الأشباه والنظائر في النحو - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

ومنها : أنه قد تزول الحركة في الوقف مع الحكم بالإعراب.

ومنها : أن السكون قد يكون إعرابا.

ومنها : تفسيرهم بالتغيير والاختلاف ، ولكل واحد منهما معنى.

ثم قال : ولقائل أن يقول لا دلالة في جميع ذلك.

أما الأول فجوابه : أن الحركة لما كانت تنقسم إلى حركة إعراب وحركة بناء قيل : حركة الإعراب ، وصحة الإضافة للتخصيص ، فالحركة عامة والإعراب خاص ، ولا شبهة في مغايرة العام للخاص ، فمسوغ الإضافة المغايرة ، وهي هنا موجودة.

وأما الثاني فجوابه : أنّا لم نقل إن مطلق الحركة يكون إعرابا ، بل الحادث بالعامل هو الإعراب ولا يوجد في المبنيّ شيء من ذلك.

وأما الثالث فجوابه : أن الوقف عارض لا اعتبار به وإنما الاعتبار بحال الوصل وأصولهم تقتضي ذلك.

وأما الرابع فجوابه : أن الإعراب هو الحركة أو حذفها ، ولهذا قال ابن الحاجب : إنه ما اختلف أواخر المعرب به ، والاختلاف تارة يحصل بالحركة وتارة بحذفها ، وإذا لم يكن مرادهم أن الحركة وحدها الإعراب فكيف يردّ عليهم النقض بالسكون؟!

وأما الخامس فجوابه : أن الإعراب إنما يفسره بالتغيير أو الاختلاف من كان مذهبه أنه معنوي ؛ ومن خالف ذلك فسّره بغير ذلك ، وتفسير الخصم للشيء على مقتضى مذهبه لا يكون حجة على مخالفه.

وقال ابن مالك في (شرح التسهيل) : الإعراب عند المحققين من النحويين عبارة عن المجعول آخر الكلمة مبيّنا للمعنى الحادث فيها بالتركيب من حركة أو سكون أو ما يقوم مقامهما ، وذلك المجعول قد يتغير لتغير مدلوله وهو الأكثر كالضمة والفتحة والكسرة في نحو (ضرب زيد غلام عمرو) وقد يلزم للزوم مدلوله كرفع ، لا نولك أن تفعل ، ولعمرك ، وكنصب سبحان الله ورويدك ، وكجرّ الكلاع وعريط من ذي الكلاع وأم عريط.

وبهذا الإعراب اللازم يعلم فساد قول من جعل الإعراب تغييرا.

وقد اعتذر عن ذلك بوجهين :

أحدهما : أن ما لا يلزم وجها واحدا من وجوه الإعراب فهو صالح للتغيير فيصدق عليه متغير ، وعلى الوجه الذي لازمه تغيير.

٨١

والثاني : أن الإعراب تجدد في حال التركيب فهو تغيير باعتبار كونه منتقلا إليه من السكون الذي كان قبل التركيب.

والجواب عن الأول : أن الصالح لمعنى لم يوجد بعد لا ينسب إليه ذلك المعنى حقيقة حتى يصير قائما به ، ألا ترى أن (رجلا) صالح للبناء إذا ركب مع (لا) و (خمسة عشر) صالح للإعراب إذا فكّ تركيبه ، ومع ذلك لا ينسب إليهما إلا ما هو حاصل في الحال من إعراب (رجل) وبناء (خمسة عشر) ، فكذا لا ينسب تغيير إلى ما لا تغيير له في الحال له.

والجواب عن الثاني : أن المبني على حركة مسبوق بأصالة السكون فهو متغير أيضا وحاله تغيير ، فلا يصلح أن يحد بالتغيير الإعراب لكونه غير مانع من مشاركة البناء ، ولا يخلص من هذا القدح قولهم : لتغير العامل ، فإن زيادة ذلك توجب زيادة فساد لأن ذلك يستلزم كون الحال المنتقل عنها حاصلة لعامل تغير ثم خلفه عامل آخر حال التركيب وذلك باطل بيقين ، إذ لا عامل قبل التركيب ، وإذا لم يصحّ أن يعبّر عن الإعراب بالتغيير ، صحّ التعبير عنه بالمجعول آخرا من حركة وغيرها على الوجه المذكور.

وقال بعضهم : لو كانت الحركات وما يجري مجراها إعرابا لم تضف إلى الإعراب ، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه ، وهذا قول صادر عمّن لا تأمل له ، لأن إضافة أحد الاسمين إلى الآخر مع توافقهما معنى أو تقاربهما واقعة في كلامهم بإجماع ، وأكثر ذلك فيما يقدر أولها بعضا أو نوعا ، والثاني : كلا أو جنسا ، وكلا التقديرين في حركات الإعراب صالح ، فلم يلزم من استعماله خلاف ما ذكرنا ، انتهى.

المبحث الثاني : في وجه نقله من اللغة إلى اصطلاح النحويين

قال ابن فلاح في (المغني) : فيه خمسة أوجه :

أحدهما : أنه منقول من الإعراب الذي هو البيان ، ومنه قوله عليه الصلاة والسّلام : «والثّيّب يعرب عنها لسانها» (١). أي : يبيّن ، والمعنى على هذا أن الإعراب يبيّن معنى الكلمة كما يبين الإنسان عمّا في نفسه.

الثاني : أنه مشتق من قولهم : عربت معدة الفصيل إذا فسدت ، وأعربتها أي :

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في سننه (١ / ٦٠٢) ، ومسلم في صحيحه (٤ / ١٤٠) ، والبخاري في صحيحه (٤ / ١٣١) ، كتاب الحيل ، باب في النكاح.

٨٢

أصلحتها والهمزة للسلب كما تقول : أشكيت الرجل إذا أزلت شكايته ، والمعنى على هذا أن الإعراب أزال عن الكلام التباس معانيه.

الثالث : أنه مشتقّ من ذلك والهمزة للتعدية لا للسلب ، والمعنى على هذا الكلام كان فاسدا لالتباس المعاني ، فلما أعرب فسد بالتغيير الذي لحقه ، وظاهر التغيير فساد وإن كان صلاحا في المعنى.

الرابع : أنه منقول من التحبّب ، ومنه : امرأة عروب ، إذا كانت متحببة إلى زوجها ، والمعنى على هذا أن المتكلم بالإعراب يتحبّب إلى السامع.

الخامس : أنه منقول من أعرب الرجل إذا تكلم بالعربية ، لأن المتكلم بغير الإعراب غير متكلّم بالعربية لأن اللغة الفاسدة ليست من العربية ، انتهى.

والمعنى على هذا أن المتكلم بالإعراب موافق للغة العربية.

