الأشباه والنظائر في النحو - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

إذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه ، لكن لوحظ المعنى وهو المصدر فصحت الإضافة.

وقال الزمخشري في (الأحاجي) (١) قولهم : نشدتك بالله لما فعلت ، كلام محرّف عن وجهه معدول عن طريقته مذهوب مذهب ما أغربوا به على السامعين من أمثالهم ونوادر ألغازهم وأحاجيهم وملحهم وأعاجيب كلامهم وسائر ما يدلون به على اقتدارهم وتصريفهم أعنة فصاحتهم كيف شاؤوا ، وبيان عدله أن الإثبات فيه قائم مقام النفي والفعل قائم مقام الاسم وأصله ما أطلب منك إلا فعلك.

وقال الشيخ علم الدين السخاوي في (تنوير الدياجي) : هذا الكلام مما عدل من كلامهم عن طريقته إلى طريقة أخرى تصرفا في الفصاحة وتفننا في العبارة ، وليس من قبيل الألغاز.

وقال أبو علي : هو كقوله : شرّ أهرّ ذا ناب ، يعني في أن اللفظ على معنى والمراد معنى آخر ، لأن المعنى : ما أهرّ ذا ناب إلّا شر.

قال : وقول الزمخشري : أقيم الفعل فيه مقام الاسم يعني إلّا فعلت أقيم مقام إلا فعلك ، قال ومثل هذا من الذي هو بمعنى ما هو متروك إظهاره ، قوله : [البسيط]

١٤٤ ـ أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع

قال (٣) سيبويه : المعنى : لأن كنت منطلقا انطقت لانطلاقك ، أي : لأن كنت في نفر وجماعة من أسرتك فإن قومي كذلك وهم كثير لم تأكلهم السنة ، ولا يجوز عند سيبويه إظهار (كنت) مع المفتوحة ولا حذفه مع المكسورة. وقال الزمخشري (٤) :

__________________

شرح الأشموني (٢ / ٣١٥) ، وشرح ابن عقيل (ص ٣٨٧) ، وشرح المفصّل (٣ / ١٦) ، ومغني اللبيب (ص ٥٧١) ، والمقرّب (١ / ٢٩٠) ، والمنصف (١ / ٥٨) ، وهمع الهوامع (١ / ٢١٨).

(١) انظر الأحاجي (٥١ ـ ٥٢).

١٤٤ ـ الشاهد لعباس بن مرداس في ديوانه (ص ١٢٨) ، والكتاب (١ / ٣٥١) ، وخزانة الأدب (٤ / ١٣) ، والدرر (٢ / ٩١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٤٧٩) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١١٦) ، وشرح قطر الندى (ص ١٤٠) ، ولجرير في ديوانه (ص ٣٤٩) ، والخصائص (٢ / ٣٨١) ، وشرح المفصّل (٢ / ٩٩) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٥٥) ، وبلا نسبة في الأزهيّة (ص ١٤٧) ، وأمالي ابن الحاجب (١ / ٤١١) ، والإنصاف (١ / ٧١) ، وأوضح المسالك (١ / ٢٦٥) ، وتخليص الشواهد (ص ٢٦٠) ، والجنى الداني (ص ٥٢٨).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٣٥١).

(٣) انظر شرح المفصّل (٧ / ٤٩).

٢٠١

من المحمول على المعنى قولهم : حسبك ينم الناس ، ولذا جزم به كما يجزم بالأمر ، لأنه بمعنى : اكفف ، وقولهم : اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه ، لأنه بمعنى : ليتقّ الله امرؤ وليفعل خيرا.

وقال أبو علي الفارسي في (التذكرة) : إذا كانوا قد حملوا الكلام في النفي على المعنى دون اللفظ حيث لو حمل على اللفظ لم يؤدّ إلى اختلال معنى ولا فساد فيه ، وذلك نحو قولهم : شرّ أهرّ ذا ناب ، وشيء جاء بك ، وقوله (١) : [الطويل]

[أنا الذائد الحامي الذمار] وإنما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

وقولهم : قلّ أحد لا يقول ذاك ، وقولهم : نشدتك الله إلا فعلت ، وكل هذا محمول على المعنى ولو حمل على اللفظ لا يؤدي إلى فساد والتباس ، فإن الحمل على المعنى حيث يؤدي إلى الالتباس يكون واجبا ، فمن ثم نفى سيبويه قوله : مررت بزيد وعمرو ، إذا مرّ بهما مرورين ، ما مررت بزيد ولا بعمرو ، فنفى على المعنى دون اللفظ ، وكذلك قوله : ضربت زيدا أو عمرا ما ضربت واحدا منهما ، لأنه لو قال : ما ضربت زيدا أو عمرا أمكن أن يظنّ أن المعنى ما ضربتهما ، ولما كان قوله : ما مررت بزيد وعمرو ، لو نفى على اللفظ لا يمكن أن يكون نفى مرورا واحدا فنفاه بتكرير الفعل ليتخلص من هذا المعنى ، كذلك جمع قوله : ما مررت بزيد أو عمرو : ما مررت بواحد منهما ليتخلص من المعنى الذي ذكرنا.

قاعدة : البدء بالحمل على اللفظ

إذا اجتمع الحمل على اللفظ والحمل على المعنى بدئ بالحمل على اللفظ ، وعلل ذلك بأن اللفظ هو المشاهد المنظور إليه ، وأما المعنى فخفيّ راجع إلى مراد المتكلم ، فكانت مراعاة اللفظ والبداءة بها أولى ، وبأن اللفظ متقدم على المعنى ، لأنك أول ما تسمع اللفظ فتفهم معناه عقبه ، فاعتبر الأسبق ، وبأنه لو عكس لحصل تراجع ، لأنك أوضحت المراد أولا ثم رجعت إلى غير المراد ، لأن المعوّل على المعنى فحصل الإبهام بعد التبيين.

وقال ابن جنّي في (الخصائص) (٢) : اعلم أن العرب إذا حملت على المعنى لم تكد تراجع اللفظ ، لأنه إذا انصرف عن اللفظ إلى غيره ضعفت معاودته إياه ، لأنه

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٤٢).

(٢) انظر الخصائص (٢ / ٤٢٠).

٢٠٢

انتكاث وتراجع ، فجرت ذلك مجرى إدغام الملحق وتوكيد ما حذف ، على أنه قد جاء منه شيء قال : [الطويل]

١٤٥ ـ [رأت جبلا فوق الجبال إذا التقت]

رؤوس كبيريهن ينتطحان

وقال ابن الحاجب : إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى ، وإذا حمل على المعنى ضعف الحمل بعده على اللفظ لأن المعنى أقوى فلا يتعدى الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ ، ويضعف بعد اعتبار المعنى القوي الرجوع إلى الأضعف.

واعترض عليه صاحب (البسيط) : بأن الاستقراء دلّ على أن اعتبار اللفظ أكثر من اعتبار المعنى وكثرة موارده دليل على قوته ، فلا يستقيم أن يكون قليل الموارد أقوى من كثير الموارد.

قال : وأما ضعف العود إلى اللفظ بعد اعتبار المعنى فقد ورد به التنزيل ، كما ورد اعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ ، قال تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) [الطلاق : ١١] فحمل على اللفظ بعد الحمل على المعنى ، وما ورد به التنزيل ليس بضعيف ، فثبت أنه يجوز الحمل على كل واحد منهما بعد الآخر من غير ضعف.

