الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-51-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١٠

بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) (١) لقد عمّ هذا الاشتباه الخطير بعضا من البسطاء ، وتصوّروا بأنّهم ما داموا محرومين في الدنيا فهم مغضوب عليهم ومطرودون من رحمة الله ، وهؤلاء المرفّهون هم المحبوبون المقبولون لديه.

ما أكثر المحرومين الذين امتحنوا بالحرمان ، فنالوا أرقى الدرجات والمراتب الروحية.

وما أكثر المرفّهين الذين أصبحت أموالهم وثرواتهم وبالا عليهم ومقدّمة لعقابهم.

أليس قد ذكرت الآية (١٥) من سورة التغابن بصراحة (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

ولكن ليس معنى هذا هو حثّ الإنسان على ترك السعي والدأب اللازم لإقامة الأود ، بل المقصود هو التأكيد على أنّ امتلاك الإمكانات الاقتصادية والقوّة البشرية الواسعة لا يمثّل أبدا أيّة قيمة معنوية للإنسان عند الله.

ثمّ تتناول الآية موضوع المعيار الأصلي لتقييم الناس ، وما يسبّب قربهم منه (على شكل استثناء منفصل) فتقول : (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (٢).

وعليه فجميع المعايير تعود أصلا إلى هذين الأمرين «الإيمان» و «العمل الصالح». ويستوعب هذا المعيار جميع الأفراد وفي أي زمان أو مكان ، ومن أي طبقة أو مجموعة كان. واختلاف مراتب البشر أمام الله إنّما هو بتفاوت درجات إيمانهم ومراتب عملهم الصالح ، ولا شيء سوى ذلك. حتّى طلب العلم أو

__________________

(١) «زلفى» و «زلفة» بمعنى المنزلة والحظوة (مفردات الراغب) ، ولهذا السبب عبّر عن (منازل الليل) بـ (زلف الليل) ـ والتعبير بـ «التي» لأجل أنّه في كثير من الموارد يعود الضمير المفرد المؤنث إلى جمع التكسير ، وعليه فلا حاجة إلى التقدير هنا.

(٢) التعبير بـ «جزاء الضعف» من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.

٤٦١

الانتساب إلى أفراد عظماء ، بل حتّى للأنبياء ، إذا لم يكن مقترنا بهذين الأمرين فإنّه وحده لا يضيف إلى قيمة الإنسان شيئا.

هنا يشطب القرآن وبصراحة قلّ نظيرها على كلّ الظنون المنحرفة والخرافات بخصوص عوامل القرب من الله ، وما يرفع من قيمة الإنسان ، ويخلص إلى أنّ المعيار الأصيل هو في شيئين فقط ، يستطيع كلّ الناس تحصيلها ، وأنّ الإمكانات والمحروميات المادية لا أثر لها في ذلك.

أجل ، فإنّ الأموال والأولاد أيضا إذا وجّهت بهذا المسير ، صبغت بتلك الصبغة الإلهيّة وتقبّلت لون الإيمان والعمل الصالح ، وأصبحت سببا في القرب من الله. أمّا الأموال والأولاد التي تبعد الإنسان عن الله ، وتكون له صنما يعبد من دون الله وسببا للفساد والإفساد ، فهي جواذب جهنّم ، وكما قال القرآن الكريم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ). (١)

كلمة «ضعف» ليست بمعنى «مضاعفة الشيء مرتين» فقط ، بل بمعنى «أضعاف مضاعفة لأكثر من مرتين». وقد وردت في هذه الآية بهذا المعنى. لأنّنا نعلم أنّ أي عمل حسن يحسب عند الله بعشرة أمثاله على الأقل (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها). (٢) وأحيانا أكثر من ذلك بكثير.

«غرفات» جمع «غرفة» بمعنى الحجرات العلوية من البناء ، والتي غالبا ما تكون إضاءتها أكثر وهواؤها أفضل. وبعيدة عن الآفات ، لذا عبّر القرآن عن أفضل منازل الجنّة (بالغرف). وهذه اللفظة من مادّة «غرف» ، على زنة (بحر) بمعنى رفع الشيء وتناوله.

التعبير بـ «آمنون» فيما يخصّ أهل الجنّة ، تعبير جامع يعكس حالة الطمأنينة الروحية والجسدية لهم من كافّة النواحي ، فلا خوف من هجوم عدوّ ، أو مرض ، أو

__________________

(١) التغابن ، ١٤.

(٢) أنعام ، ١٦٠.

