الأشباه والنظائر في النحو - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

وإنما هي متأولة عليه ، ومردودة بالصنعة إليه ، فلو قيل : رجل عدل وامرأة عدلة ـ وقد جرت صفة كما ترى ـ لم يؤمن أن يظن بها أنها صفة حقيقية كصعبة من صعب ، وندبة من ندب ، وفخمة من فخم ، ورطبة من رطب ، فلم يكن فيها من قوة الدلالة على المصدرية ما في نفس المصدر نحو : الجهومة ، والشّهومة ، والطّلاقة ، والخلافة ، فالأصول لقوتها يتصرف فيها والفروع لضعفها يتوقف بها ويقتصر على بعض ما تسوغه القوة لأصولها.

فإن قلت : فقد قالوا : رجل عدل وامرأة عدلة ، وفرس طوعة القياد وقال أميّة : [البسيط]

٢٢٩ ـ والحيّة الحتفة الرقشاء أخرجها

من بيتها آمنات الله والكلم

قيل : هذا إنما خرج على صورة الصفة ، لأنهم لم يؤثروا أن يبعدوا كل البعد عن أصل الوصف الذي بابه أن يقع للفرق فيه بين مذكره ومؤنثه ، فجرى هذا في حفظ الأصول والتلفت إليها للمباقاة لها والتنبيه عليها مجرى إخراج بعض المعتل على أصله نحو استحوذ ومجرى إعمال صغته وعدته ، وإن كان قد نقل إلى فعلت لما كان أصله فعلت ، وعلى ذلك أنث بعضهم فقال : خصمة وضيفة ، وجمع فقال : [المنسرح]

٢٣٠ ـ يا عين هلّا بكيت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم في كبد

وعليه قول الآخر : [الطويل]

٢٣١ ـ إذا نزل الأضياف كان عذوّرا

على الحيّ حتّى تستقلّ مراجله

الأضياف هنا بلفظ القلّة ومعناها أيضا ، وليس كقوله (٤) : [الطويل]

[لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى]

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

في أن المراد بها معنى الكثرة ، وذلك أمدح لأنه إذا قرى الأضياف وهم قليل

__________________

٢٢٩ ـ الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه (ص ٥٧) ، ولسان العرب (حتف) و (عدل) ، وبلا نسبة في الخصائص (١ / ١٥٤).

٢٣٠ ـ الشاهد للبيد في ديوانه (ص ١٦٠) ، وتذكرة النحاة (ص ١١٨) ، والخصائص (٣ / ٣١٨) ، ولسان العرب (كبد) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٢٠٥) ، ولسان العرب (عدل).

٢٣١ ـ الشاهد لزينب بنت الطثرية في لسان العرب (عذر) ، والتنبيه والإيضاح (٢ / ١٦٧) ، وجمهرة اللغة (ص ٦٢) ، وتاج العروس (عدر) ، وبلا نسبة في في لسان العرب (ضيف) و (عدل) و (عذر) ، ومقاييس اللغة (٤ / ٢٥٦) ، ومجمل اللغة (٣ / ٤٦١).

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٨).

٣٢١

بمراجل الحي أجمع ، فما ظنك إذا نزل به الضيفان الكثيرون. فإن قيل : فلم أنّث المصدر أصلا؟ وما الذي سوغ التأنيث فيه مع معنى العموم والجنس ، وكلاهما إلى التذكير ، حتى احتجت إلى الاعتذار له بقولك إنه أصل ، وإن الأصول تحتمل ما لا تحتمله الفروع؟.

قيل : علة جواز تأنيث المصدر مع ما ذكرته من وجوب تذكيره أن المصادر أجناس للمعاني كما أن غيرها أجناس للأعيان نحو : رجل ، وفرس ، ودار ، وبستان ، فكما أن أسماء الأجناس الأعيان قد تأتي مؤنثة الألفاظ ، ولا حقيقة تأنيث في معناها ، نحو غرفة ومشرقة ، وعلية ، ومروحة ، ومقرمة ، كذلك جاءت أيضا أجناس المعاني مؤنثا بعضها لفظا لا معنى. وذلك نحو المحمدة والموجدة والرشاقة ونحوها ، نعم ، وإذا جاز تأنيث المصدر وهو على مصدريته غير موصوف به لم يكن تأنيثه وجمعه وقد جرى وصفا وحل المحلّ الذي من عادته أن يفرق فيه بين مذكره ومؤنثه ، وواحده وجماعته ، قييحا ولا مستكرها ، أعني ضيفة وخصمة وأضيافا وخصوما ، وإن كان التذكير والإفراد أقوى في اللغة وأعلى في الصنعة ، قال تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) [ص : ٢١] وإنما كان التذكير والإفراد أقوى من قبل أنك لما وصفت بالمصدر أردت المبالغة بذلك ، وكان من تمام المعنى وكماله أن تؤكد ذلك بترك التأنيث والجمع ، كما يجب للمصدر في أول أحواله ، ألا ترى أنك إذا أنثت وجمعت سلكت به مسلك الصفة الحقيقية التي لا معنى لمبالغة فيها ، نحو قائمة ، ومنطلقة ، وضاربات ، ومكرمات ، فكان ذلك يكون نقضا للغرض ، أو كالنقض له ، فلذلك قلّ حتى وقع الاعتذار لما جاء منه مؤنثا ، أو مجموعا.

ومما جاء من المصادر مجموعا ومعملا أيضا قوله : [الطويل]

٢٣٢ ـ [وعدت وكان الخلف منك سجيّة]

مواعيد عرقوب أخاه بيثرب

ومنه عندي قولهم : «تركته بملاحس البقر أولادها» (٢) فالملاحس جمع ملحس ، ولا يخلو أن يكون مكانا ، أو مصدرا ، فلا يجوز أن يكون هنا مكانا لأنه قد

__________________

٢٣٢ ـ الشاهد لابن عبيد الأشجعي في خزانة الأدب (١ / ٥٨) ، وللأشجعي في لسان العرب (ترب) و (عرقب) ، ولعلقمة في جمهرة اللغة (ص ١١٢٣) ، وللشماخ في ملحق ديوانه (ص ٤٣٠) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٣٤٣) ، وللشماخ أو للأشجعي في الدرر (٥ / ٢٤٥) ، وشرح المفصّل (١ / ١١٣) ، وبلا نسبة في الكتاب (١ / ٣٢٨) ، وجمهرة اللغة (ص ١٧٣) ، والمقرب (١ / ١٣١).

(١) انظر المستقصى في الأمثال (٢ / ٢٥) رقم المثل (٨٤) ، ومجمع الأمثال رقم (٦٧٢).

٣٢٢

عمل في الأولاد فنصبها ، والمكان لا يعمل في المفعول به ، كما أن الزمان لا يعمل فيه وإذا كان الأمر على ما ذكرنا كان المضاف هنا محذوفا مقدرا وكأنه قال : تركته بمكان ملاحس البقر أولادها كما أن قوله : [الطويل]

٢٣٣ ـ وما هي إلا في إزار وعلقة

مغار ابن همّام على حيّ خثعما

محذوف المضاف أي : وقت إغارة ابن همام على حي خثعم ، ألا تراه قد عداه إلى (على) ، في قوله : على حيّ خثعما ، فملاحس البقر إذن مصدر مجموع يعمل في المفعول به كما أن : [الطويل]

مواعيد عرقوب أخاه بيثرب (٢)

كذلك وهو غريب ، وكان أبو علي يورد : «مواعيد عرقوب أخاه» مورد الطريف المتعجب منه ، فأما قوله : [البسيط]

٢٣٤ ـ كم جرّبوه فما زادت تجاربهم

أبا قدامة ، إلا المجد والفنعا

فقد يجوز أن يكون من هذا ، وقد يجوز أن يكون (أبا قدامة) منصوبا بزادت ، أي : فما زادت أبا قدامة تجاربهم إياه إلا المجد ، والوجه أن تنصبه بتجاربهم لأنها العامل الأقرب ، ولأنه لو أراد إعمال الأول لكان حريا أن يعمل الثاني أيضا ، فيقول : فما زادت تجاربهم إياه أبا قدامة إلا كذا ، كما تقول : ضربت فأوجعته زيدا ، ويضعف ضربت فأوجعت زيدا ، على إعمال الأول ، وذلك أنك إذا كنت تعمل الأول على بعده ، وجب إعمال الثاني أيضا لقربه لأنه لا يكون الأبعد أقوى حالا من الأقرب.

