الأشباه والنظائر في النحو - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

فائدة

قال ابن إياز في (شرح الفصول) (١) : «اعلم أنّ العرب قد أكثرت من الإتباع حتى قد صار ذلك كأنه أصل يقاس عليه ، وإذا كانت قد زالت حركة الدال مع قوّتها للإتباع وذلك ما حكاه الفراء (٢) من (الحمد لله) بكسر الدّال إتباعا لكسرة اللام ، وقلبوا أيضا الياء إلى الواو مع أن القياس عكس ذلك ، فقالوا : أنا أخوّك يريدون أنا أخيّك ، حكاه سيبويه ، كان الإتباع في نحو مدّ وشدّ أجوز وأحسن ، إذ ليس فيهما نقل خفيف إلى ثقيل ، وأمّا السّاكن الحاجز فلا يعتد به لضعفه ، انتهى».

فائدة

عدّ من الإتباع حركة الحكاية. قال أبو حيان في (شرح التسهيل) : اختلف الناس في الحركات اللّاحقة اللّائي في الحكاية ، فقيل : هي حركات إعراب نشأت عن عوامله ، وقيل ليست للإعراب ، وإنما هي إتباع للفظ المتكلّم على الحكاية.

وقال أبو الحسن بن عبد الرحمن بن عذرة الخضراوي في كتابه المسمّى بـ (الإعراب عن أسرار الحركات في لسان الأعراب) : حركة المحكيّ في حال حكاية الرفع ، منهم من يقول : إنّها للإعراب لأنه لا ضرورة في تكلّف تقدير رفعه مع وجود أخرى ، وإنما قيل به في حالة النصب والجرّ للضرورة ، ومنهم من يقول : إنّها لا للبناء ولا للإعراب حملا لحالة الرفع على حالة النصب والجرّ. قال : وهذا أشبه بمذاهب النحاة وأقيس بمذاهب البصريين ، ألا تراهم ردّوا على الكوفيين في اعتقادهم الرفع في خبر (إنّ) وأخواتها وفي اسم (كان) وأخواتها على ما كان عليه قبل دخول العامل ، انتهى.

الاتّساع

عقد له ابن السّرّاج بابا في (الأصول) (٣) فقال : «اعلم أن الاتّساع ضرب من الحذف ، إلّا أن الفرق بينهما أنك لا تقيم المتوسّع فيه مقام المحذوف وتعربه بإعرابه ، وفي الحذف تحذف العامل فيه وتدع ما عمل فيه على حاله في الإعراب ،

__________________

(١) انظر : المحصول في شرح الفصول ، مخطوط الظاهرية ورقة (٥٤).

(٢) انظر معاني القرآن للفراء (١ / ٣).

(٣) انظر كتاب الأصول (٢ / ٢٦٥).

٢١

والاتّساع العامل فيه بحاله ، وإنما تقيم فيه المضاف إليه مقام المضاف ، أو الظرف مقام الاسم ، فالأول : نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، والمعنى : أهل القرية (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٧٧] ، والثاني : نحو : صيد عليه يومان ، والمعنى : صيد عليه الوحش في يومين. ولد له ستّون عاما ، والمعنى : ولد له الولد لستين ، (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] ، نهاره صائم وليله قائم : [الرجز]

٤ ـ يا سارق اللّيلة أهل الدّار

والمعنى : مكر في اللّيل ، صائم في النهار ، سارق في اللّيلة ، قال : وهذا الاتّساع في كلامهم أكثر من أن يحاط به.

قال : وتقول : سرت فرسخين يومين ، إن شئت جعلت نصبهما على الظرفية وإن شئت جعلت نصبهما على أنهما مفعولان على السّعة ، وعلى ذلك قولك : سير به يومان ، فتقيم (يومين) مقام الفاعل ، وقال في موضع آخر : إن بابيّ المفعول له ، والمفعول معه نصبا على الاتّساع إذ كان من حقّهما أن لا يفارقهما حرف الجرّ ، ولكنه حذف فيهما ولم يجريا مجرى الظروف في التصرّف ، وفي الإعراب ، وفي إقامتهما مقام الفاعل ، فدلّ ترك العرب لذلك أنهما بابان وضعا في غير موضعهما وأنّ ذلك اتّساع منهم فيهما ، لأن المفعولات كلّها تقدّم وتؤخّر وتقام مقام الفاعل وتقع مبتدأ وخبرا» وهذا كلّه كلام ابن السّراج.

وأنا أشبع القول في هذا الباب لقلّة من عقد له بابا من النحاة فأقول : قال أبو حيان في (شرح التسهيل) : الاتّساع يكون في المصدر المتصرّف فينصب مفعولا به على التوسّع والمجاز ، ولو لم يصحّ ذلك لما جاز أن يبنى لفعل ما لم يسمّ فاعله ، حين قلت : ضرب ضرب شديد ؛ لأن بناءه لفعل ما لم يسمّ فاعله فرع عن التوسّع فيه بنصبه نصب المفعول به ، وتقول : الكرم أكرمته زيدا ، وأنا ضارب الضّرب زيدا.

قال في (البسيط) : وهذا الاتّساع إن كان لفظيا جاز اجتماعه مع المفعول الأصليّ إن كان له مفعول ، وإن كان معنويا بأن يوضع بدل المفعول به فلا يجتمع معه لأنه كالعوض منه حال التوسع نحو قولك : ضرب الضّرب ، على معنى ضرب الذي وقع به الضّرب ضربا شديدا ، فوضعت بدله مصدره ، وقيل : يجوز الجمع بينهما على

__________________

٤ ـ الشاهد بلا نسبة في الكتاب (١ / ٢٣٣) ، وخزانة الأدب (٣ / ١٠٨ ، و ٤ / ٢٣٣) ، والدرر (٣ / ٩٨) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٦٥٥) ، وشرح المفصّل (٢ / ٤٥) ، والمحتسب (٢ / ٢٩٥) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٠٣).

٢٢

أن يكون المفعول منصوبا نصب التشبيه بالمفعول به ، وإذا كان الاتّساع معنى فلا يجمع بين المتوسّع فيه والمطلق.

وفي (البسيط) أيضا : المصادر يتوسّع فيها فتكون مفعولا ، كما يتّسع في الظروف فتكون إذا جرت أخبارا بمنزلة الأسماء الجامدة ، ولا تجري صفة بهذا الاعتبار ، وإذا كان بمعنى فاعل جاز أن يكون صفة ـ قال : وإذا توسّع بها وكانت عامّة على أصلها لم تثنّ ولم تجمع رعيا للمصادر ، أو خاصة نحو : ضرب زيد وسير البريد ، فربما جازت التثنية والجمع بينهما ـ انتهى.

وأما الاتّساع في الظرف ، ففيه مسائل :

ـ الأولى : أنه يجوز التوسّع في ظرف الزمان والمكان بشرط كونه متصرفا ، فلا يجوز التوسّع فيما لزم الظرفية لأن عدم التصرف مناف للتوسّع ؛ إذ يلزم من التوسّع فيه كونه يسند إليه ، ويضاف إليه ، وذلك ممنوع في عادم التصرف ، وسواء في المتصرف المشتقّ نحو المشتى والمصيف ، وغيره كاليوم ، والمصدر المنتصب على الظرف كمقدم الحاج وخفوق النجم ، ومنه (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] ، ولا يمنع التوسّع إضافة الظرف إلى المظروف المقطوع عن الإضافة المعوض مما أضيف إليه التنوين نحو : سير عليه حينئذ.

ـ الثانية : إذا توسّع في الظرف جعل مفعولا به مجازا ، ويسوغ حينئذ إضماره غير مقرون بفي نحو : اليوم سرته ، وكان الأصل عند إرادة الظرفية سرت فيه ، لأن الظرف على تقدير (في) ، والإضمار يوجب الرجوع إلى الأصل.