وقال الإمام أبو الحسن الأبذي في (شرح الجزولية) : العرب تكره الانصراف عن الشيء ثم الرجوع إليه بعد ذلك في معانيهم ، فكذلك يكرهونه في ألفاظهم وأنشد : [الطويل]

١٤٦ ـ إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد

إليه بوجه آخر الدّهر ترجع

ولذلك يكرهون الحمل على اللفظ بعد الحمل على المعنى في لفظ مفرد ومعنى مجموع كمن وأخواتها ، ولذلك يكرهون الرجوع إلى الإتباع بعد القطع في النعوت ، قال الشلوبين في (شرح الجزولية) : إذا قلت ما أظنّ أحدا يقول ذلك إلا زيدا ، فالنصب أجود ، على أنه بدل من أحد وأما الرفع على أنه بدل من الضمير فحمل على المعنى مع وجود الحمل على اللفظ كإتباع الأثر مع وجود العين.

__________________

١٤٥ ـ الشاهد بلا نسبة في خزانة الأدب (٤ / ٢٩٩) ، والخصائص (٢ / ٤٢١) ، ولسان العرب (رأس).

١٤٦ ـ الشاهد غير موجود في المراجع التي بين يديّ.

٢٠٣

حمل الشيء على نقيضه

فيه فروع :

حرف التعريف اللام وحدها : منها : قال في (البسيط) : ذهب سيبويه إلى أن حرف التعريف اللام وحدها لأن دليل التنكير حرف واحد وهو التنوين ، فكذلك دليل نقيضه وهو التعريف حرف واحد قياسا لأحد النقيضين على الآخر ولذلك كانت ساكنة كالتنوين.

وقال في (المجمل) : لم يجمع من الصفات التي مذكرها أفعل على فعال إلّا عجفاء وأعجف وعجاف.

قال في (البسيط) : والذي حسن جمعها في قوله تعالى : (سَبْعٌ عِجافٌ) [يوسف : ٤٣] ، حملها على سمان ، لأنهم قد يحملون النقيض على النقيض كما يحملون النظير على النظير ، وقال ابن جنّي في (الخصائص) (١) : كان أبو علي يستحسن قول الكسائي في قوله : [الوافر]

١٤٧ ـ إذا رضيت عليّ بنو قشير

[لعمر الله أعجبني رضاها]

أنه لما كان : رضيت ضدّ سخطت عدّى رضيت بعلى حملا للشيء على نقيضه كما يحمل على نظيره ، وقد سلك سيبويه هذه الطريق في المصادر كثيرا فقال : قالوا كذا كما قالوا كذا ، وأحدهما ضد الآخر ، وقال ابن إياز في (شرح الفصول) : ربما جعلوا النقيض مشاكلا للنقيض لأن كل واحد منهما ينافي الآخر ، ولأن الذهن يتنبه لهما معا بذكر أحدهما.

قال : وقد ذهب أبو سعيد السيرافي إلى أن لام الأمر إنما جزمت لأن الأمر للمخاطب موقوف الآخر نحو : اذهب ، فجعل لفظ المعرب كلفت المبني لأنه مثله في المعنى وحملت عليها لا في النهي من حيث كانت ضدا لها ، وقال ابن عصفور

__________________

(١) انظر الخصائص (٢ / ٣١١).

١٤٧ ـ الشاهد للقحيف العقيلي في أدب الكاتب (ص ٥٠٧) ، والأزهيّة (ص ٢٧٧) ، وخزانة الأدب (١٠ / ١٣٢) ، والدرر (٤ / ١٣٥) ، وشرح التصريح (٢ / ١٤) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٤١٦) ، ولسان العرب (رضي) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢٨٢) ، ونوادر أبي زيد (ص ١٧٦) ، وبلا نسبة في الإنصاف (٢ / ٦٣٠) ، وأوضح المسالك (٣ / ٤١) ، ورصف المباني (ص ٣٧٢) ، وشرح الأشموني (٢ / ٢٩٤) ، وشرح المفصّل (١ / ١٢٠) ، والمقتضب (٢ / ٣٢٠) ، وهمع الهوامع (٢ / ٢٨).

٢٠٤

في (شرح الجمل) : (كم) إن كانت اسم استفهام كان بناؤها لتضمّنها معنى حرف الاستفهام ، وإن كانت خبرية كان بناؤها حملا على (ربّ) وذلك أنها ذاك للمباهاة والافتخار ، كما أن (ربّ) كذلك وهي أيضا للتكثير فهي نقيضة ربّ ؛ لأن (ربّ) للتقليل ، والنقيض يجري مجرى ما يناقضه كما أن النظير يجري مجرى ما يجانسه.

وقال ابن النحاس في (التعليقة) : إنما كسرت النون في المثنى لسكونها وسكون الألف قبلها والكسرة نقيض السكون ، فأرادوا أن يأتوا بالشيء الذي هو نقيضه ، لأن الشيء يحمل على نقيضه كما يحمل على نظيره ، وقال السهيلي في «الروض الأنف» (١) : يحملون الصفة على ضدّها ، قالوا : عدوّة بالهاء حملا على صديقة.

وقال الشيخ شمس الدين بن الصائغ في (تذكرته) : قيل لم بني (عوض) على الضم مع أنه غير مضاف إلى الجملة؟ قال : ويمكن أن يكون بني حملا على نقيضه وهو (قطّ) كما قيل في (كم). وقال ابن النحاس في (التعليقة) : لا يثنّى (بعض) ولا يجمع حملا على (كل) لأنه نقيض وحكم النقيض أن يجري على نقيضه.

وقال ابن فلاح في (المغني) : ألحقت العرب (عدمت وفقدت) بأفعال القلوب ، فقالوا : عدمتني ، حملا على وجدت ، فيكون من باب حمل الشيء على ضده.

وقال الجاربردي في (شرح الشافية) : بطنان فعلان لا فعلال لأنه نقيض ظهران لأن ظهرانا اسم لظاهر الريش وبطنانا لباطنه ، وظهران فعلان بالاتفاق فبطنان كذلك حملا للنقيض على النقيض.

وقال ابن هشام في (تذكرته) : هذا باب ما حملوا فيه الشيء على نقيضه وذلك في مسائل :

الأولى : (لا) النافية ، حملوها على (إنّ) في العمل في نحو : لا طالعا جبلا حسن.

الثانية : (رضي) عدّوها بعلى حملا على (سخط) ، قاله الكسائي.

الثالثة : (فضل) عدّوه بعن حملا على نقص ، ودليله قوله (٢) : [البسيط]

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب

عني ولا أنت دياني فتخزوني

__________________

(١) انظر الروض الأنف (١ / ٢٠٠).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٥٨).

٢٠٥

قال ابن هشام : وهذا مما خطر لي.

الرابعة : نسي علقوها حملا على علم ، قال : [الطويل]

١٤٨ ـ ومن أنتم إنّا نسينا من انتم

وريحكم من أيّ ريح الأعاصر

الخامسة : (خلاصة) حملوها على ضدّها من باب (فعالة) لأنه وزن نقيض المرمي والمنفي ، قال : وهذا لما خطر لي عرضته على الشيخ فاعترضه بأن الدال هنا على خلاف باب زبالة وفضالة ، لا نسلم أنه الوزن بل الحروف ، قال : وهو محلّ نظر.

السادسة : (جيعان وعطشان) حملوهما على : شبعان وريان وملآن لأن باب فعلان للامتلاء.

