمة السعي بوساوسها وإغرائها وبمختلف وسائل الخداع والاحتيال ، وهي أيضا تريد إلفات اهتمامكم إليها ، وإلهائكم عن التفكير في ذلك اليوم الموعود ، فإن تمكّنت أضاليلهم وخدعهم منكم ، فقد ضاعت عليكم حياتكم بأكملها ، وكانت سعادتكم وآمالكم نقشا على الماء ، فالحذر الحذر!!

إنّ تكرار التنبيه للناس لكي لا يغترّوا بوساوس الشياطين أو بزخارف الدنيا ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى أنّ للذنوب طريقين للولوج إلى النفس الإنسانية :

٢٢

١ ـ مظاهر الدنيا الخدّاعة ، كالجاه والمقام والمال والكبرياء وأنواع الشهوات.

٢ ـ الاغترار بعفو الله وكرمه ، وهنا فإنّ الشيطان يزيّن الدنيا في نظر الإنسان ويصوّرها له متاعا مباحا وجذّابا ومحبّبا وقيّما من جهة.

ومن جهة اخرى فإنّه كلّما أراد الإنسان أن يتذكّر الآخرة ومحكمة العدل الإلهي ومقاومة الجاذبية الشديدة للدنيا وخدعها ، فانّه يغريه بعفو الله ورحمته ، فيدفعه بالنتيجة إلى التسويف والطغيان وارتكاب الذنوب. غافلا عن أنّ الله سبحانه مع كونه في موضع الرحمة و «أرحم الراحمين» فهو تعالى في موضع العقوبة «أشدّ المعاقبين» ، فإنّ رحمته لا يمكن أن تكون أبدا باعثا على المعصية ، كما أنّ غضبه لا يمكن أن يكون سببا لليأس والقنوط.

«غرور» صيغة مبالغة بمعنى الخدّاع أو المضلّل غير العادي ، والظاهر أنّه إشارة إلى جميع عوامل الإغواء والخداع ، كما أنّه قد يكون إشارة إلى خصوص الشيطان. وإن كان المعنى الثاني أكثر مناسبة للآية الثانية ، خاصّة إذا علمنا أنّ القرآن الكريم نسب «الغرور» إلى الشيطان في آيات مختلفة.

بعض المفسّرين ، لهم تحليل خاص هنا ملخّصه : أنّ الناس الذين يتعرضون لعوامل الخداع والإغراء ثلاثة أصناف :

١ ـ صنف ضعيف وليس له قدرة بحيث أنّه يخدع بأبسط الحيل.

٢ ـ صنف أقوى من الأوّل ، لا يخدعون فقط بزخرف الدنيا وزبرجها ، بل مع ضمّ وساوس الشياطين الذين يعملون على تحريك شهواتهم ويهوّنون لهم مفاسد أعمالهم عندها يمكن خداعهم. فالملذّات الدنيوية من جهة ، والوساوس الشيطانية من جهة اخرى ، تدفعهم إلى ارتكاب أعمال قبيحة وسيّئة.

٣ ـ أمّا الصنف الثالث وهو الأقوى والأعلم ، فهم لا يغتّرون بأنفسهم ولا يمكن لأحد خداعهم.

وجملة (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) إشارة إلى الصنف الأوّل ، وجملة

٢٣

(وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) إشارة إلى الصنف الثاني ، وأمّا الصنف الثالث فهم مصداق قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (١).

الآية التالية تنذر وتنبّه جميع المؤمنين فيما يخصّ مسألة وساوس الشيطان ومكائده والتي تعرّضت لها الآية السابقة فتقول : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا).

تلك العداوة التي شرع بها الشيطان من أوّل يوم خلق فيه آدم عليه‌السلام ، وأقسم حين طرد من قرب الله وجواره بسبب عدم تسليمه للأمر الإلهي بالسجود لآدم ، أقسم وتوعّد بأن يسلك طريق العداء لآدم وبنيه ، وحتّى أنّه دعا من الله أن يمهله ويطيل في عمره لذلك الغرض.

وقد التزم بما قال ، ولم يفوّت أدنى فرصة لإبراز عدائه وإنزال الضربات بأفراد بني آدم ، فهل يصحّ منكم يا بني آدم أن لا تعتبروه عدوّا لكم ، أو أن تغفلوا عنه ولو لحظة واحدة ، فكيف الحال باتّباعه واقتفاء خطواته ، أو تعدونه وليّا شفيقا وصاحبا ناصحا (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (٢).