وقال الخضراوي : الضمائر من الزمان والمكان لم تقع في شيء من كلام العرب خبرا للمبتدأ منصوبة كما يقع الظرف ، ولم يسمع نحو : يوم الخميس سفري إيّاه ، إلا أن يقرن (بفي) فدلّ هذا على أن الضمائر لا تنتصب ظروفا ، لأنّ كل ما ينتصب ظرفا يجوز وقوعه خبرا إذا كان مما يصحّ عمل الاستقرار فيه ، قال : ولم أر أحدا نبّه على هذا التنبيه.

ـ الثالثة : يضاف إلى الظرف ـ المتوسّع فيه ـ المصدر على طريق الفاعلية نحو (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] ، وعلى طريق المفعولية نحو (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) [البقرة : ٢٢٦] والوصف كذلك نحو :

يا سارق اللّيلة أهل الدار (١)

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤).

٢٣

ويا مسروق الليلة أهل الدار ، ذكرهما سيبويه (١).

قال الفارسي : وإذا أضيف إلى الظرف لم يكن إلّا اسما ، وخرج بالإضافة عن أن يكون ظرفا ، لأن (في) مقدّرة في الظرف وتقديرها يمنع الإضافة إليه ، كما لا يجوز أن يحال بين المضاف والمضاف إليه بحرف جرّ في نحو : غلام لزيد.

وقال الخضراوي : هذا غير ظاهر ، لأن المضاف يقدّر باللام ، وبمن ، ومع ذلك لم يمنع من الإضافة ، قال : وقولهم الظرف على تقدير (في) إنما هو تقدير معنى ، وليس المراد أنها مضمرة ولا مضمنة ؛ ولذا لم تقتض البناء.

وقال ابن عصفور : ما قاله الفارسيّ ضعيف عندي ، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجرّ ملفوظا به وجد في باب (لا) والنداء ، فإذا جاز ظاهرا فمقدّرا أولى. قال : نعم ، العلّة الصحيحة أن يقال : إنّ الظرف إذا دخل عليه الخافض خرج عن الظرفية ؛ ألا ترى أن (وسطا) إذا دخل عليها الخافض صارت اسما بدليل التزامهم فتح سينها ، ووسط المفتوحة السين لا تكون إلا اسما ، والسبب في خروج الظروف بالخفض عن الظرفية إلى الاسمية ما ذكره الأخفش في كتابه (الكبير) من أنهم جعلوا الظرف بمنزلة الحرف الذي ليس باسم ولا فعل لشبهه به من حيث كان أكثر الظروف قد أخرج منها الإعراب ، وأكثرها أيضا لا تثنّى ولا تجمع ولا توصف ، قال : فلما كانت كذلك كرهوا أن يدخلوا فيها ما يدخلون في الأسماء.

ـ الرابعة : قد يسند إلى المتوسّع فيه فاعلا نحو : في يوم عاصف ، (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) [الإنسان : ١٠] ونائبا عن الفاعل نحو : ولد له ستّون عاما ؛ وصيد عليه اللّيل والنهار ، ويرفع خبرا نحو : الضرب اليوم. قال بعضهم : ويؤكّد ويستثنى منه ويبدل وإن لم يجز ذلك في الظرف ، لأنه زيادة في الكلام غير معتمد عليها بخلاف المفعول ، وتوقّف في إجازته صاحب (البسيط).

ـ الخامسة : ظاهر كلام ابن مالك جواز التوسّع في كلّ ظرف متصرّف (٢).

وقال في (البسيط) : ليس التوسّع مطردا في كلّ ظروف الأمكنة كما في الزمان ، بل التوسع في الأمكنة سماع نحو : نحا نحوك ، وقصد قصدك ، وأقبل قبلك ، ولا يجوز في (خلف) وأخواتها ، لا تقول : ضربت خلفك ، فتجعله مضروبا ، وكذا لا

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٢٣٤).

(٢) انظر التسهيل (٩٨).

٢٤

يتوسّع فيها بجعلها فاعلا كما في الزمان ، وإنما كان ذلك لأن ظروف الزمان أشدّ تمكّنا من ظروف المكان.

ـ السادسة : لا يتوسّع في الظرف ، إذا كان عامله حرفا ، أو اسما جامدا بإجماعهم ، لأن التوسّع فيه تشبيه بالمفعول به ، والحرف والجامد لا يعملان في المفعول به (١).

وهل يتوسّع فيه مع كان وأخواتها؟ قال أبو حيان (٢) : يبنى على الخلاف في كان ، أتعمل في الظرف أم لا؟ فإن قلنا لا تعمل فيه فلا توسع ، وإن قلنا تعمل فيه فالذي يقتضيه النظر أنه لا يجوز الاتّساع معها لأنه يكثر المجاز فيها ، لأنها إنما رفعت المبتدأ ونصبت الخبر تشبيها بالفعل المتعدّي إلى واحد فعملنا بالتشبيه وهو مجاز ، فإذا نصبت الظرف اتّساعا كان مجازا أيضا فيكثر المجاز فيمنع منه. ونظير ذلك قولهم : دخلت في الأمر ، لا يجوز حذف (في) لأن هذا الدخول مجاز ، ووصول دخل إلى الظرف بغير وساطة (في) مجاز فلم يجمع عليها مجازان ؛ والذي نصّ عليه ابن عصفور جواز الاتّساع معها كسائر الأفعال.

ويجوز الاتّساع مع الفعل اللازم ومع المتعدّي إلى واحد بلا خلاف. وهل يجوز مع المتعدّي إلى اثنين أو ثلاثة خلاف؟ ذهب الجمهور إلى الجواز ، وصحّح ابن عصفور المنع ، لأنه لم يسمع معهما كما سمع مع الأولين ، قالوا : يوم الجمعة صمته ، وقال : [الطويل]

٥ ـ ويوما شهدناه سليما وعامرا

[قليل سوى الطّعن النّهال نوافله]

لأنه ليس له أصل يشبه به ، لأنه لا يوجد ما يتعدّى إلى ثلاثة بحقّ الأصل ، وباب أعلم وأرى فرع من علم ورأى ، والحمل إنما يكون على الأصول لا على الفروع.

وصحّح ابن مالك (٤) الجواز مع المتعدّي إلى اثنين ، والمنع مع المتعدي إلى ثلاثة ، لأنه ليس لنا ما يشبه به ، إذ ليس لنا فعل يتعدّى إلى أربعة.

وأجاب الجمهور بأن الاتّساع ليس معتمده التشبيه بدليل جريانه مع اللازم.

__________________

(١ و ٢) انظر همع الهوامع (١ / ٢٠٣).

٥ ـ الشاهد لرجل من بني عامر في الكتاب (١ / ٢٣٥) ، والدرر (٣ / ٩٦) ، وشرح المفصّل (٢ / ٤٦) ، ولسان العرب (جزي) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٧ / ١٨١) ، وشرح ديوان المرزوقي (٨٨) ، والمقتضب (٣ / ١٠٥) ، والمقرّب (١ / ١٤٧) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٠٣).

(٣) انظر التسهيل (٩٨).