السابعة : (دخل) حملوها على (خرج) فجاؤوا بمصدرها كمصدره فقالوا : دخولا كخروجا هذا إن قلنا أن دخل متعدية ، وإن قلنا أنها قاصرة فلا حمل.

الثامنة : (شكر) عدّوها بالباء حملا على (كفر) ، فقالوا : شكرته وله وبه ، قاله ابن خالويه في الطارقيات.

التاسعة : قالوا : (بطل) بطالة ، حملا على ضده من باب الصنائع كنجر نجارة.

العاشرة : قالوا : (مات) موتانا ، حملا على حيي حيوانا ، لأن باب فعلان للتقلب والتحرك.

الحادية عشرة : (كم) الخبرية حملوها على (ربّ) في لزوم الصدرية لأنها نقيضتها.

الثانية عشرة : معمول (ما) بعد (لم) و (لما) قدم عليهما حملا على نقيضه وهو الإيجاب قاله الشلوبين ، واعترضه ابن عصفور بأنه يلزمه تقديم المعمول في : ما ضرب زيدا ، لأنه أيضا نقيضه الإيجاب ، وليس بشيء لأنه لا يلزم اعتبار النقيض.

الثالثة عشرة : قالوا : كثر ما تقولنّ ذلك ، حملا على : قلّما تقولن ذلك ، وإنما قالوا : قلما تقولن ذلك ، لأنّ قلما تكون للنفي ، انتهى.

وقال في موضع آخر من (تذكرته) : كما يحملون النظير على النظير غالبا كذا يحملون النقيض على النقيض قليلا ، مثل (لا) النافية للجنس حملوها على (إنّ) ، و (كم) للتكثير أجروها مجرى (ربّ) التي للتقليل فصدروها وخصوها بالنكرات ،

__________________

١٤٨ ـ الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه (ص ٧٣) ، وتذكرة النحاة (ص ٦٢٠) ، والدرر (٢ / ٢٦٥) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٤٢٠) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ٤٥٤) ، والمحتسب (١ / ١٦٨) ، وهمع الهوامع (١ / ١٥٥).

٢٠٦

وقالوا : امرأة عدوّة فألحقوا فيها تاء التأنيث ، وحكم فعول إذا كانت صفة للمؤنث وكان في معنى فاعل أن لا تدخله تاء التأنيث ، وقالوا : امرأة صبور وناقة رغوت ، لأنهم أجروا عدوّة مجرى صديقة وهي ضدها ، فكما أدخلوا التاء في صديقة أدخلوها في عدوة ، وقالوا : الغدايا والعشايا فجمع غدوة وغداة على فعالى ، وحكمه أن يقال فيه : غداة وغدوات وغدوة وغدوات ، لأنهم حملوها على العشايا وهي في مقابلتها ، لأن الغداة أول النهار ، كما أن العشية آخره.

حمل الأصول على الفروع

لا يضاف ضارب إلى فاعله : قال (١) ابن جنّي : قال أبو عثمان : لا يضاف ضارب إلى فاعله لأنك لا تضيفه إليه مضمرا فكذلك لا تضيفه إليه مظهرا ، قال : وجازت إضافة المضمر إلى الفاعل لما جازت إضافته إليه مظهرا.

قال ابن جنّي : كأن أبا عثمان إنما اعتبر في هذا المضمر فقدمه وحمل عليه المظهر من قبل أن المضمر أقوى حكما في باب الإضافة من المظهر ، وذلك أن المضمر أشبه بما تحذفه الإضافة وهو التنوين من المظهر ، ولذلك لا يجتمعان في نحو : ضاربانك وقاتلونه. من حيث كان المضمر بلفظه وقوة اتصاله مشابها للتنوين بلفظه وقوة اتصاله ، وليس كذلك المظهر لقوته وقوة صورته ألا تراك تثبت معه التنوين فتنصبه نحو ضاربان زيدا ، فلما كان المضمر مما يقوى معه مراعاة الإضافة حمل المظهر ـ وإن كان هو الأصل ـ عليه.

استواء النصب والجرّ في المظهر : ومن ذلك قولهم : إنما استوى النصب والجرّ في المظهر في نحو : رأيت الزيدين لاستوائهما في المضمر نحو : رأيتك ومررت بك ، وإنما كان هذا الموضع للمضمر حتى حمل عليه حكم المظهر من حيث كان المضمر عاريا من الإعراب ، وإذا عرّي منه جاز أن يأتي منصوبه بلفظ مجروره ، وليس كذلك المظهر لأن باب الإظهار أن يكون مرسوما بالإعراب ، فلذلك حملوا الظاهر على المضمر في التثنية ، وإن كان المظهر هو الأصل ، إذا تأملت ذلك علمت أنك في الحقيقة إنما حملت فرعا على أصل لا أصلا على فرع ، ألا ترى أن المضمر أصل في عدم الإعراب فحملت المظهر عليه لأنه فرع في البناء ، كما حملت المظهر على المضمر في باب الإضافة من حيث كان المضمر هو الأصل في مشابهته للتنوين ،

__________________

(١) انظر الخصائص (٢ / ٣٥٥).

٢٠٧

والمظهر فرع عليه في ذلك ، لأنه إنما هو متأصل في الإعراب لا في البناء ، فإذا بدهتك هذه المواضع فتعاظمتك فلا تجتمع لها ولا تعط باليد مع أول ورودها وتأنّ لها ولاطف بالصنعة ما يورده الخصم منها مناظرا كان أو خاطرا ، انتهى.

تشبيه الأصل بالفرع : وقال في باب غلبة الفروع على الأصول (١) : قد شبه النحاة الأصل بالفرع في المعنى الذي أفاده ذلك الأصل ، ألا ترى أن سيبويه أجاز في قولك : هذا الحسن الوجه ، أن يكون الجرّ في الوجه من موضعين ، أحدهما : الإضافة ، والآخر : تشبيهه بالضارب الرجل ، الذي إنما جاز فيه الجرّ تشبيها له بالحسن الوجه ، وذلك أن العرب إذا شبهت شيئا بشيء مكنت ذلك الشبه لهما وعمرت به وجه الحال بينهما ، ألا تراهم لما شبهوا الفعل المضارع بالاسم فأعربوه ، تمموا ذلك المعنى بينهما بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه ، وكذلك شبهوا الوقف في نحو قولهم : عليه السّلام والرحمت ، وشبهوا الوصل بالوقف في نحو قولهم : ثلثهربعة ، وفي قولهم : سب سبا ، وكل كلا ، وأجروا غير اللازم مجرى اللازم في قولهم : (لحمروري) وهو الله ، وهي التي فعلت وقوله : [البسيط]

١٤٩ ـ [فقمت للطيف مرتاعا وأرّقني]

فقلت أهي سرت أم عادني حلم

وقوله (٣) :

ومن يتّق فإن الله معه

[ورزق مؤتاب وغادي]

أجرى (تق ف) مجرى (علم) حتى صار (تقف) كعلم ، وأجروا اللازم مجرى غير اللازم في قوله تعالى : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٤٠] ، فأجرى النصب مجرى الرفع الذي لا تلزم فيه الحركة ومجرى الجزم الذي لا يلزم فيه الحرف أصلا وهو كثير ، وحمل النصب على الجر في التثنية والجمع ، وحمل الجر على النصب فيما لا ينصرف ، وشبهت الياء بالألف في قوله (٤) : [الرجز]

كأن أيديهن بالقاع القرق

__________________

(١) انظر الخصائص (١ / ٣٠٠).