المبحث الثالث : في الإعراب والكلام أيهما أسبق

قال الزجاجي في (إيضاح علل النحو) (١) : فإن قال قائل : أخبروني عن الإعراب والكلام أيهما أسبق؟

قيل له : إن للأشياء مراتب في التقديم والتأخير ، إما بالتفاضل أو بالاستحقاق أو بالطبع أو على حسب ما يوجبه المعقول ، فنقول : إن الكلام سبيله أن يكون سابقا للإعراب ، لأنا قد نرى الكلام في حال غير معرب ولا يختلّ معناه ، ونرى الإعراب يدخل عليه ويخرج ومعناه في ذاته غير معدوم ، مثل ذلك أن الاسم نحو : زيد ومحمد وجعفر وما أشبه ذلك ، معربا كان أو غير معرب لا يزول عنه معنى الاسمية ، وكذلك الفعل المضارع نحو : يقوم ويذهب ويركب معربا كان أو غير معرب لا يسقط عنه معنى الفعلية ، وإنما يدخل الإعراب لمعان تعتور هذه الأشياء ، ومع هذا فقد رأينا الشيء من الكلام الذي ليس بمعرب قريبا من معربه كثرة ؛ وذلك أن الأفعال الماضية مبنية على الفتح ، وفعل الأمر للواحد إذا كان بغير اللام مبني على الوقف نحو : (يا زيد اذهب واركب) وحروف المعاني مبنية كلّها ، وكثير من الأسماء بعد هذا مبني ولم تسقط دلالتها على الاسمية ولا معانيها عما وضعت له ، فعلمنا بذلك أن الإعراب عرض داخل في الكلام لمعنى يوجده ويدلّ عليه ، فالكلام إذا سابق في الرتبة والإعراب تابع من توابعه.

__________________

(١) انظر الإيضاح في علل النحو (٦٧).

٨٣

فإن قال : فأخبرني عن الكلام المنطوق به الذي نعرفه الآن بيننا ، أتقولون : إن العرب كانت نطقت به زمانا غير معرب ثم أدخلت عليه الإعراب أم هكذا نطقت به في أول تبلبل ألسنتها به؟

قيل له : هكذا نطقت به في أول وهلة ولم تنطق به زمانا غير معرب ثم أعربته.

فإن قال : من أين حكمتم على سبق بعضه بعضا ، وجعلتم الإعراب الذي لا يعقل أكثر المعاني إلا به ثانيا ، وقد علمتم أنها تكلمت به هكذا جملة.

قيل له : قد عرّفناك أن الأشياء تستحقّ المرتبة والتقديم والتأخير على ضروب فنحكم لكل واحد منها بما يستحقه ، وإن كانت لم توجد إلا مجتمعة ، ألا ترى أنا نقول : إن العرض داخل في الأسود ، عرض الأسود والجسم أقدم من العرض بالطبع والاستحقاق ، وإن العرض قد يجوز أن يتوهم زائلا عن الجسم والجسم باق ، فنقول : إن الجسم الأسود قبل السواد ونحن لم نر الجسم خاليا من السواد الذي هو فيه ولا رأينا السواد قطّ عاريا عن الجسم بل يجوز رؤيته لأن المرئيات إنما هي الأجسام الملونة ولا تدرك الألوان خالية من الأجسام ، ولا الأجسام غير ملونة ، ولم نرد بالأسود هاهنا جسما أسود بحضرتنا بل ما شوهد كذلك من الأجسام ، وكذا القول في الأبيض والأحمر وما أشبه ذلك ، ومنها : أنّا نعلم أن الذّكر في المرتبة مقدم على الأنثى ، ونحن لم نشاهد العالم خاليا من أحدهما ، ثم حدث بعده الآخر إلا ما وقفنا عليه بالخبر الصادق من سبق خلق الذكر الأنثى في خلق آدم وحواء ، وأما في غيرهما فكذلك إن علم بخبر صادق وإلا جاز تقدم كل واحد منها صاحبه ، فكذلك في الكلام والإعراب نقول : إن الإعراب في الاستحقاق داخل على الكلام لما يوجبه مرتبة كل واحد منهما في المعقول ، وإن كان لم يوجدا مفترقين ؛ ونظير ذلك أنّا نقول : إن الأسماء قبل الأفعال ، لأن الأفعال أحداث الأسماء ولم توجد الأسماء زمانا ينطق بها ثم نطق بالأفعال بعدها ، بل نطق بهما معا ، ولكلّ حقه ومرتبته ، وقد أجاز بعض الناس أن تكون العرب نطقت أولا بالكلام غير معرب ثم رأت اشتباه المعاني فأعربته ، ثم نقل معربا فتكلّم به.

المبحث الرابع : في أن الإعراب لم دخل في الكلام؟

قال الزجاجي في الكتاب المذكور (١) ، فإن قال قائل : قد ذكرت أن الإعراب داخل عقب الكلام فما الذي دعا إليه واحتيج إليه من أجله؟

__________________

(١) انظر إيضاح علل النحو (٦٩).

٨٤

فالجواب أن يقال : إن الأسماء لما كانت تعتورها المعاني وتكون فاعلة ومفعولة ومضافة ومضافا إليها ، ولم يكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني ، بل كانت مشتركة ، جعلت حركات الإعراب فيها تنبئ عن هذه المعاني فقالوا : ضرب زيد عمرا ، فدلّوا برفع زيد على أن الفعل له وبنصب عمرو على أن الفعل واقع به وقالوا : (ضرب زيد) فدلّوا بتغيير أول الفعل ورفع زيد على أن الفعل ما لم يسمّ فاعله ، وأن المفعول قد ناب منابه ، وقالوا : (هذا غلام زيد) ، فدلّوا بخفض (زيد) على إضافة الغلام إليه ، وكذلك سائر المعاني جعلوا هذه الحركات دلائل عليها ليتّسعوا في كلامهم ويقدموا الفاعل إذا أرادوا ذلك أو المفعول عند الحاجة إلى تقديمه ، وتكون الحركات دالة على المعاني ، هذا قول جميع النحويين إلا أبا علي قطربا فإنه عاب عليهم هذا الاعتلال وقال : لم يعرب الكلام للدلالة على المعاني والفرق بين بعضها وبعض ، قد نجد في كلامهم أسماء متفقة في الإعراب مختلفة المعاني ، وأسماء مختلفة الإعراب متفقة المعاني.

فمما اتّفق إعرابه واختلف معناه قولك : إن زيدا أخوك ، ولعلّ زيدا أخوك ، وكأن زيدا أخوك ، اتّفق إعرابه واختلف معناه.

ومما اختلف إعرابه واتفق معناه ، قولك : ما زيد قائما وما زيد بقائم ، ثم اختلف إعرابه واتفق معناه ، ومثله : ما رأيته منذ يومين ومنذ يومان ، ولا مال عندك ولا مال عندك ، وما في الدار أحد إلّا زيد ، وما في الدار أحد إلا زيدا. ومثله : إن القوم كلهم ذاهبون ، وإن القوم كلّهم ذاهبون ، ومثله : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٥٤] و (إن الأمر كلّه لله) قرئ (١) بالوجهين جميعا ، ومثله : ليس زيد بجبان ولا بخيلا ولا بخيل ، ومثل هذا كثير جدا مما اتفق إعرابه واختلف معناه ، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه. قال : فلو كان الإعراب إنما دخل الكلام للفرق بين المعاني لوجب أن يكون لكلّ معنى إعراب يدلّ عليه لا يزول إلا بزواله.

قال قطرب : وإنما أعربت العرب كلامها ، لأن الاسم في حال الوقف يلزمه السكون للوقف ، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا ، لكان يلزمه الإسكان في الوقف والوصل ، فكانوا يبطئون عند الإدراج ، فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلنا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام ، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرّك وساكن ولم يجمعوا بين ساكنين في حشو الكلمة ولا في حشو بيت ولا بين أربعة أحرف متحركة ويستعجلون وتذهب الصلة من كلامهم ، فجعلوا الحركة عقيب الإسكان.