٢٥

ـ السابعة : إذا توسّع في واحد لم يتوسّع فيه نفسه مرة أخرى ؛ مثال ذلك : أن يتوسع فتضيف إليه ثم تنصبه نفسه نصب المفعول به توسعا ، وهل يجوز أن يتوسّع في الفعل أكثر من واحد بأن يتوسع معه في الظرف ثم يتوسع في المصدر؟ إن قلنا : يتوسع في اللفظ لم يبعد ، أو في المعنى فيبعد ؛ لأنه لا يوضع شيئان بدل شيء واحد. وذهب بعضهم إلى أنه لا يتوسّع في شيء من الأفعال إلا إذا حذف المفعول الصريح إن كان التوسع في المعنى ، وإن كان توسعا في اللفظ جاز مطلقا نحو :

يا سارق الليلة أهل الدار (١)

وسببه أن التوسع في المعنى يجعل المتوسع فيه واقعا به المعنى ، ولا يكون معنى واحد في محلين من غير عطف ولا ما يجري مجراه.

اجتماع الأمثال مكروه

ولذلك يفرّ منه إلى القلب أو الحذف أو الفصل.

فمن الأول : قالوا في دهدهت الحجر : دهديت ، قلبوا الهاء الأخيرة ياء كراهة اجتماع الأمثال ، وكذلك قولهم في : حاحا زيد ، حيحي زيد ، قلبوا الألف ياء لذلك ، وقال الخليل : أصل مهما الشرطية ، ماما ، قلبوا الألف الأولى هاء لاستقباح التكرير (٢).

وقالوا في النسب إلى نحو شج وعم : شجويّ وعمويّ ، بقلب الياء واوا كراهة لذلك. وكذا قالوا في نحو حيّ : حيوي ، وفي نحو : تحية تحويّ لذلك ، وهنيهة أصلها : هنية فأبدلت الهاء من الياء كراهة لاجتماع الأمثال (٣). والحيوان من مضاعف الياء وأصله : حييان ، قلبت الياء الثانية واوا وإن كان الواو أثقل منها كراهة اجتماع الأمثال ، وكذا دينار وديباج وقيراط وديماس وديوان أصلها : دنّار ودبّاج ودوّان ، قلب أحد حرفي التضعيف ياء لذلك. ولبّى أصله لبب ، قلبت الباء الثانية التي هي اللّام ياء هربا من التضعيف فصار لبّى ، ثم أبدلت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها فصار لبّى. ونحو حمراء وصفراء تقلب منه الهمزة في التثنية واوا.

قال الشلوبين : وسببه اجتماع الأمثال ، فإن هناك ألفين وبينهما همزة والهمزة

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٦٨).

(٣) انظر الكتاب (٣ / ٥٠٥).

٢٦

قريبة من الألف ، قال : وكان قلبها واوا أولى من قلبها ياء ، لأن الياء قريبة من الألف والواو ليست في القرب إليها مثلها ، والجمع بين الأمثال مكروه عندهم ، فكان قلب الهمزة واوا أذهب في أن لا يجمع بين الأمثال من قلبها ياء.

ومن الثاني : حذف أحد مثلي ظللت ومسست وأحسست فقالوا : ظلت ومست وأحست (١) ، وحذف إحدى اليائين من سيّد وميّت وهيّن وليّن ، وقيل : وهو مقيس على الأصحّ ، وقال ابن مالك : يحفظ ولا يقاس. وقال الفارسي : يقاس في ذوات الواو دون ذوات الياء ، وحذف الياء المشدّدة من الاسم المنسوب إليه عند إلحاق ياء النسب كراهة اجتماع الأمثال ككرسيّ وشافعيّ وبختيّ ومرميّ ، إلّا في نحو كساء إذ صغّر ثم نسب إليه فإنه يقال فيه : كسيّيّ بياءين مشدّدتين وستأتي علّته ، وحذف الياء الأخيرة في تصغير نحو غطاء وكساء ورداء وإداوة وغاوية ومعاوية وأحوى ؛ لأنه يقع في ذلك بعد ياء التصغير ياءان فيثقل اجتماع الياءات.

وبيانه : أن ياء التصغير تقع ثالثة فتنقلب ألف المدّ ياء ، وتعود الهمزة إلى أصلها من الياء أو الواو ، وتنقلب ياء لانكسار ما قبلها ، فاجتمع ثلاث ياءات : ياء التصغير وياء بدل ألف المدّ وياء بدل لام الكلمة ، ولفظة غطيي فتحذف الأخيرة لأنها طرف والطرف محل التغيير ، ولأن زيادة الثقل حصلت بها ، ثم تدغم ياء التصغير في المنقلبة عن ألف المدّ ويقال : غطيّ (٢) ، وفي إداوة تقع ياء التصغير بعد الدال فتنقلب الألف ياء وتحذف الياء الأخيرة ، ويقال : (أديّة) (٣) ويقال في غاوية ومعاوية : غويّة ومعيّة ، وفي أحوى (أحيّ) (٤) ، ذكره في البسيط ، ومن ذلك قولهم ، لتضربن يا قوم ولتضربنّ يا هند ، فإن أصله لتضربوننّ ولتضربيننّ ، فحذفت نون الرفع لاجتماع الأمثال ، كما حذفت مع نون الوقاية في نحو (أَتُحاجُّونِّي) [الأنعام : ٨٠] كراهة اجتماعها مع نون الوقاية.

قال ابن عصفور في (شرح الجمل) : والتزم الحذف هنا ولم يلتزم في (أَتُحاجُّونِّي) لأن اجتماعها مع النون الشديدة أثقل من اجتماعها مع نون الوقاية ، لأن النون الشديدة حرفان ونون الوقاية حرف ، وحكم النون الخفيفة حكم النون الثقيلة في التزام حذف علامة الإعراب معها لأنها في معناها ومخففّة منها ، انتهى.

ومن ذلك قال أبو البقاء في (التبيين) : تصغير (٥) ذا ، ذيّا ، وأصله ثلاث ياءات :

__________________

(١) انظر الممتع في التصريف لابن عصفور (٦٦١).

(٢ ـ ٣ ـ ٤) انظر الكتاب (٣ / ٥٢٤).

(٥) انظر المسألة في الكتاب (٣ / ٥٤٠).

٢٧

عين الكلمة ، وياء التصغير ، ولام الكلمة ، فحذفوا إحداها لثقل الجمع بين ثلاث ياءات ، والمحذوفة الأولى ، لأن الثانية للتصغير فلا تحذف ، والثالثة تقع بعدها الألف والألف لا تقع إلا بعد المتحركة ، والألف فيها بدل عن المحذوف ، والتصغير يردّ الأشياء إلى أصولها.

ومن ذلك قولهم في الجمع أخون وأبون ، ولم يردّ المحذوف كما هو القياس فيقال : أخوون وأبوون ، قال الشلوبين : لأنه كان يؤدّي إلى اجتماع ضمّات أو كسرات ، فلما أدى إلى ذلك لم يرد وأجري الجمع على حكم المفرد ، ولما كان هذا المانع مفقودا في التثنية ردّ فقيل : أخوان وأبوان. ومن ذلك قال ابن هشام في تذكرته : الأصل في يا بنيّ (١) : يا بنييّ بثلاث ياءات الأولى ياء التصغير والثانية لام الكلمة والثالثة ياء الإضافة ، فأدغمت ياء التصغير فيما بعدها لأن ما أول المثلين فيه مسكن فلا بد من إدغامه ، وبقيت الثانية غير مدغم فيها ؛ لأن المشدّد لا يدغم لأنه واجب السكون فحذفت الثالثة.

ومنهم من بالغ في التخفيف فحذف الياء الثانية المتحرّكة المدغم فيها وقال يا بني بالسكون كما حذفوها في سيّد وميّت لما قالوا سيد وميت (٢). ومن ذلك قال ابن النحاس في التعليقة : إنما لم تدخل اللام في خبر (إنّ) إذا كان منفيا ؛ لأن غالب حروف النفي أولها لام (لا) و (لم) و (لما) و (لن) فيستثقل اجتماع اللامين ، وطرد الحكم يأتي في باقي حروف النفي.

