الأشباه والنظائر في النحو - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

الخمسة : جعفليق ، وحنبريت ، ودردبيس ، وعضرفوط ، وقرطبوس ، وقرعبلانة ، وفنجليس.

ومن ذلك استغناؤهم بواحد عن اثن ، وباثنين عن واحدين ، وبستة عن ثلاثتين ، وبعشرة عن خمستين ، وبعشرين عن عشرتين ، وما جرى هذا المجرى ، وأجاز أبو الحسن : أظننت زيدا عمرا عاقلا ، ونحو ذلك ، وامتنع منه أبو عثمان ، وقال : استغنت العرب عن ذلك بقولهم : جعلته يظنّه عاقلا ، انتهى كلام ابن جنّي.

وقال الزمخشري في (الأحاجي) (١) : سرادق وحمّام وإيوان في الأسماء وسبحل وسبطر في الصفات ، لم يجمعوها إلا بالألف والتاء ، وهي مذكرات وإنما قصر جمعها على ذلك استغناء به عن التكسير ، كما استغنوا بأشياء عن أشياء.

ومن ذلك استغناؤهم بإليه عن حتّاه ، وبمثله عن كه ، وقال سيبويه (٢) : وقد يجمعون الشيء بالتاء ولا يجاوزون به استغناء ، وذكر سيات (٣) وشيات ، ومن عكس ذلك استغناؤهم بشفاه وشياه عن الجمع بالألف والتاء.

وقال الشلوبين : استغنوا عن تثنية أجمع وأبصع وأبتع في باب التوكيد بكليهما ، كما استغنوا عن جمع امرئ بقولهم قوم.

وقال أيضا : كأنّ العرب استغنت عن الجزم بكيف بالجزم بغيره مما هو في معناه ، على عادتهم من أنهم قد يستغنون بالشيء عما هو في معناه ، وكان هذا هنا ليكون ذلك كالتنبيه على أن الجزم عندهم بالأسماء ليس أصلا ، كما فعلوا في الاستغناء بتصغير المفرد وجمعه بالألف والتاء في اللاتي فقالوا : اللّتيا ، واستغنوا بذلك عن اللّويتيا (٤) في تصغير اللّاتي لعدم تمكن التصغير في الأسماء المبهمة.

وقال أبو حيان : واستغنوا بتصغير عشيّ عن تصغير قصر بمعناه (٥) ، وبقولهم في جمع صبيّ وغلام : صبية وغلمة عن أصبية وأغلمة ، وبقولهم في صغير وصبيح وسمين : صغار وصباح وسمان عن صغراء وصبحاء وسمناء ، وبقولهم في نحو وليّ وغنيّ : أولياء وأغنياء عن فعلاء ، وبقولهم : حكّام وحفّاظ جمع حاكم وحافظ عن جمع حكيم وحفيظ.

قال أبو حيان : هذا عندي من باب الاستغناء خلافا لقول ابن مالك في (التسهيل) (٦)

__________________

(١) الأحاجي النحوية (ص ١٠٠).

(٢) انظر الكتاب (٤ / ٧٦).

(٣) لا يوجد في الكتاب (سيات) ولكن يوجد (ظبات).

(٤) انظر شرح التسهيل (٦ / ١٤٠).

(٥) انظر شرح التسهيل (٦ / ١٣٨) ، والكتاب (٣ / ٥٤٣).

(٦) انظر شرح التسهيل (٦ / ١٠١).

٦١

إنهما جمع حكم وحفيظ على وجه الندور ، قال : وكذا قولهم بررة عندي أنه من باب الاستغناء عن جمع برّ بجمع بارّ إذ قد سمع بارّ وبررة وليس جمعا لبرّ ندورا خلافا لما قيل في (التسهيل) ، وباب الاستغناء في الجموع أكثر من أن يحصى.

وقال ابن يعيش (١) : العلم الخاص لا يجوز إضافته ولا إدخال لام التعريف فيه لاستغنائه بتعريف العلمية عن تعريف آخر. وفي (البسيط) باب أفعل فعلاء ، وفعلان فعلى لا تلحقه تاء التأنيث استغناء بفعلاء أو فعلى عن التأنيث بها.

وقال : قد يكون الجمع لمفرد في التقدير غير مستعمل في اللفظ فيستغنى بجمع المقدر عن جمع الملفوظ به ، كما استغني بمصدر بعض الأفعال عن مصدر بعضها نحو : أنا أدعه تركا ، وبمطاوع بعض الأفعال عن مطاوع بعض نحو : أنخته فبرك ، ولم يقولوا : فناخ. فما جاء من الجمع لمفرد مقدّر : باطل وأباطيل وقياس مفرده : إبطال أو إبطيل ، وعروض وأعاريض وقياس مفرده : إعريض ، وحديث وأحاديث وقطيع وأقاطيع.

الاسم أصل للفعل والحرف

قال الشلوبين : ولذلك جعل فيه التنوين دونهما ليدلّ على أنه أصل وأنهما فرعان ، قال : وإنما قلنا إن الاسم أصل والفعل والحرف فرعان ، لأن الكلام المفيد لا يخلو من الاسم أصلا ويوجد كلام مفيد كثير لا يكون فيه فعل ولا حرف ، فدلّ ذلك على أصالة الاسم في الكلام وفرعية الفعل والحرف فيه. وأيضا فإن الاسم يخبر به ويخبر عنه ، والفعل لا يكون إلّا مخبرا به ، والحرف لا يخبر به ولا يخبر عنه ، فلما كان الاسم من الثلاثة هو الذي يخبر به ويخبر عنه دون الفعل والحرف ، دلّ ذلك على أنه أصل في الكلام دونهما ، انتهى.

وقال الزجاجي في كتاب (إيضاح علل النحو) (٢) :

باب القول في الاسم والحرف

أيهما أسبق في المرتبة والتقديم

قال البصريون والكوفيون : الأسماء قبل الأفعال ، والحروف تابعة للأسماء ،

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (١ / ٤٤).

(٢) انظر كتاب الإيضاح في علل النحو (ص ٨٣).

٦٢

وذلك أنّ الأفعال أحداث الأسماء ، يعنون بالأسماء أصحاب الأسماء ، والاسم قبل الفعل ، لأن الفعل منه ، والفاعل سابق لفعله. وأما الحروف فإنما تدخل على الأسماء والأفعال لمعان تحدث فيها ، وإعراب تؤثره ، وقد دللنا على أن الأسماء سابقة للإعراب والإعراب داخل عليها ، والحروف عوامل في الأسماء ، والأفعال مؤثرة فيها المعاني والإعراب قد وجب أن يكون بعدها.

سؤال يلزم القائلين بهذه المقالة :

يقال لهم : قد أجمعتم على أن العامل قبل المعمول فيه كما أن الفاعل قبل فعله ، وكما أن المحدث سابق لحدثه. وأنتم مقرّون أن الحروف عوامل في الأسماء والأفعال ، فقد وجب أن تكون الحروف قبلها جميعا سابقة لها ، وهذا لازم على أوضاعكم ومعانيكم.