__________________

(١) انظر تيسير الداني (٧٦) قراءة أبي عمرو برفع اللام والباقون بنصبها.

٨٥

قيل له : فهلّا لزموا حركة واحدة لأنها مجزئة لهم إذ كان الغرض إنما هو حركة تعقب سكونا؟

فقال : لو فعلوا ذلك لضيّقوا على أنفسهم فأرادوا الاتّساع في الحركات ولم يحظروا على المتكلم الكلام إلا بحركة واحدة ، هذا مذهب قطرب واحتجاجه.

وقال المخالفون له ردّا عليه : لو كان كما ذكر لجاز جرّ الفاعل مرة ورفعه أخرى ونصبه ، وجاز نصب المضاف إليه لأن القصد في هذا إنما هو الحركة تعاقب سكونا يعتدل بها الكلام ، فأي حركة أتى بها المتكلم أجزأته ، فهو مخير في ذلك ، وفي هذا إفساد للكلام وخروج عن أوضاع العرب وحكمة نظم في كلامهم.

واحتجّوا لما ذكره قطرب من اتفاق الإعراب واختلاف المعاني واختلاف الإعراب واتفاق المعاني في الأسماء التي تقدّم ذكرها بأن قالوا : إنما كان أصل دخول الإعراب في الأسماء التي تذكر بعد الأفعال لأنه يذكر بعدها اسمان أحدهما : فاعل والآخر مفعول ، ومعناهما مختلف فوجب الفرق بينهما ثم جعل سائر الكلام على ذلك ، وأما الحروف التي ذكرها فمحمولة على الأفعال.

المبحث الخامس : في أن الإعراب أحركة أم حرف؟

قال (١) الزجاجي : باب القول في الإعراب أحركة أم حرف : قد قلنا إن الإعراب دالّ على المعاني ، وإنه حركة داخلة على الكلام بعد كمال بنائه ، فهو عندنا حركة نحو الضمة في قولك : هذا جعفر ، والفتحة في قولك : رأيت جعفرا ، والكسرة في قولك : مررت بجعفر ، هذا أصله ، ومن المجمع عليه أن الإعراب يدخل على آخر حرف في الاسم المتمكن والفعل المضارع ، وذلك الحرف هو حرف الإعراب فلو كان الإعراب حرفا ما دخل على حرف ، هذا مذهب البصريين.

وعند الكوفيين : أن الإعراب يكون حركة وحرفا ، فإذا كان حرفا قام بنفسه ، وإذا كان حركة لم يوجد إلّا في حرف ، ثم قد يكون الإعراب سكونا وحذفا وذلك الجزم في الأفعال المضارعة وحرفا ، وهذا مما قد ذكرت لك أن الشيء قد يكون له أصل ثم يتسع.

فإن قال قائل : فأين يكون الإعراب سكونا وحذفا وحرفا؟

قيل له : يكون سكونا في الأفعال المضارعة السالمة اللامات نحو : لم يضرب ،

__________________

(١) انظر إيضاح علل النحو (٧٢).

٨٦

ولم يذهب ، وحذفا في هذه الأفعال إذا كانت معتلّة اللامات نحو : لم يقض ولم يغز ولم يخش ، ولكلّ شيء من هذا علّة.

فإن قال قائل : فهل يكون الإعراب حرفا عند سيبويه في شيء من الكلام؟

قلنا : هذا الذي ذكرنا الأصل وعليه أكثر مدار كلام العرب ، وقد ذكرنا أن الشيء يكون له أصل يلزمه ونحو يطرد فيه ، ثم يعرض لبعضه علّة تخرجه عن جمهور بابا ، فلا يكون ذلك ناقضا للباب ، وذلك موجود في سائر العلوم حتى في علوم الديانات كما يقال بالإطلاق : (الصلاة واجبة على البالغين) ، (من سرق من حرز قطع) ، فقد تجد القطع ساقطا عن بعضهم. ولهذا نظائر كثيرة ، فكذلك حكم الإعراب. وحقيقة ما ذكرنا من أنه عرض في بعض الكلام ضرورة دعت إلى جعل الإعراب حرفا وذلك في تثنية الأفعال المضارعة وجمعها وفعل المؤنث المخاطب في المستقبل وذلك في خمسة أمثلة من الفعل وهي يفعلان ويفعلون وتفعلون وتفعلين يا هذه ، وعلامة الرفع في هذه الأفعال الخمسة إثبات النون ، وحذفها علامة الجزم والنصب.

فإن قال قائل : ما الذي أوجب تصيير الإعراب في هذه الأفعال جرفا وهي النون؟

قيل له ما قال سيبويه : وهو أنه قال : الإعراب يدخل على آخر حرف حذف في الكلمة وذلك الحرف يسمّى حرف الإعراب ، وآخر حرف في هذه الأفعال النون ، فلو جعلت النون حرف الإعراب لوجب ضمّها في حال الرفع وفتحها في حال النصب ، وكان يلزم من ذلك أن تسكن في حال الجزم ، ولو أسكنت وجب سقوط الألف التي قبلها والواو والياء لالتقاء الساكنين ، وكان يذهب ضمير الاثنين والجمع والمؤنث في حال تأخير الأفعال بعد الأسماء ، ويسقط علم ذلك في تقديم الأفعال على الأسماء في لغة من يثني ويجمع الفعل مقدما فكان تغيير الفعل كأنه للواحد ويبطل المعنى ، فلما صارت علم الرفع وجب حذفها في الجزم ، لأن الجازم قد يحذف ما يثبت في الرفع ، فإن كان في حال الرفع حرف ساكن حذفه الجازم نحو : لم يغز ولم يخش ، فجعلت النون محذوفة في الجزم لسكونها كما حذفت الياء والواو والألف لسكونها ، وجعل النصب مضموما إلى الجزم ، فحذفت النون فيه أيضا فقيل : لم يفعلا ولن يفعلا ولم يفعلوا ولن يفعلوا ، كما ضمّ النصب في تثنية الأسماء وجمعها إلى الجرّ ، لأن الجزم في الأفعال نظير الجرّ في الأسماء.

فإن قال قائل : فإن النون في : يفعلان وتفعلان وسائر هذه الأفعال متحركة ، وقد

٨٧

حكمت عليها بالسكون وزعمت أن الجازم إنما دخل على حرف ساكن حذفه ، فلم حذفت النون وهي متحركة ، ولم زعمت أنها ساكنة؟

والجواب في ذلك أن يقال له : إن النون في هذه الأفعال مضارعة للسكون كما ذكرنا لأنها ليست بحرف إعراب ، فلما أسكنت وقبلها ساكن حركت لالتقاء الساكنين ، وليست الحركة فيها بلازمة استحقاقا ، فحكمها حكم الساكن ، فلذلك حذفها الجازم.

فإن قال قائل : فهلّا جعلت الحروف التي قبل هذه النون حروف الإعراب؟

فالجواب في ذلك : أن الألف التي قبل هذه النون في يفعلان وتفعلان ، والواو في يفعلون وتفعلون ، والياء في تفعلين ، ليست من بناء الفعل ولا تمامه ، إنما هي ضمير الفاعلين علامة كما ذكرنا ، ولم يجز أن تكون حروف الإعراب كذلك.

