الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-56-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٨١

كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ الدنيا إنّما هي دار إمتحان وابتلاء ، والله سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة ، وربّما يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الامتحان الغنى والفقر ، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتّع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة ، أم أنّه يطأ كلّ ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق ممّا تفضّل الله به عليه ، أم لا؟

ورغم أنّ البعض قد حصر الآية من حيث التطبيق في مجموعة خاصّة كاليهود ، أو المشركين في مكّة ، أو جميع الملاحدة الذين أنكروا الأديان الإلهيّة ، ولكن يبدو أنّ للآية مفهوما عامّا يمكن أن تكون له مصاديق في كلّ عصر وزمان ، وإن كان مصداقها حين نزولها هم اليهود أو المشركون فتلك ذريعة عامّة يتشبّثون بها على مرّ العصور ، وهي قولهم : إذا كان الله هو الرازق إذا لماذا تريدون منّا أن نعطي الفقراء من أموالنا؟ وإذا كان الله يريد أن يرى هؤلاء محرومين فلما ذا تريدون منّا إغناء من أراد الله حرمانه؟ غافلين عن أنّ نظام التكوين قد يوجب شيئا ، ويوجب نظام التشريع شيئا غيره.

فنظام التكوين ـ بإرادة الله ـ أوجب أن تكون الأرض بجميع مواهبها وعطاياها مسخّرة للبشر ، وأن يعطي البشر حريّة انتخاب الأعمال لطي طريق تكاملهم ، وفي نفس الوقت خلق الغرائز التي تتنازع الإنسان من كلّ جانب.

ونظام التشريع أوجب قوانين خاصّة للسيطرة على الغرائز وتهذيب النفوس ، وتربية الإنسان عن طريق الإيثار والتضحية والتسامح والإنفاق ، وذلك الإنسان الذي لديه الأهلية والاستعداد لأن يكون خليفة الله في الأرض ، إنّما يبلغ ذلك المقام الرفيع من هذا الطريق ، فبالزكاة تطهر النفوس ، وبالإنفاق ينتزع البخل من القلوب ، ويتحقّق التكافؤ ، وتقلّ الفواصل الطبقية التي تفرز آلاف العلل والمفاسد في المجتمعات.

وذلك تماما كما يقول شخص : لماذا ندرس؟ أو لماذا نعلّم غيرنا؟ فلو شاء الله

٢٠١

سبحانه وتعالى لأعطى العلم للجميع ، فلا تكون هنالك حاجة إلى التعلّم! فهل يقبل ذلك عاقل (١)؟

جملة (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) والتي ورد التأكيد فيها على صفة الكفر ، في حين يمكن أن يكتفي بالضمير ، إشارة إلى أنّ هذا المنطق الخرافي والتعلّل إنّما ينبع من الكفر!

ولسان حال المؤمنين بقولهم : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) إشارة إلى أنّ المالك الأصلي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ، وإن كانت تلك الأموال أمانة في أيدينا أو أيديكم لأيّام ، ويا لهم من بخلاء أولئك الذين لم يكونوا حاضرين لأن يحولوا المال إلى آخرين بأمر صاحب المال؟!

أمّا جملة : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فلتفسيرها توجد احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أنّها تتمّة ما قاله الكفّار للمؤمنين.

الثاني : أنّه كلام الله سبحانه وتعالى يخاطب به الكفّار.

الثالث : أنّه تتمّة ما قاله المؤمنون للكفّار.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب ، لأنّه يتّصل مباشرة بحديث الكفّار السابق ، وفي الحقيقة إنّهم يريدون معاملة المؤمنين بالمثل ونسبتهم إلى الضلال المبين.

* * *

__________________

(١) بعض المفسّرين احتمل التّفسير التالي وهو : أنّ العرب كانوا مشهورين بالضيافة في ذلك الزمان ، وما كانوا يمتنعون عن الإنفاق ، وكان هدف الكفّار هو الاستهزاء بالمؤمنين الذين كانوا ينسبون الأشياء والأمور جميعها إلى المشيئة الإلهية ، فكانوا يقولون لهم : إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يغني الفقراء فما الحاجة إلى إنفاقنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الذي أوردناه هو الأنسب (راجع التبيان ، وتفسير القرطبي ، وروح المعاني).

٢٠٢

الآيات

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣))

التّفسير

صيحة النشور!

بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفّار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة ، تتعرّض هذه الآيات إلى الحديث عن استهزائهم بالقيامة ، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافا إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

٢٠٣

تقول الآية الكريمة الاولى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة ، فمعنى هذا أنّكم لستم صادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم ، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ).

فكلّ ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم ، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب ، ليتخلّف وراءها صمت مطبق ، وتخلو الأرض من أي صوت أو إزعاج.

وفي حديث عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم» (١).

جملة «ما ينظرون» هنا بمعنى «ما ينتظرون» ، فكما يقول (الراغب) في مفرداته «النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمّل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص ، وهو الرويّة ، والنظر الانتظار».

«صيحة» صاح : رفع الصوت ، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت ، وصيح الثوب كذلك ، ويقال : بأرض فلان شجر قد صاح ، إذا طال فتبيّن للناظر لطوله ، ودلّ على نفسه بصوته.

«يخصّمون» من مادّة «خصم» بمعنى النزاع.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٢٧. وذكرت هذه الرواية بتفاوت قليل في تفسير «القرطبي» و «روح المعاني» وغيرهما.

٢٠٤

أمّا فيم كانوا يختصمون؟ لم تذكر الآية ذلك ، ولكن من الواضح أنّ المقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والأمور المعيشية الاخرى ، ولكن البعض يرى : إنّه تخاصم في أمر «المعاد» ، والمعنى الأوّل أنسب على ما يبدو ، وإن كان اعتبار شمول الآية لكلا المعنيين ، وأي نوع من النزاع والخصومة ليس ببعيد.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الضمائر المتعدّدة في الآية جميعها تعود على مشركي مكّة الذين كانوا يشكّكون في أمر المعاد ، ويستهزئون بذلك بقولهم : متى تقوم الساعة؟

ولكن المسلّم به أنّ الآية لا تقصد أشخاص هؤلاء ، بل نوعهم «نوع البشر الغافلين عن أمر المعاد» لأنّهم ماتوا ولم يسمعوا تلك الصيحة السماوية أبدا «تأمّل بدقّة»!!

على كلّ حال ، فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع ، وهذا أوّلا. وأمّا ثانيا فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه ، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كلّ شيء وتنتهي الدنيا بأسرها.

لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلا : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله ، يحاول جاهدا أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله ، ثمّ يقوم بإنجاز بعض الأمور المعلّقة ، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصيّة أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الأمور الاخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضا فهل بقي أحد حيّا ليستمع الوصيّة؟ أو يجتمع الأولاد مع امّهم على سرير الأب ـ مثلا ـ ويحتضنونه ويحتضنهم لكي يسلم الروح بطمأنينة؟ لا أبدا ، فلا إمكان لأي من هذه

٢٠٥

الأمور.

وما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنّما هو إشارة إلى أنّ الفرصة لا تسنح حتّى لوصية صغيرة أيضا.

ثمّ تشير الآيات إلى مرحلة اخرى ، مرحلة الحياة بعد الموت. فتقول : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ).

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد ، وتنتفض من القبر بشرا سويّا ، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة ، وكما أنّهم ماتوا جميعا بصيحة واحدة ، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد ، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى ، ولا حياتهم كذلك ، تماما كما هو الحال في جمع الجنود في الجيوش ، بنفخة بوق واحدة ينهضون جميعا من فرشهم ويخرجون من خيمهم ، ويقفون في صفّ واحد ، وإحياء الموتى وبعثهم بالنسبة إلى الله سبحانه بهذه البساطة والسرعة.

«أجداث» جمع «جدث» وهو القبر ، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية ، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديدا من نفس المواد السابقة.

واستخدام صيغة الماضي في الفعل «نفخ» إشارة إلى عدم وجود أدنى شكّ في وقوع مثل هذا الأمر ، وكأنّه لثباته وحتميته قد وقع فعلا.

«ينسلون» من مادّة «نسل» والنسل الانفصال عن الشيء ـ كما يقول الراغب في المفردات ويضيف ـ يقال : نسل الوبر عن البعير والقميص عن الإنسان ، و .. ومنه نسل إذا عدا ، والنسل الولد لكونه ناسلا عن أبيه.

وقوله تعالى : (رَبِّهِمْ) كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية الله كلّها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

وعلى كلّ حال ، فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ نهاية هذا العالم وبداية

٢٠٦

العالم الآخر يكون كلاهما على شكل حركة عنيفة وغير متوقّعة ، وسوف نتعرّض إلى تفصيل هذا الموضوع في تفسير الآية (٦٨) من سورة الزمر إن شاء الله.