فإن قلت : اكتفي بمفعول العامل الأول من مفعول العامل الثاني ، قيل لك : وإذا كنت مكتفيا مختصرا فاكتفاؤك بإعمال الثاني الأقرب أولى من اكتفائك بإعمال الأول الأبعد ، وليس لك في هذا ما لك في الفاعل لأنك تقول : لا أضمر على غير

__________________

٢٣٣ ـ الشاهد لحميد بن ثور في الكتاب (١ / ٢٩٢) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٣٤٧) وليس في ديوانه ، وللطماح بن عامر كما في حاشية الخصائص (٢ / ٢٠٨) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (ص ٣٥١) ، والخصائص (٢ / ٢٠٨) ، وشرح المفصل (٦ / ١٠٩) ، ولسان العرب (لحس) ، و (علق) ، والمحتسب (٢ / ١٢١).

(١) مرّ الشاهد رقم (٢٣٢).

٢٣٤ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (١٥٩) ، وتذكرة النحاج (ص ٤٦٣) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٦٩٤) ، ولسان العرب (جرب) ، و (فنع) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٢٠٨) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٣٥).

٣٢٣

تقدم ذكر إلا مستكرها ، فتعمل الأول : فتقول : قام وقعدا أخواك فأما المفعول فمنه بد ، فلا ينبغي أن يتباعد بالعمل إليه ، ويترك ما هو أقرب إلى المعمول فيه منه.

ومن ذلك فرس وساع الذكر والأنثى فيه سواء ، وفرس جواد ، وناقة ضامر ، وجمل ضامر ، وناقة بازل ، وجمل بازل ، وهو لباب قومه ، وهي لباب قومها ، وهم لباب قومهم ، قال جرير : [الوافر]

٢٣٥ ـ تدرّي فوق متنيها قرونا

على بشر وآنسة لباب

وقال ذو الرمّة : [الطويل]

٢٣٦ ـ سبحلا أبا شرخين أحيا بناته

مقاليتها فهي اللّباب الحبائس

فأما ناقة هجان ونوق هجان ، ودر دلاص ، وأدرع دلاص فليس من هذا الباب بل (فعال) منه في الجمع تكسير فعال في الواحد وهو من باب ما اتفق لفظه واختلف تقديره ، انتهى.

قلت : قد اشتمل هذا الأصل على ثلاثة أبواب ، باب ما دخلت فيه التاء في صفة المذكر ، وباب ما خلت فيه التاء في صفة المؤنث ، وباب ما استوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع ، وها أنا أسوق جملا من نظائرها. ذكر نظائر الباب الأول.

ورود الوفاق مع وجوب الخلاف

قال ابن جنّي (٣) : هذا الباب ينفصل من الذي قبله بأن ذاك تبع فيه اللفظ ما ليس وفقا له ، نحو : رجل نسابة وامرأة عدل ، وهذا الباب ليس بلفظ تبع لفظا ، بل هو قائم برأسه ، وذلك قولهم : غاض الماء ، وغضته ، سووا فيه بين المتعدي وغير المتعدي ، ومثله : جبرت يده ، وجبرتها ، وعمر المنزل وعمرته وسار الدابة وسرته ، ودان الرجل ودنته ، من الدين في معنى أدنته وعليه جاء مديون في لغة بني تميم ـ وهلك الشيء وهلكته ، قال العجاج : [الرجز]

__________________

٢٣٥ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ١٠٢١) ، ولسان العرب (لبب) ، وتاج العروس (لبب) ، والمذكر والمؤنث للأنباري (ص ٢٥٤) ، والمخصص (١٧ / ٣٣) ، وبلا نسبة في لسان العرب (بشر).

٢٣٦ ـ الشاهد لذي الرمّة في ديوانه (ص ١١٣٦) ، ولسان العرب (لبب) ، و (شرخ) ، و (حبس) ، و (سبحل) ، وكتاب العين (٤ / ١٦٩) ، والمخصّص (١٣ / ٧٧) ، وتهذيب اللغة (٧ / ٨٢) ، وتاج العروس (لبب) ، و (نفض) ، و (سبحل) ، والمذكّر والمؤنث للأنباري (ص ٢٥٤).

(١) انظر الخصائص (٢ / ٢١٠).

٣٢٤

٢٣٧ ـ ومهمه هالك من تعرّجا

فيه قولان : أحدهما أن (هالكا) بمعنى مهلك ، أي : مهلك من تعرج فيه ، والآخر : ومهمه هالك المتعرجين فيه كقوله : هذا رجل حسن الوجه ، فوضع (من) موضع الألف واللام ، ومثله : هبط الشيء وهبطته قال : [الرجز]

٢٣٨ ـ ما راعني إلا جناح هابطا

على البيوت قوطه العلابطا

أي : مهبطا قوطه ، ويجوز أن يكون أراد : هابطا بقوطه ، فلما حذف حرف الجر نصب الفعل ضرورة ، والأول أقوى.

فأما قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [البقرة : ٧٤] فأجود القولين فيه أن يكون معناه : وإنّ منها لما يهبط من نظر إليه لخشية الله ، وذلك أن الإنسان إذا فكر في عظم هذه المخلوقات تضاءل وخشع وهبطت نفسه لعظم ما شاهد ، فنسب الفعل إلى تلك الحجارة لما كان الخشوع والسقوط مسببا عنها وحادثا لأجل النظر إليها كقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] وأنشدوا قول الآخر : [الخفيف]

٢٣٩ ـ فاذكري موقفي إذا التقت الخي

ل وسارت إلى الرّجال الرّجالا

أي : سارت الخيل الرجال إلى الرجال ، وقد يجوز أن يكون أراد وسارت إلى الرجال بالرجال ، فحذف حرف الجر فنصب ، والأول أقوى ، وقال زهير : [الطويل]

٢٤٠ ـ فلا تغضبا من سيرة أنت سرتها

فأوّل راضي سنّة من يسيرها

ورجنت الدابة بالمكان إذا أقامت فيه ، ورجنتها ، وعاب الشيء وعبته ،

__________________

٢٣٧ ـ الرجز للعجاج في ديوانه (٢ / ٤٣) ، ولسان العرب (هلك) ، وجمهرة اللغة (ص ٩٨٣) ، وديوان الأدب (٢ / ١٧٨) ، وكتاب العين (٣ / ٣٨) ، وتاج العروس (هلك) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة (٦ / ١٥) ، والمخصّص (٦ / ١٢٧).

٢٣٨ ـ الرجز بلا نسبة في اللسان (جنح) و (قوط) ، والخصائص (٢ / ٢١١) ، والمنصف (١ / ٢٧) ، ونوادر أبي زيد (ص ١٧٣) ، وتهذيب اللغة (٢ / ١٦٥) ، وتاج العروس (جنح) و (علبط) ، و (قوط) ، وجمهرة اللغة (ص ٣٦٣ ، ٤٠٣).

٢٣٩ ـ الشاهد بلا نسبة في اللسان (سير).