ومن الثالث : وجوب إظهار (أن) بعد لام كي إذا دخلت على (لا) نحو «لئلا يعلم» حذرا من توالي مثلين لو قيل للا يعلم ، ووجوب إبقاء الياء والواو في النسب إلى نحو شديدة وضرورة ، فيقال شديديّ وضروريّ ، إذ لو حذفت كما هو قاعدة فعيلة وفعولة وقيل : شديدّ وضرريّ لاجتمع مثلان.

ومن كراهة اجتماع الأمثال : حكايتهم المنسوب بـ (من) دون (أي) ، خلافا للأخفش ، لما يؤدّي إليه من اجتماع أربع ياءات فيقال لمن قال : رأيت المكي المكي المني ، وأجاز الأخفش الأيي.

ومن ذلك قال الشّلوبين (في شرح الجزولية) : إنما قدّرت الضمة في جاء القاضي ، وزيد يرمي ويغزو ، والكسرة في مررت بالقاضي لثقلهما في أنفسهما وانضاف

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٥٠٤).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٥٠٦).

٢٨

إلى ثقلهما اجتماع الأمثال ، وهم يستثقلون اجتماع الأمثال ، قال : والأمثال التي اجتمعت هنا هي الحركة التي في الياء والواو والحركة التي قبلهما ، والياء والواو مضارعتان للحركات لأنهما من جنسها ألا ترى أنهما ينشآن عن إشباع الحركات ، فلما اجتمعت الأمثال خفّفوا بأن أسقطوا الحركة المستثقلة.

قال : ويدلّ على صحة هذه العلّة أنهم إذا سكّنوا ما قبل الواو والياء في نحو : غزو وظبي لم يستثقلوا الضمّة لأنه قد قلّت الأمثال هناك لكون ما قبل الواو والياء ساكنا لا متحركا فاحتملوا ما بقي من الثقل لقلته. ومن ذلك قال ابن عصفور : لم تدخل النون الخفيفة على الفعل الذي اتصل به ضمير جمع المؤنث لأنه يؤدّي إلى اجتماع المثلين وهو ثقيل فرفضوه لذلك ، ولم يمكنهم الفصل بينهما بالألف ؛ فيقولون هل تضربنان لأن الألف إذا كان بعدها ساكن غير مشدّد حذفت ، فيلزم أن يقال هل تضربنن فتعود إلى مثل ما فررت منه ، فلذلك عدلوا عن إلحاق الخفيفة وألحقوا الشديدة ، وفصلوا بينها وبين نون الضمير بالألف كراهية اجتماع الأمثال فقالوا هل تضربنانّ.

قال ابن فلاح في (المغني) : فإن قيل قد وجد اجتماع الأمثال في نحو زيديّ من غير استثقال ، قلنا : ياء النسب بمنزلة كلمة مستقلة.

وقال ابن الدهان في (الغرة) : إذا كنا قد استثقلنا الأمثال في الحروف الصحاح حتى حذفنا الحركة وأدغمنا ، ومنه ما حذفنا أحد الحرفين ، ومنه ما قلبنا أحد الحروف. فمثال الأولى : مدّ وأصله : مدد. ومثال الثاني : ظلت وأصله ظللت. ومثال الثالث : [الرجز]

٦ ـ تقضّي البازي [إذا البازي كسر]

وأصله (تقضّض) ، فالأولى أن نستثقلها في الحروف المعتلّة ، فإن اعترض (بزيديّ) واجتماع الأمثال ياءات وكسرات ـ فالجواب : إنّ ياء النسب في تقدير الطّرح كتاء التأنيث.

ومن كراهة اجتماع المثلين فتح : من الرجل (الم اللهُ) [آل عمران : ١] لتوالي الكسرتين ولهذا لم يفتحوا عن الرجل.

__________________

٦ ـ الشاهد للعجاج في ديوانه (١ / ٤٢) ، وأدب الكاتب (٤٨٧) ، وإصلاح المنطق (٣٠٢) ، والدرر (٦ / ٢٠) ، وشرح المفصّل (١٠ / ٢٥) ، والممتع في التصريف (١ / ٣٧٤) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٩٠) ، وشرح الأشموني (٣ / ١٧٩) ، والمقرّب (٢ / ١٧١) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٥٧) ، ومقاييس اللغة (٤ / ٢١) ، والمخصّص (٨ / ١٣٢) ، وتهذيب اللغة (٨ / ٢٥٢).

٢٩

وفي (شرح المفصل) للسّخاوي : لا يجوز : «إنّ أنّ زيدا منطلق يعجبني» عند سيبويه (١) ، وذكر أن العرب اجتنبت ذلك كراهة اجتماع اللفظين المشتبهين ، وأجاز ذلك الكوفيون ، فإن فصلت بشيء جاز ذلك باتفاق نحو : «إنه عندنا أنّ زيدا في الدار».

ومن ذلك قال السيرافي : إن قيل : لم وجب ضمّ الأول في المصغّر؟ قيل : لما لم يكن بدّ من تغيير المصغّر ليمتاز عن المكبر بعلامة تلزم الدلالة على التصغير كان الضمّ أولى ، لأنهم قد جعلوا الفتح في الجمع من نحو ضوارب فلم يبق إلا الكسر أو الضم ، فاختاروا الضم لأن الياء علامة التصغير ، وإن وقع بعدها حرف ليس حرف الإعراب وجب تحريكه بالكسر ، فلو كسروا الأول لاجتمعت كسرتان مع الياء ، فعدلوا إلى الضمة فرارا من اجتماع الأمثال.

إجراء اللازم مجرى غير اللازم

وإجراء غير اللازم مجرى اللازم

عقد لذلك ابن جني بابا في الخصائص وقال (٢) : من الأول قوله : [الرجز]

٧ ـ الحمد لله العليّ الأجلل

وقوله : [الرجز]

٨ ـ تشكو الوجى من أظلل وأظلل

وقوله : [الرجز]

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ١٤٣).

(٢) انظر الخصائص (٣ / ٨٧).

٧ ـ الرجز لأبي النجم في خزانة الأدب (٢ / ٣٩٠) ، واللسان (جلل) ، والدرر (٦ / ١٣٨) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٤٤٩) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٥٩٥) ، وجمهرة اللغة (٤٧١) ، وبلا نسبة في الخصائص (٣ / ٨٧) ، وشرح الأشموني (٣ / ٥٠٨) ، والمقتضب (١ / ١٤٢) ، والممتع في التصريف (٢ / ٦٤٩) ، والمنصف (١ / ٣٣٩) ، ونوادر أبي زيد (٤٤) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٥٧) وبعده :

«أعطى فلم يبخل ولم يبخّل»

٨ ـ الشاهد للعجاج في ديوانه (١ / ٢٣٦) ، (وينسب لأبي النجم العجلي) ، والخصائص (١ / ١٦١) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٣١٠) ، وكتاب الصناعتين (١٥٠) ، ونوادر أبي زيد (٤٤) ، وبلا نسبة في الكتاب (٤ / ١٩) ، وشرح شافية ابن الحاجب (٣ / ٢٤٤) ، ولسان العرب (كفح) ، و (كدس) ، والمقتضب (١ / ٢٥٢) ، والممتع في التصريف (٢ / ٦٥٠) ، والمنصف (١ / ٣٣٩).