تضيف الآية التالية : (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلّا من الاعتراف الواضح الصريح بالحقائق ، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث المعروف «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ففي البدء يستغربون انبعاثهم ويتساءلون عمّن بعثهم من مرقدهم؟ ولكنّهم يلتفتون بسرعة ويتذكّرون بأنّ أنبياء الله الصادقين ، وعدوهم بمثل هذا اليوم ، فيجيبون أنفسهم قائلين: (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) ولكن وا أسفاه إنّنا كنّا نستهزئ بكلّ ذلك!

! وعليه فإنّ هذه الجملة هي بقيّة حديث هؤلاء المتكبّرين الكفرة بالمعاد والبعث ، ولكن البعض ذهب إلى أنّ حديث الملائكة أو المؤمنين ، وذلك على ما يبدو خلاف ظاهر الآية ، ولا داعي ولا ضرورة له ، لأنّ اعتراف الكفّار والمنكرين للمعاد في ذلك اليوم لا ينحصر بهذه الآية ، ففي الآية (٩٧) من سورة الأنبياء (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ).

وعلى كلّ حال ، فإنّ التعبير بـ «مرقد» (١) يوضّح أنّهم في عالم البرزخ كانوا بحالة شبيهة بالنوم العميق ، وكما ذكرنا في تفسير الآية (١٠٠) من سورة «المؤمنون» ، فإنّ البرزخ بالنسبة إلى أكثر الناس الذين هم على الوسط من الإيمان أو الكفر هو حالة شبيهة بالنوم ، وفي حال المؤمنين أصحاب المقامات

__________________

(١) يأتي تارة بمعنى اسم مكان ، واخرى اسم للنوم ، أي مصدر ميمي.

٢٠٧

الرفيعة ، أو الكفّار الموغلين في الكفر والجحود فإنّ البرزخ بالنسبة إليهم عالم واضح المعالم ، وهم فيه أيقاظ يهنأون في النعيم أو يصطرخون في العذاب.

احتمل بعضهم أيضا أنّ هول ودهشة القيامة شديدان إلى درجة أنّ العذاب في البرزخ يكون شبه النوم بالنسبة إلى ما يرونه في القيامة.

ثمّ تقول الآية لبيان سرعة النفخة : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ).

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت ، كما كان الأمر عند هلاكهم ، فالصيحة الاولى للموت ، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

واستخدام تعبير «الصيحة» والتأكيد عليها بـ «واحدة» وكذلك التعبير بـ «إذا» في مثل هذه الموارد ، إنّما هو للإشارة إلى وقوع غير المتوقّع ، والتعبير بـ (هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) بصيغة الجملة الاسمية دليل على الوقوع السريع لهذا المقطع من القيامة.

واللهجة الحازمة لهذه الآيات تترك أعمق الأثر في القلوب ، وكأن هذه الصيحة تقول : يا أيّها الناس النائمون ، أيّتها الأتربة المتناثرة ، أيّتها العظام المهترئة! انهضوا .. انهضوا واستعدّوا للحساب والجزاء ... فما أجمل الآيات القرآنية ، وما أروع إنذاراتها المعبّرة!!

* * *

٢٠٨

الآيات

(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨))

التّفسير

أصحاب الجنّة فاكهون!

هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر ، ثمّ ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفّار الطالحين ، فتقول الآية الكريمة الاولى : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً).

فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئا ، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئا ، ولن يكون هنالك أدنى ظلم أو اضطهاد لأحد حتّى بمقدار رأس الإبرة.

ثمّ تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلا حيّا عليها فتقول : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

إنّ ظاهر الآية ـ ومن دون تقدير مضمر ـ يهدف إلى القول بأنّ جزاءكم جميعا

٢٠٩

هو نفس أعمالكم ، فأي عدالة أفضل وأعلى من هذه العدالة؟!

وبعبارة اخرى : فإنّ الأعمال الحسنة والسيّئة التي قمتم بها في هذه الدنيا سترافقكم في ذلك العالم أيضا ، ونفس تلك الأعمال ستتجسّد هناك وترافقكم في جميع مراحل الآخرة ، في المحشر وبعد نهاية الحساب.