فإن قال قائل : ولم جاز أن يجيء إعراب الفعل للمستقبل بعد الفاعل في قولك : الزّيدان يقومان ، والزّيدون يقومون ، وما أشبه ذلك جاءت علامة رفع الفعل بعد الفاعل وهي ثبات النون ، وهو بعد الفاعل يجوز أن يكون إعراب شيء موجودا في غيره ويكون ذلك الشيء معربا؟

قيل له : إن الفعل لما كان لا يخلو من الفاعل ولا يستغنى عنه ضرورة ثم اتّصل به مضمرا صار كبعض حروفه ، وصارت الجملة كلمة واحدة ، فجاز لذلك وقوع الإعراب بعد ضمير الفاعل لما صارت الجملة كلمة واحدة ، والدليل على ذلك إسكان لام الفعل في قولك : فعلت ، أسكنت اللام لئلا يتوالى في كلمة واحدة أربع متحرّكات.

المبحث السادس : في الإعراب لم وقع في آخر الاسم دون أوله وأوسطه

قال (١) الزجاجي : باب القول في الإعراب لم وقع في آخر الاسم دون أوله وأوسطه؟

قال بعض النحويين : الإعراب يدخل في الاسم لمعنى فوجب أن يلفظ به بكماله ثم يؤتى بالإعراب في آخره.

وقال أبو بكر بن الخياط : ليس هذا القول بمرضيّ ، لأنّا قد رأينا الأسماء

__________________

(١) انظر إيضاح علل النحو (٧٦).

٨٨

يدخلها حروف المعاني أولا ووسطا ، فما دخلها أولا كقولك : الرجل والغلام ، وما دخلها وسطا ياء التصغير في قولك : فريخ وفليسن.

ولو كان الأمر على ما ذهب إليه قائل هذا القول لوجب أن لا يدخل على اسم حرف معنى إلا بعد كمال بنائه. قال : والقول عندي فيه هو الذي عليه جملة النحويين أن الاسم يبنى على أبنية مختلفة منها : «فعل وفعل وفعل وفعل» وما أشبه ذلك من الأبنية ، فلو جعل الإعراب وسطا ، لم يدر السامع أحركة إعراب أم حركة بناء ، فجعل الإعراب في آخر الاسم ، لأن الوقف يدرك فيسكن فيعلم أنه إعراب ، فإذا كان وسطا لم يمكن ذلك فيه.

وقال أبو إسحاق الزجاج : كان أبو العباس المبرد يقول : لم يجعل الإعراب أولا لأن الأول تلزمه الحركة ضرورة للابتداء لأنه لا يبتدأ إلا بمتحرك ولا يوقف إلا على ساكن ، فلما كانت الحركة تلزمه لم تدخل عليه حركة الإعراب ، لأن حركتين لا تجتمعان في حرف واحد ، فلما فات وقوعه أولا لم يمكن أن تجعل وسطا ، لأن أوساط الأسماء مختلفة لأنها تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وسداسية وسباعية وأوساطها مختلفة ، فلما فات ذلك جعل آخرا بعد كمال الاسم ببنائه وحركاته.

وقال آخرون : الإعراب إنما دخل في الكلام دليلا على المعاني ، فوجب أن يكون تابعا للأسماء ، لأنه قد قام الدليل على أنه ثان بعدها ، وهذا القول قريب من الأول ، وكل من هذه الأقوال مقنع في معناه.

إعطاء الأعيان حكم المصادر وإعطاء المصادر حكم الأعيان

قال ابن الشجري في أماليه (١) : من مذاهب العرب للمبالغة إعطاء الأعيان حكم المصادر وإعطاء المصادر حكم الأعيان.

فمن ذلك قولهم : أخطب ما يكون الأمير قائما ، (فأخطب) إنما هو للأمير ، وقد أضافوه إلى (ما) المصدرية ، ولفظة أفعل التي وضعوها للمفاضلة مهما أضيفت إليه صارت بعضه ، ولما أضافوا (أخطب) إلى (ما) وهي موصولة بـ (يكون) صار (أخطب) كونا ، فالتقدير : أخطب كون الأمير ، فهذا وصف للمصدر بما يوصف به العين ، والمعنى راجع إلى الأمير ، فلذلك سدّت الحال مسدّ خبر هذا المبتدأ ، إذ الحال لا تسدّ مسدّ خبر المبتدأ إلا إذا كان المبتدأ اسم حدث كقولك : ضربي زيدا جالسا ، ولا تسدّ مسدّ خبر المبتدأ إذا كان اسم عين.

__________________

(١) الأمالي لابن الشجري (١ / ٦٩).

٨٩

ومن إعطاء العين حكم المصادر حتى وصفوه بالمصدر أو جرى خبرا عنه قوله تعالى : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) [يوسف : ١٨] أي : مكذوب به ، وقوله : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) [الملك : ٣٠] أي : غائرا ، وقوله : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) [البقرة : ٢٦٠] أي : ساعيات ، فسعيا مصدر وقع موقع الحال كقولهم ، قتلته صبرا ، أي : مصبورا ، والمعنى : محبوسا.

ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ٤٦] أي : ابنك عمل في أحد الأقوال وهو أوجهها ، جعله العمل اتساعا لكثرة وقوع العمل غير الصالح منه كقولهم : ما أنت إلّا نوم ، وما زيد إلّا أكل وشرب ، وإنما أنت دخول وخروج ، ومنه قول الخنساء : [البسيط]

٤٠ ـ [ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت]

فإنّما هي إقبال وإدبار

فهذا كلّه من تنزيل الأعيان منزلة المصادر.

فأما تنزيل المصادر منزلة الأعيان فكقولهم : موت مائت ، وشيب شائب ، وشعر شاعر ، انتهى.

الأفعال نكرات

لأنها موضوعه للخبر ، وحقيقة الخبر أن يكون نكرة لأنه الجزء المستفاد ، ولو كان الفعل معرفة لم يكن فيه للمخاطب فائدة ؛ لأن حدّ الكلام أن تبتدئ بالاسم الذي يعرفه المخاطب كما تعرفه أنت ثم تأتي بالخبر الذي لا يعلمه ليستفيده ، ذكر ذلك ابن يعيش في (شرح المفصّل) (٢).

ومن فروعه : أن الإضافة إلى الأفعال لا تصحّ ، قال (٣) ابن يعيش : لأن الإضافة ينبغي بها تعريف المضاف وإخراجه من إبهام إلى تخصيص على حسب خصوص المضاف إليه في نفسه ، والأفعال لا تكون إلا نكرات ، ولا يكون شيء منها أخصّ من شيء فامتنعت الإضافة إليها لعدم جدواها ، إلا أنهم قد أضافوا أسماء الزمان إلى

__________________

٤٠ ـ الشاهد للخنساء في ديوانها (ص ٣٨٣) ، وخزانة الأدب (١ / ٤٣١) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٢٨٢) ، والكتاب (١ / ٤٠٠) ، والشعر والشعراء (١ / ٣٥٤) ، لسان العرب (رهط) و (قبل) و (سوا) ، والمقتضب (٤ / ٣٠٥) ، والمنصف (١ / ١٩٧) ، وبلا نسبة في المفصّل (١ / ١١٥) ، والمحتسب (٢ / ٤٣).