١٤٩ ـ الشاهد لزياد بن منقذ في خزانة الأدب (٥ / ٢٤٤) ، والدرر (١ / ١٩٠) ، وشرح التصريح (٢ / ١٤٣) ، وشرح شواهد الشافية (ص ١٩٠) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٣٤) ، ومعجم البلدان (أملح) ، والمقاصد النحوية (١ / ٢٥٩) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (١ / ٤٥٦) ، والخصائص (١ / ٣٠٥) ، وشرح المفصّل (٩ / ١٣٩) ، ولسان العرب (هيا) ، ومغني اللبيب (١ / ٤١) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٣٢).

(٢) مرّ تخريجه رقم (١٠٣).

(٣) مرّ الشاهد رقم (٦٢).

٢٠٨

وحملت الألف على الياء في قوله : [الرجز]

١٥٠ ـ إذا العجوز غضبت فطلّق

ولا ترضّاها ولا تملّق

وضع الضمير المنفصل موضع المتصل والعكس : ووضع الضمير المنفصل موضع المتصل في قوله : [البسيط]

١٥١ ـ [بالوارث الباعث الأموات] قد ضمنت

إيّاهم الأرض [في دهر الدهارير]

والمتصل موضع المنفصل في قوله : [البسيط]

١٥٢ ـ [وما علينا إذا ما كنت جارتنا]

ألا يجاورنا إلّاك ديّار

وقلبت الواو ياء استحسانا لا عن قوة علة في نحو : غديا وعشيان وأبيض لياح ، وقلبت الياء واوا استحسانا لا عن قوة علة في : التقوى والبقوى والرعوى والفتوى وقولهم : عوى الكلب عوية وعوّة ، وأتبعوا الثاني الأول في نحو : شدّ وفرّ وعضّ ومنذ ، وأتبعوا الأول والثاني نحو : أقتل أدخل أخرج ، فلما رأى سيبويه العرب إذا شبّهت شيئا بشيء فحملته على حكمه ، عادت أيضا فحملت الآخر على حكم صاحبه تثبيتا لهما وتعميما لمعنى الشبه بينهما حكم أيضا لجرّ الوجه من قولنا : هذا الحسن الوجه ، أن يكون محمولا على جرّ الرجل في قولهم : هذا الضارب الرجل ، كما أجازوا أيضا النصب في قولهم : هذا الحسن الوجه حملا له منهم على هذا الضارب الرجل ، ونظيره أيضا قولهم : يا أميمة ، ألا تراهم لما حذفوا الهاء فقالوا : يا أميم

__________________

١٥٠ ـ الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه (ص ١٧٩) ، وخزانة الأدب (٨ / ٣٥٩) ، والدرر (١ / ١٦١) ، والمقاصد النحوية (١ / ٢٣٦) ، وبلا نسبة في لسان العرب (رضي) ، وشرح التصريح (١ / ٨٧) ، والإنصاف (ص ٢٦) ، والخصائص (١ / ٣٠٧) ، وسرّ صناعة الإعراب (ص ٧٨) ، وشرح المفصّل (١٠ / ١٠٦) ، والممتع في التصريف (٢ / ٥٣٨) ، وهمع الهوامع (١ / ٥٢).

١٥١ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (١ / ٢١٤) ، وخزانة الأدب (٥ / ٢٨٨) ، والدرر (١ / ١٩٥) ، وشرح التصريح (١ / ١٠٤) ، والمقاصد النحوية (١ / ٢٧٤) ، ولأمية بن أبي الصلت في الخصائص (١ / ٣٠٧) ، وليس في ديوانه ، ولأمية أو للفرزدق في تخليص الشواهد (ص ٨٧) ، وبلا نسبة في الإنصاف (٢ / ٦٩٨) ، وأوضح المسالك (١ / ٩٢) ، وتذكرة النحاة (ص ٤٣) ، وشرح ابن عقيل (ص ٥٦) ، وهمع الهوامع (١ / ٦٢).

١٥٢ ـ الشاهد بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (ص ٣٨٥) ، وأوضح المسالك (١ / ٨٣) ، وتخليص الشواهد (ص ١٠٠) ، وخزانة الأدب (٥ / ٢٧٨) ، والخصائص (١ / ٣٠٧) ، والدرر (١ / ١٧٦) ، وشرح الأشموني (١ / ٤٨) ، وشرح شواهد المغني (ص ٨٤٤) ، وشرح ابن عقيل (٥٢) ، وشرح المفصّل (٣ / ١٠١) ، ومغني اللبيب (٢ / ٤٤١) ، والمقاصد النحوية (١ / ٢٥٣) ، وهمع الهوامع (١ / ٥٧).

٢٠٩

ثم أعادوا الهاء أقروا الفتحة بحالها اعتبارا للفتحة في الميم ، وإن كان الحذف فرعا ، وكذلك قولهم اجتمعت أهل اليمامة ، أصله اجتمع أهل اليمامة ، ثم حذف المضاف فأنث الفعل فصار اجتمعت اليمامة ، ثم أعيد المحذوف فأقرّ التأنيث الذي هو الفرع بحاله ، فقيل اجتمعت أهل اليمامة الإعراب في الآحاد بالحركات وفي غيرها بالحروف : قال : ومن غلبة الفروع للأصول إعرابهم في الآحاد بالحركات وفي التثنية والجمع بالحروف ، فأما ما جاء في الواحد من ذلك نحو : (أخوك وأباك وهنيك) فإن أبا بكر ذهب فيه إلى أن العرب قدمت منه هذا القدر توطئة لما أجمعوا من الإعراب في الجمع والتثنية بالحروف وهذا أيضا نحو آخر من حمل الأصل على الفرع ، ألا تراهم أعربوا بعض الآحاد بالحروف حملا له على ذلك في التثنية والجمع.

فأما قولهم : أنت تفعلين ، فإنهم إنما أعربوا بالحروف ، وإن كان في رتبة الآحاد والأول من حيث كان قد صار بالتأنيث إلى حكم الفرعية ، ومعلوم أن الحرف أقوى من الحركة فقد ترى إلى علم إعراب الواحد أضعف لفظا من إعراب ما فوقه ، فصار لذلك الأقوى كأنه الأصل والأضعف كأنه الفرع ، ومن ذلك حذفهم الأصل لشبهه عندهم بالفرع ، ألا تراهم لما حذفوا الحركات ونحن نعلم أنها زوائد في نحو : لم يذهب ، تجاوزوا ذلك إلى أن حذفوا للجزم أيضا الحروف الأصول ، فقالوا : لم يخش ، ولم يرم ، ولم يغز.

ومن ذلك أيضا أنهم حذفوا ألف معزى ومدعى في النسب فأجازوا معزيّ ومدعيّ فحملوا الألف هنا وهي لام على الألف الزائد في نحو : حبلى وسكرى.

حذف ياء تحية : ومن ذلك حذفهم ياء (تحية) وإن كانت أصلا ، حملا لها على ياء (شقية) وإن كانت زائدة ، فقالوا تحويّ كما قالوا شقويّ ، وحذفوا النون الأصلية في قوله : [الطويل]

١٥٣ ـ [فلست بآتيه ولا أستطيعه]

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

__________________

١٥٣ ـ الشاهد للنجاشي الحارثي في ديوانه (ص ١١١) ، والأزهيّة (ص ٢٩٦) ، وخزانة الأدب (١٠ / ٤١٨) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٩٥) ، والكتاب (١ / ٥٥) ، وشرح التصريح (١ / ١٩٦) وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٠١) ، والمنصف (٢ / ٢٢٩) ، وبلا نسبة في الإنصاف (٢ / ٦٨٤) ، وتخليص الشواهد (ص ٢٦٩) ، والجنى الداني (ص ٥٩٢) ، وخزانة الأدب (٥ / ٢٦٥) ، ورصف المباني (ص ٢٧٧) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٤٤٠) ، وشرح الأشموني (١ / ١٣٦) ، وشرح المفصّل (٩ / ١٤٢) ، واللامات (ص ١٥٩) ، ولسان العرب (لكن) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٩١) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٥٦).