مضافا إلى أنّه عدو يهاجم من كلّ طرف وجانب ، فهو نفسه «لعنه الله» يقول : على ما نقله القرآن الكريم : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ). (٣)

وهو يكمن لكم ويراكم ولا ترونه : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ).(٤)

ومع ذلك ، فهذا لا يعني أنّكم لا تقدرون على الدفاع عن أنفسكم أمام مكائده ووساوسه ، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلوات والسلام) : أنّ الله

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد ٢٦ ، ص ٥.

(٢) الكهف ، ٥٠.

(٣) الأعراف ، ١٧.

(٤) الأعراف ، ٢٧.

٢٤

سبحانه وتعالى أوصى موسى عليه‌السلام أربع وصايا وطالبه بحفظها :

أولاهنّ ما دمت لا ترى ذنوبك تغفر فلا تشتغل بعيوب غيرك!

والثانية : ما دمت لا ترى كنوزي قد نفذت فلا تهتم برزقك!

والثالثة : ما دمت لا ترى زوال ملكي فلا ترج أحدا غيري!

والرابعة : ما دمت لا ترى الشيطان ميتا فلا تأمن مكره (١)!

على كلّ حال ، فقد وردت في آيات كثيرة الإشارة إلى عداوة الشيطان لبني آدم ، وأطلقت عليه مرارا وتكرارا عبارة (عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢) لذا يجب الحذر الدائم من هذا العدوّ.

في آخر الآية يضيف تعالى للتأكيد أكثر : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ).

«حزب» في الأصل بمعنى الجماعة التي لها فعالية ، ولكنّها تطلق عادة على كلّ مجموعة تتبع برنامجا وهدفا خاصا.

والمقصود (بحزب الشيطان) أتباعه.

طبيعي أنّ الشيطان لا يمكنه إدخال أيّ أحد من الناس ليكون عضوا رسميا في حزبه ويقوده إلى جهنّم ، فأعضاء حزبه هم الذين يتّصفون بالصفات المذكورة في بعض الآيات القرآنية ..

* فهم الذين طوّقوا أنفسهم بطوق العبودية للشيطان (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ). (٣)

وهم الذين (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد ١ ، صفحة ٥٠١ ـ مادة ربع.

(٢) لاحظ الآيات ١٦١ و ٢٠٨ من سورة البقرة ، والآية (١٤٢) من سورة الأنعام ، والآية (٢٢) من سورة الأعراف ، والآية (٥) سورة يوسف ، والآية (٦٠) سورة يس ، والآية (٦٢) من سورة الزخرف.

(٣) النحل ، ١٠٠.

٢٥

أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ). (١)

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم ذكر «حزب الله» في ثلاثة مواضع وكذلك ذكر «حزب الشيطان» في ثلاثة مواضع أيضا ، حتّى يتّضح من الذين يقيّدون أسماءهم في حزب الله ، ومن هم أعضاء حزب الشيطان؟

ولكن من الطبيعي أنّ الشيطان يدعو حزبه إلى المعاصي والذنوب ولوث الشهوات .. إلى الشرك والطغيان والاضطهاد ، وبالنتيجة إلى جهنّم وبئس المصير.

وسوف نستوفي الشرح حول خصائص «حزب الله» وخصائص «حزب الشيطان» في تفسير الآية (٢٢) من سورة «المجادلة» إن شاء الله.

آخر آية من هذه الآيات توضّح عاقبة «حزب الله» السعيدة وخاتمة «حزب الشيطان» المريرة ، فتقول : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

من الجدير بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم اكتفى بذكر «الكفر» كسبب لاستحقاق العذاب ، ولكنّه لم يكتف بذكر (الإيمان) وحده كسبب «للمغفرة والأجر الكبير» بل أردف مضيفا له «العمل الصالح». لأنّ الكفر وحده يكفي للخلود في عذاب السعير ، بينما الإيمان بدون العمل لا يكفي لتحقيق النجاة ، فإنّهما مقترنان.

وقد ورد في الآية ذكر (المغفرة) ثمّ ذكر «الأجر الكبير» بعدها ، باعتبار أنّ (المغفرة) تغسل المؤمنين في البدء وتهيؤهم لتلقّي «الأجر الكبير».

* * *

__________________

(١) المجادلة ، ١٩.