٣٠

٩ ـ وإن رأيت الحجج الرّواددا

قواصرا بالعمر أو مواددا

ونحو ذلك مما ظهر تضعيفه ، فهذه عندنا على إجراء اللازم مجرى غير اللازم ، من المنفصل نحو : جعل لك ، وضرب بكر ، كما شبّه غير اللازم من ذلك باللازم فأدغم نحو : ضربكر ، وجعلكّ ، فهذا مشبّه في اللفظ : بشدّ ومدّ واستعدّ ونحوه مما لزم فلم يفارق. ومن ذلك ما حكوه من قول بعضهم : عوى الكلب عوية ، وهذا عندي ـ وإن كان لازما ـ فإنه أجري مجرى بنائك من باب طويت فعلة ، وهو قولك : طوية ، كقولك : امرأة جوية ولوية ، من الجوى واللّوى ، فإن خففّت حركة العين فأسكنتها قلت طوية وجوية ولوية فصححت العين ولم تعلّها بالقلب والإدغام ؛ لأن الحركة فيها منويّة. وعلى ذلك قالوا في فعلان من قويت قويان ، فإن أسكنوا صححوا العين أيضا ، ولم يردّوا اللّام أيضا ، وإن زالت الكسرة من قبلها لأنها مرادة في العين فلذلك قالوا : عوى الكلب عوية ، تشبيها بباب : امرأة جوية ولوية وقويان.

فإن قلت : فهلّا قالوا أيضا على قياس هذا : طويت الثوب طوية وشويت اللحم شوية؟

فالجواب : أنه لو فعل ذلك لكان قياسه قياس ما ذكرنا وأنه ليست لـ (عوى) فيه مزية على طوى وشوى ، كما لم يكن لجاشم وقاثم مزية يجب لها العدل بهما إلى جشم وقثم على مالك وحاتم ، إذ لم يقولوا ملك ولا حتم ، وعلى أن ترك الاستكثار مما فيه إعلال أو استثقال هو القياس. ومن ذلك قراءة ابن مسعود (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤] وذلك أنه أجرى حركة اللام هنا وإن كانت لازمة مجراها إذا كانت غير لازمة في نحو قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَ) [آل عمران : ٢٦] ، و (قُمِ اللَّيْلَ) [المزمل : ٢] وقول الشاعر : [الطويل]

١٠ ـ زيارتنا نعمان لا تنسينّها

تق الله فينا والكتاب الذي نتلو

ويروي خف الله ، ويروى لا تنسينها اتّق الله ، ونحوه ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر : [الطويل]

١١ ـ وأطلس يهديه إلى الزّاد أنفه

أطاف بنا واللّيل داجي العساكر

__________________

٩ ـ الشاهد بلا نسبة في النوادر (١٦٤) ، والخصائص (١ / ١٦١).

١٠ ـ الشاهد لعبد الله بن همام السلولي في شرح شواهد الشافية (٤٩٦) ، والفاضل (٧٩) ، واللسان (وقي) ، والخصائص (٢ / ٣٨٦) ، والنوادر (٤ / ٢٧) ، والأمالي الشجرية (١ / ٢٠٥).

١١ ـ البيتان في الخصائص (٣ / ٨٩).

٣١

فقلت لعمرو صاحبي إذ رأيته

ونحن على خوص دقاق عواسر

أي عوى الذئب فسر أنت ، فلم يحفل بحركة الراء فيردّ العين التي كانت حذفت لالتقاء الساكنين ، فكذلك شبه ابن مسعود حركة اللام من قوله تعالى : (فَقُولا ،) وإن كانت لازمة بالحركة في التقاء الساكنين في (قُلِ اللهُمَ) [آل عمران : ٢٦] ، و (قُمِ اللَّيْلَ) [المزمل : ٢] ، وحركة الإطلاق الجارية مجرى حركة التقائهما في سر ، ومثله قوله الضبيّ : [المنسرح]

١٢ ـ في فتية كلّما تجمّعت ال

بيداء لم يهلعوا ولم يخموا

يريد ولم يخيموا فلم يحفل بضمّة الميم وأجراها مجرى غير اللازم مما ذكرناه وغيره ، فلم يردد العين المحذوفة من (لم يخم) ، وإن شئت قلت في هذين : إنه اكتفى بالحركة من الحرف كما اكتفى الآخر بها منه في قوله : [الرجز]

١٣ ـ كفّاك كفّ ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسّيف الدّما

وقول الآخر :

١٤ ـ بالذي تردان

أي تريدان.

ومن الثاني : وهو إجراء غير اللازم مجرى اللازم قول بعضهم في الأحمر إذا خففت همزته : لحمر ، حكاها أبو عثمان ، ومن قال : الحمر ، قال : حركة اللام غير لازمة إنّما هي لتخفيف الهمزة ، والتحقيق لها جائز فيها ، ونحو ذلك قول الآخر : [الطويل]

١٥ ـ وقد كنت تخفي حبّ سمراء حقبة

فبح لان منها بالّذي أنت بائح

فأسكن الحاء التي كانت محركة لالتقاء الساكنين في : بح الآن لما تحركت لتخفيف اللام ، وعليه قراءة من قرأ : (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٧١] فأثبت واو قالوا لما تحركت لام (لان) ، والقراءة القويّة (قالوا الان) بإقرار الواو على حذفها لأن الحركة عارضة للتخفيف. وعلى القول الأول قول الآخر : [الرجز]

__________________

١٢ ـ الشاهد لمحمد بن شحاذ الضّبي في لسان العرب (جمع) ، وتاج العروس (جمع).

١٥ ـ الشاهد لعنترة في ديوانه (ص ٢٩٨) ، والمقاصد النحوية (١ / ٤٧٨) ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ٣١) ، والخصائص (٣ / ٣٥) ، وشرح الأشموني (١ / ٨١) ، وشرح التصريح (١ / ١٤٧) ، وشرح ابن عقيل (ص ٩٢) ، ولسان العرب (أين).

٣٢

١٦ ـ حدبد بى حدبد بى منكم لان

إن بني فزارة بن ذبيان

قد طرقت ناقتهم بإنسان

مشيئا سبحان ربي الرحمن

أسكن ضم ميم (منكم) لما تحركت لام (لان) وقد كانت مضمومة عند التحقيق في قوله : (منكم الان) ، فاعتد حركة اللام بالتخفيف وإن لم تكن لازمة.

وينبغي أن تكون قراءة أبي عمرو (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى)(٢) [النجم : ٥٠] على هذه اللغة وهي قولك مبتدئا (لوّلى) ، لأن الحركة على هذا في اللام أثبت منها على قول من قال الحمروان ، كان حملها على هذا أيضا جائزا ؛ لأن الإدغام وإن كان بابه أن يكون في المتحرّك فقد أدغم أيضا في الساكن ، فحرك في شدّ ومدّ وفرّ يا رجل وعضّ ونحو ذلك ، ومثله ما أنشده أبو زيد : [الوافر]

١٧ ـ ألا يا هند هند بني عمير

أرثّ لان وصلك أم جديد؟؟

أدغم تنوين رث في لام (لان).

ومما يجري على سمته قول الله عز وجل : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي)(٤) [الكهف : ٣٨] ، وأصله لكن أنا ، فخفّف الهمزة بحذفها وإلقاء حركتها على نون (لكن) فصارت لكننا ، فأجري غير اللازم مجرى اللازم فاستثقل التقاء المثلين المتحركين فأسكن الأول وأدغم في الثاني فصار (لكنا) كما ترى ، وقياس قراءة من قرأ (قالُوا الْآنَ) [البقرة : ٧١] ، فحذف الواو ولم يحفل بحركة اللام أن يظهر النونين ، لأن حركة الثانية غير لازمة فتقول : لكننا بالإظهار ، كما تقول في تخفيف جوأبة وجيأل ، جوبة ، وجيل (٥) ، فيصحّ حرفا اللّين هنا ، ولا يقلبان لما كانت حركتهما غير لازمة.