الجواب ، أن يقال : هذه مغالطة ليس تشبه هذا الحديث المحدث ولا العلّة ولا المعلول ، وذلك أنّا نقول : إن الفاعل في جسم فعلا ما ، من حركة وغيرها سابق لفعله ذلك فيه لا للجسم ، فنقول : إنّ الضارب سابق لضربه الذي أوقعه بالمضروب ولا يجب من ذلك أن يكون المضروب أكبر سنّا من الضارب ، ونقول أيضا : إن النجّار سابق للباب الذي نجّره ، ولا يجب من ذلك أن يكون سابقا للخشب الذي نجر منه الباب ، وكذلك مثال هذه الحروف العوامل في الأسماء والأفعال وإن لم تكن أجساما ، فنقول : الحروف سابقة لعملها في هذه الأسماء والأفعال الذي هو الرفع والنصب والخفض والجزم ، ولا يجب من ذلك أن تكون سابقة للأسماء والأفعال نفسها ، وهذا شيء بيّن واضح ، انتهى.

الاسم أخفّ من الصفة

وذلك أن الصفة ثقلت بالاشتقاق وبالحاجة إلى الموصوف وتتحمل الضمير ، وفرع على ذلك فروع

منها : أن الجمع بالألف والتاء تسكّن فيه العين في الصفة كصعبة وصعبات وجذلة وجذلات وعيشة رغد وعيشات رغدات ، وطريق نهج أي واضح وطرق نهجات ، وتحرّك في الاسم كجفنة وجفنات وهند وهندات وسدرة وسدرات وغرفة وغرفات قال : [الطويل]

٣٨ ـ لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضّحى

[وأسيافنا يقطرن من نجدة دما]

__________________

٣٨ ـ الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه (١٣١) ، والكتاب (٤ / ٥٧) ، وأسرار العربية (ص ٣٥٦) ،

٦٣

وشذّ تحريك الصفة في قولهم : شاة لجبة ، لجبات أي : قليلات الألبان. وقال أبو علي : من العرب من يحرّك (لجبة) في الإفراد فجاء الجمع على لغته وتسكين الاسم ضرورة في قوله : [الطويل]

٣٩ ـ أبت ذكر عوّدن أحشاء قلبه

خفوقا ورقصات الهوى في المفاصل

قال في (البسيط) : وإنما فعل ذلك فرقا بين الاسم والصفة ، وخصّ الاسم بالحركة لخفّته وثقل الصفة.

قال : وبيان ثقل الصفة من أوجه :

أحدها : أنها تناسب الفعل في الاشتقاق.

الثاني : أنها تناسبه في تحمل الضمير.

الثالث : أنها تناسبه في العمل.

الرابع : أنها تفتقر إلى موصوف تتبعه ، فلما ثقلت من هذه الجهات أشبهت ثقل المركّب ، فكان زيادة الحركة للفرق على الخفيف أولى من زيادتها على الثقيل.

وقال ابن يعيش في (شرح المفصّل) (٢) : الفرق بين الاسم والصفة من حيث اللفظ أن الاسم غير الصفة ما كان جنسا غير مأخوذ من فعل نحو : رجل وفرس وعلم وجهل. والصفة : ما كان مأخوذا من الفعل نحو : اسم الفاعل واسم المفعول كضارب ومضروب وما أشبههما من الصفات الفعلية ، وأحمر وأصفر وما أشبههما من صفات الحلية ، ومصريّ ومغربيّ ونحوهما من صفات النسبة.

قال : والفرق بينهما من حيث المعنى أن الصفة تدلّ على ذات وصفة نحو : (أسود) مثلا ، فهذه الكلمة تدلّ على شيئين ، أحدهما : الذات والآخر السواد ، إلا أن دلالتها على الذات دلالة اسمية ودلالتها على السواد من جهة أنه مشتقّ من لفظه فهو خارج ، وغير الصفة لا يدلّ إلا على شيء واحد وهو ذات المسمّى.

__________________

وخزانة الأدب (٨ / ١٠٦) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٥٢١) ، وشرح المفصّل (٥ / ١٠) ، ولسان العرب (جدا) ، والمحتسب (١ / ١٨٧) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٥٢٧) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٢٠٦) ، والمقتضب (٢ / ١٨٨).

٣٩ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ١٣٣٧) ، وخزانة الأدب (٨ / ٨٧) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٢٤٧) ، وشرح المفصّل (٥ / ٢٨) ، ولسان العرب (شنب) ، والمحتسب (١ / ٥٦) ، والمقتضب (٢ / ١٩٢).

(١) انظر شرح المفصّل (١ / ٢٦).

٦٤

الاشتقاق

بسطت الكلام عليه فيما يتعلق باللغة في (المزهر) (١) ونذكر هنا فوائد متعلقة بالنحو :

الفعل والمصدر أيهما أصل :

الأولى : مذهب البصريين ، أن الفعل مشتقّ من المصدر ، وقال الكوفيون (٢) : المصدر مشتقّ من الفعل ، وقال أبو البقاء في (التبيين) : ولما كان الخلاف واقعا في اشتقاق أحدهما من الآخر لزم في ذلك بيان شيئين :

أحدهما : حد الاشتقاق. والثاني : أن المشتقّ فرع على المشتقّ منه. فأما الحدّ ، فأقرب عبارة فيه ما ذكره الرماني وهو قوله : الاشتقاق : اقتطاع فرع من أصل يدور في تصاريفه الأصل ، فقد تضمّن هذا الحدّ معنى الاشتقاق ولزم منه التعرّض للفرع والأصل.

أما الفرع والأصل فهما في هذه الصناعة غيرهما في صناعة الأقيسة الفقهية ، فالأصل هاهنا يراد به الحروف الموضوعة على المعنى وضعا أوليا ، والفرع لفظ يوجد فيه تلك الحروف مع نوع تغيير ينضمّ إليه معنى زائد على الأصل ، والمثال في ذلك : (الضرب) مثلا ، فإنه اسم موضوع على الحركة المعلومة المسمّاة (ضربا) ، ولا يدلّ لفظ الضرب على أكثر من ذلك ، فأما ضرب ، ويضرب وضارب ، ومضروب ، ففيها حروف الأصل وهي : الضاد والراء والباء ، وزيادات لفظية لزم من مجموعها الدلالة على معنى الضرب ومعنى آخر.

وقال الزملكاني في (شرح المفصّل) : مأخذ الخلاف بين البصريين والكوفيين في أن المصدر مشتقّ من الفعل أو عكسه ، الخلاف في حدّ الاشتقاق ، فقال قوم : هو عبارة عن الإتيان بألفاظ يجمعها أصل واحد مع زيادة أحدهما على الآخر في المعنى ، نحو قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) [الروم : ٤٣].

وقوله عليه الصلاة والسّلام : «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» (٣) ، وأما قوله تعالى : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) [الرحمن : ٥٤] ، فشبه المشتقّ ، وليس به لأن الجنى ليس في معنى الاجتنان.

__________________

(١) انظر المزهر للسيوطي (١ / ٣٤١).

(٢) انظر الإنصاف مسألة (٢٨).

(٣) انظر الشفاء للقاضي عياض (١ / ١٧٥).

٦٥

وقال بعضهم : الاشتقاق أن تجد بين اللّفظين مشاركة في المعنى والحروف الأصول مع تغيير ما. أما المشاركة في المعنى فلأنهم لا يجعلون الوجد والموجود من باب الاشتقاق ، وأما المشاركة في الحروف الأصول فلأنهم لا يقولون : إن الكاذب والمائن من أصل واحد. وأما التغيير من وجه فلا بدّ منه وإلّا لكان هو إياه.