٤٦٢

آفة أو ألم ، ولا خوف حتّى من الخوف! ، وليس أغلى من هذه النعمة بأن يكون الإنسان آمنا من كلّ جانب ، فلا بلاء أشدّ من الإحساس بعدم الأمن في مختلف جوانب الحياة.

الآية التالية تصف الفريق المقابل لهؤلاء ، فتقول : أمّا هؤلاء الذين يسعون ويجتهدون لتسفيه آياتنا ، لا يؤمنون ولا يتركون غيرهم يسيرون في طريق الإيمان ، ويتوهّمون أنّهم يستطيعون الفرار من يد قدرتنا ، هؤلاء يحضرون في عذاب أليم يوم القيامة (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ).

هؤلاء هم الذين اعتمدوا على أموالهم وأولادهم وكثرة عددهم لتكذيب الأنبياء ، وعملوا على إغواء عباد الله ، حتّى بلغ غرورهم درجة أن توهّموا أنّهم يفلتون من قبضة العذاب الإلهي ، ولكن هيهات فانّ مصيرهم في قلب جهنّم.

وبما أنّ جملة (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) ليس فيها ما يدلّل على الزمان الآتي ـ فقد تكون إشارة إلى كون هؤلاء مأسورين بالعذاب حتّى في الوقت الحاضر ، وأي عذاب أشدّ من هذا السجن الذي صنعوه لأنفسهم من أموالهم وأولادهم.

كذلك يحتمل أن يكون التعبير للتدليل على أنّ وعد الله مسلّم به إلى درجة يمكن القول بأنّهم حاليا فيه ، كما هو الحال بالنسبة إلى قوله : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ).

«معاجزين» : كما ذهب بعض أرباب اللغة إلى أنّ معناه أنّ هؤلاء تصوّروا أنّهم يستطيعون الفرار من دائرة قدرة الله تعالى وجزائه وعقابه ، إلّا أنّ هذا التوهّم باطل وسراب خادع (١).

* * *

__________________

(١) الحقيقة أن تعبير «معاجزين» الذي أوردنا تفسيره من مفردات الراغب ، شبيه بتعبير (يخادعون الله ورسوله) البقرة ـ ٩ ، لأنّ باب مفاعلة يمكن أن يأتي على هذه الصورة.

٤٦٣

بحث

معايير التقييم :

من القضايا المهمّة في حياة الأفراد والمجتمعات هي قضيّة «معايير التقييم» و «نظام القيم» الذي يتحكّم بثقافة ذلك المجتمع. لأنّ كلّ الحركات الصادرة عن الأفراد والجماعات في حياتهم إنّما تنبع من هذا النظام وتهدف إلى خلق تلك القيم.

واشتباه قوم من الأقوام وامّة من الأمم في هذه القضيّة والتعامل بقيم خيالية لا أساس لها قد يؤدّي إلى طبع تأريخهم بطابع الغرور. وإدراك القيم الواقعية والمعايير الحقيقية يشكّل أساسا متينا لبناء سعادتهم.

عبيد الدنيا المغرورون يتصوّرون بأنّ القيم تنحصر فقط في المال والقدرة المادية والتعداد البشري ، وحتّى القيمة أمام الله ينظرون إليها من داخل هذا الإطار ، كما لاحظنا نموذجا من ذلك في الآيات السابقة ، وهناك نماذج كثيرة من هذا القبيل تلاحظ في القرآن الكريم ، منها:

١ ـ فرعون ، الطاغية المتجبّر ، الذي كان يقول لمن حوله بأنّه لا يصدق أنّ موسى عليه‌السلام رسول من الله ، فإن كان حقّا ما يقول فلم لم يعطه الله سوارا من الذهب (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ). (١)

وحتّى انّه يرى عدمها دليل هي المهانة والدونية ، فيقول : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ). (٢)

٢ ـ مشركو عصر الرسالة المحمّدية ، تعجّبوا من نزول القرآن على رجل فقير كرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). (٣)

__________________

(١) الزخرف ، ٥٣.

(٢) الزخرف ، ٢٥.

(٣) الزخرف ، ٣١.