ومن ذلك قولهم في تخفيف رؤيا ونؤى : رويا ونوى فيصحّ الواو هنا وإن سكنت قبل الياء أن التقدير فيها الهمزة كما صحّت في ضو ونو تخفيف ضوء ونوء ، لتقديرك الهمز وإرادتك إياه ، وكذلك أيضا صحّ نحو : شي وفي ، تخفيف شيء وفيء كذلك.

وسألت أبا عليّ فقلت : من أجرى غير اللازم مجرى اللازم ، فقال : (لكنّا)

__________________

١٦ ـ الشعر لسالم بن دارة في الخزانة (٢ / ١٤٧).

(١) انظر البحر المحيط (٨ / ١٦٦).

١٧ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (أين) ، والخصائص (٣ / ٩١) ، وتاج العروس (أين).

(٢) انظر كتاب التيسير في القراءات السبع للداني (ص ١١٧) (قرأ ابن عامر بإثبات الألف في الوصل والباقون بحذفها فيه وإثباتها في الوقف إجماع).

(٣) في نسخة : حوأبه وجيأل ، وحوبه وجيل.

٣٣

كيف قياس قوله إذا خفّف نحو جوأبة وجيأل أتقلب؟ فتقول : جابة وجال ، أم تقيم على الصحيح فتقول : جوبة وجيل ، قال : القلب هنا لا سبيل إليه وأومأ إلى أنه أغلظ من الإدغام فلا يقدم عليه.

فإن قيل : فقد قلبت العرب الحرف للتخفيف وذلك قول بعضهم : ريّا وريّة في تخفيف رؤيا ورؤية.

قيل : الفرق أنّك لمّا صرت إلى لفظ (رويا وروية) ثم قلبت الواو إلى الياء فصار إلى (ريّا وريّة) ، إنما قلبت حرفا إلى آخر كأنه هو ، ألا ترى إلى قوة شبه الواو بالياء وبعدها عن الألف ، فكأنك لما قلبت مقيم على الحرف نفسه ولم تقلبه ، لأن الواو كأنها هي الياء نفسها وليست كذلك الألف لبعدها عنهما بالأحكام الكثيرة التي قد أحطنا بها علما. قال : وما يجري من كلّ واحد من الفريقين مجرى صاحبه كثير وفيما مضى كفاية ، انتهى.

وفي تذكرة الشيخ جمال الدين بن هشام : قال ابن هشام الخضراوي : أجرت العرب حركات الإعراب للزومها على البدل مجرى الحركة اللازمة لكون حروفها لا تعرى من حركة ؛ فلذلك قالوا : عصا ورحى ، كما قالوا : قال وباع. وكذلك قالوا : يخشى ويرضى ، كما قالوا في الماضي : رمى وغزا ، انتهى.

إجراء المتّصل مجرى المنفصل

وإجراء المنفصل مجرى المتّصل

عقد (١) ابن جني في الخصائص بابا لذلك قال :

فمن الأولى قولهم : اقتتل القوم واشتتموا ، فهذا بيانه بيان : (شئت تلك) ، و (جعل لك) ، إلا أنه أحسن من قوله :

الحمد لله العلي الأجلل (٢)

وبابه ، لأن ذلك إنما يظهر مثله ضرورة ، وإظهار نحو اقتتل واشتتم مستحسن وعن غير ضرورة.

وكذلك باب قوله : هم يضربونني ، وهما يضربانني أجرى ، وإن كان متصلا ، مجرى : يضربان نعم ، ويشتمان نافعا. ووجه الشبه بينهما أن نون الإعراب هذه لا

__________________

(١) انظر الخصائص (٣ / ٩٣).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٧).

٣٤

يلزم أن تكون بعدها نون ، ألا ترى أنك تقول : يضربان زيدا ويكرمونك. ولا تلزم هي أيضا نحو : لم يضرباني ، ومن أدغم نحو هذا ، واحتجّ بأن المثلين في كلمة واحدة فقال يضرباني : و (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) [البقرة : ١٣٩] فإنه يدغم أيضا نحو اقتتل فتقول : قتّل ، ومنهم من يقول : قتّل ، ومنهم من يقول : قتّل ، ومنهم من يقول : اقتّل فيثبت همزة الوصل مع حركة الفاء لما كانت الحركة عارضة للثقل أو لالتقاء الساكنين.

ومن الثاني : قولهم (ها الله) أجري مجرى دابّة وشابّة ، وكذلك قراءة من قرأ فلا تّناجوا [المجادلة : ٩] و (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها) [الأعراف : ٣٨] ومنه عندي قول الراجز :

١٨ ـ في أيّ يوميّ من الموت أفر

أيوم لم يقدر ام يوم قدر

كذا أنشده أبو زيد (يقدر) بفتح الراء ، وقال : أراد النون الخفيفة فحذفها ، وحذف نون التوكيد وغيرها من علاماته جار عندنا مجرى إدغام الملحق في أنه نقض الغرض ، إذ كان التوكيد من مظانّ الإسهاب والإطناب ، والحذف من مظانّ الاختصار والإيجاز ، لكن القول فيه عندي أنه أراد : أيوم لم يقدر أم يوم قدر ، ثم خفّف همزة أم فحذفها ، وألقى حركتها على راء يقدر ، فصار تقديره : أيوم لم يقدرم ، ثم أشبع فتحة الراء فصار تقديره : أيوم لم يقدر أم ، فحرّك الألف لالتقاء الساكنين ، وانقلبت همزة فصار تقديره : (يقدر أم) ، واختار الفتحة إتباعا لفتحة الراء. ونحو من هذا التخفيف قولهم في المرأة والكمأة إذا خفّفت الهمزة : المراة والكماة.

وكنت ذاكرت الشيخ أبا علي بهذا منذ بضع عشرة سنة فقال : هذا إنما يجوز في المنفصل ، قلت له فأنت أبدا تكرر ذكر إجرائهم المنفصل مجرى المتصل فلم يردّ شيئا.

ومن ذاك إجراء المنفصل مجرى المتّصل قوله : [السريع]

١٩ ـ [رحب وفي رجليك ما فيهما]

وقد بدا هنك من المئزر

__________________

١٨ ـ الشاهد للإمام علي بن أبي طالب في ديوانه (ص ٧٩) ، وحماسة البحتري (ص ٣٧) ، وللحارث بن منذر الجرمي في شرح شواهد المغني (٢ / ٦٧٤) ، وبلا نسبة في الخصائص (٣ / ٩٤) ، والجنى الداني (ص ٢٦٧) ، وشرح الأشموني (٣ / ٥٧٨) ، ولسان العرب (قدر) ، والمحتسب (٢ / ٣٦٦) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٧٧) ، والممتع في التصريف (١ / ٣٢٢) ، ونوادر أبي زيد (١٣).

١٩ ـ الشاهد للأقيشر الأسدي في ديوانه (٤٣) ، وخزانة الأدب (٤ / ٤٨٤) ، والدرر (١ / ١٧٤) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٣٩١) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٥١٦) ، وللفرزدق في الشعر والشعراء (١ / ١٠٦) ، وبلا نسبة في الكتاب (٤ / ٣١٧) ، وتخليص الشواهد (٦٣) ، والخصائص (٣ / ٩٥) ، ورصف المباني (ص ٣٢٧) ، وشرح المفصّل (١ / ٤٨) ، ولسان العرب (وأل) و (هنا) ، وهمع الهوامع (١ / ٥٤).