ثم إن التغيير قد يكون بزيادة ، وقد يكون بنقصان ، وقد يكون بتغيير حركة. ولا بدّ من زيادة أحدهما على الآخر في المعنى وإلا لزم أن تكون المصادر التي هي من أصل واحد بعضها مشتقّ من بعض نحو : كلّ بصري كلولا وكلّة ، وحسبت الحساب حسبا وحسبانا ، وقدرت الشيء ـ من التقدير ـ قدرا وقدرانا ، وقدرت على الشيء بمعنى قويت عليه قدرة وقدرانا وتقدرة ومقدرة ، فهذا ونحوه متّحد الأصل ، مع أنه لا ينبغي أن يقال : أحدهما مشتقّ من الآخر ، على أن ذلك بحث لفظي آئل إلى مجرّد اصطلاح.

وأما المشتقّ فهو ما وافق غيره في حروفه الأصول ومعناه الأصلي وزاد معنى من غير جنس معناه.

قال : وإنما قلت من غير جنس معناه لتخرج التثنية والجمع ، ويدخل المصغّر والمنسوب ، فنسبة المشتقّ إلى المشتقّ منه نسبة الأخصّ إلى الأعمّ ، نحو إنسان وحيوان. قال : وهذا إن سلّمه الكوفيون لزم أن يكون الفعل مشتقا من المصدر لموافقته للمصدر في معناه وزيادته عليه بالدلالة على الزمان المخصوص.

الثانية : قال أبو البقاء في (التبيين) (١) : الدليل على أن الفعل مشتقّ من المصدر طرق :

منها : وجود حدّ الاشتقاق في الفعل ، وذلك أن الفعل يدلّ على حدث وزمان مخصوص فكان مشتقا وفرعا على المصدر كلفظ ضارب ومضروب ، وتحقيق هذه الطريقة أن الاشتقاق يراد لتكثير المعاني ، وهذا المعنى لا يتحقق إلا في الفزع الذي هو الفعل ، وذلك أن المصدر له معنى واحد وهو دلالته على الحدث فقط ولا يدل على الزمان بلفظه ، والفعل يدلّ على الحدث والزمان المخصوص ، فهو بمنزلة اللفظ المركب ، فإنه يدلّ على أكثر مما يدلّ عليه المفرد ، ولا تركيب إلا بعد الإفراد ، كما أنه لا دلالة على الحدث والزمان المخصوص إلا بعد الدلالة على الحدث وحده ، وقد

__________________

(١) انظر كتاب مسائل خلافية في النحو (٧٤).

٦٦

مثل ذلك بالنّقرة (١) من الفضة ، فإنها كالمادة المجرّدة عن الصورة ، فالفضة من حيث هي فضة لا صورة لها ، فإذا صيغ منها جام أو مرآة أو قارورة ، كانت تلك الصورة مادة مخصوصة فهي فرع على المادة المجرّدة ، كذلك الفعل هو دليل الحدث وغيره ، والمصدر دليل الحدث وحده ، فبهذا يتحقّق كون الفعل فرعا لهذا الأصل.

طريقة أخرى : وهي أن نقول : الفعل يشتمل لفظه على حروف زائدة على حروف المصدر ، تدلّ تلك الزيادة على معان زائدة على معنى المصدر ، فكان مشتقا من المصدر كضارب ومضروب ونحوهما ، ومعلوم أن ما لا زيادة فيه أصل لما فيه الزيادة.

طريقة أخرى : وهي أن المصدر لو كان مشتقا من الفعل لأدهى ذلك إلى نقض المعاني الأولى ، وذلك يخلّ بالأصول.

بيانه : أن لفظ الفعل يشتمل على حروف زائدة ومعان زائدة وهي دلالة على الزمان المخصوص ، وعلى الفاعل الواحد والجماعة والمؤنّث والحاضر والغائب والمصدر ، يذهب ذلك كلّه إلا الدلالة على الحدث ، وهذا نقض للأوضاع الأول ، والاشتقاق ينبغي أن يفيد تشييد الأصول وتوسعة المعاني ، وهذا عكس اشتقاق المصدر من الفعل.

قال : واحتجّ الآخرون بوجهين : أحدهما : أن المصدر يعتلّ باعتلال الفعل والاعتلال حكم تسبقه علّته ، فإذا كان الاعتلال في الفعل أولا وجب أن يكون أصلا ، ومثال ذلك قولك صام صياما وقام قياما ، قالوا : وفي قام أصل اعتلت في الفعل فاعتلت في القيام ، وأنت لا تقول : اعتلّ قام لاعتلال القيام.

والثاني : أن الفعل يعمل في المصدر كقولك : ضربته ضربا ، فضربا منصوب بضربت ، والعامل مؤثر في المعمول ، والمؤثّر أقوى من المؤثّر فيه ، والقوة تجعل القويّ أصلا لغيره.

قال : والجواب عن الأول أنه غير دالّ على قولهم ، وذلك أن الاعتلال شيء يوجبه التصريف وثقل الحروف ، وباب ذلك الأفعال ؛ صيغها تختلف لاختلاف معانيها ، فقام أصله قوم فأبدلت الواو ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، فإذا ذكرت المصدر من ذلك كانت العلّة الموجبة للتغيير قائمة في المصدر وهو الثقل.

__________________

(١) النّقرة : الفضّة المذابة ، أو هي القطعة المذابة من الذهب والفضة.

٦٧

وأما الوجه الثاني : فهو في غاية السقوط ، وبيانه من ثلاثة أوجه ، أحدها : أن العامل والمعمول من قبيل الألفاظ ، والاشتقاق من قبيل المعاني ، ولا يدلّ أحدهما على الآخر اشتقاقا. والثاني : أن المصادر قد تعمل عمل الفعل ، كقولك : يعجبني ضرب زيد عمرا ، ولا يدلّ ذلك على أنه أصل. الثالث : أن الحروف تعمل في الأسماء والأفعال ، ولا يدلّ ذلك على أنها مشتقة أصلا ، فضلا عن أن تكون مشتقّة من الأسماء والأفعال ، انتهى.

الثالثة : قال السهيليّ (١) : فائدة اشتقاق الفعل من المصدر أن المصدر اسم كسائر الأسماء يخبر عنه كما يخبر عنها كقولك : أعجبني خروج زيد ، فإذا ذكر المصدر وأخبر عنه كان الاسم الذي هو فاعل مجرورا بالإضافة والمضاف إليه تابع للمضاف ، فإذا أرادوا أن يخبروا عن الاسم الفاعل للمصدر لم يكن الإخبار عنه وهو مخفوض تابع في اللفظ لغيره ، وحقّ المخبر عنه أن يكون مرفوعا مبدوءا به فلم يبق إلا أن يدخلوا عليه حرفا يدلّ على أنه مخبر عنه ، كما تدلّ الحروف على معان في الأسماء ، وهذا لو فعلوه لكان الحرف حاجزا بينه وبين الحدث في اللفظ ، والحدث يستحيل انفصاله عن فاعله كما يستحيل انفصال الحركة عن محلّها ، فوجب أن يكون اللفظ غير منفصل لأنه تابع للمعنى ، فلم يبق إلا أن يشتقّ من لفظ الحدث لفظ يكون كالحرف في النيابة عنه دالا على معنى في غيره ، ويكون متصلا اتّصال المضاف بالمضاف إليه ، وهو الفعل المشتقّ من لفظ الحدث ، فإنه يدلّ على الحدث بالتضمن ويدلّ على الاسم مخبرا عنه لا مضافا إليه ، إذ يستحيل إضافة لفظ الفعل إلى الاسم ، كاستحالة إضافة الحرف ، لأن المضاف هو الشيء بعينه ، والفعل ليس هو الشيء بعينه ولا يدلّ على معنى في نفسه ، وإنما يدلّ على معنى في الفاعل وهو كونه مخبرا عنه.