٤٦٤

٣ ـ بنو إسرائيل اعترضوا على نبي زمانهم «أشموئيل» في قضيّة انتخاب «طالوت» كقائد للجيش وقالوا : (نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ). (١)

٤ ـ مشركو زمان نوح عليه‌السلام الأثرياء اعترضوا عليه بأن اتّبعه أراذلهم ، وهم الفقراء في نظرهم (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (٢)

٥ ـ أثرياء مكّة أوردوا نفس هذا الاعتراض على الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بقولهم : لقد أحاط بك الحفاة ، ونحن نشمئزّ حتّى من رائحتهم ، فلا نتبعك إلّا بابتعادهم عنك. وقد حقّرهم القرآن الكريم في سورة الكهف بشدّة ، وهدّدهم ، وأمر الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يكون مع الذين عشقوا الله ، ويدعونه صباحا ومساء وإن كانوا فقراء (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ). (٣)

لهذه الأسباب ، كان أوّل عمل إصلاحي يقوم به الأنبياء هو تحطيم اطر التقييم الكاذبة تلك ، واستبدالها بالقيم الإلهية الأصيلة والقيام بـ «ثورة ثقافية» أبدلوا أساس الشخصية ومحورها من الأموال والأولاد والثروة والجاه والشهرة القبلية والعائلة إلى التقوى والإيمان والعمل الصالح.

وقد مرّ نموذج لذلك في الآيات السابقة ، فبعد شجب الأموال والأولاد كوسيلة للتقرّب من الله تعالى ، والآية (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) أعطت بعدها مباشرة القيم الأصيلة كبديل بالقول : (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً).

والآية الشريفة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) والتي أضحت شعارا إسلاميا بعد استبعاد القيم المرتبطة بالقبيلة والعشيرة ، تشير إلى هذه الثورة الفكرية والاعتبارية. فاستنادا إلى هذه الآية (الحجرات ـ ١٣) فليس هناك شيء غير

__________________

(١) البقرة ، ٢٤٧.

(٢) الشعراء ، ١١١.

(٣) الكهف ، ٢٨.

٤٦٥

التقوى ، والإيمان المقترن بالشعور بالمسؤولية ، وصلاح العمل ، ليس سوى ذلك معيارا لتقييم شخصية الإنسان وقربه من الله تعالى. وكلّ من كان له نصيب أكبر من ذلك كان إلى الله أقرب وعنده أكرم.

والملفت للنظر أنّ محيط الجزيرة العربية كان قبل نزول التعاليم الإسلامية القرآنية السامية ـ بتأثير هيمنة القيم الظالمة ـ خاضعا لأصحاب الأموال والكذبة من أمثال أبي سفيان وأبي جهل وأبي لهب. ولكن بعد ثورة القيم ظهر من نفس ذلك المحيط أمثال أبي ذرّ وعمّار والمقداد (رضوان الله عليهم).

الجميل أنّ القرآن المجيد في سورة «الزخرف» وبعد ذكر الآيات التي أوردناها آنفا يقول : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (١).

هذا كلّه لكي لا تحلّ القيم المزيّفة محلّ القيم الإنسانية الواقعية.

* * *

__________________

(١) الزخرف ، ٣٣ ـ ٣٥.

٤٦٦

الآيات

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢))

التّفسير

نفور المعبودين من عابديهم :

تعود هذه الآيات لتؤكّد مرّة اخرى خطأ الذين يتوهمون بأنّ أموالهم وأولادهم سبب لقربهم من الله فتقول : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ).

ثمّ تضيف الآية : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

٤٦٧

فمع أنّ محتوى هذه الآية يؤكّد ما عرضته الآيات السابقة إلّا أنّ هناك ما هو جديد من جهتين :

الاولى : أنّ الآية السابقة التي عرضت نفس المفهوم ، كانت تتحدّث عن أموال وأولاد الكفّار ، بينما الآية محلّ البحث باحتوائها على كلمة «عباد» تشير إلى المؤمنين ، والمعنى أنّه حتّى فيما يخصّ المؤمنين فإنّه قد يتّسع الرزق ـ لأنّه الأصلح بالنسبة للمؤمن ـ وقد يضيق ـ لأنّ المصلحة تقتضي ذلك ـ على كلّ حال ، فإنّ سعة وضيق الرزق لا يمكن أن يشكّل دليلا على أي شيء.

الثّانية : الآية السابقة أشارت إلى سعة الرزق وضيقه بالنسبة إلى مجموعتين مختلفتين ، في حين أنّ هذه الآية تشير إلى حالتين مختلفتين بالنسبة لشخص واحد ، حينا يتّسع رزقه وحينا يضيق.

إضافة إلى أنّ ما جاء في بداية هذه الآية هو في الحقيقة مقدّمة لما جاء في آخرها ، وهو الترغيب في الإنفاق في سبيل الله.

جملة «فهو يخلفه» تعبير جميل يشير إلى أنّ ما ينفق في سبيل الله إنّما هو في الحقيقة تجارة وافرة الربح ، لأنّ الله سبحانه وتعالى تعهّد بأن يخلفه ، ونعلم أنّه في الوقت الذي يتعهّد فيه الكريم بأداء العوض فإنّه لا يراعي المقدار الذي يريد تعويضه ، بل إنّه يعوّض بأضعاف مضاعفة ، بل بمئات الأضعاف.