٣٥

فشبه هنك بعضد فأسكنه كما يسكن نحو ذلك ، ومنه : [السريع]

٢٠ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

[إثما من الله ولا واغل]

كأنه شبه (ربغ) بعضد ، وكذلك ما أنشده أبو زيد : [السريع]

٢١ ـ قالت سليمى اشتر لنا دقيقا

هو مشبه بقولهم في علم : علم ، لأن نزل بوزن علم ، وكذلك ما أنشده أيضا من قوله : [السريع]

٢٢ ـ واحذر ولا تكتر كريّا أعرجا

لأن (ترك) بوزن علم ، قلت : وقد خرج على ذلك قراءة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢٤٦] بسكون الراء ، ثم قال ابن جني : وهذا الباب نحو من الذي قبله فيه ما يحسن ويقاس وفيه ما لا يحسن ولا يقاس ، ولكلّ وجه.

إجراء الأصلي مجرى الزائد

وإجراء الزائد مجرى الأصلي

قال أبو حيان (٤) : فمن الأول : قولهم في النسب إلى تحية : تحويّ ، بحذف الياء الأولى وقلب الثانية واوا. أما القلب ففرارا من اجتماع الياءات ، وأما الحذف فإن تحية أجرتها العرب مجرى رمية ، ووزن رمية فعيلة كصحيفة ، فكما إذا نسبت إلى صحيفة تقول : صحفي ، كذلك إذا نسبت إلى رميّة تقول : رمويّ ، لأنك تحذف ياء المدّة وهي المدغمة في لام الكلمة كما حذفتها في صحيفة.

وأما تحية فالياء الأولى فيها ليست للمدّة ، إنما هي عين الكلمة والثانية لام

__________________

٢٠ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (١٢٢) ، والكتاب (٤ / ٣١٩) ، وإصلاح المنطق (ص ٢٤٥) ، والأصمعيات (ص ١٣٠) ، وجمهرة اللغة (ص ٩٦٢) ، والدرر (١ / ١٧٥) ، ورصف المباني (ص ٣٢٧) ، وشرح التصريح (١ / ٨٨) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٢٥٦) ، وشرح المفصّل (١ / ٤٨) ، وبلا نسبة في الخصائص (٣ / ٩٦) ، والاشتقاق (ص ٣٣٧) ، وخزانة الأدب (١ / ١٥٢) ، وهمع الهوامع (١ / ٥٤).

٢١ ـ انظر المحتسب (١ / ٣٦١) ، وشرح الشافية (ص ٢٢٦) ، والخصائص (٢ / ٣٤٠) ، والمنصف (٢ / ٢٣٧).

٢٢ ـ الشاهد في المحتسب (١ / ٣٦١) ، والخصائص (٣ / ٦٦) ، والمنصف (٢ / ٢٣٧) ، وشرح الشافية (ص ٢٢٦).

(١) انظر شرح التسهيل (٦ / ٦٦).

٣٦

الكلمة وأصله تحيية ، ثم أدغم وأجري الأصلي مجرى الزائد لشبههما لفظا لا أصلا ، فقالوا : تحويّ. قال : ومثل تحيّة تئية وهي التمكث ، قال : ولا أحفظ لهما ثالثا ، انتهى.

ومنه أيضا ما أجازه أبو علي من قولهم في تثنية ما همزته أصلية نحو : قرّاء ووضّاء : قراوان بالقلب واوا تشبيها لها بالزائدة ، وغيره يقرها من غير قلب لأنها أصلية فيقول : قراءان.

ومن الثاني : قولهم في تثنية ما همزته منقلبة عن حرف إلحاق نحو : علباء وحرباء : علباءان ، بالإقرار تشبيها لها بالمنقلبة عن الأصل ، وقول بعض الكوفيين في تثنية نحو حمراءان بإقرار الهمزة من غير تغيير ، لأنه لما قلبت ألف التأنيث همزة التحقت بالأصلية فلم تغير كالأصلية.

الاختصار

هو جلّ مقصود العرب وعليه مبنى أكثر كلامهم ، ومن ثم وضعوا باب الضمائر لأنها أخصر من الظواهر خصوصا ضمير الغيبة ، فإنه يقوم مقام أسماء كثيرة فإنه في قوله تعالى : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً) [الأحزاب : ٣٥] ، قام مقام عشرين ظاهرا ، ولذا لا يعدل إلى المنفصل مع إمكان المتصل ، وباب الحصر بإلا وإنما وغيرهما لأن الجملة فيه تنوب مناب جملتين ، وباب العطف لأن حروفه وضعت للإغناء عن إعادة العامل ، وباب التثنية والجمع لأنهما أغنيا عن العطف ، وباب النائب عن الفاعل لأنه دلّ على الفاعل بإعطائه حكمه ـ وعلى المفعول بوضعه. وباب التنازع ، وباب (علمت أنك قائم) لأنه محلّ لاسم واحد سدّ مسدّ المفعولين ، وباب طرح المفعول اختصارا على جعل المتعدّي كاللازم ، وباب النداء لأن الحرف فيه نائب مناب أدعو وأنادي ، وأدوات الاستفهام والشرط ، فإن : كم مالك؟ يغني عن قولك : أهو عشرون أم ثلاثون؟ وهكذا إلى ما لا يتناهى والألفاظ الملازمة للعموم كأحد وأكثروا الحذف تارة بحرف من الكلمة كـ : لم يك ، ولم أبل ، وتارة للكلمة بأسرها ، وتارة للجملة كلها ، وتارة لأكثر من ذلك ، ولهذا تجد الحذف كثيرا عند الاستطالة ، وحذفت ألف التأنيث إذا كانت رابعة عند النسب لطول الكلمة.

وقال ابن يعيش (في شرح المفصل) (١) : الكناية التعبير عن المراد بلفظ غير

__________________

(١) انظر شرح المفصل (٤ / ١٢٥).

٣٧

الموضوع له لضرب من الإيجاز والاستحسان. وقال ابن السراج (في الأصول) : من الأفعال ضرب مستعارة للاختصار وفيها بيان أن فاعليها في الحقيقة مفعولون نحو : مات زيد ، ومرض بكر ، وسقط الحائط. وقال ابن يعيش (١) : المضمرات وضعت نائبة عن غيرها من الأسماء الظاهرة لضرب من الإيجاز والاختصار كما تجيء حروف المعاني نائبة عن غيرها من الأفعال فلذلك قلّت حروفها كما قلّت حروف المعاني.

وقال أبو الحسين بن أبي الربيع في (شرح الإيضاح) قولهم : لله درك من رجل ، (من) فيه للتبعيض عند بعضهم والتقدير : لقد عظمت من الرجال ، فوضع المفرد موضع الجمع والنكرة موضع المعرفة للعلم وطلبا للاختصار ، قال ونظير هذا قولك : كلّ رجل يفعل هذا ، الأصل كل الرجال يفعل هذا ، فاستخفّوا فوضعوا المفرد موضع الجمع والنكرة موضع المعرفة لفهم المعنى وطلبا للاختصار.

وقال أبو البقاء في (اللّباب) وتلميذه الأندلسي في (شرح المفصل) : إنما دخلت (إنّ) على الكلام للتوكيد عوضا من تكرير الجملة وفي ذلك اختصار تامّ مع حصول الغرض من التوكيد ، فإن دخلت اللام في خبرها كان آكد ، وصارت إن واللام عوضا من ذكر الجملة ثلاث مرات ، وهكذا (أنّ) المفتوحة إذ لو لا إرادة التوكيد لقلت ـ مكان قولك : بلغني أن زيدا منطلق ، بلغني انطلاق زيد ، انتهى.

ومن الاختصار تركيب (إمّا) العاطفة على قول سيبويه (٢) من (إن) الشرطية و (ما) النافية ؛ لأنها تغني عن إظهار الجمل الشرطية حذرا من الإطالة ، ذكره في (البسيط).