٢٤٠ ـ الشاهد لخالد بن زهير في شرح أشعار الهذليين (ص ٢١٣) ، وجمهرة اللغة (ص ٧٢٥) ، وخزانة الأدب (٥ / ٨٤) ، والخصائص (٢ / ٢١٢) ، ولسان العرب (سير) ، ولخالد بن عتبة الهذليّ في لسان العرب (سنن) ، وبلا نسبة في المغني (٢ / ٥٢٤).

٣٢٥

وهجمت على القوم وهجمت غيري عليهم أيضا ، وعفا الشيء : كثر ، وعفوته كثّرته ، وفغر فاه وفقر فوه ، وشحا فاه وشحا فوه ، وعثمت يده ، وعثمتها أي : جبرتها على غير استواء ، ومد النهر ومددته ، قال تعالى : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧] ، وقال الشاعر : [الرجز]

٢٤١ ـ [إلى فتى فاض أكفّ الفتيان]

ماء خليج مدّه خليجان

وسرحت الماشية ، وسرحتها ، وزاد الشيء وزدته ، وذرا الشيء وذروته أطرته ، وخسف المكان ، وخسفه الله ، ودلع لساني ودلعته ، وهاج القوم ، وهجتهم ، وطاخ الرجل وطخته ـ أي : لطخته بالقبيح ـ في معنى أطخته ، ووفر الشيء ووفرته ، وقال الأصمعي : رفع البعير ورفعته في السير المرفوع ـ : وقالوا : نفى الشيء ونفيته أي : أبعدته ، قال القطامي : [الطويل]

٢٤٢ ـ فأصبح جاراكم قتيلا ونافيا

[أصمّ فزادوا في مسامعه وقرا]

ونحوه : نكزت البئر ونكزتها ، أي : أقللت ماءها ، ونزفت ونزفتها.

فهذا كله شاذ عن القياس وإن كان مطردا في الاستعمال إلا أن له عندي وجها لأجله جاز ، وهو أن كل فاعل غير القديم سبحانه فإنما الفعل منه شيء أعيره وأعطيه وأقدر عليه ، فهو وإن كان فاعلا فإنه لما كان معانا مقدرا صار كأن فعله لغيره ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] وقد قال قوم ـ يعني أهل السنة فإن ابن جنّي كان معتزليا كشيخه الفارسي ـ : إن الفعل لله وإن العبد مكتسب ، فلما كان قولهم : غاض الماء وغضته ، أن غيره أغاضه ، وإن جرى لفظ الفعل له ، تجاوزت العرب ذلك إلى أن أظهرت هناك فعلا ، بلفظ الأول متعديا ، لأنه قد كان فاعله في وقت فعله إياه إنما هو معان عليه فخرج اللفظان لما ذكرناه خروجا واحدا فاعرفه ، انتهى.

ورود الشيء على خلاف العادة

قال ابن جنّي (٣) : المعتاد المألوف في اللغة أنه إذا كان فعل غير متعد كان

__________________

٢٤١ ـ الرجز لأبي النجم في كتاب العين (٤ / ١٦١) ، وبلا نسبة في لسان العرب (خلج) ، وتهذيب اللغة (٧ / ٦٠) ، وتاج العروس (خلج) ، والمخصص (١٠ / ٣٢) ، وأساس البلاغة (مدد).

٢٤٢ ـ الشاهد للقطامي في لسان العرب (نفى) ، وتهذيب اللغة (١٥ / ٤٧٦) ، وتاج العروس (نفى) ، وليس في ديوانه ، وللأخطل في ديوانه (ص ٣١٥) ، وبلا نسبة في ديوان الأدب (٤ / ٨٦).

(١) انظر الخصائص (٢ / ٢١٤).

٣٢٦

أفعل متعديا ، لأن هذه الهمزة أكثر ما تجيء للتعدية ، وذلك نحو قام زيد ، وأقمت زيدا ، وقعد بكر وأقعدت بكرا ، فإن كان فعل متعديا إلى مفعول واحد فنقلته بالهمزة صار متعديا إلى اثنين ، نحو طعم زيد خبزا ، وأطعمته خبزا ، وعطا بكر درهما ، وأعطيته درهما.

فأما كسي زيد ثوبا ، وكسوته ثوبا ، فإنه وإن لم ينقل بالهمزة فإنه نقل بالمثال ، ألا تراه نقل من فعل إلى فعل ، وإنما جاز نقله بفعل لما كان فعل وأفعل كثيرا ما يعتقبان على المعنى الواحد ، نحو : جد في الأمر ، وأجد ، وصددته عن كذا ، وأصددته ، وقصر عن الشيء وأقصر ، وسحته الله وأسحته ، ونحو ذلك ، فلما ، كانت فعل وأفعل على ما ذكرنا في الاعتقاب والتعاوض ، ونقل بأفعل ، نقل أيضا فعل بفعل نحو كسي زيد وكسوته ، وشترت عينه وشترتها ، وغارت عينه وغرتها ونحو ذلك.

هذا هو الحديث أن تنقل بالهمزة فيحدث النقل تعديا لم يكن قبله. غير أن ضربا من اللغة جاءت فيه هذه القضية معكوسة ، فتجد فعل فيها متعديا وأفعل غير متعدّ ، وذلك قولهم : أجفل الظليم ، وجفلته ، وأشنق البعير وشنقته ، وأنزفت البئر إذا ذهب ماؤها ، ونزفتها ، وأقشع الغيم وقشعته الريح ، وأنسل ريش الطائر ، ونسلته ، وأمرت الناقة إذا در لبنها ، ومريتها.

ونحو من ذلك ألوت الناقة بذنبها ، ولوت ذنبها ، وصرّ الفرس أذنه وأصرّ بأذنه ، وكبّه الله على وجهه ، وأكبّ هو ، وعلوت الوسادة وأعليت عليها ، فهذا نقض عادة الاستعمال لأن فعلت فيه متعدّ وأفعلت غير متعد.

وعلّة ذلك عندي أنه جعل تعدّى فعلت وجمود أفعلت كالعوض لفعلت من غلبة أفعلت لها على التعدي ، نحو : جلس وأجلسته ، ونهض وأنهضته كما جعل قلب الياء واوا في التقوى والرعوى والثنوى والفتوى عوضا للواو من كثرة دخول الياء عليها ، وكما جعل لزوم الضرب الأول من المنسرح لمفتعلن وحظر مجيئه تاما أو مخبونا ، بل توبعت فيه الحركات الثلاث البتة تعويضا للضرب من كثرة السواكن فيه نحو : مفعولن ومفعولان. ومستفعلان ونحو ذلك مما التقى في آخره من الضروب ساكنان.

ونحو من ذلك ما جاء عنهم من أفعلته فهو مفعول ، وذلك نحو أحببته فهو محبوب ، وأجنّه الله فهو مجنون وأزكمه الله فهو مزكوم وأكزّه الله فهو مكزوز ، وأقرّه الله فهو مقرور ، وآرضه الله فهو مأروض ، وأملاه الله فهو مملوء ، وأضأده فهو مضؤود

٣٢٧

وأحمّه من الحمّى فهو محموم ، وأهمّه من الهمّ فهو مهموم ، وأزعقه فهو مزعوق أي مذعور ، ومثله قوله : [الطويل]

٢٤٣ ـ إذا ما استحمت أرضه من سمائه

جرى وهو مودوع وواعد مصدق

وهو من أودعته ، وينبغي أن يكون جاء على ودع.

وأما أحزنه الله فهو محزون فقد حمل على هذا ، غير أنه قد قال أبو زيد : يقولون : الأمر يحزنني ، ولا يقولون : حزنني ، إلا أن مجيء المضارع يشهد للماضي ، فهذا أمثل مما مضى ، وقد قالوا أيضا في محزن على القياس.