طبعا فإنّ هذا الوعد الإلهي لا ينحصر بالآخرة ، فإنّ ذلك مسلّم به ، ولكن في الدنيا أيضا فإنّه يخلف ما أنفق بمختلف البركات.

جملة (هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ذات معنى واسع ، ويمكن الإفادة منها من وجوه مختلفة.

هو خير من يعطي رزقا ، لأنّه يعلم ماذا يعطي وإلى أي حدّ ، بحيث لا يكون ما يعطيه عاملا للفساد والغرور ، لأنّه عالم بكلّ شيء.

هو يعطي أي شيء يريد أن يعطيه لأنّه قادر على كلّ شيء.

٤٦٨

ولا يريد جزاء على ما يعطيه لأنّه غني بذاته. ويعطي ابتداء ، لأنّه حكيم وعالم بكلّ شيء. بل الحقيقة أنّه ليس من رزّاق غيره ، لأنّ أي معط إنّما يعطي ممّا رزقه الله ، وبذا فهو ليس سوى «واسطة انتقال» لا رزّاقا.

وكذلك فهو تعالى يعطي النعم الباقية قبال المال الفاني ، والكثير مقابل القليل.

ولأنّ فريقا من الأثرياء الظالمين الطغاة كانوا في صفّ المشركين ، وادّعوا بأنّهم يعبدون الملائكة وأنّهم شفعاؤهم يوم القيامة ، فقد ردّ القرآن على هذا الادّعاء الباطل فقال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ).

بديهي أنّ هذا السؤال ليس من باب الاستفهام عن الجواب ، لأنّ الله تعالى عالم بكلّ شيء ، ولكن الهدف هو أن تظهر الحقائق من إجابة الملائكة ، لكي يخسأ هؤلاء الضالّون ويخيب ظنّهم ، ويعلموا بأنّ الملائكة متنفّرين من أعمالهم ، فيصيبهم اليأس إلى الأبد.

ذكر (الملائكة) من بين المعبودات التي كان المشركون يعبدونها ، إمّا لأنّ الملائكة أشرف المخلوقات التي عبدها الضالّون ، والتي لم يحصلوا على شفاعتها يوم القيامة ، فما ذا يستطيعون الحصول عليه من حفنة من الحجر أو الأخشاب أو الجنّ أو الشياطين!؟

أو أنّه من قبيل أنّ عبدة الأوثان كانوا يعتقدون بأنّ الأحجار والأخشاب هي مظهر ونموذج لموجودات علوية (كالملائكة وأرواح الأنبياء) ، ولذا عبدوها. فكما ورد في تاريخ الوثنية عند العرب «إنّ سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب ، هو أنّ «عمرو بن لحي» مرّ بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا له : هذه أرباب نتّخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصر بها ونستسقي. فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسوّل للعرب فعبدوه واستمرّت عبادة الأصنام

٤٦٩

فيهم إلى أن جاء الإسلام» (١) (٢).

والآن لننظر ماذا تقول الملائكة للإجابة على سؤال الباري عزوجل؟ لقد اختارت الملائكة في الحقيقة أكثر الأجوبة شمولية وأعظمها أدبا (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ).

أمّا ما هو المقصود من الجواب الذي أجابت به الملائكة؟ فللمفسّرين أقوال ، ويبدو أنّ أقربها هو القول بأنّ المقصود (بالجنّ) هو (الشيطان) وسائر الموجودات الخبيثة التي شجّعت عبدة الأوثان على ذلك العمل ، وزينته في أنظارهم ، وعليه فإنّ المراد من عبادة الجنّ هي تلك الطاعة والانقياد لأوامرها والرضى بأضاليلها.

فالملائكة إذا يقولون ضمن إعلان تنفّرهم وعدم رضاهم على هذه الأعمال : إنّ العامل الأساسي لهذا الفساد هم الشياطين ، وإن كان الظاهر أنّهم يعبدوننا ، فالمهمّ هو الكشف عن الوجه الحقيقي لهذا العمل أمام الملأ.

وقد ورد نظير هذا المعنى في سورة يونس ـ الآية (٢٨) حيث يقول تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ). أي إنّكم في الحقيقة لم تعبدونا نحن ، بل تعبدون أهواءكم وأوهامكم وخيالاتكم ، ناهيك عن أنّ هذه العبادة لم تكن بأمرنا ورضانا. وعبادة هذا شكلها ليست بعبادة أصلا.