فإن قلت : كيف لا يدلّ على معنى في نفسه وهو يدلّ على الحدث؟

قلنا : إنما يدلّ على الحدث بالتضمّن والدالّ عليه بالمطابقة هو الضرب والقتل ، لا ضرب وقتل ، ومن ثم وجب أن لا يضاف ولا يعرف بشيء من آلات التعريف ، إذ التعريف يتعلّق بالشيء بعينه لا بلفظ يدلّ على معنى في غيره ، ومن ثم وجب أن لا يثنّى ولا يجمع كالحرف ، وأن يبنى كالحرف ، وأن يكون عاملا في الاسم كالحرف. وإنما أعرب المضارع لأنه تضمن معنى الاسم ، كما أن الاسم إذا

__________________

(١) انظر بدائع الفوائد (١ / ٢٧).

٦٨

تضمّن معنى الحرف بني ، ولما قدمناه من دلالة الفعل على معنى في الاسم وهو كون الاسم مخبرا عنه وجب أن يخلو عن ذلك الاسم مضمرا أو مظهرا بخلاف الحدث ، فإنك تذكره ولا تذكر الفاعل مضمرا ولا مظهرا ، والفعل لا بدّ من ذكر الفاعل بعده كما لا بدّ بعد الحرف من الاسم ، فإذا ثبت المعنى في اشتقاق الفعل من المصدر وهو كونه دالا على معنى في الاسم فلا يحتاج في الأفعال الثلاثة إلا إلى صيغة واحدة ، وتلك الصيغة هي لفظ الماضي ، لأنه أخفّ وأشبه بلفظ الحدث ، إلا أن تقوم الدلالة على اختلاف أحوال الحدث فتختلف صيغة الفعل ، ألا ترى كيف لم تختلف صيغته بعد (ما) الظرفية نحو : لا أفعله ما لاح برق وما طار طائر ، لأنهم يريدون الحدث مخبرا عنه على الإطلاق من غير تعرّض لزمن ، ولا حال من أحوال الحدث ، فاقتصروا على صيغة واحدة وهي أخفّ أبنية الفعل ، وكذلك فعلوا بعد التسوية نحو : سواء عليّ أقمت أم قعدت ، لأنه أريد التسوية بين القيام والقعود من غير تقييد بوقت ولا حال ، فلذلك لم يحتج إلا إلى صيغة واحدة وهي صيغة الماضي ، فالحدث إذا على ثلاثة أضرب :

ـ ضرب يحتاج إلى الإخبار عن فاعله وإلى اختلاف أحوال الحدث ، فيشتقّ منه الفعل دلالة على كون الفاعل مخبرا عنه ، وتختلف أبنيته دلالة على اختلاف أحوال الحدث.

ـ وضرب يحتاج إلى الإخبار عن فاعله على الإطلاق من غير تقييد بوقت ولا حال ، فيشتقّ منه الفعل ، ولا تختلف أبنيته.

ـ وضرب لا يحتاج إلى الإخبار عن فاعله ، لكن يحتاج إلى ذكره خاصة على الإطلاق مضافا إلى ما بعده نحو : (سبحان الله) فإنه ينبئ عن العظمة والتنزيه ، فوقع القصد إلى ذكره مجرّدا من التقييدات بالزمان أو بالأحوال ، ولذلك وجب نصبه ، كما يجب نصب كلّ مقصود إليه بالذّكر ، نحو : إياك وويله وويحه ، وهما مصدران لم يشتقّ منهما فعل ، حيث لم يحتج إلى الإخبار عن فاعلهما ولا إلى تخصيصهما بزمن ونصبهما كنصبه لأنه مقصود إليه.

ومما انتصب لأنه مقصود إليه بالذكر : (زيدا ضربته) في قول شيخنا أبي الحسين (١) وغيره من النحويين ، وكذلك : زيدا ضربت ـ بلا ضمير ـ لا يجعله معمولا مقدّما ، لأن المعمول لا يتقدّم على عامله ، وهو مذهب قويّ ، ولكن لا يبعد

__________________

(١) هو ابن الطّراوة صاحب كتاب (الترشيح).

٦٩

عندي قول النحويين إنه مفعول مقدّم ، وإن كان المعمول لا يتقدم على العامل ، والفعل كالحرف ، لأنه عامل في الاسم ، وذلك على معنى فيه ، فلا ينبغي للاسم أن يتقدّم على الفعل كما لا يتقدّم على الحرف ، ولكن الفعل في قولك : (ضربت زيدا) قد أخذ معموله وهو الفاعل فمعتمده عليه ومن أجله صيغ.

وأما المفعول فلم يبالوا به ، إذ ليس اعتماد الفعل عليه كاعتماده على الفاعل ، ألا ترى أنه يحذف والفاعل لا يحذف فليس تقديمه على الفعل العامل فيه بأبعد من حذفه ـ وأما زيدا ضربته فينتصب بالقصد إليه كما قال الشيخ ـ انتهى كلام السهيلي.

قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (١) : وهذا الفصل من أعجب كلامه ولا أعرف أحدا من النحويين سبقه إليه.

الرابعة : قال ابن يعيش في (شرح المفصّل) (٢) : قد يكون الاسمان مشتقين من شيء والمعنى فيهما واحد وبناؤهما مختلف فيختصّ أحد البناءين شيئا دون شيء للفرق ، ألا ترى أنهم قالوا : عدل ، لما يعادل من المتاع ، وعديل لما يعادل من الأناسي ، والأصل واحد وهو (ع د ل) ، والمعنى واحد ، ولكنهم خصّوا كل بناء بمعنى لا يشاركه فيه الآخر للفرق ، ومثله : بناء حصين وامرأة حصان ، والأصل واحد والمعنى واحد وهو الحرز ، فالبناء يحرز من يكون فيه ويلجأ إليه ، والمرأة تحرز فرجها ، وكذلك النجوم اختصّت بهذه الأبنية التي هي الدّبران والسّماك والعيّوق ، فلا يطلق عليها الدّابر والعائق والسّامك وإن كانت بمعناها للفرق.

الخامسة : قال ابن يعيش (٣) : الفرق بين العدل وبين الاشتقاق الذي ليس بعدل أن الاشتقاق يكون لمعنى آخر أخذ من الأول كضارب من الضرب فهذا ليس بعدل ولا من الأسباب المانعة من الصرف ، لأنه اشتقّ من الأصل لمعنى الفاعل وهو غير معنى الأصل الذي هو الضرب ، والعدل هو أن تريد لفظا ثم تعدل عنه إلى لفظ آخر فيكون المسموع لفظا والمراد غيره ، ولا يكون العدل في المعنى ، إنما يكون في اللفظ ، فلذلك كان سببا في منع الصرف لأنه فرع عن المعدول عنه. انتهى.