٢٦

الآيات

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠))

التّفسير

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) :

ممّا مرّ من تقسيم الناس إلى مجموعتين «المجموعة المؤمنة» و «المجموعة الكافرة» أو «حزب الله» و «حزب الشيطان» ، تنتقل هذه الآيات إلى بيان إحدى الخصائص المهمّة لهاتين المجموعتين والتي هي في الواقع المصدر لسائر برامجهما.

٢٧

تقول الآية الاولى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) كمن يرى الحقائق كما هي من حيث الحسن والقبح؟!

في الحقيقة إنّ هذه القضيّة هي المفتاح لكلّ مصائب الأقوام الضالّة والمعاندة ، الذين يرون أعمالهم القبيحة أعمالا جميلة ، وذلك لانسجامها مع شهواتهم وقلوبهم المعتمة.

بديهي أنّ شخصا كهذا ، لا يتقبّل نصيحة ، وليس لديه الاستعداد لسماع النقد وليس بحاضر أبدا لتغيير مسيره. كما أنّه لا يناقش أعماله ولا يفكّر بعواقبها الوخيمة.

وأدهى من ذلك وأمرّ أنّهم حينما يدور حديث حول المحسنين والمسيئين ، يعتقدون بأنّ الضمير في الأوّل يعود عليهم ، بينما يعود في المسيئين على المؤمنين الصلحاء!

والعجب من هؤلاء الكفّار المعاندين أنّهم عند ما يسمعون هذه الآيات تتلى عليهم وهي تتحدّث عن حزب الشيطان ومصيرهم الأسود طبّقوا ذلك على المؤمنين الصالحين ، وعدّوا أنفسهم مصداقا لحزب الله!!

وتلك مصيبة وفاجعة عظيمة!

أمّا من الذي زيّن سوء أعمال هؤلاء في أنظارهم؟ هل هو الله ، أم هوى النفس ، أم الشيطان؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ العامل الأصلي لذلك هو الهوى والشيطان ، ولكن لأنّ الله هو الخالق لذلك الأثر في أعمالهم ، فيمكن نسبة ذلك إلى الله تعالى ، لأنّ الإنسان وفي بداية طريق المعاصي يشعر بعدم الارتياح حين ارتكاب المعصية ، لسلامة فطرته وحيوية وجدانه وسلامة عقله ، ولكن بتكرار تلك الأعمال يقلّ عدم الارتياح إلى أن يصل إلى درجة عدم الاكتراث. ثمّ إذا استمرّ في ذلك الطريق يمسي القبيح جميلا في نظره ، حتّى يصل إلى أن يتوهّم أنّ ذلك من مفاخره وفضائله ، والحال أنّه

٢٨

يغطّ في بركة آسنة من التعاسة والشقاء.

والملفت للنظر أنّ القرآن عند ما يتساءل (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ...).

لا يتعرّض إلى ما يقابل ذلك صراحة ، وكأنّه يريد أن يفسح المجال أمام المستمع لكي يتصوّر أمورا مختلفة يمكنها أن تكون ما يقابل ذلك ويفهم أكثر وأكثر ، وكأنّه يريد أن يقول : هل أنّ شخصا كهذا هو كمن أبصر الحقيقة؟

هل أنّ شخصا كهذا كمن هو نقي القلب ومشغول دوما بمحاسبة نفسه؟.

وهل أنّ هناك أملا بالنجاة لهكذا شخص (١)؟.

ثمّ يضيف القرآن موضّحا علّة الفرق بين الفريقين فيقول : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

فإذا زيّنت الأعمال السيّئة بنظر المجموعة الاولى ، فإنّ ذلك نتيجة الإضلال الإلهي ، فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل تلك الخاصية في النفس البشرية عند تكرارها للأعمال السيّئة ، بأن تتطبّع عليها وتعتادها وتنسجم معها وتنطبع بطبيعتها.

وهو سبحانه الذي أعطى للمؤمنين الطاهري القلوب نفاذ البصر والبصيرة ، وسمعا واعيا لإدراك الحقائق كما هي.

وواضح أنّ هذه المشيئة الإلهيّة توأم لحكمته تعالى ، وإنّما تعطي لكلّ ما يناسبه.

لذا فإنّ الآية تضيف في الختام : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وهذا التعبير يشابه ما ورد في الآية (٣) من من سورة الشعراء : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٢).

التعبير بـ «حسرات» الذي هو «مفعول لأجله» لما قبله في الجملة ، إشارة إلى أنّه ليس عندك عليهم حسرة واحدة ، بل حسرات :

__________________

(١) من هنا يتّضح أنّ في الآية جملة مقدّرة يمكن أن تكون «... كمن ليس كذلك ، أو كمن يحاسب نفسه ويرى سوء عمله سيّئا ... أو : هل يرجى له صلاح أو متاب» وهكذا.