وبهذه الطريقة يتبدّل أمل المشركين في ذلك اليوم إلى يأس كامل ، وتتجلّى لهم بذلك حقيقة أنّ معبوديهم لن يحلّوا من مشاكلهم عقدة صغيرة واحدة ، بل على العكس فهم منهم متنفّرون مستاءون.

لذا ـ وكاستخلاص للنتيجة ـ تقول الآية الكريمة التي بعدها : (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، مجلد ٢٢ ، ص ١٤٠ ـ كذلك ورد هذا المعنى بتفاوت يسير في سيرة ابن هشام ، مجلد ١ ، ص ٧٩ ـ وهناك نقرأ أنه جلب معه الصنم «هبل».

(٢) عمرو بن لحي : أحد الشخصيات المعروفة في مكة قبل الإسلام.

٤٧٠

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا). وبناء على ذلك فلا الملائكة ـ الذين هم ظاهرا معبودون ـ يستطيعون الشفاعة لهم ، ولا هم يستطيعون مساعدة بعضهم البعض.

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ).

ليست هذه هي المرّة الاولى التي يعبّر فيها القرآن عن المشركين بـ «الظلم» بل ورد ذلك في الكثير من آيات القرآن.

التعبير عن «الكفر» بـ «الظلم». أو عن «الكافرين والمشركين» بـ «الظالمين». ذلك لأنّهم قبل كلّ شيء ظلموا أنفسهم بخلعهم تاج العبودية لله عن رؤوسهم ، ولفّوا طوق الذلّة للأوثان على رقابهم. ودمّروا شخصيتهم ومصيرهم.

وفي الحقيقة فإنّهم سيعاقبون يوم القيامة على شركهم وعلى إنكارهم للمعاد ، وجملة (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) تشتمل على المعنيين.

* * *

بحوث

١ ـ الإنفاق سبب النماء لا النقصان

التعبير الوارد في الآية السابقة يحتوي على معان جمّة :

أوّلا : فمن جهة أنّ كلمة «شيء» بمعناها الواسع تشمل كلّ أنواع الإنفاق ، المادّي والمعنوي القليل والكثير ، لأيّ من المحتاجين كان الإنفاق ، صغيرا أو كبيرا ، المهمّ أن يعطي الإنسان شيئا ممّا يملك في سبيل الله بأي كيفية كان وبأي كميّة كانت.

ثانيا : لقد أخرجت الآية (الإنفاق) بمفهومه من «الفناء» ، ولوّنته بلون «البقاء» لأنّ الله ضمن إخلاف ما ينفق في سبيله بمواهبه المادية والمعنوية ، بمرّات مضاعفة ، مئات الآلاف ، أقلّها عشرة أضعاف ، وبذا فإنّ المنفق ـ وبهذه الروحية

٤٧١

وهذا الإعتقاد ـ سيلج ميدان الإنفاق بيد وقلب أكثر انفتاحا ، ولن يخطر على باله إحساس بالقلّة ، ولن يفكّر بالفقر ، بل إنّه سيشكر الله على حسن توفيقه له على هذه التجارة الوفيرة الربح.

وقد عبّر القرآن في الآيات (١٠) و (١١) من سورة الصفّ عن هذا المعنى فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ـ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

ونقرأ في الحديث عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : ينادي مناد كلّ ليلة : لدوا للموت.

وينادي مناد : ابنوا للخراب.

وينادي مناد : اللهمّ هب للمنفق خلفا.

وينادي مناد : اللهمّ هب للممسك تلفا.

وينادي مناد : ليت الناس لم يخلقوا.

وينادي مناد : ليتهم إذ خلقوا فكّروا فيما له خلقوا!!» (١).

والمقصود من هؤلاء المنادين هم الملائكة الذين يدبّرون أمور هذا العالم بأمر الله.

وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة» (٢).

وقد نقل نفس المعنى عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام.

والجدير بالتذكير هو أنّ الإنفاق يجب أن يكون من المال الحلال والكسب المشروع ، وإلّا فلا قبول لغيره عند الله ولا بركة فيه.

لذا فقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام حينما سأله أحدهم قال : قلت : آيتان في

__________________

(١) مجمع البيان : ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٤٠ ، ح ٧٧.

٤٧٢

كتاب الله عزوجل أطلبهما فلا أجدهما.

قال عليه‌السلام «وما هما؟».

قلت : قول الله عزوجل : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، فندعوه ولا نرى إجابة.

قال عليه‌السلام : أفترى الله عزوجل أخلف وعده؟».

قلت : لا.