(١) شرح المفصّل (١ / ٢٤).

(٢) انظر شرح المفصّل (٣ / ١٦).

٩٠

الأفعال تنزيلا للفعل منزلة المصدر ، واختصّ الزمان بذلك من بين سائر الأسماء لملابسة بين الفعل وبينه ، وذلك لأن الزمان حركة الفلك والفعل حركة الفاعل ، ولاقتران الزمان بالحدث.

وقال أبو القاسم الزجاجي في كتاب (إيضاح علل النحو) (١) : أجمع النحويون كلهم من البصريين والكوفيين على أن الأفعال نكرات ، قالوا : والدليل على ذلك أنها لا تنفكّ من الفاعلين ، والفعل والفاعل جملة تقع بها الفائدة ، والجمل كلها نكرات ، لأنها لو كانت معارف لم تقع بها فائدة ، فلما كانت الجمل مستفادة علم أنها نكرات فلذلك لم تضمر ، وكذلك الأفعال لما كانت مع الفاعلين جملا كانت نكرات ولم يجز إضمارها.

فإن قيل : فإذا كانت الأفعال نكرات فهلا عرّفت كما تعرف النكرات؟

فالجواب عند الفريقين : أن تعريف الأفعال محال ، لأنها لا تضاف كما أنها لا يضاف إليها ولا يدخلها الألف واللام لأنها جملة ، ودخول الألف واللام على الجمل محال.

فإن قيل : لم لا يجوز إضافتها وإن لم يضف إليها؟

قلنا : لأنّ الفعل لا ينفك من فاعل مظهر أو مضمر ، والفعل والفاعل جملة بمنزلة المبتدأ وخبره ، فكما لا يجوز إضافة الجمل كذلك لم يجز إضافة الفعل ، انتهى.

الأفعال كلها مذكّرة

نصّ على ذلك الزجاجي في (الجمل) (٢) قال الشلوبين في تعليله : لأن التأنيث الحقيقي والمجازي وعلامات التأنيث وأحكامه معدومة فيها ، قال : ومنهم من قال : إن فيها مذكّرة ومؤنّثة بحسب مصادرها ، فإذا كان الفعل يدلّ على مصدر مذكر قيل فيه مذكّر بتذكير مصدره ، وإذا كان الفعل يدلّ على مصدر مؤنث قيل فيه مؤنث بتأنيث مصدره.

وقال ابن عصفور في (شرح الجمل) : الدليل على أن الأفعال كلها مذكرة أنها إذا أخبر بها عن الأسماء فإنما المقصود الإخبار بما تضمنه من الحدث وهو المصدر ، والمصدر مذكر ، فدلّ ذلك على أنها مذكرة ، إذ اللفظ على حسب ما يراد

__________________

(١) انظر إيضاح علل النحو (١١٩).

(٢) الجمل (٢٨٦).

٩١

به من تذكير أو تأنيث ، ألا ترى أن لفظ (هند) لما أريد به المؤنّث كان هو مؤنثا ، ولفظ (زيد) لما أريد به المذكّر كان هو مذكرا.

اقتضاء الموضع لفظا : وهو معك إلا أنه ليس بصاحبك

ترجم على ذلك ابن جنّي في (الخصائص) وأورد فيه فروعا (١) : منها قولهم : لا رجل عندك ، فإن (لا) هذه ناصبة لاسمها وهو مفتوح ، إلا أن الفتحة فيه ليست فتحة النصب التي تتقاضاها (لا) بل هي فتحة بناء وقعت موقع فتحة الإعراب الذي عمل عمل (لا) في المضاف. قال : وأصنع من ذلك قولك : لا خمسة عشر لك. فهذه الفتحة التي في راء (عشر) فتحة بناء التركيب في هذين الاسمين ، وهي واقعة موقع فتحة البناء في قولك : لا رجل عندك ، وفتحة لام رجل واقعة موقع فتحة الإعراب في قولك : لا غلام رجل عندك ؛ ويدل على أن فتحة خمسة عشر هي فتحة تركيب الاسمين لا التي تحدثها (لا) ، لأن خمسة عشر لا يغيّرها العامل الأقوى ، أعني الفعل في نحو : جاءك خمسة عشر ، والجارّ في مررت بخمسة عشر ، فإذا كان العامل الأقوى لا يؤثر فيها فالعامل الأضعف الذي هو (لا) أولى.

ومنها قولهم : مررت بغلامي ، فالميم تستحق جرّة الإعراب بالباء والكسرة فيها ليست الموجبة بحرف الجرّ ، بل هي التي تصحب ياء المتكلم في الصحيح ، ويدلّ لذلك ثباتها في الرفع والنصب ، نحو : هذا غلامي ورأيت غلامي ، وهذا يؤذن أنها ليست كسرة الإعراب وإن كانت بلفظها.

ومنها قولك : يسعني حيث يسعك ، فالضمّة في حيث ضمة بناء واقعة موقع ضمة رفع الفاعل ، فاللفظ واحد والتقدير مختلف.

ومنها قولك : جئتك الآن ، فالفتحة فتحة بناء (الآن) ، وهي واقعة موقع فتحة نصب الظرف.

ومنها قولك : كنت عندك في أمس ، فالكسرة كسرة بناء وهي واقعة موقع كسرة الإعراب المقتضية الجرّ.

ومنها قوله : [الطويل]

٤١ ـ وإنّي وقفت اليوم والأمس قبله

ببابك حتّى كادت الشّمس تغرب

__________________

(١) انظر الخصائص (٣ / ٥٦) ، بتصرّف.

٤١ ـ الشاهد لنصيب في ديوانه (ص ٩) ، ولسان العرب (أين) و (أمس) ، وبلا نسبة في الإنصاف (ص ٣٢٠) ، والدرر (٣ / ١٠٩) ، والخصائص (١ / ٣٩٤) ، وشرح شذور الذهب (ص ١٣١) ، والصاحبي في فقه اللغة (ص ١٤٣) ، ولسان العرب (لوم) ، والمحتسب (٢ / ١٩٠) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٠٩).

٩٢

روى قوله (والأمس) بالنصب على الإعراب لأنه لما عرّفه باللام الظاهرة زال عنه تضمّنها فأعرب ، وبالكسر على البناء المعهود فيه ، واللام فيه زائدة ، فإنما يعرف الأمس بلام أخرى مرادة غير هذه مقدرة ، وهذه الظاهرة ملغاة زائدة للتوكيد.

قال : ومثله مما يعرف بلام مرادة ، وفيه لام أخرى غيرها زائدة ، قولك (الآن) فهو معرّف بلام مقدرة ، وهذه الظاهرة فيه زائدة كما ذكره أبو علي.

الإلغاء

فيه فوائد :

الأولى : قال في (الإيضاح) : حقيقته ترك المعنى مع التسليط نحو : زيد قائم ظننت.