(٢) ذكر أيضا لهذه الآية تفسير آخر ، وهو أنّ المقصود منها مخاطبة الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن لا يتألّم من شدّة أذى ومخالفات هؤلاء ، إذ أنّ الله مطّلع على أعمالهم تماما وسينتقم منهم في الوقت المناسب.

٢٩

«حسرة» على تضييع نعمة الهداية. «حسرة» على تضييع جوهر الإنسانية ، «حسرة» على تضييع حاسّة التشخيص إلى حدّ رؤية القبيح جميلا ، وأخيرا «حسرة» على الوقوع في نار الغضب والقهر الإلهي.

ولكن لماذا لا ينبغي أن تتحسّر عليهم؟! ذلك لأجل (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ).

واضح من نبرة الآية شدّة تحرّق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الضّالين والمنحرفين ، وكذلك هي حال القائد الإلهي المخلص يتألّم لعدم تقبّل الناس الحقّ وتسليمهم للباطل ، وضربهم بكلّ أسباب السعادة عرض الجدار ، إلى حدّ كأنّ روحه تريد أن تفارق بدنه.

واستنادا إلى البحوث التي سبقت حول الهداية والضلالة والإيمان والكفر ، تنتقل الآية التالية إلى بحث المبدأ والمعاد بعبارات مضغوطة ، وتقرن آيات المبدأ بإثبات المعاد بدليل واحد ملفت للنظر ، تقول الآية الكريمة : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً (١) فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ).

نظام دقيق يتحكّم في حركة الرياح ، ثمّ في حركة السحاب ، ثمّ في نزول قطرات المطر الباعثة للحياة ، ثمّ في حياة الأرض الميتة ، وهو أحسن دليل على أنّ يد القدرة الحكيمة هي من وراء ذلك النظام تقوم على تدبير أموره.

أوّلا ، تؤمر الرياح الحارة بالتحرّك من المناطق الإستوائية إلى المناطق الباردة ، وفي مسيرها تحمل معها بخار الماء من البحار وتطلقه في السماء ، بعدئذ تتحرّك بجريانات منظّمة للبرد القطبي الذي يعاكس دوما اتّجاه الحركة الأوّل ، وتؤمر بتجميع البخار الحاصل لتشكيل الغيوم.

__________________

(١) ذكر المفسّرون وجوها مختلفة لتفسير ظاهرة التنويع في الأفعال والضمائر في الجملة ، فـ «أرسل» فعل ماض في حين «فتثير» فعل مضارع ، والضمير في الأوّل غائب بينما في «فسقناه» متكلّم ، وقد أشحنا عن ذكرها لما بدا من عدم دقّتها ، ويمكن أن يكون ذلك للتفنّن في البيان والتنويع في الحديث.

٣٠

ثمّ تؤمر نفس تلك الريح بحمل تلك الغيوم وإرسالها إلى الصحاري الميتة ، لتلقي قطرات المطر الباعثة للحياة فيها.

بعد ذلك ـ بشروط خاصّة ـ تؤمر الأرض والبذور التي نثرت عليها بقبول الماء والنمو والاخضرار ، ومن موجودات حقيرة وعديمة القيمة ظاهرا تنبت موجودات حيّة وكثيرة التنوّع والجمال ، طريّة خضراء ، مفيدة ومثمرة .. تدلّل بدورها على قدرته سبحانه وتعالى ، وتشهد على حكمته ، وتكون نموذجا من البعث الكبير.

في الحقيقة إنّ الآية أعلاه تدعو إلى التوحيد في عدّة جوانب :

«برهان النظم» دليل على الوحدانية ، و «الحركة» تقتضي وجود محرّك لكلّ متحرّك ، ومن جانب آخر فإنّ النعم تدعو إلى شكر المنعم فطريا.

وكذلك فهي دليل على مسألة المعاد من جهات أيضا :

فتكامل الموجودات في حركتها ومسارها وانبعاث الحياة من الأرض الميتة تقول للإنسان : أيّها الإنسان إنّك ترى مشهد المعاد في فصول كلّ عام أمام ناظريك وتحت قدميك.

من اللازم أيضا الالتفات إلى أن (تثير) من مادّة (إثارة) بمعنى النشر والتفريق ، وهي إشارة إلى أنّ توليد الغيوم ناتج عن هبوب الرياح على سطح المحيطات ، لأنّ مسألة حركة الغيوم وردت في الجملة التي بعدها (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ).