فهل أنّ تسليم حاصل عمل إنسان إليه أمر مخالف للعدالة؟

وهل أنّ تجسيد الأعمال وقرنها بعاملها ظلم؟

ومن هنا يتّضح أن لا معنى للظلم أساسا في مشهد يوم القيامة ، وإذا كان يحدث في الدنيا بين البشر أن تتحقّق العدالة حينا ويقع الظلم أحيانا كثيرة ، فذلك لعدم إمكان ربط الأعمال بفاعليها.

جمع من المفسّرين تصوروا أنّ الجملة الأخيرة أعلاه تتحدّث عن الكفّار والمسيئين الذين سيرون عقابا على قدر أعمالهم ، دون أن تشمل المؤمنين ، بلحاظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد جزاهم وأثابهم بأضعاف ما يعادل أعمالهم.

ولكن بملاحظة ما يلي ينحلّ هذا الاشتباه ، وهو أنّ الحديث هنا هو حديث عن العدالة في الثواب والعقاب وأخذ الجزاء حسب الاستحقاق ، وهذا لا ينافي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يزيد المؤمنين من فضله ، فهذه مسألة «تفضل» وتلك مسألة «استحقاق».

ثمّ تنتقل الآيات لتتعرّض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة ، وقبل كلّ شيء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ).

«شغل» : ـ على وزن سرر ـ و «شغل» ـ على وزن لطف ـ : كليهما بمعنى العارض الذي يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه ، سواء كان ممّا يبعث على المسرّة أو الحزن ، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك ، يمكن استنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه

٢١٠

والمنصرف تماما عن التفكير في أي قلق أو ترقّب ، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه ، وحتّى أنّه ينسى تماما هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية ، تلك المواقف التي لو لا نسيانها فإنّها حتما ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب ، وبناء على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على انشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر (١).

وبعد التعرّض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاخرى وشرط الاستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاخرى ، ينتقل إلى ذكر بقيّة النعم فيقول تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) (٢).

«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنّة ، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.

وأمّا ما احتمله البعض من أنّها بمعنى «النظائر» كما في الآية ـ ٢٢ سورة الصافات (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) الآية فيبدو بعيدا. خصوصا أنّ (أرائك) جمع «أريكة» وهي الحجلة على السرير. كما يقول أرباب اللغة (٣).

التعبير بـ «ظلال» إشارة إلى أنّ أشجار الجنّة تظلّل الأسرة والتخوت التي يجلس عليها المؤمنون في الجنّة ، أو إشارة إلى ظلال قصورهم ، وكلّ ذلك يدلّل على وجود الشمس هناك ، ولكنّها ليست شمسا مؤذية ، نعم فإنّ لهم في ذلك الظلّ الملائم لأشجار الجنّة سرورا ونشاطا عظيمين.

__________________

(١) يرى «الراغب» في مفرداته بأنّ «فاكهة» تطلق على كلّ أنواع الثمار والفواكه ، و «فاكه» الحديث الذي يأنس به الإنسان وينشغل به عن غيره. ويرى «ابن منظور» في لسان العرب أنّ «فكاه» بمعنى المزاح ، و «فاكه» يطلق على الإنسان المرح.

(٢) هناك احتمالات عديدة في إعراب الجملة ، وأفضلها أنّ «هم» مبتدأ ، و «متكئون» خبر ، و «على الأرائك» متعلّق به ، و «في ظلال» متعلّق به أيضا أو متعلّق بمحذوف.

(٣) لسان العرب ـ مفردات الراغب ـ مجمع البيان ـ القرطبي ـ روح المعاني ـ وتفاسير اخرى.

٢١١

إضافة إلى ذلك فإنّ (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ).

يستفاد من آيات القرآن الاخرى أنّ غذاء أهل الجنّة ليس الفاكهة فقط ، ولكن تعبير الآية يدلّل على أنّ الفاكهة ـ وهي فاكهة مخصوصة تختلف كثيرا عن فاكهة الدنيا ـ هي أعلى غذاء لهم ، كما أنّ الفاكهة في الدنيا ـ كما يقول المتخصّصون ـ أفضل وأعلى غذاء للإنسان.

«يدعون» أي يطلبون ، والمعنى أنّ كلّ ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه ، فما يتمنّوه من شيء يحصل ويتحقّق على الفور.

يقول العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان : العرب يستخدمون هذا التعبير في حالة التمنّي ، فيقول : «ادع عليّ ما شئت» أي تمنّ عليّ ما شئت ...