قال : وأما قول النحويين في نحو : إنّ زيدا إذن يكرمك ، أن (إذن) ألغيت عنه العمل ففيه تجوّز حيث سمّوه : الإلغاء ، لأن (يكرمك) في المثال خبر ، وما دخلت عليه (إذن) محذوف كجواب (إن) في نحو : زيد إن قمت يقوم ، لأن ما يطلب جوابا لا بدله منه لفظا أو تقديرا ، فكيف يصحّ أن يقال ألغي عنه وهو لم يدخل عليه ولا توجه حكمه عليه ، لكن النحويين تجوزوا في ذلك فسموه إلغاء من حيث دخل على فعل قد يعمل فيه في موضع مّا على وجه مّا فلم يعمل فيه. قال : ويدلّ على هذا أنك إذا قلت : أنا أكرمك إذن ، كيف يصحّ تسليط إذن على ما قبلها ، وإنما حذف جوابها لدلالة ما تقدم عليه ، انتهى.

الثانية : قال أبو حيان : لا ينكر الإلغاء معاني الألفاظ كما يتأوّل في الشيء ما لا يكون في أصله.

وأما إلغاء العمل فلا يكون إلّا فيما لا يكون أصله العمل وهو سماع في الأفعال فأجري في الحروف إذا لم يلغ منها إلا ما كفّ.

الثالثة : نظير باب (ظنّ وأرى) في الإلغاء عند التأخّر وفي التوسط دونه (إذن) فإنها تلغى إذا تأخّرت فلا تنصب بحال ، نحو : أكرمك إذن ، وتلغى في التوسط في أكثر صورها ، وذلك إذا توسطت بين الشرط وجزائه نحو : إن تزرني إذن أكرمك ، أو بين القسم وجوابه نحو : إذن والله لأكرمنّك ، أو بعد عاطف على ما له محلّ من الإعراب نحو : إن تزرني أزرك ، وإذن أحسن إليك ، فإن كان العطف على ما لا محلّ له بأن تقدره في المثال على جملة الشرط جاز حينئذ الإلغاء رعيا لحرف العطف والإعمال ؛ لأن المعنى على استئناف ما بعد حرف العطف لكنه قليل ، والأكثر في

٩٣

لسان العرب إلغاؤها ، وكذا إذا توسّطت بين مبتدأ وخبر نحو : زيد إذن يكرمك ، جاز الإلغاء والإعمال ؛ بقلّة عند الكوفيين ، واختاره ابن مالك. ومذهب البصريين أنه يتحتم الإلغاء كما يتحتم في الصور السابقة.

ونظير آخر رأيته في (الخاطريات) لابن جني ، قال (١) : إذا كانت العين حرف علّة وليت همزة حفظت نفسها في موضعها نحو : قائم وقويئم ، وكذا إن تقدّمت نحو : آدر وأدؤر ، فإن تأخرت لم تحفظ نفسها نحو : شائك وشاك ، ولائت ولات ، وذلك أنها لما تأخرت ضعفت فلم تقو على حفظ نفسها.

الرابعة : قال (٢) ابن يعيش : الإلغاء ثلاثة أقسام : إلغاء في اللفظ والمعنى وإلغاء في اللفظ دون المعنى والعكس ، فالأول : مثل (لا) في (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩]. والثاني : نحو (كان) في (ما كان أحسن زيد). والثالث : حروف الجرّ الزوائد نحو : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ٧٩].

الأمثال لا تغيّر

من ذلك قولهم في مثل : (شرّ أهرّ ذا ناب) (٣) فابتدأوا بالنكرة وجرى مثلا فاحتمل ، والأمثال تحتمل ولا تغير ، ومثله قولهم في المثل : (شيء ما جاء بك) يقوله الرجل لرجل جاءه ومجيئه غير معهود في ذلك الوقت.

ومن ذلك قولهم في المثل : (في أكفانه لفّ الميت) (وفي بيته يؤتى الحكم) (٤) بتقديم الخبر ، وفيه ضمير يعود على المبتدأ المتأخر.

ومن ذلك قولهم : (أصبح ليل) (٥) و (أطرق كرا) (٦) بحذف حرف النداء من النكرة لأنها أمثال معروفة فجرت مجرى العلم في حذف حرف النداء منها. قال المبرد : الأمثال يستجاز فيها ما لا يستجاز في غيره لكثرة الاستعمال لها.

__________________

(١) انظر الخاطريات (ص ٨٤).

(٢) انظر شرح المفصّل (٧ / ١٥٠).

(٣) انظر مجمع الأمثال (٣٧٠) ، والأصل فيه ما أهرّ ذا ناب الأشر ، وذو الناب : السبع ، يضرب في ظهور إمارات الشرّ ومخايله.

(٤) انظر مجمع الأمثال (٢ / ٧٢).

(٥) انظر شرح المفصّل (٢ / ١٦).

(٦) انظر الكتاب (٤ / ٩٢) ، وجمهرة اللغة (٧٥٧) ، وزهر الأكم (٢ / ٣٨) ، ولسان العرب (حزق) ، و (طرق) ، و (زول) ، وهو برواية : (أطرق كرا إن النعام في القرى) ، في جمهرة الأمثال (١ / ١٩٤) ، وخزانة الأدب (٢ / ٣٧٤) ، والمستقصى (١ / ٢٢١) ، ومجمع الأمثال (١ / ٤٣١).

٩٤

ومن ذلك قولهم : (هذا ولا زعماتك) أي : هذا هو الحقّ ولا أتوهّم زعماتك ، قال ابن يعيش : ولا يجوز ظهور هذا العامل الذي قبله أتوهم لأنه جرى أتوهم مثلا ، والأمثال لا تغير وظهور عامله ضرب من التغيير.

ومثله : قولهم (كليهما وتمرا) (١) أي : أعطني ، (وامرؤا ونفسه) أي : دعه ، (وأهلك واللّيل) (٢) أي : بادرهم ، و (كلّ شيء ولا شتيمة حرّ) أي : إيت كلّ شيء ولا ترتكب شتيمة حرّ (٣).

قال ابن يعيش : ولم تظهر الأفعال في هذه الأشياء كلّها لأنها أمثال.

وقال ابن السراج في (الأصول) (٤) : نعم وبئس وحبّذا جعلت كالأمثال لا ينبغي أن نستجيز فيها إلا ما أجازوه.

وقال الزجاجي (في الإيضاح) (٥) : وأمّا القول في إضافة ذي إلى الفعل في قولهم (اذهب بذي تسلم) فإن هذه اللفظة جرت في كلامهم كالمثل.

قال الأصمعي : تقول العرب (اذهب بذي تسلم) والمعنى : اذهب والله يسلمك دعاء له بالسلامة ، واذهبا بذي تسلمان. والمعنى : اذهبا والله يسلمكما ، واذهبوا بذي تسلمون ، والمعنى والله يسلمكم. وإذا كانت هذه الكلمة جارية مجرى المثل فإن الأمثال تحتمل ما لا يحتمل غيرها وتزال كثيرا عن القياس ، كذلك مجراها في كلامهم ، واحتمل ذلك فيها لقلة دورها في الكلام.