وتركيب (أمّا) المفتوحة من (أن) المصدرية و (ما) المزيدة عوضا من كان في نحو : أما أنت منطلقا انطلقت (٣) ، وجعل (أما) الشرطية عوضا من حرف الشرط وفاعله في نحو : أمّا زيد فقائم.

وقال ابن إياز في (شرح الفصول) : إنما ضمنوا بعض الأسماء معاني الحروف طلبا للاختصار ، ألا ترى أنك لو لم تأت (بمن) وأردت الشرط على الأناسي لم تقدر أن تفي بالمعنى الذي تفي به (من) ، لأنك إذا قلت : من يقم أقم معه ، استغرقت ذوي العلم ، ولو جئت (بإن) لاحتجت أن تذكر الأسماء : إن يقم زيد وعمرو وبكر ، وتزيد على ذلك ولا تستغرق الجنس ، وكذلك في الاستفهام ، انتهى.

__________________

(١) انظر شرح المفصل (٣ / ٩٢).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٣٦٤).

(٣) انظر الكتاب (٤ / ٣٥٦).

٣٨

ومما وضع للاختصار العدد ، فإن عشرة ومائة وألفا قائم مقام درهم ودرهم ودرهم إلى أن تأتي بجملة ما عندك مكررا هكذا ، ومن ثم قالوا : ثلاث مائة درهم ، ولم يقولوا : ثلاث مئات ، كما هو القياس في تمييز الثلاثة إلى العشرة أن يكون جمعا كثلاثة دراهم ؛ لأنهم أرادوا الاختصار تخفيفا لاستطالة الكلام باجتماع ثلاثة أشياء : العدد الأول والثاني والمعدود ، فخفّفوا بالتوحيد مع أمن اللّبس ، هكذا علّله الزمخشري في (الأحاجي) (١) ، وأورد عليه السخاوي في شرحه أنهم قالوا : ثلاثة آلاف درهم ، فلم يخفّفوا بالتوحيد مع اجتماع ثلاثة أشياء ، قال : والصواب في التوحيد أن المائة لما كانت مؤنثة استغني فيها بلفظ الإفراد عن الجمع لثقل التأنيث بخلاف الألف ، وقيل : إنما جمعوا في الألف دون المائة لأن الألف آخره مراتب العدد فحملوا الآخر على الأول كما قالوا : ثلاثة رجال. ومما بني على الاختصار منع الاستثناء من العدد ، لأن قولك : عندي تسعون ، أخصر من مائة إلا عشرة.

وقال الشيخ جمال الدين بن هشام في تذكرته : باب التصغير معدول به عن الوصف ، وقال : إنهم استغنوا بياء وتغيير كلمة عن وصف المسمّى بالصغر بعد ذكر اسمه ، ألا ترى أن ما لا يوصف لا يجوز تصغيره ، فدلّ ذلك على أن التصغير معدول به عن الوصف.

وقال الأندلسي : الغرض من التصغير وصف الشيء بالصغر على جهة الاختصار.

وقال ابن يعيش في (شرح المفصل) (٢) وصاحب (البسيط) : إنما أتي بالأعلام للاختصار وترك التطويل بتعداد الصفات ، ألا ترى أنه لو لا العلم لاحتجت إذا أردت الإخبار عن واحد من الرجال بعينه أن تعدّد صفاته حتى يعرفه المخاطب ، فأغنى العلم عن ذلك أجمع.

قال صاحب (البسيط) : ولهذا المعنى قال النحاة : العلم عبارة عن مجموع صفات.

قال صاحب (البسيط) : فائدة وضع أسماء الأفعال الاختصار والمبالغة ، أما الاختصار فإنها بلفظ واحد مع المذكر والمؤنث والمثنى والمجموع نحو : صه يا زيد ، وصه يا هند ، وصه يا زيدان ، وصه يا زيدون ، وصه يا هندات ؛ ولو جئت بمسمّى هذه اللفظة لقلت : اسكت واسكتي واسكتا واسكتوا واسكتن ، وأما المبالغة فتعلم من لفظها فإن (هيهات) أبلغ في الدلالة على البعد من (بعد) وكذلك باقيها ، ولو لا إرادة الاختصار والمبالغة لكانت الأفعال التي هي مسماها تغني عن وضعها.

__________________

(١) الأحاجي النحوية (ص ٥٠).

(٢) انظر شرح المفصل (١ / ٢٧).

٣٩

وقال الشيخ بهاء الدين بن النحاس في التعليقة على المقرّب : كان الأصل أن يوضع لكل مؤنث لفظ غير لفظ المذكر كما قالوا : عير وأتان وجدي وعناق وجمل ورجل وحصان وحجر إلى غير ذلك ، لكنهم خافوا أن يكثر عليهم الألفاظ ويطول عليهم الأمر ، فاختصروا ذلك بأن أتوا بعلامة فرّقوا بها بين المذكر والمؤنث ، تارة في الصفة كضارب وضاربة ، وتارة في الاسم كامرئ وامرأة ومرء ومرأة في الحقيقي ، وبلد وبلدة في غير الحقيقي ، ثم إنهم تجاوزوا ذلك إلى أن جمعوا في الفرق بين اللفظ والعلامة للتوكيد وحرصا على البيان ، فقالوا : كبش ونعجة وحمل وناقة وبلد ومدينة.

وقال ابن القوّاس في (شرح ألفية ابن معطي) (١) : التصغير وصف في المعنى وفائدته الاختصار ، فإذا قلت : رجل ، احتمل التكبير والتصغير ، فإن أردت تخصيصه قلت : رجل صغير ، فإن أردته مع الاختصار قلت : رجيل ، ولذلك لا يصغّر الفعل.

وقال ابن النحاس : فإن قيل فما فائدة العدل؟ فالجواب : إن عمر أخصر من عامر.

وقال الشلوبين في (شرح الجزولية) : الفاعل إذا كان مخاطبا في أمره وجهان : أحدهما : أن يبنى فعل الفاعل بناء مخصوصا بالأمر وهو بناء أفعل وهو بمعناه نحو : قم واقعد.

والثاني : أن يدخل لام الطلب على فعله المضارع فيقال : لتقم ولتقعد والأجود الأول لأنه أخصر ، فاستغنوا بالأخصر عن غيره ، كما استغنوا بالضمير المتّصل عن الضمير المنفصل في قولك : قمت ولم يقولوا : قام أنا وقمت ولم يقولوا : قام أنت ، إلا أنه قد جاء المستغنى عنه في الأمر ولم يجئ في الضمائر في حال السعة. وقال في (البسيط) : لما كان الفعل يدلّ على المصدر بلفظه ، وعلى الزمان بصيغته ، وعلى المكان بمعناه ، اشتقّ منه اسم للمصدر ولمكان الفعل ولزمانه طلبا للاختصار والإيجاز ، لأنهم لو لم يشتقوا منه أسماءها للزم الإتيان بالفعل وبلفظ الزمان والمكان ، وفيه ذهب بعضهم إلى أن باب مثنى وثلاث ورباع معدول عن عدد مكرّر طلبا للمبالغة والاختصار.

__________________

(١) ابن معطي : يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الحنفي ، أبو الحسين ، نحوي ، فقيه ، مقرئ ، أديب ، عروضي ، تتلمذ للجزولي. من آثاره : «الدرة الألفية في علم العربية أو ألفية ابن المعطي في النحو» و «منظومة في العروض» ، و «منظومة في القراءات السبع» ، وديوان شعر ، وديوان خطب. (ت ٦٢٨ ه‍ / ١٢٣١ م). ترجمته في : وفيات الأعيان (٢ / ٣١٠) ، معجم الأدباء (٢٠ / ٣٥) ، بغية الوعاة (٤١٦).

٤٠