وعليه فإنّ كلّ ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ ، والله عنده حسن الثواب.

وأهمّ من كلّ ذلك ، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (١).

هذا النداء الذي تخفّ له الروح ، فيملؤها بالنشاط ، هذا النداء المملوء بمحبّة الله ، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اخرى. نعم فسماع نداء المحبوب ، النداء الندي بالمحبّة ، المعطّر باللطف ، يغمر سكّان الجنّة بالحبور ... الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا ، بل ويفيض عليه.

ففي رواية عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنّة ، وذلك قول الله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال فينظر إليهم وينظرون إليه

__________________

(١) اختلف حول إعراب «قولا» وأنسب ما ذكر هو اعتبارها (مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره «يقول قولا».

٢١٢

فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» (١).

نعم فإنّ جذبة مشاهدة المحبوب ، ورؤية لطفه ، تبعث اللذّة والشوق في النفس بحيث أنّ لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأيّة نعمة ، بل بالعالم أجمع ، وعشّاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنّه لو قطعت عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنّهم يحسّون بالحسرة والألم ، وكما ورد في حديث لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام «لو حجبت عنه ساعة لمتّ» (٢).

الملفت للنظر أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ سلام الله الذي ينثره على المؤمنين في الجنّة ، هو سلام مستقيم بلا واسطة ، سلام منه تعالى ، وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه ، ويا لها من نعمة عظيمة!!

* * *

ملاحظة

أنواع «السلام» المنثور على أهل الجنّة

الجنّة هي «دار السلام» كما ورد في الآية (٢٥) من سورة يونس حيث نقرأ : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ).

وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك ، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٣).

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، مجلّد ٢٣ ، صفحة ٣٥.

(٢) روح البيان ، مجلّد ٧ ، صفحة ٤١٦.

(٣) الرعد ، ٢٤.

٢١٣

ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ). (١)

وعند ما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة.

وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (٢) ويسلّم بعضهم على بعض (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ). (٣)

وأخيرا ، أسمى وأعظم سلام هو سلام الله عزوجل (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ).

الخلاصة : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً). (٤)

والسلام ليس لفظا فحسب ، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة ، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.

* * *

__________________

(١) الأعراف ، ٤٦.

(٢) النحل ، ٣٢.

(٣) إبراهيم ، ٢٣.

(٤) الواقعة ، ٢٦.

٢١٤

الآيات

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢))

التّفسير

لماذا عبدتم الشيطان؟!

مرّ في الآيات السابقة جانب من المصير المشوّق لأهل الجنّة ، وفي هذه الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.

أوّلا : يخاطبون في ذلك اليوم خطابا تحقيريا (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ).

فأنتم ربّما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلونتم بلونهم تارة ، واستفدتم من حيثيتهم واعتبارهم ، أمّا اليوم «فامتازوا عنهم» وأظهروا بشكلكم الأصلي الحقيقي.

هذا في الحقيقة هو تحقّق للوعد الإلهي الوارد في الآية (٢٨) من سورة ص حيث يقول الباري عزوجل : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ

٢١٥

فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).

وعلى كلّ حال ، فظاهر الآية هو التمييز في العرض بين المجرمين والمؤمنين ، وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل احتمالات اخرى من جملتها : تفريق صفوف المجرمين أنفسهم إلى مجموعات فيما بينهم ، أو انفصال المجرمين عن شفعائهم ومعبوداتهم ، أو انفصال المجرمين كلّ واحد عن الآخر ، بحيث يكون ذلك العذاب الناتج عن الفراق مضافا على عذاب الحريق في جهنّم.

ولكن شمولية الخطاب لجميع المجرمين ، ومحتوى جملة «وامتازوا» تقوّي المعنى الأوّل الذي أشرنا إليه.

الآية التالية تشير إلى لوم الله تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلا : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

إنّ هذا العهد الإلهي أخذ على الإنسان من طرق مختلفة ، وكرّر على مسمعه مرّات ومرّات : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١)

جرى هذا التحذير وبشكل متكرّر على لسان الأنبياء والرسل : (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢).