قال : فممّ ذلك؟

قلت : لا أدري.

قال عليه‌السلام : «لكنّي أخبرك ، من أطاع الله عزوجل فيما أمره من دعائه من جهة الدعاء أجابه».

قلت : وما جهة الدعاء.

قال : «تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ثمّ تشكره ثمّ تصلّي على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ تذكر ذنوبك فتقرّ بها ، ثمّ تستعيذ منها فهذا جهة الدعاء».

ثمّ قال عليه‌السلام : «وما الآية الاخرى؟».

قلت : قول الله عزوجل : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وإنّي أنفق ولا أرى خلفا؟

قال : «أفترى الله عزوجل أخلف وعده؟

قلت : لا.

قال : «فممّ ذلك؟».

قلت : لا أدري؟

قال : لو أنّ أحدكم اكتسب المال من حلّه وأنفقه في حلّه لم ينفق درهما إلّا أخلف عليه» (١).

__________________

(١) تفسير البرهان ، مجلّد ٣ ، ص ٣٥٣.

٤٧٣

٢ ـ أمنوا على أموالكم بتأمين إلهي!!

لأحد المفسّرين تحليل جميل بهذا الخصوص ، يقول : «ثمّ إنّ من العجب أنّ التاجر إذا علم أنّ مالا من أمواله في معرض الهلاك يبيعه نسيئة وإن كان من الفقراء ، ويقول بأنّ ذلك أولى من الإمهال إلى أن يهلك المال ، فإن لم يبع حتّى يهلك ينسب إلى الخطأ ، ثمّ إن حصل به كفيل مليء ولا يبيع ينسب إلى قلّة العقل.

فإن حصل به رهن وكتب به وثيقة ولا يبيعه ينسب إلى الجنون ، ثمّ إنّ كلّ أحد يفعل هذا ولا يعلم أنّ ذلك قريب من الجنون ، فإنّ أموالنا كلّها في معرض الزوال المحقّق ، والإنفاق على الأهل والولد إقراض ، وقد حصل الضامن المليء وهو الله العلي وقال تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ثمّ رهن عند كلّ واحد إمّا أرضا أو بستانا أو طاحونة ، أو حمّاما أو منفعة ، فإنّ الإنسان لا بدّ أن يكون له صفة أو جهة يحصل له منها مال ، وكلّ ذلك ملك الله ، وهو في يد الإنسان بحكم العارية ، فكأنّه مرهون بما تكفّل الله من رزقه ليحصل له الوثوق التامّ ، ومع هذا لا ينفق ويترك ماله ليتلف لا مأجورا ولا مشكورا» (١).

٣ ـ سعة مفهوم الإنفاق :

لأجل فهم الحدّ لمفهوم الإنفاق في الإسلام ، نطالع الحديث التالي عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول : «كلّ معروف صدقة ، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها ، إلّا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية» (٢).

يبدو أنّ استثناء البنيان من قانون الإخلاف ، لأنّ عين البناء باقية ، أو لأنّه يكثر توجّه الناس إليه.

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، مجلّد ٢٥ ، ص ٢٦٣ (ذيل الآيات مورد البحث).

(٢) الجامع لأحكام القرآن (القرطبي) ، مجلّد ١٤ ، ص ٣٠٧.

٤٧٤

الآيات

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥))

التّفسير

بأيّ منطق ينكرون آيات الله :

تعود هذه الآيات لتكمل البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المشركين الكفّار وأقوالهم يوم القيامة ، فتتحدّث حول وضع هؤلاء في الدنيا ومواقفهم عند سماعهم القرآن حتّى يتّضح أنّ مصيرهم الاخروي المشؤوم إنّما هو نتاج تلك المواقف الخاطئة التي اتّخذوها إزاء آيات الله في الدنيا.

تقول الآية الكريمة الاولى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ

٤٧٥

يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ).

فهذا أوّل ردّ فعل لهم إزاء «الآيات البيّنات» وهو السعي إلى تحريك حسّ العصبية في هؤلاء القوم المتعصّبين.

خاصّة مع ملاحظة استخدامهم تعبير «آباؤكم» بدل «آباؤنا» ، يفهم منه أنّهم يريدون القول لقومهم بأنّ تراث الأجداد في خطر ، وإنّ عليكم النهوض والتصدّي لهذا الرجل عن العبث بذلك الميراث.

ثمّ تعبير «ما هذا إلّا رجل» إنّما يقصد به تحقير النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهتين الاولى كلمة «هذا» والثّانية «رجل» بهيئة النكرة ، مع العلم بأنّهم يعرفون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جيّدا ، ويعلمون بأنّ له ماضيا مشرقا.