ومثله قولهم : محب ، قال عنترة : [الكامل]

٢٤٤ ـ ولقد نزلت فلا تظنّي غيره

منّي بمنزلة المحبّ المكرم

وقال الآخر : [الرجز]

٢٤٥ ـ ومن يناد آل يربوع يجب

يأتيك منهم خير فتيان العرب

المنكب الأيمن والردف المحب

وقال : [الرجز]

٢٤٦ ـ لأنكحنّ ببه

جارية خديّه

مكرمة محبّه

قالوا : وعلة ما جاء من أفعلته فهو مفعول نحو : أجنه الله فهو مجنون ، وأسله فهو مسلول ، وبابه ـ أنهم جاؤوا به على فعل نحو جنّ فهو مجنون ، وزكم فهو مزكوم ، وسل فهو مسلول وكذلك بقيته.

فإن قيل : وما بال هذا خالف فيه الفعل مسندا إلى الفاعل صورته مسندا إلى المفعول ، وعادة الاستعمال خلاف هذا ، وهو أن يجيء الضربان معا في عدة واحدة نحو ضربته وضرب ، وأكرمته وأكرم ، وكذلك مقاد هذا الباب.

__________________

٢٤٣ ـ الشاهد لخفاف بن ندبة في ديوانه (ص ٣٣) ، وإصلاح المنطق (ص ٧٣) ، والأصمعيات (ص ٢٤) ، والخزانة (٦ / ٤٧٢) ، واللسان (أرض) ، و (ودع) ، و (صدق) ، ولسلمة بن خرشب في المعاني الكبير (ص ١٥٦) ، وبلا نسبة في المحتسب (٢ / ٢٤٢) ، والخصائص (٢ / ٢١٦).

٢٤٤ ـ الشاهد لعنترة في ديوانه (ص ١٩١) ، وأدب الكاتب (ص ٦١٣) ، والاشتقاق (ص ٣٨) ، والأغاني (٩ / ٢١٢) ، وجمهرة اللغة (ص ٥٩١) ، وخزانة الأدب (٣ / ٢٢٧) ، والخصائص (٢ / ٢١٦) ، والدرر (٢ / ٢٥٤) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٤٨٠) ، ولسان العرب (حبب) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٤١٤).

٢٤٥ ـ الرجز بلا نسبة في الخصائص (٢ / ٢١٧).

٢٤٦ ـ الرجز لهند بنت أبي سفيان في المنصف (٢ / ١٨٢) ، وشرح المفصّل (١ / ٣٢) ، وهمع الهوامع (١ / ٧٢) ، والدرر (١ / ٤٧).

٣٢٨

قيل : إن العرب لمّا قوي في أنفسها أمر المفعول حتى كاد يلحق عندها برتبة الفاعل ، وحتى قال سيبويه (١) فيهما : وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم ، خصوا المفعول إذا أسند الفعل إليه بضربين من الصنعة ، أحدهما : تغيير صيغة المثال مسندا إلى المفعول ، عن صورته مسندا إلى الفاعل ، والعدة واحدة ، وذلك نحو : ضرب زيد ، وضرب ، وقتل وأكرم وأكرم ودحرج ودحرج ، وقتل وقتل ، والآخر : أنهم لم يرضوا ولم يقنعوا بهذا القدر من التغيير حتى تجاوزوه ، إلى أن غيروا عدة الحروف مع ضم أوله ، كما غيروا في الأول الصورة والصيغة وحدها وذلك قولهم : أحببته ، وحب ، وأزكمه الله وزكم ، وأضأده وضئد ، وأملأه وملئ.

قال أبو علي : فهذا يدلك على تمكن المفعول عندهم وتقدم حاله في أنفسهم إذا أفردوه بأن صاغوا الفعل له صيغة مخالفة لصيغته وهو للفاعل.

وهذا ضرب من تدريج اللغة ، ألا ترى أنهم لما غيروا الصيغة والعدة واحدة في نحو ضرب وضرب ، وشرب وشرب تدرجوا من ذلك إلى أن غيروا الصيغة مع نقصان العدة ، نحو أزكمه الله وزكم ، وآرضه الله وأرض ، فهذا كقولهم في حنيفة حنفي ، لما حذفوا هاء حنيفة حذفوا أيضا ياءها ، ولما لم يكن في حنيف تاء تحذف فتحذف لها الياء صحت الياء فقالوا فيه : حنيفي ، وهذا الموضع هو الذي دعا ثعلبا في كتاب فصيحه أن أفرد له بابا فقال : هذا فعل بضمّ الفاء نحو قولك : عنيت بحاجتك وبقية الباب ، إنما غرضه فيه إيراد الأفعال المسندة إلى المفعول ولا تسند إلى الفاعل في اللغة الفصيحة ، ألا ترى أنهم يقولون : نخي زيد من النخوة ، ولا يقال : نخاه كذا ، ويقولون : امتقع لونه ، ولا امتقعه كذا ويقولون : انقطع بالرجل ولا يقولون انقطع به كذا ، فلهذا جاء بهذا الباب ، أي ليريك أفعالا خصّت بالإسناد إلى المفعول دون الفاعل ، كما خصّت أفعال بالإسناد إلى الفاعل دون المفعول نحو : قام زيد ، وقعد جعفر وذهب وانطلق ، ولو كان غرضه أن يريك صور ما لم يسمّ فاعله مجملا غير مفصل على ما ذكرنا لأورد فيه نحو : ضرب وركب وأكرم واستقصي وهذا يكاد يكون إلى ما لا نهاية له ، فاعرف هذا الغرض فإنه أشرف من حفظ مائة ورقة لغة.

ونظير مجيء اسم المفعول هنا على حذف الزيادة نحو : أحببته فهو محبوب ـ مجيء اسم الفاعل على حذفها أيضا وذلك نحو قولهم : أورس الرمث فهو وارس وأيفع فهو يافع وأبقل فهو باقل. قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢]

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٦٩).

٣٢٩

وقياسه ملاقح ، لأن الريح تلقح السحاب فتستدره ، وقد يجوز أن يكون على لقحت هي ، فإذا فزكت ألقحت السحاب ، فيكون هذا مما اكتفي فيه بالسبب من المسبب ، وقد جاء عنهم مبقل حكاها أبو زيد وقال دؤاد بن أبي دؤاد : [الطويل]

٢٤٧ ـ أعاشني بعدك واد مبقل

آكل من حوذانه وأنسل

وقد جاء أيضا حببته قال : [الطويل]

٢٤٨ ـ وو الله لو لا تمره ما حببته

ولا كان أدنى من عبيد ومشرق

ونظير مجيء اسم الفاعل والمفعول جميعا على حذف الزيادة مجيء المصدر أيضا على حذفها نحو قولهم : جاء زيد وحده ، فأصل هذا أوحدته بمروري إيحادا ، ثم حذفت زيادتاه فجاء على الفعل ومثله قولهم : عمرك الله لا فعلت ، أي : عمرتك الله تعميرا ، وقوله : [الطويل]

٢٤٩ ـ [وقد أغتدي والطّير في وكناتها

بمنجرد] قيد الأوابد هيكل

أي : تقييد الأوابد ، ثم حذف زائدتيه ، وإن شئت قلت : وصف بالجوهر لما فيه من معنى الفعل نحو قوله : [الوافر]

٢٥٠ ـ فلو لا الله والمهر المفدّى

لرحت وأنت غربال الإهاب

فوضع الغربال موضع المخرق ، وقوله : [الرجز]

٢٥١ ـ ...