وقال الرماني : العدل ضرب من الاشتقاق ، إلا أنه مضمن بتقدير وضعه موضع

__________________

(١) انظر بدائع الفوائد (١ / ٣٠).

(٢) انظر شرح المفصّل (١ / ٤٢).

(٣) انظر شرح المفصّل (١ / ٦٢).

٧٠

المشتق منه ، ولذلك ثقل المعدول لأنه مضمن ، ولم يثقل المشتقّ لعدم وقوعه موضع المشتقّ منه ، حكاه في (البسيط).

السادسة : قال في (البسيط) : اختلف في وزن الأسماء الأعجمية ، فذهب قوم إلى أنها لا توزن لتوقف الوزن على معرفة الأصلي والزائد ، وإنما يعرف ذلك بالاشتقاق ولا يتحقّق لها اشتقاق فلا يتحقق لها وزن كالحروف. وذهب قوم إلى أنها توزن ولا يخفى بعده لتوقّف الوزن على معرفة الأصلي والزائد ولا يتحقق ذلك في الأعجمية.

السابعة : اختلف هل يقدح الاشتقاق في كون العلم مرتجلا؟ فقيل : لا ، لأن غطفان من الغطف وهو سعة العيش ، وعمران وحمدان لهما أفعال ، وإنما الذي يقدح فيه أن يكون موضوعا لمسمّى ثم ينقل إلى غيره ، قال صاحب (البسيط) : والتحقيق أن الاشتقاق يقدح في الارتجال لأنه حال الاشتقاق لا بدّ وأن يكون اشتقاقه لمعنى ، فإذا سمّي به كان منقولا من ذلك اللفظ المشتق لذلك المعنى فلا يكون مرتجلا.

الثامنة : قال ابن جنيّ في (الخاطريات) : لاته يليته حقّه ـ أي انتقصه إيّاه ـ يجوز أن يكون من قولهم : ليت لي كذا ، وذلك أن المتمنّي للشيء معترف بنقصه عنه وحاجته إليه ، فإن قلت كيف يجوز الاشتقاق من الحروف؟ قيل : وما في ذلك من الإنكار؟! قد قالوا : أنعم له بكذا ، أي قال له : نعم ، وسوّفت الرجل ، إذا قلت له : سوف أفعل ، وسألتك حاجة فلو ليت لي ، أي : قلت لي : لو لا ، ولا ليت لي ، أي : قلت لي : لالا ، وقالوا : صهصيت بالرجل أي قلت له : صه صه ، ودعدعت الغنم ، أي : قلت لها : داع داع ، وها هيت وحا حيت وعا عيت ، فاشتقّوا من الأصوات كما ترى ، وهي في حكم الحروف ، فكذلك يكون لاته أي : انتقصه من قولهم ليست إذا تمنيت وذلك دليل النقص.

فإن قيل : فكان يجب على هذا أن يكون في قولهم : لاته يليته معنى التمني ، كما أن في لا ليت معنى الرد ، وفي لو ليت معنى التعذّر ، وفي أنعمت معنى الإجابة ، قيل : قد يكون في المشتقّ اقتصار على بعض ما في المشتق منه ، ألا تراهم سمّوا الخرقة التي تشير بها النائحة (المئلاة) وذلك لأنها لا تألو أن تشير بها (فمئلاة) على هذا مفعلة من (ألوت) وحده لفظا ، وإن كان المراد بها أنها لا تألو أن تشير بها ، وسمّوا الحرم : (النالة) وذلك أنه لا ينال من حلّه ، فهذه فعلة من نال وهو بعض لا ينال ، وجاز الاشتقاق من الحروف لأنها ضارعت أصول كلامهم الأول إذ كانت جامدة غير مشتقّة ، كما أن الأوائل كذلك.

٧١

الأصل مطابقة المعنى للفظ

ومن ثم قال الكوفيون : إن معنى (أفعل به) (١) في التعجب أمر كلفظه ، وأما البصريون فقالوا : إن معناه التعجّب لا الأمر ، وأجابوا عن القاعدة بأن هذا الأصل قد ترك في مواضع عديدة فليكن متروكا هنا. قال ابن النحاس في (التعليقة) : وللكوفيين أن يقولوا : لم يترك هذا الأصل في موضع إلا لحامل ، فما الذي حملهم على تركه هنا ، ويجاب بأن الحامل موجود وهو أن اللفظ إذا احتيج في فهم معناه إلى إعمال فكر كان أبلغ وآكد مما إذا لم يكن كذلك ، لأن النفس حينئذ تحتاج في فهم المعنى إلى فكر وتعب فتكون به أكثر كلفا وضنّة مما إذا لم تتعب في تحصيله ، وباب التعجّب موضع المبالغة ، فكان في مخالفة المعنى للفظ من المبالغة ما لا يحصل باتفاقها فخالفنا لذلك ، وقد ورد الخبر بلفظ الأمر في قوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] وجاء عكس ذلك ، انتهى.

ومن المواضع الخارجة عن ذلك ورود لفظ الاستفهام بمعنى التسوية في : سواء عليّ أقمت أم قعدت ، ولفظ النداء بمعنى الاختصاص في «اللهم اغفر لنا أيّتها العصابة» (٢).

الأصل أن يكون الأمر كلّه باللّام من حيث كان معنى من المعاني

والمعاني إنما الموضوع لها الحروف فجاء الأمر ما عدا المخاطب لازم اللام على الأصل ، واستغنى في فعل المخاطب عنها فحذفت هي وحروف المضارعة لدلالة الخطاب على المعنى المراد ، وقد يؤتى بها على الأصل كقوله تعالى : فلتفرحوا [يونس : ٥٨] فيمن قرأها بالتاء الفوقية ، وفي الحديث : «لتأخذوا مصافّكم» (٣). وإتيانه بغير لام هو الكثير ذكر ذلك ابن النحاس في (التعليقة).

الأصل في الأفعال التصرّف

ومن التصرّف تقديم المنصوب بها على المرفوع واتصال الضمائر المختلفة بها ذكره أبو البقاء في (التبيين) قال : وقد استثنى منها نعم وبئس وعسى وفعل التعجب فإن تقديم المنصوب فيها غير جائز.

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ٢١٤).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ١٩٤) ، جاء في الحاشية (قال السيرافي : لأنك لست تناديه وإنما تختصّه ، فتجريه على حرف النداء ، لأن النداء فيه اختصاص فيشبه به للاختصاص لأنه منادى).

(٣) انظر أسرار العربية (ص ٣١٨) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٤٧) ، والإنصاف المسألة (٧٢).