من الجدير بالملاحظة أيضا أنّ القرآن وصف «الآيات» بـ «البيّنات» ، أي أنّها تحمل دلائل حقّانيتها معها ، وما هو قابل للمعاينة لا يحتاج إلى توضيح أو بيان.

ثمّ توضّح الآية مقولتهم الثّانية التي قصدوا بها إبطال دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول : (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً).

«إفك» كما ذكرنا سابقا بمعنى كلّ مصروف عن وجهه الذي يحقّ أن يكون عليه ، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهابّ «مؤتفكة» ، وأي صرف عن الحقّ في الإعتقاد إلى الباطل ، ومن الصدق في المقال إلى الكذب ، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح. ولكن كما قال البعض ، فإنّ «الإفك» يطلق على الأكاذيب الكبيرة.

وكان يكفي استخدامهم لكلمة «الإفك» في اتّهام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكذب ، لكنّهم أرادوا تأكيد ذلك المعنى باستخدامهم لكلمة «مفترى» ، دون أن يكون لهم أدنى دليل على ذلك الادّعاء.

وأخيرا ، كان الاتّهام الثالث الذي ألصقوه بالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو (السحر) كما نرى ذلك في آخر هذه الآية (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

العجيب أنّ هؤلاء الضالّين يطلقون هذه التّهم الثلاث المذكورة بأصرح

٤٧٦

التأكيدات ، ففي موضع يقولون إنّه سحر ، وفي آخر يقولون : إنّه مجرّد كذب ، ثمّ يقولون في موضع ثالث ، إنّه يريد أن يصدّكم عن مآثر أجدادكم!

طبعا هذه الصفات الذميمة الثلاثة ليست متضادّة فيما بينها ـ مع أنّ هؤلاء لا يأنفون من الكلام المتضادّ ـ وعلى فلا داعي ـ كما يقول المفسّرين ـ لاعتبار أنّ كلّ واحدة من هذه الصفات تنسب إلى مجموعة مستقلّة من الكفّار.

كذلك فمن الجدير بالملاحظة أنّ القرآن الكريم استخدم في المرتين الاولى والثّانية جملة «قالوا» ، ثمّ استخدم في المرّة الثالثة جملة «قال الذين كفروا» ، إشارة إلى أنّ كلّ التعاسة التي أصابتهم إنّما منشأها الكفر وإنكار الحقّ ومعاداة الحقيقة ، وإلّا فكيف يمكن لأحد أن يتّهم رجلا تظهر دلائل حقّانيته من حديثه وعمله وماضيه بهذه التّهم المتلاحقة وبلا أدنى دليل.

فكأنّهم يواصلون بهذه التّهم الثلاث برنامجا مدروسا لمواجهة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد لاحظوا من جانب أنّ الدين جديد وله جاذبية ، ومن جانب آخر ، فقد أخافت إنذارات الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعذاب الإلهي في الدنيا والآخرة فئة من المجتمع شاءوا أم أبوا ، ومن جانب ثالث فإنّ معجزات الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تركت أثرها الإيجابي في نفوس عامّة المجتمع ـ شاءوا أم أبوا كذلك.

لذا فإنّهم ـ لأجل إبطال مفعول هذه الأمور الثلاثة ـ فكّروا بالدعوة إلى حفظ تراث السلف في قبال الدين الجديد ، في حين أنّ السلف كان مصداقا لما ذكره القرآن الكريم (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) البقرة ـ ١٧٠. فلا جرم أن يتخلّى الناس عن مثل تلك الهياكل الخرافية التي كانت إرث هؤلاء الجهلة والحمقى.

وأمّا في قبال إنذارات الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعذاب الإلهي ، فقد طرحوا قضيّة الاتّهام بالكذب لكي يريحوا العامّة.

وفي قبال المعجزات ، طرحوا تهمة (السحر). ظنّا منهم أنّ المعجزات لن تترك أثرا في نفوس الناس بسبب هذا التوجيه.

٤٧٧

ولكن تاريخ الإسلام شاهد على أنّ أيّا من هذه المخطّطات الشيطانية لم تكن ذات أثر ، وكانت النتيجة أن دخل الناس في هذا الدين العظيم فوجا بعد فوج.

في الآية التي بعدها ، يشطب القرآن الكريم على جميع تلك الادّعاءات الواهية ، مع أنّها واضحة البطلان ، فيقول : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها ، وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ).