وكذلك في الآية (١٦٨) من سورة البقرة نقرأ : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

ومن جانب آخر فإنّ هذا العهد أخذ على الإنسان في عالم التكوين ، وبلسان إعطاء العقل له ، إذ أنّ الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أنّ على الإنسان أن لا يطيع من تصدّى لعداوته منذ اليوم الأوّل وأخرجه من الجنّة ، وأقسم على إغواء

__________________

(١) الأعراف ، ٢٧.

(٢) الزخرف ، ٦٢.

٢١٦

أبنائه من بعده.

ومن جانب ثالث فقد أخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهيّة للناس على التوحيد ، وانحصار الطاعة في الله سبحانه ، وبهذا لم تتحقّق التوصية الإلهية هذه بلسان واحد ، بل بعدّة ألسنة وأساليب ، وامضى هذا العهد والميثاق.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ «العبادة» الواردة الإشارة إليها في جملة (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) بمعنى «الطاعة» ، لأنّ العبادة لا تنحصر بمعنى الركوع والسجود فقط ، بل إنّ من مصاديقها الطاعة. كما ورد في الآية (٤٧) من سورة «المؤمنون» (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) وفي الآية (٣١) من التوبة نقرأ : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً).

والجميل أنّه ورد في رواية عن الصادق عليه‌السلام تعليقا على الآية بقوله : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون» (١).

وعن الصادق عليه‌السلام أيضا أنّه قال : «من أطاع رجلا في معصية فقد عبده» (٢).

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (٣).

الآية التالية تأكيد أشدّ وبيان لوظيفة بني آدم ، تقول الآية الكريمة : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

أخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان ، إذ أنّه أعلن له عن عداوته بشكل واضح منذ اليوم الأوّل ، فهل يطيع عاقل أوامر عدوّه!؟ .. هذا من جانب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٨٩ ، حديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩١ ، حديث ٨ و ٩.

(٣) المصدر السابق.

٢١٧

ومن جانب آخر ، أخذ عليه العهد بطاعة الله سبحانه وتعالى ، لأنّ سبيله هو الصراط المستقيم ، وهذا في الحقيقة أعظم محرّك للبشر ، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ لو كان في وسط صحراء قاحلة محرقة ، وكانت حياته وحياة عياله في معرض خطر قطّاع الطرق والضواري ، فأهمّ ما يفكّر به هو العثور على الطريق المستقيم الآمن الذي يؤدّي إلى المقصد ، الطريق السريع والأسهل للوصول إلى منزل النجاة.

ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمنا بأنّ الدنيا ليست بدار القرار ، إذ أنّ الطريق لا يرسم لأحد إلّا لمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.

وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ).

ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب.

ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشيطان؟ آثار مدنهم المدمّرة أمام أعينكم ، والعاقبة المؤلمة التي وصلوا إليها واضحة لكلّ من يمتلك القليل من التعقّل والتفكّر.

إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدو لكم مرّات ومرّات؟ ولا زلتم تتّخذونه صديقا بل قائدا ووليّا وإماما!!

«الجبلّ» الجماعة تشبيها بالجبل في العظم (كما يقول الراغب في مفرداته).

و «كثيرا» للتأكيد على كثرة من اتّبع الشيطان من كافّة المستويات الاجتماعية في كلّ مجتمع.

ذكر بعضهم أنّ «الجبلّ» بحدود عشرة آلاف نفر ، أو أكثر ، وما دون ذلك لا يكون جبلّا (١) ، ولكن البعض الآخر لم يلتزم بتلك الأرقام (٢).

وعلى كلّ حال ، فإنّ العقل السليم يوجب على الإنسان أن يحذر بشدّة من عدوّ

__________________

(١) انظر روح المعاني والفخر الرازي.

(٢) المصدر السابق.

٢١٨

خطر كهذا ، لا يتورّع عن أي شيء ، ولا يرحم أي إنسان أبدا ، وقرابينه في كلّ زاوية ومكان هلكى صرعى ، فلا ينبغي له أن يغفل عنه طرفة عين أبدا ، ولنقرأ ما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام :

«فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوّ الله ، أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد ، وأغرق إليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب ، فقال : ربّ بما أغويتني لازينّن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين» (١).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٢ (القاصعة).

٢١٩

الآيات

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))

التّفسير

يوم تسكت الألسن وتشهد الأعضاء!!

تعرّضت الآيات السابقة ، إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهيّة وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة.

هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضا.

نعم ، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنّم للمجرمين الكافرين يذكّرهم الله بوعده ، والآية تشير إلى ذلك فتقول : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).

٢٢٠