مئبرة العرقوب إشفى المرفق

أي : حادّة المرفق ، وهو كثير ، فأما قوله : [الوافر]

٢٥٢ ـ [أكفرا بعد ردّ الموت عني]

وبعد عطائك المائة الرّتاعا

__________________

٢٤٧ ـ الشاهد في الخصائص (١ / ٩٧) ، واللسان (نسل) ، و (بقل).

٢٤٨ ـ الشاهد لعيلان بن شجاع النهشلي في لسان العرب (حبب) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٤٢٩) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٨٠) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٣٨) ، والخصائص (٢ / ٢٢٠) ، ومغني اللبيب (١ / ٣٦١).

٢٤٩ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٩) ، وإصلاح المنطق (ص ٣٧٧) ، وخزانة الأدب (٣ / ١٥٦) ، وشرح المفصّل (٢ / ٦٦) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٢٢٠) ، ورصف المباني (ص ٣٩٢) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٦٢) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٤٨٧) ، والمحتسب (١ / ١٦٨) ، ومغني اللبيب (٢ / ٤٦٦).

٢٥٠ ـ الشاهد لمنذر بن حسان في المقاصد النحوية (٣ / ١٤٠) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٢٢١) ، وديوان المعاني (٢ / ٢٤٩) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٦) ، والدرر (٥ / ٢٩١) ، ولسان العرب (عنكب) ، و (قيد) ، و (غربل) ، والممتع في التصريف (ص ٧٤).

٢٥١ ـ الشاهد للقطامي في ديوانه (ص ٣٧) ، وتذكرة النحاة (ص ٤٥٦) ، وخزانة الأدب (٨ / ١٣٦) ،

٣٣٠

فليس على حذف الزيادة ، ألا ترى أنّ في (عطاء) ألف فعال الزائدة ، ولو كان على حذف الزيادة لقال : وبعد عطوك ، ليكون كوحده.

ولما كان الجمع مضارعا للفعل بالفرعية فيهما ، جاءت فيه أيضا ألفاظ على حذف الزيادة التي كانت في الواحد ، وذلك نحو قولهم : كروان وكروان ، وورشان وورشان ، فجاء هذا على حذف زائدتيه حتى كأنه صار إلى فعل فجرى مجرى خرب وخربان ، وبرق وبرقان ، قال ذو الرمّة : [الطويل]

٢٥٣ ـ من آل أبي موسى ترى النّاس حوله

كأنّهم الكروان أبصرن بازيا

ومنه تكسيرهم فعالا على أفعال ، حتى كأنه صار إلى فعل نحو : جواد وأجواد ، وعياء وأعياء ، وحياء وأحياء. ومن ذلك قولهم : نعمة وأنعم ، وشدّة وأشدّ في قول سيبويه (٢) جاء ذلك على حذف التاء كقولهم : ذئب وأذؤب ، وقطع وأقطع ، وضرس وأضرس ، وذلك كثير جدا.

وما يجيء مخالفا ومنتقضا أوسع من ذلك ، إلا أن لكل شيء منه عذرا وطريقا. وفصل للعرب طريف وهو إجماعهم على مجيء عين مضارع (فعلته) إذا كان من فاعلني مضمومة ألبتة ، وذلك نحو قولهم : ضاربني فضربته أضربه ، وعالمني فعلمته أعلمه ، وعاقلني من العقل فعقلته أعقله ، وكارمني فكرمته أكرمه ، وفاخرني ففخرته أفخره ، وشاعرني فشعرته أشعره ، وحكى الكسائي فاخرني ففخرته أفخره بفتح الخاء ، وحكاها أبو زيد أفخره بالضم على الباب ، كل هذا إذا كنت أقوم بذلك الأمر منه.

ووجه استغرابنا له أن خصّ مضارعه بالضم ، وذلك أنا قد دللنا على أن قياس باب مضارع فعل أن يأتي بالكسر ، نحو ضرب يضرب وبابه ، وأرينا وجه دخول يفعل على يفعل فيه ، فكان الأحجى ، به هنا إذا أريد الاقتصار به على أحد وجهيه أن يكون ذلك الوجه هو الذي كان القياس مقتضيا له في مضارع فعل ، وهو يفعل بكسر العين ،

__________________

والدرر (٣ / ٦٢) ، وشرح التصريح (٢ / ٦٤) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٤٩) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٦٩٥) ، ولسان العرب (وهن) ، ومعاهد التنصيص (١ / ١٧٩) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٥٠٥) ، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب (ص ٥٢٨) ، وشرح ابن عقيل (ص ٤١٤) ، ولسان العرب (سمع) ، و (غنا) ، وهمع الهوامع (١ / ١٨٨).

٢٥٣ ـ الشاهد لذي الرمّة في ديوانه (ص ١٣١٣) ، وخزانة الأدب (٢ / ٣٧٧) ، والخصائص (٢ / ٢٢٢) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٥٥٣) ، والمنصف (٣ / ٧٢).

(١) انظر الكتاب (٤ / ٦٠).

٣٣١

وذلك أن العرف والعادة إذا أريد الاقتصار على أحد الجائزين أن يكون ذلك المقتصر عليه هو أقيسهما فيه ، ألا تراك تقول في تحقير أسود وجدول أسيّد وجديّل بالقلب ، وتجيز من بعد الإظهار وأن تقول : أسيود ، وجديول ، فإذا صرت إلى باب مقام وعجوز اقتصرت على الإعلال ألبتة فقلت : مقيّم وعجيّز ، فأوجبت أقوى القياسين لا أضعفهما وكذلك نظائره.

فإن قلت : فقد تقول : فيها رجل قائم ، وتجيز فيه النصب ، فتقول : فيها رجل قائما ، فإذا قدّمت أوجبت أضعف الجائزين فكذلك أيضا يقتصر في هذه الأفعال نحو ، أكرمه وأشعره على أضعف الجائزين وهو الضم.

قيل : هذا إبعاد في التشبيه وذلك أنك لم توجب النصب في (قائم) من قولك : فيها رجل قائما ، و (قائما) هذا متأخر عن رجل في مكانه في حال الرفع وإنما اقتصرت على النصب فيه لما لم يجز فيه الرفع أو لم يقو ، فجعلت أضعف الجائزين واجبا ضرورة لا اختيارا. وليس كذلك كرمته أكرمه لأنه لم ينقص شيء عن موضعه ولم يقدم ولم يؤخر ، فلو قيل : كرمته ، أكرمه لكان كشتمته أشتمه وهزمته أهزمه.

وكذلك القول في نحو قولنا : ما جاءني إلا زيدا أحد في إيجاب نصبه ، وقد كان النصب لو تأخر أضعف الجائزين فيه إذا قلت : ما جاءني أحد إلا زيدا ، الحال فيهما واحدة ، وذلك أنك لم تجد مع تقديم المستثنى ما تبدله منه عدلت به ـ للضرورة ـ إلى النصب الذي كان جائزا فيه متأخرا. هذا كنصب (فيها قائما رجل) البتة ، والجواب عنهما واحد.

وإذا كان الأمر كذلك وجب البحث عن علة مجيء هذا الباب في الصحيح كله بالضم وعلته عندي أن هذا موضع معناه الاعتلاء والغلبة ، فدخله لذلك معنى الطبيعة التي تغلب ولا تغلب وتلازم ولا تفارق ، وتلك الأفعال بابها : فعل يفعل ، كفقه يفقه إذا أجاد الفقه ، وعلم يعلم إذا أجاد العلم ، وروينا عن أحمد بن يحيى عن الكوفيين : ضربت اليد يده ، على وجه المبالغة.