واللطيف ما نقرأ في حديث عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سأله أحد الصحابة قائلا : يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه؟

قال : «أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثمّ مررت به يهتزّ خضرا»؟

قلت : نعم! يا رسول الله.

قال : «فكذلك يحيي الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه» (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥٤٠٩ ، الآية مورد الحديث.

٣١

ولنا بحث آخر حول نفس الموضوع أوردناه عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الروم.

الآن ، وبعد هذا المبحث التوحيدي ، تشير الآية إلى الاشتباه الخطير الذي وقع فيه المشركون لاعتقادهم بأنّ العزّة تأتيهم من أصنامهم ، وبأنّ الإيمان بالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيكون سببا في تخطّف الناس إيّاهم (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا). (١) فتقول الآية: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً).

«العزّة» : على ما يقول الراغب في مفرداته : حالة مانعة للإنسان من أن يغلب ..

من قولهم : أرض عزاز ، أي صلبة.

ولأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذات الوحيدة التي لا تغلب ، وجميع المخلوقات بحكم محدوديتها قابلة لأن تغلب ، وعليه فإنّ العزّة جميعها من الله ، وكلّ من اكتسب عزّة فمن بحر عزّته اللامتناهي.

في حديث ينقل عن أنس عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ ربّكم يقول كلّ يوم :

أنا العزيز ، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز».

وفي الحقيقة إنّ الإنسان العاقل يجب أن يتزوّد بالماء من منبعه ، لأنّ الماء الصافي والوافر متوفّر هناك ، لا في الأواني الصغيرة المحدودة أو الملوّثة في يد هذا وذاك.

وفي حديث عن الإمام الحسن بن علي عليهما‌السلام نقرأ بأنّ «جنادة بن أبي أميّة» قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام في مرضه الذي توفّي فيه وبين يديه طست يقذف عليه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة ، من السم الذي سقاه معاوية (لعنه الله) ، فقلت : يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟

فقال : «يا عبد الله ، بماذا أعالج الموت؟

قلت : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

__________________

(١) القصص ، ٥٧.

٣٢

ثمّ التفت إليّ وقال : ضمن وصايا عديدة : «.. وإذا أردت عزّا بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزوجل» ... الحديث.

ولو لا حظنا بعض الآيات الكريمة في القرآن ، فإنّها تذكرة العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). (١) إذ أنّ الرّسول والمؤمنين اكتسبوا عزّتهم من شعاع عزّة الباري عزوجل ، وساروا في طريق طاعته.

ثمّ توضّح الآية طريق الوصول إلى (العزّة) فيقول تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

(الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) : طيّب بمحتواه ، وذلك لأجل المفاهيم التي تنطبق على الواقع العيني الظاهر المشرق ، وما هو أطهر وأكثر واقعية من ذات الله تعالى ، ومرآة حقّه وعدالته ، وهؤلاء الصلحاء الذين يسلكون طريق نشر ذلك؟

لذا فقد فسّر «الكلم الطيّب» بأنّه العقائد الصحيحة فيما يخصّ المبدأ والمعاد والنبوّة ، نعم .. فعقيدة صحيحة هكذا تصعد إلى الله ، وتجعل المعتقد بها يحلق هو الآخر ، حتّى يكون في قرب جوار الحقّ تعالى ، وتغمره في عزّة الله ليكون عزيزا.

بديهي أن ينبت من هذا الجذر الطاهر ، ساق وفروع ، ثمرها العمل الصالح ، وكلّ عمل لائق وبنّاء ومفيد ، سواء كانت دعوة إلى الحقّ ، أو حماية لمظلوم ، أو جهادا للظلم والطغيان ، أو تقويم النفس والعبادة ، أو تعلّم ، وبالجملة فكلّ عمل خير يدخل في هذا المفهوم الشامل الواسع ، إذا كان لأجله سبحانه ـ فقط ـ ولأجل كسب رضاه فهو يصعد إليه ، ويعرج في سماء لطفه سبحانه ويكون سببا في تكامل ومعراج صاحبه حتّى يجعله أهلا للتعزّز بعزّة الحقّ تعالى.

وذلك هو ما أشارت إليه الآية (٢٤) من سورة إبراهيم : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها).

__________________

(١) المنافقون ، ٨.