٢١٠

وقوله : [الطويل]

١٥٤ ـ كأنها ملآن لم يتغيّرا

[وقد مرّ بالدّارين من بعدنا عصر]

وقوله : [المنسرح]

١٥٥ ـ [أبلغ أبا دختنوس مألكة]

غير الّذي قد يقال ملكذب

كما حذفوا الزائد في قوله : [الرجز]

١٥٦ ـ وحاتم الطائيّ وهاب المئى

وقوله : [المتقارب]

١٥٧ ـ [فألفيته غير مستعتب]

ولا ذاكر الله إلا قليلا

حمل التثنية على الجمع : ومن ذلك حملهم التثنية وهي أقرب إلى الواحد على الجمع وهي أنأى عنه ألا تراهم قلبوا همزة التأنيث فيها واوا فقالوا : حمراوان كما قلبوها فيه واوا فقالوا : حمراوات.

ومن ذلك حملهم الاسم وهو الأصل على الفعل وهو الفرع في باب ما لا ينصرف ، نعم ، وتجاوزوا بالاسم رتبة الفعل إلى أن شبهوه بما وراءه وهو الحرف فبنوه ، وعلى ذلك ذهب بعضهم في ترك تصرف (ليس) إلى أنها ألحقت بـ (ما) فيه كما ألحقت (ما) بها في العمل ، وكذلك قال أيضا في (عسى) : إنها منعت التصرف لحملهم إياها على لعل ، فهذا ونحوه يدلك على قوة تداخل هذه اللغة وتلاحمها واتصال أجزائها وتلاحقها وتناسب أوضاعها.

وقال ابن النحاس في (التعليقة) : إنما عمل المصدر لأنه أصل للفعل وفيه حروف الفعل فأشبه فعمل.

__________________

١٥٤ ـ الشاهد لأبي صخر الهذلي في الدرر (٣ / ١٠٦) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٥٣٩) ، وشرح أشعار الهذليين (٢ / ٩٥٦) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٦٩) ، والمنصف (١ / ٢٢٩) ، وبلا نسبة في الخصائص (١ / ٣١٠) ، والدرر (٦ / ٢٩١) ، ورصف المباني (ص ٣٢٦) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٤٣٩) ، وشرح شذور الذهب (ص ١٦٥) ، وشرح المفصّل (٨ / ٣٥) ، ولسان العرب (أين).

١٥٥ ـ الشاهد للقيط بن زرارة في شرح شواهد الإيضاح (ص ٢٨٨) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٣٠٥) ، والخصائص (١ / ٣١١) ، ورصف المباني (ص ٣٢٥) ، وسرّ صناعة الإعراب (ص ٥٣٩) ، وشرح المفصّل (٨ / ٣٥) ، ولسان العرب (ألك) ، و (منن) و (لكن).

١٥٦ ـ نسب الرجز إلى امرأة من بني عقيل أو عامر في النوادر (٩١) ، والأمالي الشجرية (١ / ٣٨٣) ، والإنصاف (ص ٣٨٨) ، والخزانة (٣ / ٣٠٤) ، وشرح شواهد الشافية (ص ١٦٣) ، واللسان (مأى).

١٥٧ ـ الشاهد لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه (ص ٥٤) ، والكتاب (١ / ٢٢٤) ، والأغاني (١٢ / ٣١٥) ، وخزانة الأدب (١١ / ٣٧٤) ، والدرر (٦ / ٢٨٩) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٩٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٩٣٣) ، ولسان العرب (عتب) ، و (عسل) ، والمقتضب (٢ / ٣١٣) ، والمنصف (٢ / ٢٣١) ، ورصف المباني (ص ٤٩) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٥٣٤) ، وشرح المفصّل (٢ / ٦) ، ومجالس ثعلب (ص ١٤٩) ، ومغني اللبيب (٢ / ٥٥٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٩٩).

٢١١

حرف الخاء

خلع الأدلة

هكذا ترجم على هذا الأصل ابن جنّي في (الخصائص) وقال (١) : من ذلك ما حكاه يونس من قول العرب : ضرب من منا ، أي : إنسان إنسانا ، ورجل رجلا ، ألا تراه كيف جرد (من) من الاستفهام ، ولذلك أعربها. ونحوه قولهم في الخبر : مررت برجل أيّ رجل ، فجرد أيّا من الاستفهام أيضا ، وعليه بيت الكتاب [البسيط]

١٥٨ ـ [حتى كأنّ لم يكن إلّا تذكّره]

والدّهر أيّتما حال دهاهير

أي : والدهر في كل وقت وعلى كل حال دهارير ، أي متلوّن ومتقلّب بأهله ، وأنشدنا أبو علي : [الطويل]

١٥٩ ـ ألا هيّما مما لقيت ، وهيّما

وويحا لما لم ألق منهنّ ويحما

وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت

إليّ وأصحابي بأيّ وأينما

قال (٤) : فجرد (أي) من الاستفهام ، ومنعها الصرف ، لما فيها من التعريف والتأنيث ، وذلك أنه وضعها علما على الجهة التي حلتها ، فأما قوله : وأينما فكذلك أيضا ، غير أن لك في أينما وجهين :

أحدهما : أن تكون الفتحة هي التي في موضع جرّ ما لا ينصرف ، لأنه جعله علما للبقعة أيضا ، فاجتمع فيه التعريف والتأنيث ، وجعل (ما) زائدة بعدها للتأكيد.

__________________

(١) انظر الخصائص (٢ / ١٧٩).

١٥٨ ـ الشاهد لحريث بن جبلة العذري في شرح أبيات سيبويه (١ / ٣٦٠) ، وله أو لعثير بن لبيد العذري في لسان العرب (دهر) ، وبلا نسبة في الكتاب (١ / ٢٩٦) ، ومجالس ثعلب (١ / ٢٦٦) ، والخصائص (٢ / ١٧١) ، وسمط اللآلي (ص ٨٠٠) ، وجمهرة اللغة (ص ٦٤١).

١٥٩ ـ الشاهد لحميد الأرقط في لسان العرب (هيا) ولحميد بن ثور في ديوانه (ص ٧) ، ولسان العرب (ويح) ، و (ثور) ، وتاج العروس (ويح) ، وبلا نسبة في كتاب العين (٣ / ٣١٩).

(٢) انظر الخصائص (١ / ١٣٠).

٢١٢

والآخر : أن تكون فتحة النون من أينما فتحة التركيب ، وتضم أين إلى ما ، فيبنى الأول على الفتح كما في حضرموت ، وبيت بيت ، وحينئذ يقدر في الألف فتحة ما لا ينصرف في موضع الجر ويدل على أنه قد يضم (ما) هذه إلى ما قبلها ما أنشدناه أبو علي عن أبي عثمان : [الرجز]

١٦٠ ـ أثور ما أصيدكم أم ثورين

أم تيكم الجمّاء ذات القرنين

فقوله : أثور ما ، فتحة الراء منه فتحة تركيب ثور مع ما بعده كفتحة راء حضرموت ، ولو كانت فتحة إعراب لوجب التنوين لا محالة لأنه مصروف ، وبنيت ما مع الاسم مبقاة على حرفيتها كما بنيت لا مع النكرة في نحو لا رجل ، والكلام في ويحما هو الكلام في أثور ما.