وكذلك نعتقد نحن أيضا في الفعل المبني منه فعل التعجب أنه قد نقل عن فعل وفعل إلى فعل ، حتى صارت صفة التمكن والتقدم ، ثم بني منه الفعل ، فقيل : ما أفعله نحو ما أشعره ، إنما هو من شعر ، وقد حكاها أيضا أبو زيد ، وكذلك ما أقتله وأكفره : هو عندنا من قتل وكفر تقديرا ، وإن لم يظهر إلى اللفظ استعمالا ، فلما كان قولهم كارمني فكرمته أكرمه وبابه صائرا إلى معنى فعلت أفعل أتاه الضم من هناك فاعرفه.

٣٣٢

فإن قلت : فهلا لما دخله هذا المعنى تمموا فيه الشبه ، فقالوا : كرمته أكرمه ، وفخرته أفخره؟.

قيل : منع من ذلك أن فعلت لا يتعدّى إلى المفعول به أبدا ، وبفعل قد يكون في المتعدي كما يكون في غيره كسلبه يسلبه ، وجلبه يجلبه فلم يمنع من المضارع ما منع من الماضي ، فأخذوا منها ما ساغ واجتنبوا ما لم يسغ.

فإن قلت : فقد قالوا : قاضاني فقضيته أقضيه ، وساعاني فسعيته ، أسعيه؟. قيل : لم يكن من (يفعله) هنا بد ، مخافة أن يأتي على يفعل فتقلب الياء واوا ، وهذا مرفوض في هذا النحو من الكلام.

وكما لم يكن من هذا بد هنا لم يجئ أيضا مضارع فعل منه مما فاؤه واو بالضم بل جاء بالكسر على الرسم ، وعادة العرب ، فقالوا : واعدني فوعدته أعده ، وواجلني فوجلته ، أجله ، وواضأني فوضأته أضؤه ، فهذا كوضعته ـ في هذا الباب ـ أضعه.

ويدلك على أن لهذا الباب أثرا في تغييره باب فعل في مضارعه قولهم : ساعاني فسعيته أسعيه ، ولم يقولوا أسعاه على قولهم : سعى يسعى لما كان مكانا قد رتب وقرر وزوي عن نظيره في غير هذا الموضع.

فإن قلت : فهلا غيروا ما فاؤه واو ، كما غيروا ما لامه ياء فيما ذكرت فقالوا : واعدني فوعدته أوعده لما دخله من المعنى المتجدد؟.

قيل : فعل مما فاؤه واو لا يأتي مضارعه أبدا بالضم ، إنما هو بالكسر ، نحو : وجد يجد ، ووزن يزن وبابه ، وما لامه ياء فقد يكون على يفعل كيرمي ويقضي ، وعلى يفعل كيرعى ويسعى ، فأمر الفاء إذا كانت واوا في فعل أغلظ حكما من أمر اللام إذا كانت ياء فاعرف ذلك فرقا.

الوصلة

من ذلك (ذو) دخلت وصلة إلى وصف الأسماء بالأجناس ، ونظيرها (الذي) وأخواته ، دخلت وصلة إلى وصف المعارف بالجمل ، و (أي) وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام ، واسم الإشارة وصلة إلى نقل الاسم من تعريف العهد إلى تعريف الحضور والإشارة مثال ذلك أن يكون بحضرتك شخصان فتريد الإخبار عن أحدهما ، ولا بد من تعريفه ، وليس بينك وبين المخاطب فيه عهد فتدخل فيه الألف واللام ، فأتي باسم الإشارة وصلة إلى تعريفه ونقله من تعريف العهد إلى تعريف الحضور ، فتقول : هذا الرجل فعل أو يفعل ، ذكر ذلك كله ابن يعيش في (شرح المفصل)

٣٣٣

قال (١) : يجوز أن يتوصل بهذا إلى نداء ما فيه الألف واللام فتقول : يا هذا الرجل ، كما تقول : يا أيها الرجل ، وقد يجوز أن لا تجعله وصلة فتقول : يا هذا ، فإذا جعلته وصلة لزمته الصفة ، وإذا لم تجعله وصلة لم تلزمه الصفة.

ومن ذلك قول بعضهم ، إن (إيا) وصلة إلى اللفظ بالمضمر الذي هو الياء والكاف والهاء (وأنها) لما أريد فصلها عن العامل إما بالتقديم أو بالتأخير ولم تكن مما تقوم بأنفسها لضعفها وقلتها ، أدغمت بإيا وجعلت وصلة إلى اللفظ بها. فإيا عندهم اسم ظاهر يتوصل به إلى المضمر ، كما أن (كلا) اسم ظاهر يتوصل به إلى المضمر في قولك : كلاهما ، قال ابن يعيش (٢) : وهذا القول واه لأن (كلا) تضاف إلى الظاهر كما تضاف إلى المضمر ولو كانت (كلا) وصلة إلى المضمر لم تضف إلى غيره.

وفي أمالي ابن الحاجب : (أي) جيء بها متوصلا بها إلى نداء ما فيه الألف واللام ، لأنها مبهمة يصح تفسيرها بكل ما فيه الألف واللام ، والغرض هنا أن يأتي ما فيه الألف واللام تفسيرا لها ، فلما كانت كذلك صلحت لهذا المعنى ، والذي يدل على ذلك أن أسماء الإشارة لما كانت بهذا الوصف وقعت هذا الموقع فقيل : يا هذا الرجل ويا هؤلاء الرجال.

وفي (شرح المفصل) للأندلسي : اعلم أن (ذو) إنما استعمل في الكلام وصلة إلى الوصف بأسماء الأجناس ، كما وضع (الذي) وصلة إلى وصف المعارف بالجمل ، فأرادوا أن يقولوا : زيد المال فوجدوا هذا يقبح في اللفظ والمعنى ، أما اللفظ فلأنهم جعلوا ما ليس بمشتق مشتقا ، لأن الصفة حقها أن تكون مشتقة ، وأما قبحه من حيث المعنى فلأنهم جعلوا ما كان قويا ضعيفا ، لأن الأجناس هي القوية ، فلما جعلوها صفة صارت ضعيفة لأنها مقدمة في الرتبة لجنسيتها ، فجعلوها متأخرة تابعة بعد أن كانت متبوعة ، فلما اجتمع فيها هذا القبح اللفظي والمعنوي جاؤوا باسم يكون معناه فيما بعده فجعلوه صفة في اللفظ وهم مريدون الصفة باسم الجنس الذي بعده لأنه قد زال القبح اللفظي ، وبقي الآخر لم يمكنهم إزالته فلهذا لم يضف إلى مضمر لأن المضمر لا يوصف به البتة.

الوصل

مما تجري فيه الأشياء على أصولها ، والوقف مما تغير فيه الأشياء عن أصولها.

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (١ / ٥٣).

(٢) انظر شرح المفصّل (٣ / ١٠٠).

٣٣٤

ذكر هذه القاعدة ابن جني في (سر الصناعة) قال (١) : ألا تر أن من قال من العرب في الوقف : هذا بكر ، ومررت ببكر ، فنقل ، فنقل الضمة والكسرة إلى الكاف في الوقف ، فإنه إذا وصل أجري الأمر على حقيقته فقال : هذا بكر ومررت ببكر ، وكذلك من قال في الوقف : هذا خالد ، فإنه إذا وصل خفف اللام ، قال : وبذلك استدل على أن التاء في نحو قائمة هي الأصل والهاء في الوقف بدل منها.

وقال ابن القيم في (البدائع) (٢) : الوصلات في كلامهم التي وصفوها للتوصل بها إلى غيرها خمسة أقسام :

أحدها : حروف الجر وضعوها ليتوصلوا بالأفعال إلى المجرور بها ، ولولاها لما نفذ الفعل إليها ولا باشرها.

الثاني : حرف (ها) التي للتنبيه ، وضعت ليتوصل بها إلى نداء ما فيه أل.