٣٣

وممّا ذكرنا ، يتّضح أنّ ما قال به بعض المفسّرين من أنّ «الكلمة الطيّبة» هي «لا إله إلّا الله» أو «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر» أو «إثبات الرسالة للرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والولاية والخلافة لعلي عليه‌السلام بعد التوحيد» أو ما ورد في بعض الروايات من أنّ «الكلم الطيّب» و «العمل الصالح» هو «ولاية أهل البيت عليهم‌السلام» أو أمثال هذه التفاسير ، فإنّها جميعا من قبيل بيان المصاديق الأكثر وضوحا لذلك المفهوم الواسع الشامل ، وليس من قبيل وضع الحدود لذلك المفهوم. إذ أنّ كلّ كلام طيّب وصالح المحتوى يدخل تحت هذا العنوان.

على كلّ حال هو الله سبحانه وتعالى الذي يحيي الأرض الميتة بقطرات المطر ـ بمقتضى الآية السابقة ـ هو سبحانه الذي ينمي «الكلام الطيّب» و «العمل الصالح» ويوصله إلى جوار قربه تعالى.

ثمّ تنتقل الآية إلى ما يقابل كلّ ذلك فتقول : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ).

فمع أنّ هؤلاء الفاسدين المفسدين توهّمون أنّهم بالظلم والكذب والتزوير يستطيعون كسب العزّة والمال والثروة والقدرة ، إلّا أنّهم في النهاية يضعون أنفسهم في قبضة العذاب الإلهي من جهة ، وكلّ جهودهم تذهب أدراج الرياح من جهة اخرى.

أشخاص قال عنهم القرآن : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (١). ومنافقون اعتقدوا بعزّتهم ، وذلّة المؤمنين (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ). (٢)

وآخرون اعتقدوا بأنّ القرب من الفراعنة سبب لعزّتهم ، وأراد غيرهم الكرامة بالظلم والاضطهاد ، لكنّهم يتساقطون دوما ، والإيمان والعمل الصالح فقط هو

__________________

(١) مريم ، ٨١.

(٢) المنافقون ، ٨.

٣٤

الذي يصعد إلى الله سبحانه!

(مكر) : مع أنّ هذه الكلمة لغويا بمعنى التفكّر في حلّ المشكل ، ولكنّها جاءت في موارد كثيرة بمعنى التفكّر بالحلّ مع اقترانها بالإفساد ، كما في هذه الآية.

(السيّئات) : كلّ القبائح والمذمومات ، أعمّ من القبائح الاعتقادية أو العملية ، وما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المعنى هو المؤامرات التي قام بها المشركون لقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إبعاده عن مكّة ، فليس هو إلّا أحد مصاديق الكلمة دون مفهومها العامّ.

جملة «يبور» من مادّة «بوار» و «بوران» في الأصل بمعنى الكساد المفرط ، ولأنّ مثل هذا الكساد يكون سببا للهلاك ، فقد استخدمت هذه الكلمة للتعبير عن الهلاك والفناء ، وكما قيل «كسد حتّى فسد».

* * *

ملاحظتان

١ ـ العزّة جميعا من الله عزّ اسمه

ما هي حقيقة العزّة؟ هل هي سوى بلوغ مرحلة المنعة؟ وإن كان كذلك فأين يجب البحث عن العزّة؟ وأي شيء يمكنه أن يعطي للإنسان العزّة؟!.

يتّضح لنا بالتحليل أنّ حقيقة العزّة بالدرجة الأولى ـ قدرة تتجلّى في قلب وروح الإنسان ، وتبعده عن الخضوع والتسليم والاستسلام أمام الطغاة والعصاة ، قدرة بامتلاكها لا يخضع الإنسان للشهوات أبدا ، ولن يجد الهوى والهوس طريقا للتسلّط عليه.

قدرة ترتقي به إلى مستوى الصلابة أمام تأثير زخارف الدنيا.

فهل أنّ هذه القدرة لها منبع آخر غير الايمان بالله ، أي الارتباط بالمنبع الأصلي للقدرة والعزّة؟

٣٥

هذا في مرحلة الفكر والإعتقاد والروح ، أمّا في مرحلة العمل فإنّ «العزّة» تنبع من الأعمال السليمة الأصل والدقيقة الأسلوب ، وبتعبير آخر يمكن تلخيص ذلك بـ «العمل الصالح» هذان الاثنان يعطيان الإنسان العظمة والرفعة والعزّة والمنعة.