الإيجاب

الإيجاب أصل لغيره من النفي والنهي والاستفهام وغيرها تقول مثلا : قام زيد ، ثم تقول في النفي : ما قام زيد ، وفي الاستفهام : أقام زيد؟ وفي النهي : لا تقم ، وفي الأمر : قم ، فترى الإيجاب يتركّب من مسند ومسند إليه ، وغيره يحتاج إلى دلالة في التركيب على ذلك الغير ، وكلما كان فرعا احتاج إلى ما يدلّ به عليه كما احتاج التعريف إلى علامة من (أل) ونحوها ، لأنه فرع التنكير ، والتأنيث إلى علامة من تاء أو ألف لأنه فرع التذكير ، ذكره أبو حنّان في (شرح التسهيل).

__________________

(١) انظر مجمع الأمثال (٢ / ١٥١) ، ونهاية الأرب (٣ / ٤٨) ، وفصل المقال (١١٠).

(٢) انظر مجمع الأمثال (١ / ٥٢) ، والخصائص (١ / ٢٧٩).

(٣) انظر شرح المفصّل (٢ / ٢٦).

(٤) انظر الأصول (١ / ١٤١).

(٥) انظر إيضاح علل النحو (١١٧).

٩٥

حرف الباء

باب الشرط مبناه على الإبهام

وباب الإضافة مبناه على التوضيح

ولهذا لما أريد دخول (إذ ، وحيث) في باب الشرط لزمتهما (ما) لأنهما لازمان للإضافة ، والإضافة توضحهما فلا يصلحان للشرط حينئذ ، فاشترطنا (ما) لتكفّهما عن الإضافة فيبهمان فيصلح دخولهما في الشرط حينئذ ، ذكره ابن النحاس في (التعليقة).

البدل

قال الشيخ بهاء الدين بن النحاس في (التعليقة) : الفرق بين البدل والعوض أن العوض لا يحلّ محلّ المعوض منه ، والبدل إنما يكون محلّ المبدل منه. وقال أبو حيان في تذكرته : البدل لغة العوض ويفترقان في الاصطلاح ، والبدل أحد التوابع يجتمع مع المبدل منه ؛ وبدل الحرف من غيره لا يجتمعان أصلا ، ولا يكون إلا في موضع المبدل منه ، والعوض لا يكون في موضعه ، وربما اجتمعا ضرورة وربما استعملوا العوض مرادفا للبدل في الاصطلاح ، انتهى.

وقال ابن فلاح في (المغني) في قول الشاعر : [الطويل]

٤٢ ـ هما نفثا في فيّ من فمويهما

[على النّابح العاوي أشدّ رجام]

فيه وجهان : أحدهما : أنه جمع بين العوض والمعوّض لضرورة الشعر ، والثاني : أن الميم بدل من الواو وليست بعوض ، والبدل يجتمع مع المبدل منه بدليل : مررت بأخيك زيد ؛ والعوض لا يجتمع مع المعوّض ، فالبدل أعمّ من العوض. قال : وهذا ضعيف ، لأن الكلام في إبدال الحرف من الحرف كألف قام وياء ميزان ولا يجمع بين البدل والمبدل منه في ذلك. وقال في موضع آخر : قد يوجد في البدل فائدة لا توجد

__________________

٤٢ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (٢١٥) ، والكتاب (٣ / ٤٠١) ، وتذكرة النحاة (ص ١٤٣) ، وجواهر الأدب (ص ٩٥) ، وخزانة الأدب (٤ / ٤٦٠) ، والدرر (١ / ١٥٦) ، وسرّ صناعة الإعراب (١ / ٤١٧) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٢٥٨) ، وشرح شواهد الشافية (ص ١١٥) ، ولسان العرب (فمم) ، و (فوه) ، والمحتسب (٢ / ٢٣٨) ، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ٢٣٥) ، وجمهرة اللغة (ص ١٣٠٧) ، والخصائص (١ / ١٧٠) ، وشرح شافية ابن الحاجب (٣ / ٢١٥).

٩٦

في المبدل منه ، بدليل أن التاء في بنت وأخت بدل من لام الكلمة وتدلّ على التأنيث.

وقال (١) ابن يعيش : البدل على ضربين : بدل هو إقامة حرف مقام حرف غيره نحو : تاء تخمة وتكأة ؛ وبدل هو قلب الحرف بنفسه إلى لفظ غيره على معنى إحالته إليه ، وهذا إنما يكون في حروف العلة التي هي الواو والياء والألف ، وفي الهمزة أيضا لمقارنتها إياها وكثرة تغيرها وذلك نحو : قام ، أصله قوم ، فالألف واو في الأصل وموسر أصله الياء ، ورأس وآدم أصل الألف الهمزة ، وإنما ليّنت همزتها فاستحالت ألفا ، فكلّ قلب بدل وليس كل بدل قلبا.

وقال ابن جني في (الخصائص) (٢) ، باب في فرق بين العوض والبدل : جماع ما في هذا أنّ البدل أشبه بالمبدل منه من العوض بالمعوض منه ، وإنما يقع البدل في موضع المبدل منه والعوض لا يلزم فيه ذلك. ألا تراك تقول في الألف من (قام) إنها بدل من الواو التي هي عين الفعل ، ولا تقول فيها إنها عوض منها. وكذلك يقال في واو (جون) وياء (بير) أنها بدل للتخفيف من همزة جؤن وبئر ، ولا تقول إنها عوض منها ، وتقول في لام (غازي) و (داعي) إنها بدل من الواو ولا تقول إنها عوض منها ، وتقول في العوض : إن التاء في عدة وزنة عوض من فاء الفعل ، ولا تقول إنها بدل منها.

فإن قلت ذلك فإن أقلّه وهو تجوّز في العبارة! وتقول في ميم (اللهم) إنها عوض من (ياء) في أوله ولا تقول بدل ، وتقول في تاء (زنادقة) إنها عوض من ياء (زناديق) ولا تقول بدل منها ، وفي ياء (أينق) إنها عوض من واو (أنوق) فيمن جعلها أيفل ، ومن جعلها عينا مقدمة مغيرة إلى الياء جعلها بدلا من الواو ، فالبدل أعمّ تصرّفا من العوض ، فكل عوض بدل وليس كل بدل عوضا ، والعوض مأخوذ من لفظ عوض وهو الدهر ، وذلك أن الدهر إنما هو مرور اللّيالي والأيام وتصرّم أجزائهما ، فكلما مضى جزء منه خلفه جزء آخر يكون عوضا منه ، فالوقت الكائن الثاني غير الوقت الماضي الأول ، فلهذا كان العوض أشدّ مخالفة للمعوض منه من البدل ، انتهى.

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (١٠ / ٧).

(٢) انظر الخصائص (١ / ٢٦٩).

٩٧

حرف التاء

التأليف

قال الإمام تقي الدين منصور بن فلاح في (المغني) : التأليف حقيقة في الأجسام مجاز في الحروف. وقال الإمام بهاء الدين بن النحاس في (التعليقة) : الفرق بين التأليف والتركيب أنه لا بدّ في التأليف من نسبة تحصل فائدة تامة مع التركيب ، فالمركب أعمّ من المؤلف. وقال ابن القواس في (شرح ألفية ابن معطي) : التأليف أخصّ من التركيب من الألفة وهي الملائمة أصله في الأجسام ، وأطلق على الألفاظ المتتالية تشبيها بها.