الثالث : ذو ، وضعوه وصلة إلى وصف النكرات بأسماء الأجناس غير المشتقة.

الرابع : الذي ، وضعوه وصلة إلى وصف المعارف بالجمل ولولاها لما جرت صفات عليها.

الخامس : الضمير الذي يربط الجمل الجارية على المفردات أحوالا وأخبارا وصفات وصلات ، فإن الضمير هو الوصلة إلى ذلك.

وضع الشيء موضع الشيء أو إقامته مقامه لا يؤخذ بقياس

ذكر هذه القاعدة ابن عصفور في (شرح الجمل) ، وبنى عليها أن الصحيح أن الإغراء وهو وضع الظرف أو المجرور موضع فعل الأمر لا يجوز إلا فيما سمع عن العرب نحو : عليك ، وعندك ، ودونك ، ومكانك ، ووراءك ، وأمامك ، وإليك ، ولدنك ، ورد قول من أجاز الإغراء لسائر الظروف والمجرورات ، وبني عليها أيضا أن المصدر الموضوع موضع اسم الفاعل أو اسم المفعول لا يطرد بل يقتصر على ما سمع منه.

وضع الحروف غالبا لتغيير المعنى لا اللفظ

ذكر هذه القاعدة ابن عمرون ، وبنى عليها ترجيح قول من قال : إن (لم) دخلت على المضارع فقلبت معناه إلى الماضي ، وتركت لفظه على ما كان عليه ، وضعف قول من قال : إنها دخلت على الماضي فقلبت لفظه إلى المضارع وتركت المعنى على ما كان عليه.

__________________

(١) انظر سرّ صناعة الإعراب (١ / ١٧٦).

(٢) انظر بدائع الفوائد (١ / ١٢٨).

٣٣٥

حرف (لا)

لا يجتمع أداتان لمعنى واحد

ومن ثم لا يجمع بين أل والإضافة لأنهما أداتا تعريف ، ولا بين أل وحروف النداء لذلك أيضا ، ولا بين حرف من نواصب المضارع وبين حرف تنفيس لأن الجميع أدوات استقبال ، ولا بين كي إذا كانت جارة واللام ، بخلاف ما إذا كانت ناصبة ، ولا بين كي إذا كانت ناصبة وأن ، فلا يقال : جئت كي أن أزورك ، خلافا للكوفيين ، ولا بين أداتي استثناء لا يقال : قام القوم إلا خلا زيدا ، ولا إلا حاشا زيدا ، قاله ابن السراج في (الأصول) (١).

قال : إلا أن يكون الثاني اسما نحو : إلا ما خلا زيدا ، وإلا ما عدا ، فإنه يجوز.

وفي بعض حواشي (الكشاف) : لا يجمع بين أداتي تعدية فلا يقال : أذهبت بزيد ، بل إما الهمزة أو الباء ، ومن ثم أيضا رد قول الأخفش في نحو : حمراء ، أن الألف والهمزة معا للتأنيث ، لأنه لا يوجد في كلامهم ما أنث بحرفين ، وإذا دخلت الواو على لكن ، انتقل العطف إليها وتجردت لكن للاستدراك ، كما أن حرف الاستفهام إذا دخل على ما يدل على الاستفهام خلع دلالة الاستفهام كما في قوله : [البسيط]

٢٥٤ ـ [سائل فوارس يربوع بشدّتنا]

أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

فإنّ (هل) بمعنى قد ، وكما في قوله : [البسيط]

٢٥٥ ـ أم كيف ينفع ما يعطي العلوق به

[رئمان أنف إذا ما ضنّ باللّبن]

__________________

(١) انظر الأصول (١ / ٣٧٠).

٢٥٤ ـ الشاهد لزيد الخيل في ديوانه (ص ١٥٥) ، والجنى الداني (ص ٣٤٤) ، والدرر (٥ / ١٤٦) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٧٢).

٢٥٥ ـ الشاهد لأفنون التغلبي في خزانة الأدب (١١ / ١٣٩) ، والدرر (٦ / ١١١) ، وشرح اختيارات المفضّل (ص ١٦٤) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٤٤) ، ولسان العرب (علق) ، وبلا نسبة في الاشتقاق (ص ٢٥٩) ، وجمهرة اللغة (ص ٣٢٢) ، وخزانة الأدب (١١ / ٢٨٨) ، والخصائص (٢ / ١٨٤) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٤١٨) ، وشرح المفصّل (٤ / ١٨) ، ولسان العرب (رأم) ، والمحتسب (١ / ٢٣٥) ، ومغني اللبيب (١ / ٤٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٣٣).

٣٣٦

فإن أم خلعت من دلالة الاستفهام وتجردت للعطف بمعنى بل ، ولا يجوز تجريد (كيف) دون (أم) لأن تجريدها عن الاستفهام يزيل عنها علة البناء فيجب إعرابها ، ذكره في البسيط.

وقال ابن يعيش (١) : الدليل على أن ألف أرطى للإلحاق لا للتأنيث ، أنه سمع عنهم أرطاة بإلحاق تاء التأنيث ، ولو كانت للتأنيث لم يدخلها تأنيث آخر ، لأنه لا يجمع بين علامتي تأنيث.

وقال يونس وابن كيسان والزجاج والفارسي (٢) : إما ليست عاطفة لأنها تقترن بالواو ، وهي حرف عطف ، ولا يجتمع حرفا عطف ، واختاره أبو البقاء وابن مالك والشلوبين وابن عصفور والأندلسي والسخاوي والرضي.

وقال ابن الحاجب في شرح المفصل : لم يعد الفارسي إما من حروف العطف لدخول العاطف عليها ، وقد ثبت أنهم لا يجمعون بين حرفي عطف.

وقال ابن السراج (٣) : ليس إما بحرف عطف ، لأن حروف العطف لا يدخل بعضها على بعض فإن وجدت شيئا من ذلك في كلامهم فقد خرج أحدهما عن أن يكون حرف عطف نحو قولك : ما زيد ولا عمرو ، فـ (لا) في هذه المسألة ليست عاطفة إنما هي نافية.

وقال الشلوبين : إنما حذفت تاء التأنيث من نحو : (مسلمة) في الجمع بالألف والتاء نحو : مسلمات ، لأنها لو لم تحذف لاجتمع في الاسم علامتا تأنيث ، وهم يكرهون ذلك.

وقال ابن هشام في (تذكرته) : لا يجوز : كسرت لزيد رباعيتين علياتين وسفلاتين لأن فيهما الجمع بين الألف والتاء واجتماع علامتي التأنيث لا يجوز ، انتهى.

وقد استشكل جمع علامتي تأنيث في إحدى عشرة وثنتي عشرة ، قال في البسيط : وجواب الإشكال من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنهما اسمان في الأصل ، فانفرد كل واحد منهما بما يستحقه في الأصل ، وإنما الممتع اجتماع علامتي تأنيث في كلمة واحدة.

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (٥ / ١٢٨).

(٢) انظر مغني اللبيب (١ / ٦١) ، وشرح الكافية (٢ / ٣٤٦).

(٣) انظر الأصول (٢ / ٦٠).

٣٣٧

الثاني : أن ألف إحدى للإلحاق كألف معزى ، إلا أن التركيب منع من تنوينها ، والتاء في ثنتين للإلحاق بـ (جذع) وحمل اثنتان عليها لكونهما بمعنى واحد.

الثالث : أن علامتي التأنيث في (إحدى عشرة) مختلفتان لفظا ، وإنما الممتنع اتفاق لفظهما ، والتاء في اثنتين بدل من لام الكلمة فلم تتمحص للتأنيث حتى يحصل بذلك الجمع بين علامتي تأنيث.