«السحرة» المعاصرون لفرعون ، شرعوا بحيلهم باسم فرعون وبعزّته (وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ). (١)

ولكنّهم هزموا بسرعة أمام عصى موسى عليه‌السلام. وبمجرّد أن خرجوا من ذلّة فرعون ، ولجأوا إلى ظلّ التوحيد وآمنوا ، أصبحوا أقوياء لا يمكن هزيمتهم بحيث لم تؤثّر بهم أشدّ تهديدات فرعون ، وقدّموا أيديهم وأرجلهم وحتّى أرواحهم العاشقة الوالهة وتجرّعوا كأس الشهادة ، ودلّلوا بذلك العمل على عدم استسلامهم أمام الترغيب والترهيب ، وعدم انهزامهم ، وأصبح تأريخهم اليوم بالنسبة لنا عالما من الدروس البليغة.

٢ ـ الفرق بين «الكلام الطيّب» و «العمل الصالح»

قد يطرح سؤال هو : لماذا تقول الآية السالفة الذكر حول «الكلام الطيّب» (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) بينما بالنسبة إلى «العمل الصالح» قالت (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)؟

يمكن الإجابة على هذا السؤال بأنّ «الكلم الطيّب» إشارة إلى الإيمان والإعتقاد السليم ، وذلك هو عين الصعود إلى الله ، وحقيقة الإيمان ليس سوى ذلك ، ولكن «العمل الصالح» الذي يتقبّله الله تعالى ويضاعف الأجر عليه ، ويعطيه الدوام والبقاء ثمّ يرفعه (دقّق النظر)!!.

* * *

__________________

(١) الشعراء ، ٤٤.

٣٦

الآيتان

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢))

التّفسير

وما يستوي البحران!!

مع الالتفات إلى ما كان من حديث في الآيات السابقة حول التوحيد والمعاد وصفات الله ، تتعرّض هذه الآيات أيضا إلى قسم آخر من آيات «الأنفس والآفاق» التي تدلّل على قدرة الله من جانب ، وعلى علمه من جانب آخر ، وقضيّة إمكانية المعاد من جانب ثالث.

٣٧

في البداية تشير إلى خلق الإنسان في مراحله المختلفة فتقول : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً).

وهذه ثلاث مراحل من مراحل خلق الإنسان : الطين ـ والنطفة ـ ومرحلة الزوجية.

بديهي أنّ الإنسان من التراب ، إذ أنّ آدم عليه‌السلام خلق من تراب ، كما أنّ جميع المواد سواء التي يتشكّل منها جسم الإنسان ، أو التي يتغذّى عليها ، أو التي تنعقد منها نطفته ، جميعها تنتهي إلى مواد هي ذاتها التي يحتويها التراب.

احتمل البعض أنّ الخلق من التراب ، إشارة إلى الخلق الأوّل فقط ، أمّا الخلق من النطفة فهو إشارة إلى المراحل التالية التي أوّلها مرحلة الخلقة الإجمالية للبشر (بلحاظ أنّ وجود الجميع يتلخّص بوجود آدم عليه‌السلام) وثانيها المرحلة التفضيلية بانفصال الإنسان من الآخر.

وعلى كلّ حال فإنّ مرحلة «الزوجية» هي مرحلة إدامة نسل الإنسان وحفظ نوعه ، وأمّا ما احتمله البعض من أنّ معنى «أزواجا» هنا «الأصناف» أو «الروح والجسم» وأمثالها ، فيبدو بعيدا.

ثمّ ينتقل إلى المرحلة الرابعة والخامسة ، «حمل النساء» و «الولادة» فيقول تعالى : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ).

نعم ، الحمل والتحوّلات والتغيّرات المذهلة والمعقّدة في الجنين ، ثمّ بلوغ مرحلة وضع الحمل والاضطرابات والتغيّرات المحيّرة للامّ من جهة ، وللجنين من جهة ثانية ، بشكل وبمقدار منظّم ودقيق لا يمكن تعقّله بدون إسناده إلى العلم الإلهي اللامتناهي ، فلو أصيب النظام الذي يحكم هذه العملية باختلال ولو بمقدار رأس الإبرة لأدّى إلى عسر أو اختلال الحمل أو عملية الولادة ، ثمّ إلى ضياع الجنين وهلاكه.