وأخبرنا أبو علي أن أبا عثمان ذهب في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] إلى أنه جعل (مثل) و (ما) اسما واحدا فبنى الأول على الفتح ، وهما جميعا عنده في موضع رفع صفة لحق.

ومما خلعت عنه دلالة الاستفهام قول الشاعر ـ أنشدناه أبو علي ـ : [البسيط]

١٦١ ـ أنّى جزوا عامرا سوأى بفعلهم

أم كيف يجزونني السّوأى من الحسن

أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به

ريمان أنف إذا ما ضنّ باللّبن

ف (أم) في أصل الوضع للاستفهام ، كما أن كيف كذلك ، ومحال اجتماع حرفين (٣) لمعنى واحد ، فلا بد أن يكون أحدهما قد خلعت عنه دلالة الاستفهام. وينبغي أن يكون ذلك الحرف (أم) دون (كيف) حتى كأنه قال :

بل كيف ينفع ، فجعلها بمنزلة (بل) للترك والتحول ، ولا يجوز أن تكون (كيف) هي المخلوعة عنها دلالة الاستفهام لأنها لو خلعت عنها لوجب إعرابها لأنها إنما بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام ، فإذا زال ذلك عنها وجب إعرابها كما أعرب (من) في قولهم : (ضرب من منا) لمّا خلعت عنها دلالة الاستفهام.

ومن ذلك كاف الخطاب للمذكر والمؤنث نحو : رأيتك ، هي تفيد شيئين :

__________________

١٦٠ ـ الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر (٢ / ١٤٠) ، والخصائص (٢ / ١٨٠) ، ورصف المباني (ص ٣٣٦) ، ولسان العرب (ثور) ، و (قرن) ، وتهذيب اللغة (٩ / ٩٠).

١٦١ ـ الشاهد لأفنون التغلبي في شرح اختيارات المفصل (ص ١١٦٤) ، وتاج العروس (سوأ) ، والبيان والتبيين (١ / ٩) ، والخزانة (١١ / ١٤٩) ، وبلا نسبة في لسان العرب (سوأ).

(١) انظر الخصائص (٢ / ١٨٤).

٢١٣

الاسمية والخطاب ثم قد تخلع عنها دلالة الاسم في قولهم : ذلك وأولئك وهاك ، وابصرك زيدا ، وأنت تريد ابصر زيدا ، وليسك أخاك في معنى ليس أخاك ، وقولهم : أرأيتك زيدا ما صنع.

وحكى أبو زيد : بلاك والله وكلاك ، أي : بلى وكلّا ، فالكاف في جميع ذلك حرف خطاب مخلوعة عنه دلالة الاسمية ، ولا موضع لها من الإعراب ، ونظير ذلك التاء من (أنت) فإنها خلعت عنها دلالة الاسمية وتخلصت حرفا للخطاب ، والاسم (أن) وحده.

قال : ولم يستنكر الناس خطاب الملوك بالكاف في قول الإنسان مثلا للملك : ضربت ذلك الرجل ، لهذا المعنى وهو عروّها من معنى الاسمية.

قال : فإن قيل : فكان ينبغي أن لا يستنكر خطابه بأنت لما ذكر.

قيل : التاء وإن كانت حرف خطاب لا اسما ، فإن معها نفسها الاسم وهو (أن) من أنت ، فالاسم على كل حال حاضر وليس كذلك قولنا : (ذلك) لأنه ليس للمخاطب بالكاف هنا اسم غير الكاف ، كما كان له مع التاء اسم للمخاطب نفسه وهو (أن) ، والمقصود إعظام الملوك بأن لا تبتذل أسماؤها فاعرف الفرق بين الموضعين.

ومن ذلك الواو في نحو (أكلوني البراغيث) وقاموا إخوتك ، والألف قاما أخواك والنون في : [الطويل]

١٦٢ ـ [ولكن ديافيّ أبوه وأمه

بحوران] يعصرن السليط أقاربه

كلها مخلوعة من معنى الاسمية مقتصر فيها على دلالة الجمع والتثنية والتأنيث.

ومن ذلك قولنا : ألا قد كان كذا ، وقول الله سبحانه : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) [هود : ٥] فألا هذه فيها شيئان التنبيه وافتتاح الكلام ، فإذا جاء معها (يا) خلصت افتتاحا لا غير ، وصار التنبيه الذي كان فيها لـ (يا) دونها وذلك نحو قوله تعالى : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) [النمل : ٢٥] ، وقول الشاعر : [الطويل]

__________________

١٦٢ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (١ / ٤٦) ، والكتاب (٢ / ٣٥) ، والاشتقاق (ص ٢٤٤) ، وتخليص الشواهد (ص ٤٧٤) ، وخزانة الأدب (٥ / ١٦٣) ، والدرر (٢ / ٢٨٥) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٤٩١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٣٣٦) ، وشرح المفصّل (٣ / ٨٩) ، وبلا نسبة في الجنى الداني (ص ١٥٠) ، وخزانة الأدب (٧ / ٤٤٦) ، والخصائص (٢ / ١٩٤) ، ورصف المباني (ص ١٩) ، وسرّ صناعة الإعراب (ص ٤٦٦) ، وهمع الهوامع (١ / ١٦٠).

٢١٤

١٦٣ ـ ألا يا سنا برق على قلل الحمى

لهنّك من برق عليّ كريم

ومن ذلك واو العطف فيها معنيان : العطف ومعنى الجمع ، فإذا وضعت موضع (مع) خلصت للاجتماع وخلعت عنها دلالة العطف نحو قولهم : استوى الماء والخشبة ، وجاء البرد والطيالسة (٢).

ومن ذلك فاء العطف فيها معنيان : العطف والإتباع ، فإذا استعملت في جواب الشرط خلعت عنها دلالة العطف وخلصت للإتباع نحو : إن تقم فأنا أقوم.

ومن ذلك همزة الخطاب في : هاء يا رجل ، وهاء يا امرأة كقولك : هاك وهاك ، فإذا ألحقتها الكاف جردتها من الخطاب لأنه يصير بعدها في الكاف ، وتفتح هي أبدا وهو قولك : هاءك وهاءك وهاءكما وهاءكم.

ومن ذلك (يا) في النداء تكون تنبيها ونداء في نحو يا زيد ويا عبد الله وقد تجرد من النداء للتنبيه البتة نحو قول الله تعالى : ألا يا اسجدوا [النمل : ٣٥] كأنه قال : ألا ها اسجدوا.

وقول أبي العباس أنه أراد ألا يا هؤلاء اسجدوا ، مردود عندنا ، وكذلك قول العجاج : [الرجز]

١٦٤ ـ يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي

إنما هو كقولك : ها اسلمي ، وكذلك قولهم : هلمّ ، في التنبيه على الأمر ، هذا خلاصة ما ذكره ابن جنّي في هذا الأصل وقال شيخه أبو علي في التذكرة.

وقال أبو البقاء في (التبيين) (٤) : أصل كان وأخواتها أن تكون دالّة على الحدث ثم خلعت دلالتها عليه ، وبقيت دلالتها على الزمان.