ومن فروع القاعدة أيضا تأخيرهم لام الابتداء إلى خبر (إن) وكان حقها أن تكون في أول الجملة وصدرها ، لكنهم كرهوا توالي حرفين لمعنى واحد وهو التأكيد ، ذكره ابن جنّي (١) ، وقال في موضع آخر (٢) : ليس في الكلام اجتماع حرفين لمعنى واحد ، لأن في ذلك نقضا لما اعتزم عليه من الاختصار في استعمال الحروف إلا في التأكيد كقوله : [الوافر]

 ٢٥٦ ـ [طعامهم لئن أكلوا معدّ]

وما إن لا تحاك لهم ثياب

فإن (ما) وحدها للنفي ، و (وإن) و (لا) معا للتوكيد ، قال : ولا ينكر اجتماع حرفين للتأكيد لجملة الكلام ، لأنهم أكدوا بأكثر من الحرف الواحد في قولهم : لتقومن فاللام والنون ، جميعا للتأكيد وقوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) [مريم : ٢٦] فما والنون جميعا للتأكيد.

وقال ابن الحاجب في (شرح المفصل) : قول الفراء في (إن) الواقعة بعد (ما) النافية : إنهما حرفا نفي ترادفا كترادف حرفي التوكيد في قولك : إن زيدا لقائم ، ليس بالجيد لأنه لم يعهد اجتماع حرفين لمعنى واحد ومثل إن زيدا لقائم قد فصل بينهما لذلك.

وقال ابن القواس في (شرح الكافية) : لم يعهد اجتماع حرفين لمعنى واحد من غير فاصل ، ولذلك جاز : إن زيدا لقائم ، وامتنع إن لزيدا قائم.

وقال ابن إياز : إنما لم تعمل (لا) في المعرف بلام الجنس وإن كان في المعنى نكرة ، لأن لام الجنس تقبل الاستغراق ، وكذلك لا ، فلو أعملوها في المعرف بها لجمعوا بين حرفين متفقين في المعنى وذلك ممنوع عندهم.

__________________

(١) انظر الخصائص (١ / ٣١٤).

(٢) انظر الخصائص (٣ / ١٠٧).

٢٥٦ ـ الشاهد لأمية في الخصائص (٢ / ٢٨٢) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ٦٦٧) ، وخزانة الأدب (١١ / ١٤١) ، والخصائص (٣ / ١٠٨) ، والدرر (٦ / ٢٥٦) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٥٨).

٣٣٨

وقال الشلوبين : النحويون يقولون : إن حروف المعاني إنما هي مختصر الأفعال فهي نائبة مناب الأفعال ، تعطي من المعنى ما تعطيه الأفعال ، إلا أن الأفعال اختصرت بالحروف فإن الأفعال تقتضي أزمنة ، وأمكنة ، وأحداثا ، ومفعولين وفاعلين ، ومحالا لأفعالهم ، وغير ذلك من معمولات الأفعال ، فاختصر ذلك كله بأن جعل في مواضعها ما لا يقتضي شيئا من ذلك ، ولذلك كرهوا أن يجمعوا بين حرفين لمعنى واحد ، ولم يكرهوا ذلك في الأسماء والأفعال لأن ذلك نقيض ما وضعت عليه من الاختصار ، قال : وبهذا يبطل قول من قال : إن الأسماء الستة وامرأ وابنما معربة بشيئين من مكانين ، لأن العرب إذا كانت لا تجمع بين حرفين لمعنى واحد ، لكونه نقيض موضوعها من الاختصار ، فلأن ذلك في الحركة أحق وأولى لأن الحركة أخصر من الحرف.

وقال ابن الدهان في الغرة : فإن قيل : فهلا جاز : إن لزيدا قائم ، بالجمع بينهما لأنهما للتأكيد ، كما جمع بين تأكيدين في أجمع وأكتع؟ فالجواب أن الغرض في هذه الحروف الدوال على المعاني إنما هو التخفيف والاختصار ، فلا وجه للجمع بين حرفين لمعنى إذ فيه نقض الغرض ، وإذا تباعد عنه استجيز الجمع بينهما ، كما جمع بين حرف النداء والإضافة ، ويمتنع الجمع بينه وبين لام التعريف.

لا يجتمع ألفان

قال ابن الخباز : إذا وقفت على المقصور وقفت عليه بالألف التي هي بدل من التنوين فتقول : رأيت عصا ، فهذه الألف كالألف في رأيت زيدا ، وكان معك في التقدير ألفان بدل من واو ، وبدل من التنوين فحذفت إحداهما لئلا يجتمع ألفان ، قال : وجاء رجل إلى أبي إسحاق الزجاج فقال له : زعمتم أنه لا يمكن الجمع بين ألفين ، فقال : نعم ، فقال : أنا أجمع ، فقال : (ما) ومد صوته ، فقال له الزجاج : حسبك ولو مددت صوتك من غدوة إلى العصر لم تكن إلا ألفا واحدة ، قال : وكانت الأولى أولى بالحذف لأن الطارئ يزيل حكم الثابت.

ومن فروع هذه القاعدة : إذا جمع المقصور بالألف والتاء قلبت ألفه ياء ، كقولك في حبلى : حبليات ، لأنه لا يجتمع ألفان وحذفها هنا غير ممكن.

لا يجتمع خطابان في كلام واحد

قال أبو علي في التذكرة : الدليل على هذا الأصل قولهم : أرأيتك زيدا ما فعل؟ ، ألا ترى أن كاف الخطاب لما لحقت الفعل خلع الخطاب من التاء؟ والدليل

٣٣٩

على خلع الخطاب من التاء لدخول الكاف وما يتعلق به من تثنية وجمع وتأنيث وتذكير ، أن التاء في جميع الأحوال على صورة واحدة ، فلا يجوز على هذا يا غلامك ، لأن الغلام مخاطب والكاف خطاب آخر وهي غير الغلام ، فقد حصل في الكلام خطابان فامتنع لذلك. ولو قال : يا ذاك ، كان ذا قد وقع موقع الخطاب ، فإذا وصل بالكاف لم يكن حسنا وهو أشبه من الأول ، لأن ذا هو الكاف وليس الغلام الكاف ، قال : وقد عمل أبو الحسن في (المسائل الكبير) أبوابا ومسائل ، وهذا أصل تلك المسائل عندي ، هذا كله كلام أبي علي.

وفي (اللمع الكاملية) لموفق الدين عبد اللطيف البغدادي : فإن قيل قولهم : (أرأيتك) كيف جمعوا بين التاء والكاف وهما جميعا للخطاب وهم لا يجمعون بين حرفين لمعنى واحد؟ قيل : إن التاء ضمير مجرد عن الخطاب ، والكاف خطاب مجرد عن الضمير ، فكل منهما خلع منه معنى وبقي عليه معنى.

وقال الأبذي في (شرح الجزولية) : لم يجمع بين حرف النداء وضمير الخطاب لأن أحدهما يغني عن الآخر.

لا تنقض مرتبة إلا لأمر حادث

قال ابن جنّي في (الخصائص) (١) : وجعل منه امتناع تقديم الفاعل في نحو : ضرب غلامه زيدا ، والمبتدأ في نحو : عندك رجل ، ووجوب تقديم المفعول إذا كان اسم استفهام أو شرط لما طرأ فيها.

لا يقع التابع في موضع لا يقع فيه المتبوع

ذكر هذه القاعدة أبو البقاء في (التبيين) : وبنى عليها جواز تقديم خبر ليس عليها عند جمهور البصريين لتقدم معمول الخبر في قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] وتقديم معمول الخبر كتقديم الخبر نفسه ، لأن المعمول تابع للعامل ، ولا يقع التابع في موضع المتبوع.

__________________

(١) انظر الخصائص (١ / ٢٩٣).

٣٤٠