هذه المراحل الخمس من حياة الإنسان ، إحداها أعجب من الاخرى وأكثر

٣٨

إثارة للدهشة. فأين الثرى من الثريّا .. أين ذلك التراب الميّت الجامد من الإنسان الحي العاقل الفطن المبتكر؟! وأين تلك النطفة الحقيرة التي تتكوّن من بضع قطرات من الماء المتعفّن من ذلك الإنسان الراشد الجميل والمجهّز بالحواس والأجهزة العضوية المختلفة (١).

بعد هذه المرحلة ، تأتي مرحلة تقسيم النوع البشري إلى جنسين «المذكّر» و «المؤنّث» بالفروقات الكثيرة في الجسم والروح ، والأمور الفسلجية التي تبدأ بالتحدّد منذ اللحظات الاولى لانعقاد النطفة ، واتّخاذ مسيرها الخاص والتكامل في كلّ جنس باتّجاه الرسالة التي انيطت به.

ثمّ تظهر مسألة رسالة الامّ في قبول وتحمّل ذلك الحمل وحفظه وتغذيته وتربيته والتي حيّرت العلماء لقرون طويلة ، حتّى اعترفوا بأنّها من أعجب مسائل الوجود.

وآخر مرحلة في هذا المسير هي مرحلة الولادة ، وهي مرحلة تحوّل كامل تقترن بعجائب كثيرة.

فما هي العوامل التي تدفع الجنين إلى الخروج من بطن امّه؟

كيف يتمّ التنسيق بين هذا الأمر وبين إعداد جسم الامّ لتحقّق ذلك الأمر؟

كيف يتمكّن الجنين بعد تعوّده على وضع ما لمدّة تسعة أشهر ، أن يلبس وضعا جديدا ويطبّق كلّ مفرداته الجديدة بلحظة واحدة ، ففي لحظة واحدة يقطع صلته بامّه ، ويتنفّس الهواء الطلق! يتناول طعامه من فمه بدلا من الحبل السرّي! يخرج إلى محيط غارق في النور والإشراق بدلا من محيط بطن امّه المظلم؟! أليست هذه أعظم الدلائل على قدرة الله وعلمه اللامحدودين؟

وهل أنّ هذه المادّة الجامدة الميتة وهذه الطبيعة غير الهادفة يمكنها أن تنظّم

__________________

(١) «نطفة» كما ذكرنا سابقا ، في الأصل بمعنى «الماء» أو بالأخصّ «الماء القليل الصافي» ثمّ أطلقت لهذا السبب على الماء القليل الذي هو مبدأ انعقاد الجنين.

٣٩

حلقة واحدة صغيرة من آلاف الحلقات في سلسلة الخلق بالاستفادة من المصادفات العمياء؟

فيا للأسف كيف يتعقّل الإنسان مثل هذا الاحتمال الموهوم فيما يخصّ خلقته؟!

ثمّ .. تشير الآية إلى المرحلتين السادسة والسابعة من هذا البرنامج المذهل بانتقالها إلى حلقة اخرى ، فتذكر مراحل العمر المختلفة والعوامل المؤثّرة في زيادته ونقصانه فتقول الآية الكريمة : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) (١) ويخضع لقوانين ومناهج مدروسة يتحكّم فيها علم الله وقدرته المطلقة.

فما هي العوامل المؤثّرة في إدامة حياة الإنسان؟ وما هي العوامل التي تهدّد إدامتها؟

وباختصار ما هي العوامل التي يجب أن تتظافر مع بعضها حتّى يستطيع الإنسان أن يعمّر مائة سنة أو أكثر أو أقل؟ وأخيرا ما هي العوامل الموجبة لتفاوت أعمار الناس؟ كلّ ذلك له حسابات دقيقة ومعقّدة لا يعلمها إلّا الله. وما نعلمه نحن اليوم حول هذه الموضوعات بالقياس إلى ما لا نعلمه يعتبر شيئا تافها.

«معمّر» من مادّة «عمر» في الأصل من «العمارة» نقيض الخراب ، والعمر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة خلال مدّة معيّنة.

«معمر» أي الشخص الطويل العمر.

وأخيرا تختم الآية بهذه الجملة (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

فخلق هذا الموجود العجيب من التراب ، وبدء خلق إنسان كامل من «ماء النطفة» وكذلك المسائل المرتبطة بتحديد الجنس ، ثمّ الزوجية ، والحمل ، والولادة ،

__________________

(١) المقصود من «الكتاب» هو العلم الإلهي اللامحدود ، وما ذكره البعض من أنّه «اللوح المحفوظ» أو «صفحة حياة الإنسان» يعود بالنتيجة إلى ذلك العلم الإلهي.

٤٠