__________________

١٦٣ ـ الشاهد لمحمد بن سلمة في لسان العرب (قذى) ، ولرجل من بني نمير في خزانة الأدب (١٠ / ٣٣٨) ، وبلا نسبة في أمالي الزجاجي (ص ٢٥٠) ، والجنى الداني (ص ١٢٩) ، وجواهر الأدب (ص ٨٣) ، والخصائص (١ / ٣١٥) ، والدرر (٢ / ١٩١) ، وديوان المعاني (٢ / ١٩٢) ، ورصف المباني (ص ٤٤) ، وسرّ صناعة الإعراب (١ / ٣٧١) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٦٠٢) ، وشرح المفصّل (٨ / ٦٣) ، والممتع في التصريف (١ / ٣٩٨) ، وهمع الهوامع (١ / ١٤١).

(١) انظر معجم مقاييس اللغة (٣ / ٤١٩) ، والمعرب (٢٧٥).

١٦٤ ـ الرجز للعجاج في ديوانه (١ / ٤٤٢) ، والإنصاف (١ / ١٠٢) ، وجمهرة اللغة (ص ٢٠٤) ، والخصائص (٢ / ١٩٦) ، واللسان (سمسم) ، وتاج العروس (سمم) ، ولرؤبة في ملحق ديوانه (ص ١٨٣) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٢٧٩) ، ولسان العرب (علم).

(٢) انظر مسائل خلافية في النحو (٧١).

٢١٥

حرف الراء

الرابط

يحتاج إليه في أحد عشر موضعا :

الأول : جملة الخبر ، ورابطها عشرة أشياء تأتي في الفن الثاني الضوابط في المبتدأ.

الثاني : جملة الصفة ، ولا يربطها إلا الضمير.

الثالث : جملة الصلة ولا يربطها غالبا إلا الضمير.

الرابع : جملة الحال ورابطها إما الواو أو الضمير أو كلاهما.

الخامس : المفسرة لعامل الاسم المشتغل عنه نحو زيدا ضربته ، أو ضربت أخاه.

السادس والسابع : بدل البعض ، وبدل الاشتمال ، ولا يربطهما إلا الضمير نحو : (عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) [المائدة : ٧١] ، (عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧] ، وإنما لم يحتج بدل الكل إلى رابط لأنه نفس المبدل منه في المعنى ، كما أن الجملة التي هي نفس المبتدأ لا تحتاج إلى رابط لذلك.

الثامن : معمول الصفة المشبهة ولا يربطه أيضا إلا الضمير.

التاسع : جواب اسم الشرط المرفوع بالابتداء ولا يربطه أيضا إلا الضمير نحو (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) [المائدة : ١١٥].

العاشر : العاملان في باب التنازع لا بدّ من ارتباطهما إما بعاطف كما في قام وقعدا أخواك ، أو عمل أولهما في ثانيهما نحو : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) [الجن : ٤] ، (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) [الجن : ٧].

الحادي عشر : ألفاظ التوكيد الأول ، وإنما يربطها الضمير الملفوظ به نحو : جاء زيد نفسه ، والزيدان كلاهما ، والقوم كلهم وسائر ما تقدم يجوز أن يكون الضمير فيه مقدّرا.

فائدة : الرابط في مثال مررت برجل حسن الوجه

إذا قلت : مررت برجل حسن الوجه ، ففي الرابط ثلاثة أقوال :

أحدهما : قول الكوفيين إن (أل) نائبة على الإضافة أي : وجهه فربطت كما ربطت الإضافة.

الثاني : قول البصريين : إنه محذوف ، أي الوجه منه.

٢١٦

الثالث : قول الفارسي وتبعه ابن الخباز : إنه ضمير في الصفة ، والوجه بدل منه ، ذكره ابن هشام في تذكرته.

قاعدة : أصل الحذف للرابط

قال الشلوبين في (شرح الجزولية) : أصل الحذف للرابط ، إنما هو للصلة لا للصفة.

الرجوع إلى الأصل أيسر من الانتقال عنه

قال أبو الحسين بن أبي الربيع في (شرح الإيضاح) : إذا أسند الفعل المضارع إلى نون الإناث بني لشبهه حينئذ بالماضي وقد كان أصل المضارع أن يكون مبنيا ، وإنما أعرب لشبهه بالاسم من وجهين. العموم والاختصاص فأن يرجع إلى أصله لشبهه بما هو من جنسه أقيس وأولى ، لأن الرجوع إلى الأصل أيسر من الانتقال عنه ، وتشبيه الشيء بجنسه أقرب من تشبيهه بغير جنسه.

قال : وكذلك إذا اتصلت به نون التوكيد أشبه فعل الأمر من وجهين :

أنه لحق هذا ما لحق هذا ، وأن المعنى الذي لحقت له الأمر هو المعنى الذي لحقت له المضارع ، فبنته العرب لما ذكرناه وهو أن الرجوع إلى الأصل وهو البناء في الأفعال أيسر من الانتقال عن الأصل ، وتشبيه الشيء بجنسه أولى من تشبيهه بغير جنسه.

قلت : ونظير ذلك أن الاسم منع الصرف إذا أشبه الفعل من وجهين ، ثم يرجع إلى الأصل إذا دخله أل أو الإضافة التي هي من خصائص الأسماء.

رب شيء يكون ضعيفا ثم يحسن للضرورة

قال أبو علي الفارسي في (البغداديات) (١) في قوله : [الكامل]

١٦٥ ـ لا تجزعي إن منفسا أهلكته

[وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي]

إن الفعل المحذوف والفعل المذكور مجزومان في التقدير ، وإن الجزم الثاني ليس على البدلية ، إذ لم يثبت حذف المبدل منه بل على تكرير (إن) ، أي إن

__________________

(١) انظر الخزانة (١ / ١٥٢).

١٦٥ ـ الشاهد للنمر بن تولب في ديوانه (ص ٧٢) ، وتخليص الشواهد (ص ٤٩٩) ، والكتاب (١ / ١٨٨) ، وخزانة الأدب (١ / ٣١٤) ، وسمط اللآلي (ص ٤٦٨) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٦٠) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٤٧٢) ، وشرح المفصّل (٢ / ٣٨) ، ولسان العرب (نفس) ، و (خلل) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٥٣٥) ، وبلا نسبة في الأزهيّة (ص ٢٤٨) ، والجنى الداني (ص ٧٢) ، وجواهر الأدب (ص ٦٧) ، وخزانة الأدب (٣ / ٣٢) ، والردّ على النحاة (ص ١١٤) ، وشرح الأشموني (١ / ١٨٨) ، وشرح ابن عقيل (ص ٢٦٤) ، ولسان العرب (عمر) ، ومغني اللبيب (١ / ١٦٦).

٢١٧

أهلكت منفسا إن أهلكته ، وساغ إضمار (إن) وإن لم يجز إضمار لام الأمر إلا ضرورة ، لاتساعهم فيها بدليل إيلائهم إياها الاسم ، لأن تقدمها مقو للدلالة عليها ، ولهذا أجاز سيبويه : بمن تمرر أمرر ، ومنع من تصرف انزل حتى يقول : عليه.

وقال فيمن قال : مررت برجل صالح إلا صالح فطالح ـ بالخفض ـ إنه أسهل من إضمار (ربّ) بعد الواو ، وربّ شيء يكون ضعيفا ثم يحسن للضرورة كما في : ضرب غلامه زيدا ، فإنه ضعيف جدا ، وحسن في : ضربوني وضربت قومك ، واستغني بجواب الأولى عن جواب الثانية كما استغني في نحو : أزيدا ظننته قائما ، بثاني مفعولي ظننت المذكورة عن ثاني مفعولي المقدرة.