٧٢

إصلاح اللفظ

عقد له ابن جنّي بابا في (الخصائص) (١) قال : اعلم أنه لما كانت الألفاظ للمعاني أزمّة وعليها أدلّة وإليها موصلة وعلى المراد بها محصّلة ، عنيت بها وأوليتها صدرا صابحا من تثقيفها وإصلاحها. فمن ذلك قولهم : (أما زيد فمنطلق) ألا ترى أن تحرير هذا القول إذا صرّحت بلفظ الشرط فيه صرت إلى أنك كأنك قلت : مهما يكن من شيء فزيد منطلق ، فتجد الفاء في جواب الشرط في صدر الجزأين مقدمة عليها وأنت في قولك : أما زيد فمنطلق ، إنما تجد الفاء واسطة بين الجزأين ، ولا تقول : أمّا زيد منطلق ، كما تقول فيما هو بمعناه : مهما يكن من شيء فزيد منطلق ، وإنما فعل ذلك لإصلاح اللفظ ، وووجه إصلاحه أن هذه الفاء وإن كان جوابا ولم تكن عاطفة ، فإنما هي على لفظ العاطفة وبصورتها فلو قالوا : أمّا فزيد منطلق ، كما يقولون مهما يكن من شيء فزيد منطلق لوقعت الفاء الجارية مجرى فاء العطف بعدها اسم وليس قبلها اسم وإنما قبلها في اللفظ حرف وهو (أما) ، فتنكبوا ذلك لما ذكرنا ووسطوها بين الجزأين ليكون قبلها اسم وبعدها آخر فتأتي على صورة العاطفة فقالوا : أما زيد فمنطلق ، كما تأتي عاطفة بين الاسمين في نحو : قام زيد فعمرو ، ومثله امتناعهم أن يقولوا : انتظرتك وطلوع الشمس أي : مع طلوع الشمس فينصبوه على أنه مفعول معه ، كما ينصبون نحو (قمت وزيدا) أي : مع زيد.

قال أبو الحسن : وإنما ذلك لأن الواو التي بمعنى (مع) لا تستعمل إلا في الوضع الذي لو استعملت فيه عاطفة لجاز ، ولو قلت : انتظرتك وطلوع الشمس ، أي : وانتظرتك طلوع الشّمس لم يجز ، أفلا ترى إلى إجرائهم الواو غير العاطفة في هذا مجرى العاطفة ، فكذلك أيضا تجري الفاء غير العاطفة في نحو : أما زيد فمنطلق مجرى العاطفة ، فلا يؤتى بعدها بما لا شبيه له في جواز العطف عليه قبلها ، ذلك قولهم في جمع تمرة وبسرة ونحو ذلك تمرات وبسرات ، وكرهوا إقرار التاء تناكرا لاجتماع علامتي تأنيث في لفظ اسم واحد ، فحذفت وهي في النية مرادة البتة ، لا لشيء إلا لإصلاح اللفظ لأنها في المعنى مقدرة منويّة ، ألا ترى أنك إذا قلت تمرات لم يعترض شك في أن الواحدة منها تمرة وهذا واضح ، فالعناية إذا في الحذف إنما هي بإصلاح اللفظ إذ المعنى ناطق بالتاء مقتض لها حاكم بموضعها.

ومن ذلك قولهم : إنّ زيدا لقائم ، فهذه لام الابتداء ، وموضعها أول الجملة

__________________

(١) انظر الخصائص (١ / ٣١٢).

٧٣

وصدرها لا آخرها وعجزها ، فتقديرها أول : لأن زيدا منطلق ، فلما كره تلاقي حرفين لمعنى واحد وهو التوكيد أخرت اللام إلى الخبر ، فصار : إن زيدا لمنطلق.

وإنما أخّرت اللام ولم تؤخر (إنّ) لأوجه :

منها : أن اللام لو تقدّمت وتأخرت (إنّ) لم يجز أن تنصب اسمها الذي من عادتها نصبه.

ومنها : أنه لو تأخّرت ونصب لأدّى إلى عمل إن فيما قبلها و (إنّ) لا تعمل إلا فيما بعدها.

ومن : إصلاح اللفظ : قولهم : كأنّ زيدا عمرو ، وأصل الكلام زيد كعمرو ، ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه (إنّ) فقالوا : إنّ زيدا كعمرو ، ثم إنهم بالغوا في توكيد الشبه فقدّموا حرفه إلى أول الكلام عناية به وإعلاما أن عقد الكلام عليه ، فلما تقدّمت الكاف وهي جارة لم يجز أن تباشر (إنّ) لأنها تقطع عنها ما قبلها من العوامل ، فوجب لذلك فتحها فقالوا كأن زيدا عمرو.

ومن ذلك قولهم : لك مال ، وعليك دين ، فالمال والدين هنا مبتدآن وما قبلهما خبر عنهما إلا أنك لو رمت تقديمهما إلى المكان المقدر لهما لم يجز لقبح الابتداء بالنكرة في الواجب ، فلما جفا ذلك في اللفظ أخّروا المبتدأ وقدّموا الخبر فكان ذلك سهلا عليهم ومصلحا ما فسد عندهم ، وإنما كان تأخيره مستحسنا من قبل أنه لما تأخر وقع موقع الخبر ، ومن شرط الخبر أن يكون نكرة ، فلذلك صلح به اللفظ ، وإن كنا قد أحطنا علما بأنه في المعنى مبتدأ ، فأما من رفع الاسم في نحو هذا بالظرف فقد كفي مؤونة هذا الاعتذار ، لأنه ليس مبتدأ عنده ، ومن ذلك امتناعهم من الإلحاق بالألف إلا أن تقع آخرا نحو : أرطى ومعزى وحبنطى وسرندى ، وذلك أنها إذا وقعت طرفا وقعت موقع حرف متحرّك ، فدل ذلك على قوتها عندهم ، وإذا وقعت حشوا وقعت موقع الساكن فضعفت ، لذلك فلم تقو ، فيعلم بذلك إلحاقها بما هي على سمت متحركة ، ألا ترى أنك لو ألحقت بها ثانية فقلت حاتم ملحق بجعفر ، لكانت مقابلة لعينه وهي ساكنة ، فاحتاطوا للّفظ بأن قابلوا بالألف فيه الحرف المتحرّك ليكون أقوى لها وأدلّ على شدة تمكّنها وليعلم ثبوتها أيضا وكون ما هي فيه على وزن أصل من الأصول له أنها للإلحاق به ، وليست كذلك ألف قبعثرى وضبغطرى ؛ لأنها وإن كانت طرفا ومنوّنة فإن المثال الذي هي فيه لا مصعد للأصول إليه فيلحق هذا به ، لأنه لا أصل لنا سداسيا فإنما ألف قبعثرى قسم من الألفات الزوائد في أواخر الكلم ثالث لا للتأنيث ولا للإلحاق.

٧٤

ومن ذلك : أنهم لما أجمعوا الزيادة في آخر بنات الخمسة كما زادوا في آخر بنات الأربعة خصّوا بالزيادة فيه الألف استخفافا لها ورغبة فيها هناك دون أختيها الياء والواو ، وذلك أن بنات الخمسة لطولها لا ينتهى إلى آخرها إلا وقد ملّت ، فلما تحملوا الزيادة في آخرها طلبوا أخفّ الثلاثة وهي الألف فخصّوها بها وجعلوا الواو والياء حشوا في نحو : عضرفوط وجعفليق ، لأنهم لو جاؤوا بهما طرفا وسداسيين مع ثقلهما لظهرت الكلفة في تجشمهما ، وكدت في احتمال النطق بهما كل ذلك لإصلاح اللفظ. ومن ذلك باب الإدغام في المتقارب نحو : ودّ في وتد ، ومن الناس من يقول : ميقول في : من يقول ، ومنه جميع باب التقريب نحو : اصطبر وازدان ، وجميع باب المضارعة نحو مصدر وبابه.

ومن ذلك تسكينهم لام الفعل إذا اتصل بها علم الضمير المرفوع نحو : ضربت وضربن وضربنا ، وذلك أنهم أجروا الفاعل هنا مجرى جزء من الفعل فكره اجتماع الحركات التي لا توجد في الواحد فأسكنوا ما قبل الضمير (اللام) إصلاحا للفظ.