وهي إشارة إلى أنّ هذه الادّعاءات يمكنها أن تكون مقبولة فيما لو جاءهم رسول من قبل بكتاب سماوي يخالف مضمونه الدعوة الجديدة ، فلا بأس أن ينبروا لتكذيبها ، وينادوا بتراث الأجداد تارة ، وبتكذيب الدعوة الجديدة تارة اخرى ، أو اتّهام من جاء بها بالسحر. أمّا من لا يعتمد إلّا على فكره الشخصي ـ بدون أي وحي من السماء ـ وبدون أن يكون له نصيب من علم ، فلا يحقّ له الحكم لمجرّد تلفيقه الخرافات والأوهام.

ويستفاد من هذه الآية أيضا أنّ الإنسان لا يمكنه أن يطوي طريق الحياة بعقله فقط ، بل لا بدّ أن يستمدّ المعونة من وحي السماء ويتقدّم إلى الأمام بالاستعانة بالشرائع ، وإلّا فهي الظلمات والخوف من التيه.

الآية الأخيرة من هذه الآيات ، تهدّد تلك المجموعة المتمردّة بكلمات بليغة مؤثّرة فتقول : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في حين أنّ هؤلاء لم يبلغوا في القوّة والقدرة عشر ما كان لأولئك الأقوام (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ).

فمدنهم المدمّرة بضربات العقوبة الإلهية الساحقة ليست ببعيدة عنكم .. فهي في الشام القريب منكم ، فليكونوا لكم مرآة للعبرة ، واستمعوا إلى النصائح التي يقولها الدمار ، وقارنوا مصيركم بمصيرهم ، فلا السنّة الإلهيّة قابلة للتغيير ولا أنتم أقوى منهم!.

«معشار» : بمعنى واحد إلى عشرة. البعض اعتبرها «عشر العشر» أيّ واحد إلى

٤٧٨

مائة ، ولكن أكثر كتب اللغة والتفاسير ذكرت المعنى الأوّل. وإن كان مثل تلك الأعداد لا يقصد بها التعداد ، وتستخدم للتقليل في مقابل سبعة وسبعين وألف وأمثالها التي تستخدم للتكثير ، وبذا يكون المعنى المقصود من الآية ، إنّنا دمّرنا عصاة أقوياء لا يمتلك هؤلاء إلّا جزءا صغيرا من قدرتهم.

وقد ورد نظير هذا المعنى في آيات كثيرة من آيات القرآن الكريم ، من جملتها ما ورد في الآية (٦) من سورة الأنعام (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ). وكذا ورد نظير هذا المعنى في الآيات ٢١ ـ المؤمن ، ٩ ـ الروم.

لفظة «نكير» من مادّة «نكر» والإنكار ضدّ العرفان ، والمقصود أنّ إنكار الله هو تلك المجازاة والعذاب الصادر عنه تعالى (١).

* * *

__________________

(١) ـ بعض المفسّرين احتملوا تفسيرا آخر لهذه الآية ، وهو أنّ المقصود من (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) وهو عشر الآيات التي أنزلناها على مشركي قريش لإتمام الحجّة عليهم ، لم ننزّله على الأقوام السابقين ، فإذا كان العذاب الذي عذّبناهم به بتلك الشدّة ، فما بالك بمصير مشركي قريش الذين نالهم عشرة أضعاف الآيات لإتمام الحجّة! ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب (وبناء على التّفسير الأوّل فإنّه من أربعة ضمائر موجودة في الآية ، يعود الضميران الأوّل والثّاني على كفّار قريش ، والضمير الثالث والرابع على الكفّار السالفين ، أمّا بناء على التّفسير الثّاني فإنّ الضمير الأوّل يعود على كفّار قريش ، والثّاني على الكفّار السالفين ، والثالث على كفّار قريش والرابع على الكفّار السابقين ـ تأمّل).

٤٧٩

الآية

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦))

التّفسير

الثّورة الفكرية أساس لأيّ ثورة أصيلة :

في هذا المقطع من الآيات والآيات التالية ، والتي تشكّل أواخر سورة سبأ المباركة ، يؤمر الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة اخرى بدعوة هؤلاء بالأدلّة المختلفة ليؤمنوا بالحقّ ، ويرجعوا عن ضلالهم ، وكما مرّ في البحوث السابقة فقد خوطب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله خمس مرّات بأن قيل له (قل ...).

ففي الآية الاولى إشارة إلى اللبنة الأساسية في كلّ التحوّلات والتبدلات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والثقافية ، فتقول وبجمل قصيرة وعميقة المعنى (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ).

كلمات وتعبيرات هذه الآية يشير كلّ منها إلى موضوع هامّ ، نجملها في عشرة

٤٨٠