ربّ شيء يصحّ تبعا ولا يصحّ استقلالا

قال ابن هشام في (المغني) (١) : (أما) حرف شرط بدليل لزوم الفاء بعدها نحو : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ) [البقرة : ٢٦] الآية ، ولو كانت الفاء عاطفة لم تدخل على الخبر ، إذ لا يعطف الخبر على مبتدئه ، ولو كانت زائدة لصحّ الاستغناء عنها ، ولما لم يصحّ ذلك وقد امتنع كونها للعطف تعيّن أنها فاء الجزاء فإن قلت : فقد استغنى عنها في قوله : [الطويل]

١٦٦ ـ فأمّا القتال لا قتال لديكم

[ولكنّ سيرا في عراض المواكب]

قلت : هو ضرورة ، فإن قلت : فقد حذفت في التنزيل في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) [آل عمران : ١٠٦] قلت : الأصل فيقال لهم : أكفرتم ، فحذف القول استغناء عنه بالمقول فتبعته الفاء في الحذف وربّ شيء يصح تبعا ولا يصحّ استقلالا ، كالحاج عن غيره ، يصلي عنه ركعتي الطواف ، ولو صلى أحد عن غيره ابتداء لم يصح.

ربما كان في الشيء لغتان فاتفقوا على إحداهما في موضع كقولهم : لعمر الله ، وأنت تقول : العمرو العمر ، ذكره الفارسي في (التذكرة).

__________________

(١) انظر المغني (١ / ٥٧).

١٦٦ ـ الشاهد للحارث بن خالد المخزومي في ديوانه (ص ٤٥) ، وخزانة الأدب (١ / ٤٥٢) ، والدرر (٥ / ١١٠) ، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ١٠٦) ، وأوضح المسالك (٤ / ٢٣٤) ، والجنى الداني (ص ٥٢٤) ، وسرّ صناعة الإعراب (ص ٢٦٥) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ١٠٧) ، وشرح شواهد المغني (ص ١٧٧) ، وشرح ابن عقيل (ص ٥٩٧) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٣٤) ، والمنصف (٣ / ١١٨) ، ومغني اللبيب (ص ٥٦) ، والمقاصد النحوية (١ / ٥٧٧) ، والمقتضب (٢ / ٧١) ، وهمع الهوامع (٢ / ٦٧).

٢١٨

حرف الزاي

الزيادة

فيها فوائد :

الأولى : قال ابن دريد في أول (الجمهرة) (١) : لا يستغني الناظر في اللغة عن معرفة الزوائد ، لأنها كثيرة الدخول في الأبنية ، قل ما يمتنع منها الرباعي والخماسي والملحق بالسداسي ، فإذا عرف مواقع الزوائد في الأبنية كان ذلك حريّا ألا يشذّ عليه النظر فيها.

الثانية : قال ابن دريد : الزوائد عند بعض النحويين عشرة أحرف ، وقال بعضهم : تسعة ، يجمع هذه الأحرف كلمتان وهو قوله : اليوم تنساه وهذا عمله أبو عثمان المازني (٢).

وقال ابن يعيش في (شرح المفصّل) (٣) : يحكى أن أبا العباس سأل أبا عثمان عن حروف الزيادة فأنشده : [المتقارب]

١٦٧ ـ هويت السّمان فشيّبنني

وما كنت قدما هويت السّمانا

فقال له : الجواب؟ فقال : قد أجبتك مرتين ، يعني : هويت السمان قال ابن يعيش (٥) : وزيادة الحرف مما يشترك فيه الاسم والفعل ، وأما الحروف فلا يكون فيها زيادة لأن الزيادة ضرب من التصرف ، ولا يكون ذلك في الحروف.

قال : ومعنى الزيادة إلحاق الكلمة من الحروف ما ليس منها ، إما لإفادة معنى كألف ضارب ، وواو مضروب ، وإما لضرب من التوسع في اللغة نحو ألف حمار ، وواو عمود ، وياء سعيد.

__________________

(١) انظر الجمهرة (١ / ٩).

(٢) انظر المنصف (١ /؟؟؟) ، وشرح المفصّل (٩ / ١٤١).

(٣) انظر شرح المفصّل (٩ / ١٤١).

١٦٧ ـ الشاهد لأبي عثمان المازني في تاج العروس (زيد).

(٤) انظر شرح المفصّل (٩ / ١٤١).

٢١٩

قال (١) : وإذا ثبتت زيادة حرف في كلمة في لغة ثبتت زيادتها في لغة أخرى نحو : جؤذر ، حكى فيه الجوهري الفتح والضم ، فالهمزة زائدة ، لأنها زائدة في لغة من ضم ، إذ ليس في الأصول مثل جعفر بفتح الفاء وضم الجيم.

وإذا ثبتت زيادتها في هذه اللغة كانت زائدة في اللغة الأخرى لأنها لا تكون زائدة في لغة ، أصلا في لغة أخرى ، هذا محال.

وكذلك (٢) : (تتفل) بفتح الفاء وضمها ـ فمن فتح كانت زائدة لا محالة لعدم النظير ، ومن ضم كانت أيضا زائدة لأنها لا تكون أصلا في لغة زائدة في لغة أخرى ، انتهى.

الثالثة : في زيادة حروف المعاني ، قال الزمخشري في المفصل : حروف الصلة إن وأن وما ولا ومن والباء.

قال ابن يعيش في (شرح المفصّل) (٣) : الزيادة والإلغاء من عبارات البصريين والصلة والحشو من عبارات الكوفيين ، ونعني بالزائد أن يكون دخوله كخروجه من غير إحداث معنى ، وجملة الحروف التي تزاد هي هذه الستة.

قال : وقد أنكر بعضهم وقوع هذه الأحرف زوائد لغير معنى ، لأنه إذ ذاك يكون كالعبث ، وليس يخلو إنكارهم لذلك من أنهم لم يجدوه في هذه اللغة ، أو لما ذكروه من المعنى ، فإن كان الأول فقد جاء منه في التنزيل والشعر ما لا يحصى ، وإن كان الثاني فليس كما ظنوه لأن قولنا : زائد ، ليس المراد أنه دخل لغير معنى البتة : بل زيد لضرب من التأكيد ، والتأكيد معنى صحيح.

وقال السخاوي : من النحاة من قال في هذه الحروف إذا جاءت صلة لأنها قد وصل بها ما قبلها من الكلام. ومنهم من يقول : زائدة ، ومنهم من يقول : لغو ومنهم من يقول : توكيد ، وأبى بعضهم إلا هذا ، ولم يجز فيها أن يقال : صلة ولا لغو ، لئلا يظن أنها دخلت لا لمعنى البتة.

وقال ابن الحاجب في (شرح المفصل) : حروف الزيادة سميت حروف الصلة لأنها يتوصل بها إلى زنة أو إعراب لم يكن عند حذفها.

وقال الأندلسي في (شرح المفصّل) : أكثر ما تقع الصلة في ألفاظ الكوفيين ، ومعناه أنه حرف يصل به كلامه ، وليس بركن في الجملة ولا في استقلال المعنى.

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (٩ / ١٤٦).

(٢) انظر شرح المفصّل (٩ / ١٥٨).

(٣) انظر شرح المفصّل (٨ / ١٢٨).

٢٢٠