ومن ذلك : أنهم أرادوا أن يصفوا المعرفة بالجملة كما وصفوا بها النكرة ولم يجز أن يجروها عليها لكونها نكرة ، فأصلحوا اللفظ بإدخال (الذي) ليباشر بلفظ حرف التعريف المعرفة ، فقالوا : مررت بزيد الذي قام أخوه ، وطريق إصلاح اللفظ كثير واسع.

وذكر (١) ابن يعيش في قولهم : سواء عليّ أقمت أم قعدت ، أن سواء مبتدأ ، والفعلان بعده كالخبر لأن بهما تمام الكلام وحصول الفائدة ، قال : فكأنهم أرادوا إصلاح اللفظ وتوفيته حقه.

وقال (٢) ابن يعيش : اعلم أن قولهم : أقائم الزيدان ، إنما أفاد نظرا إلى المعنى ، إذ المعنى : أيقوم الزيدان ، فتمّ الكلام لأنه فعل وفاعل ، وقائم هنا اسم من جهة اللفظ ، وفعل من جهة المعنى ، فلما كان الكلام تاما من جهة المعنى أرادوا إصلاح اللفظ فقالوا : أقائم مبتدأ والزيدان يرتفع به وقد سّد مسدّ الخبر ، من حيث أن الكلام تمّ به ولم يكن ثم خبر محذوف.

قال : وأما قولهم : (ضربي زيدا قائما) فهو كلام تامّ باعتبار المعنى ، إلا أنه لا بدّ من النظر للفظ وإصلاحه ، لكون المبتدأ فيه بلا خبر ، وذلك أن (ضربي) مبتدأ

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (١ / ٩٣).

(٢) انظر شرح المفصّل (١ / ٩٦).

٧٥

وهو مصدر مضاف للفاعل ، (وزيدا) مفعول به (وقائما) حال وقد سدّ مسدّ خبر المبتدأ ، ولا يصحّ الذي هو الضرب ليس القائم ، ولا يصحّ أن يكون حالا من زيد ، لأنه لو كان حالا منه لكان العامل فيه المصدر الذي هو ضربي ، لأن العامل في الحال هو العامل في ذي الحال ، ولو كان المصدر عاملا فيه لكان من جملته ، وإذا كان من جملته لم يصح أن يسدّ مسدّ الخبر ، وإذا كان كذلك كان العامل فيه فعلا مقدّرا فيه ضمير فاعل يعود إلى زيد ، والخبر ظرف زمان مقدر مضاف إلى ذلك الفعل والفاعل ، والتقدير : ضربي زيدا إذا كان قائما ، فإذا هي الخبر.

وقال (١) ابن يعيش أيضا : إذا قلت ما أتاني إلّا زيدا إلّا عمرو فلا بدّ من رفع أحدهما ونصب الآخر ولا يجوز رفعهما جميعا ولا نصبهما جميعا وذلك نظرا إلى إصلاح اللفظ وتوفيته ما يستحقّه ، وذلك أن المستثنى منه محذوف ، والتقدير : ما أتاني أحد إلّا زيدا إلا عمرا ، لكن لما حذف المستثنى منه بقي الفعل مفرغا بلا فاعل ، ولا يجوز إخلاء الفعل من فاعل في اللفظ فرفع أحدهما وتعيّن نصب الآخر.

وقال ابن عصفور : زيدت الباء في فاعل (أفعل به) في التعجب ولزمت حتى صار لفظ الفاعل كلفظ المجرور في نحو قولك : (امرر بزيد) إصلاحا للفظ من جهة أن أفعل في هذا الباب لفظه كلفظ الأمر بغير لام ، والأمر بغير لام لا يقع بعده الاسم الظاهر إلا منصوبا نحو : اضرب زيدا ، أو مجرورا نحو : امرر بزيد ، فزادوا الباء والتزموا زيادتها حتى تكون في اللفظ بمنزلة امرر بزيد ، ذكره في شرح (المقرّب).

قال ابن هشام في (تذكرته) : هذا باب ما فعلوه بمجرد إصلاح اللفظ في مسائل.

أحدها : قولهم : (لهنك قائم) لأنهم لو قالوا : لأنك ، لكان رجوعا إلى ما فرّوا منه ، لكنهم لما أرادوا الرجوع إلى الأصل أبدلوا الهمزة هاء لإصلاح اللفظ ، هذا قول المحققين.

وقال أبو عبيد فيما حكى عنه صاحب الصحاح (٢) : إنّ الأصل (لله إنك) فحذفت إحدى اللامين وألف الله وهمزة إنك.

الثانية : زيادة الباء في فاعل (أحسن) ونحوه ، لئلا يكون نظير فاعل فعل أمر بغير اللام.

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (٢ / ٩٢).

(٢) انظر الصحاح (لهن).

٧٦

الثالثة : تأخير الفاء في : أمّا زيد فمنطلق ، مع أن حقّها أن تكون في أول الجواب ، إلا أنهم كرهوا صورة معطوف بلا معطوف عليه.

الرابعة : اتصال الضمير المؤكد للجار والمجرور بكان الزائدة في قوله : [الوافر]

وجيران لنا كانوا كرام (١)

على تقرير ابن جنّي.

الخامسة : تقديم المعمول في (زيدا فاضرب) على ما قيل من أن الفاء عاطفة جملة على جملة وأن الأصل : تنبّه فاضرب زيدا.

السادسة : زيادة اللام في (لا أبا لك) على الصحيح لئلا تدخل لا على معرفة.

السابعة : تأكيد الضمير المرفوع المستتر إذا عطف عليه نحو : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) [البقرة : ٣٥].

الثامنة : تأكيد المجرور في (مررت بك أنت وزيد) على ما حكاه ابن إياز في (شرح الفصول).

التاسعة : إدخالهم الفصل في نحو : زيد هو العالم.

العاشرة : الفصل بين أن والفعل في نحو : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ) [المزمل : ٢٠] لئلا يليها الفعل في اللفظ.

وقال أبو حيان قال بعض أصحابنا : الذي ظهر بعد البحث أن الأصل في (زيدا فاضرب) (تنبه فاضرب زيدا) ثم حذف تنبه فصار فاضرب زيدا ، فلما وقعت الفاء صدرا قدّموا الاسم إصلاحا للفظ.

الأصول المرفوضة

منها جملة الاستقرار الذي يتعلّق به الظرف الواقع خبرا.

قال (٢) ابن يعيش : حذف الخبر الذي هو استقرّ أو مستقرّ وأقيم الظرف مقامه وصار الظرف هو الخبر والمعاملة معه ، ونقل الضمير الذي كان في الاستقرار إلى الظرف وصار مرتفعا بالظرف كما كان مرتفعا بالاستقرار ثم حذف الاستقرار وصار أصلا مرفوضا لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه بالظرف.

ومنها : خبر المبتدأ الواقع بعد لو لا نحو لو لا زيد لخرج عمرو ، تقديره لو لا زيد حاضر.

__________________

(١) مرّ ذكر الشاهد رقم (٣٥).

(٢) انظر شرح المفصّل (١ / ٩٠).