التابع لا يتقدّم على المتبوع

ومن فروعه : إذا قلت : ما قام إلّا زيد إلا عمرو ، إن رفعت الأول على الفاعلية جاز فيما بعده الرفع على البدل بدل البدء ، أو النصب على الاستثناء فتقول : ما قام إلّا زيد إلا عمر ، وإن شئت إلا عمرا ، وإن أقمت الأخير نصبت المتقدّم على الاستثناء لأن التابع لا يتقدّم على المتبوع.

التثنية تردّ الأشياء إلى أصولها

قال أبو الحسن الأبدي في (شرح الجزولية) : يعترض على الجزولي في إطلاقه بناء أسماء الزمان المضافة إلى الجمل : بأنه كان ينبغي أن يقول : بشرط أن لا تكون مثنى لأن التثنية تردّ الأشياء إلى أصولها من الإعراب ، ولذلك لم يبن اثنا عشر ، وأما قولهم : يا زيدان فإنما جاز لأنه يشابه الإعراب ، ألا ترى أنه يتبع على لفظه كالمعرب ، انتهى.

ومن ذلك قول من قال : إنّ المثنى من أسماء الإشارة والموصولات معرب لأن التثنية ردّتها إلى أصولها من الإعراب.

وممّا ترده التثنية إلى الأصل قولهم : أبوان وأخوان وحموان وفموان وفميان ويديان ودميان وذواتا في تثنية ذات ، وقلب ألف المقصور إلى الياء أو الواو والتي هي الأصل نحو فتيان وقفوان ، وقلب الهمزة المبدلة من واو ، واوا.

٩٨

التحريف

عقد له ابن جنّي في (الخصائص) (١) فصلا قال : وقد جاء في ثلاثة أضرب : الاسم والفعل والحرف ، فالاسم يأتي تحريفه على ضربين : مقيس ومسموع.

الأول : ما غيّره النسب قياسا كقولك في نمر : نمريّ ، وفي قاضي : قاضوي ، وفي حنيفة : حنفيّ ، وفي عدي : عدويّ ونحو ذلك ، وكذلك التحقير وجمع التكسير نحو رجيل ورجال.

والمسموع كثير : كقولهم في خراسان : خرسيّ ، وفي دستوا : دستوانيّ ، وفي الأفق أفقي ، وتحريف الفعل كقولهم في ظللت ظلت ، وفي أحسست أحست. وحكى ابن الأعرابي في ظننت : ظنت ، وهذا كلّه لا يقاس ، لا يقال في شممت : شمت ، ولا في أقصصت : أقصت.

ومن تحريف الفعل ما جاء مقلوبا كقولهم في اضمحلّ امضحل ، وفي اكفهرّ اكرهف ، وفي اطيبت أيطبت ، وكذا قولهم (لم أبله) (٢) ، وتحريف الحرف قولهم : لا بل ولا بن ، وقام زيد فمّ عمرو أي : ثم عمرو ، وهو إن كان بدلا فإنه ضرب من التحريف ، وقالوا في سوف : (سو) و (سف) حرّفوا الواو تارة والفاء أخرى ، وخفّفوا : ربّ وإنّ وأنّ ، وحذفوا (ما) من (إمّا) في قوله : [المتقارب]

٤٣ ـ سقته الرّواعد من صيّف

وإن من خريف فلن يعدما

مذهب سيبويه أنه أراد «وإمّا من خريف».

التركيب

التركيب فيه مباحث :

الأول : أنه خلاف الأصل لأنه بعد الإفراد ، ثم ردّ على من زعم أن (ألا) و (أما) للاستفتاح مركبتان من همزة الاستفهام و (لا) و (ما) النافية ، وعلى من زعم تركيب (لن) و (لو لا) و (إذن) و (منذ) و (مهما) و (إما).

__________________

(١) انظر الخصائص (٢ / ٤٣٦).

(٢) انظر الكتاب (٤ / ٥٤٧).

٤٣ ـ الشاهد للنمر بن تولب في ديوانه (ص ٣٨١) ، والكتاب (١ / ٣٢٥) ، والأزهيّة (ص ٥٦) ، وخزانة الأدب (١١ / ٩٣) ، وشرح شواهد المغني (ص ١٨٠) ، والمعاني الكبير (ص ١٠٥٤) ، والمقاصد النحوية (٤ / ١٥١) ، وبلا نسبة في الجنى الداني (ص ٢١٢) ، وخزانة الأدب (٩ / ٢٥) ، والخصائص (٢ / ٤٤١) ، والدرر (٦ / ١٢٨) ، وشرح المفصّل (٨ / ١٠٢) ، والمنصف (٣ / ١١٥).

٩٩

قال (١) ابن يعيش : وإنما قلنا إن المفرد أصل لأنه الأول والمركّب ثان ، فإذا استقلّ المعنى في الاسم المفرد ثم وقع موقع الجملة فالاسم المفرد هو الأصل والجملة فرع عليه.

قال : ونظير ذلك في الشريعة شهادة المرأتين فرع على شهادة الرجل.

الثاني : قال (٢) ابن يعيش وصاحب (البسيط) : المركّب من الأعلام هو الذي يدلّ بعد النقل على حقيقة واحدة وقبل النقل كان يدلّ على أكثر من ذلك وكان يدلّ بعض لفظه على بعض معناه ، وهو على ثلاثة أضرب :

الجملي : نحو : تأبّط شرّا ، وشاب قرناها ، وبرق نحره. والإضافي : نحو : ذي النون ، وعبد الله ، وامرئ القيس. والمزجيّ : وهو اسمان ركب أحدهما مع الآخر حتى صارا كالاسم الواحد ، نحو : حضرموت وبعلبك ؛ ومعد يكرب ، وشبّه بما فيه هاء التأنيث ولذلك لا ينصرف ، ومن هذا النوع سيبويه ، ونفطويه ، وعمرويه ، إلا أنه مركّب من اسم وصوت أعجمي فانحطّ عن درجة إسماعيل وإبراهيم فبني على الكسر لذلك.

وقال السّخاوي في (شرح المفصل) : أكثر ما يطلق النحاة المركب على بعلبك وبابه.

الثالث : قال ابن يعيش : التركيب من الأسباب المانعة من الصرف من حيث كان التركيب فرعا على الواحد وثانيا له ، لأن البسيط قبل المركب وهو على وجهين :

أحدهما : أن يكون من اسمين ويكون لكلّ واحد من الاسمين معنى ، فيكون حكمهما حكم المعطوف أحدهما على الآخر ، فهذا يستحقّ البناء لتضمّنه معنى حرف العطف ، وذلك نحو : خمسة عشر وبابه ، ألا ترى أن مدلول كلّ واحد من الخمسة والعشرة مراد ، كما لو عطفت أحدهما على الآخر فقلت : خمسة وعشرة ، فلما حذفت حرف العطف وتضمن الاسمان معناه بنيا.

وأما القسم الثاني وهو الداخل في باب ما لا ينصرف : فهو أن يكون الاسمان لشيء واحد ولا يدلّ كل واحد منهما على معنى ، ويكون موقع الثاني من الأول موقع هاء التأنيث ، وما كان من هذا النوع فإنه يجري مجرى ما فيه هاء التأنيث من أنه لا

__________________

(١) انظر شرح المفصل (٣ / ٥٤).

(٢) انظر شرح المفصّل (١ / ٢٨).

١٠٠