٧٧

قال (١) ابن يعيش : ارتبطت الجملتان وصارتا كالجملة الواحدة ، وحذف خبر المبتدأ من الجملة الأولى لكثرة الاستعمال حتى رفض ظهوره ولم يجز استعماله.

ومنها : قولهم : (افعل هذا إما لا) قال ابن يعيش : ومعناه أن رجلا أمر بأشياء يفعلها فتوقف في فعلها ، فقيل له : افعل هذا إن كنت لا تفعل الجميع ، وزادوا على إن (ما) وحذف الفعل وما يتصل به وكثر حتى صار الأصل مهجورا.

ومنها : قال (٢) ابن يعيش : بنو تميم لا يجيزون ظهور خبر لا البتة ويقولون : هو من الأصول المرفوضة.

وقال الأستاذ أبو الحسين بن أبي الربيع في (شرح الإيضاح) : الإخبار عن (سبحان الله) يصح كما يصحّ الإخبار عن البراءة من السوء ، لكن العرب رفضت ذلك ، كما أن مذاكير جمع لمفرد لم ينطق به ، وكذلك (لييليه) تصغير لشيء لم ينطق به ، وأصيلان تصغير لشيء لم ينطق به ، وإن كان أصله أن ينطق به ، وكذلك (سبحان الله) إذا نظرت إلى معناه وجدت الإخبار عنه صحيحا ، لكن العرب رفضت ذلك ، وكذلك لكاع ولكع وجميع الأسماء التي لا تستعمل إلا في النداء إذا رجعت إلى معانيها وجدت الإخبار ممكنا فيها ، بدليل الإخبار عما هي في معناه ، لكن العرب رفضت ذلك.

وقال أيضا : في قولك زيدا اضربه ، ضعف فيه الرفع على الابتداء ، والمختار النصب وفيه إشكال من جهة الإسناد لأن حقيقة المسند والمسند إليه ما لا يستقلّ الكلام بأحدهما دون صاحبه ، واضرب ونحوه يستقل به الكلام وحده ، ولا تقدر هنا أن تقدّر مفردا تكون هذه الجملة في موضعه ، كما قدرت في زيد ضربته.

فإن قلت : فكيف جاء هذا مرفوعا وأنت لا تقدر على مفرد يعطي هذا المعنى؟

قلت : جاء على تقدير شيء رفض ولم ينطق به واستغني عنه بهذا الذي وضع مكانه ، وهذا وإن كان فيه بعد إذا أنت تدبّرته وجدت له نظائر ، ألا ترى أن (قام) أجمع النحويون على أن أصله (قوم) وهذا ما سمع قطّ فيه ولا في نظيره ، فكذلك زيدا ضربه ، كان اضربه وضع موضع مفرد مسند إلى زيد على معنى الأمر ولم ينطق به قط ، ويكون كقام ، وقال أيضا : مصدر عسى لا يستعمل وإن كان الأصل ، لأنه أصل مرفوض.

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (١ / ٩٥).

(٢) انظر شرح المفصّل (١ / ١٠٧).

٧٨

الإضافة تردّ الأشياء إلى أصولها

ولذلك أعربت (أيّ) مع وجود شبه الحرف فيها للزومها الإضافة فردّتها إلى الإعراب الذي هو الأصل في الأسماء ، وإذا أضيف ما لا ينصرف ردّ إلى أصله من الجرّ.

الإضمار أسهل من التضمين

لأن التضمين زيادة بتغيير الوضع والإضمار زيادة بغير تغيير قاله بدر الدين بن مالك في (تكملة شرح التسهيل) ، واستدلّ به على أن الجزم في نحو : (قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٥٣] بإضمار (إن) لا بتضمين لفظ الطلب معنى الشرط.

الإضمار أحسن من الاشتراك

ولذلك كان قول البصريين أن النصب بعد حتى بأن مضمرة أرجح من قول الكوفيين أنه بحتى نفسها وأنها حرف نصب مع الفعل وحرف جرّ مع الاسم (١).

قال ابن إياز : فإن قيل يلزم على مذهب البصريين إضمار الناصب والإضمار خلاف الأصل ، قلنا : الإضمار مجاز والمجاز أولى من الاشتراك.

الإضمار خلاف الأصل

ولذلك ردّ على قول من قال : إن الاسم بعد لو لا مرتفع بفعل لازم الإضمار ، فإنه لا دليل على ذلك مع أن الإضمار خلاف الأصل ، وعلى من قال في قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] إن يوم ليس منصوبا بـ (مصروف) بل بفعل دلّ الكلام عليه ، تقديره : يلازمهم يوم يأتيهم أو يهجم عليهم ، لأنه لا حاجة إليه مع أن الإضمار خلاف القياس.

الإعراب

فيه مباحث :

المبحث الأول : في حقيقته

قال ابن فلاح (في المغني) : اختلف في حقيقة الإعراب ، فذهب قوم إلى أن الإعراب معنى وهو عبارة عن الاختلاف واحتجوا بوجهين :

__________________

(١) انظر الإنصاف المسألة رقم (٨٣).

٧٩

أحدهما : إضافة الحركات إلى الإعراب ، والشيء لا يضاف إلى نفسه.

والثاني : أن الحركات قد تكون في المبني فلا تكون إعرابا ، وهذه الحركة عندهم بمنزلة قولهم ، مطية حرب ، أي : صالحة للحرب ، وكذلك هذه الحركات صالحة للاختلاف في آخر الكلمة.

وذهب قوم إلى أن الإعراب عبارة عن الحركات وهو الحق لوجهين :

أحدهما : أن الاختلاف أمر لا يعقل إلا بعد التعدّد ، فلو جعل الاختلاف إعرابا لكانت الكلمة في أول أحوالها مبنية لعدم الاختلاف ،

الثاني : أنه يقال : أنواع الإعراب رفع ونصب وجرّ وجزم ، ونوع الجنس مستلزم الجنس ، والجواب عن الإضافة أنها من باب إضافة الأعمّ إلى الأخصّ للبيان كقولنا : (كلّ الدراهم) ، وعن الوجه الثاني : أنه لا يدلّ وجود الحركات في المبني على أنها حركات الإعراب ، لأن الحركة إن حدثت بعامل فهي للإعراب وإلا فهي للبناء ، ولذلك خصّصها البصريون بألقاب غير ألقاب الإعراب ،

وقال غيره : في الإعراب مذهبان :

أحدهما : أنه لفظي وهو اختيار ابن مالك ونسبه إلى المحققين. وحدّه في (التسهيل) بقوله : ما جيء به لبيان مقتضى العامل من حركة أو حرف أو سكون أو حذف.

والثاني : أنه معنوي ، والحركات إنما هي دلائل عليه ، هو ظاهر قول سيبويه (١) ، واختيار الأعلم وكثير من المتأخرين ـ وحدّوه بقولهم (٢) : تغيير أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلة عليها لفظا أو تقديرا ، وجعله ابن إياز قول أكثر أهل العربية. قال : ويدلّ عليه وجوه :

منها : أنه يقال : حركات الإعراب ، فلو كانت الحركة الإعراب لامتنعت الإضافة إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه.

ومنها : أن الحركة والحرف يكونان في المبنيّ فلو كانت الحركة بعض الإعراب لم يكونا فيه.

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٤١).

(٢) انظر التعريفات (٢٠) ، والرضي في الكافية (١ / ١٥).

٨٠