الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-51-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١٠

الاضطراب عاما ، إلى أن يصدر عن الحكيم المتعالي أمره بخصوص المتأهّلين للشفاعة.

هنا وحينما يتواجه الفريقان ويتساءلان ، (أو أنّ المذنبين يسألون الشافعين) (قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) فيجيبونهم : (قالُوا : الْحَقَ) ، وما الحقّ إلّا جواز الشفاعة لمن لم يقطعوا ارتباطهم تماما مع الله ، لا للذين قطعوا كلّ حلقات الارتباط ، وأضحوا غرباء عن ورسوله وأحبّائه.

وتضيف الآية في الختام (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) وهذه العبارة متمّمة لما قاله «الشفعاء» ، حيث يقولون : لأنّ الله عليّ وكبير فأي أمر يصدره هو عين الحقّ ، وكلّ حقّ ينطبق مع أوامره.

ما عرضناه هو أقرب تفسير يتساوق وينسجم مع تعابير الآية ، وللمفسّرين بهذا الخصوص تفسيرات اخرى ، والعجيب أنّ بعضها لم يأخذ بنظر الإعتبار الترابط بين صدر الآية وذيلها وما قبلها وما بعدها.

في الآية التالية يلج القرآن الكريم طريقا آخر لإبطال عقائد المشركين ، ويجعل مسألة «الرازقية» عنوانا بعد طرحه لمسألة «الخالقية» التي مرّت معنا في الآيات السابقة. وهذا الدليل ـ أيضا ـ يطرحه القرآن بصيغة السؤال والجواب من أجل إيقاظ وجدان هؤلاء والفاتهم إلى اشتباههم من خلال تثوير الجواب في ذواتهم.

يقول تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

بديهي أن لا أحد منهم يستطيع القول بأنّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي التي تنزل المطر من السماء ، أو تنبت النباتات في الأرض ، أو تسخّر المنابع الأرضية والسماوية لنا.

الجميل أنّه ـ بدون انتظار الجواب منهم ـ يردف تعالى قائلا : (قُلِ اللهُ).

قل الله الذي هو منبع كلّ هذه البركات ، أي أنّ الأمر واضح إلى درجة لا يحتاج

٤٤١

إلى جواب من طرف آخر ، بل إنّ للسائل والمجيب رأيا واحدا ، لأنّ المشركين يعتقدون بأنّ الله هو الخالق والرازق ، والأصنام لها مقام الشفاعة فقط.

من الجدير بالملاحظة ـ أيضا ـ أنّ الأرزاق التي تصل إلى الناس من السماء ليست محصورة بالغيث ، بل إنّ النور والحرارة الصادرة عن الشمس ، والهواء الموجود في جوّ الأرض ، هي الاخرى لا تقلّ أهميّة عن قطرات المطر.

كما أنّ بركات الأرض كذلك ، ليست محصورة في النباتات ، بل إنّ المنابع المائية تحت سطح الأرض ، والمعادن المختلفة التي كانت معروفة في ذلك الوقت والتي عرفت بعد مرور الزمان تندرج تحت هذا العنوان أيضا.

آخر الآية تشير إلى موضوع يمكنه أن يكون أساسا لدليل واقعي ومتوائم مع غاية الأدب والإنصاف ، بطريقة تستنزل الطرف المقابل من مركب الغرور والعناد الذي يمتطيه ، وتدفعه إلى التفكّر والتأمّل ، يقول تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١).

وهذا إشارة إلى : أنّ عقيدتنا وعقيدتكم متضادّتان ، وعليه ـ بناء على استحالة الجمع بين النقيضين ـ فلا يمكن أن تكون الدعوتان على حقّ ، لذا فمن المحتّم أن يكون أحد الفريقين أهل هدى ، والثّاني أسير الضلال.

والآن عليكم أن تفكّروا في أيّ الفئتين على هدى ، وأيّهما على ضلال؟ .. انظروا إلى علامات وخصائص كلّ منهما ، ومدى تطابقها مع علامات الهدى والضلال.

وهذا أحد أفضل أساليب المناظرة والبحث ، بأن يضع الطرف الآخر في حالة من التفكّر والتفاعل ، وما يتوهّمه البعض أنّ ذلك نوع من التقيّة فهو منتهى الاشتباه.

الملفت للنظر هو ذكر «على» من «الهدى» و «في» مع «الضلال» ، إشارة إلى أنّ

__________________

(١) هذه الجملة تقديرا تعود إلى جملتين كما يلي «وانّا لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وإنّكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» (مجمع البيان ، مجلّد ٧ ، ص ٣٨٨).

٤٤٢

المهتدين كأنّهم يركبون مركبا سريعا ، أو يستعلون منارا عاليا ويتسلّطون على كلّ شيء ، في حال كون الضالّين مغمورين في ظلمة جهلهم.

ومن الجدير بالملاحظة كذلك هو أنّه تعالى تحدّث عن «الهدى» أوّلا ثمّ «الضلال» ، وذلك أنّه قال : «إنّا» في بداية الجملة أوّلا ، ثمّ قال «إيّاكم» ، لتكون تلميحا إلى هدى الفريق الأوّل ، وضلالة الفريق الثاني.

ورغم أنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ وصف «المبين» يرتبط فقط (بالضلال) ، بلحاظ أنّ الضلال أنواع وضلال الشرك أوضحها. ولكن يحتمل أيضا أن يكون هذا الوصف للهدى والضلال على حدّ سواء ، لأنّ «الصفة» في مثل هذه الموارد لا تتكرّر لتكون أكثر بلاغة ، وعليه فيكون (الهدى) مبنيا و (الضلال) مبنيا ، كما ورد في كثير من آيات القرآن (١).

وتستمرّ الآية التي بعدها بالاستدلال بشكل آخر ـ ولكن بنفس النمط المنصف الذي يستنزل الخصم من مركب العناد والغرور. يقول تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

والعجيب هنا أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مأمور باستعمال تعبير «جرم» فيما يخصّه ، وتعبير «أعمال» فيما يخصّ الطرف الآخر ، وبذا تتّضح حقيقة أنّ كلّ شخص مسئول أن يعطي تفسيرا لأعماله وأفعاله ، لأنّ نتائج أعمال أي إنسان تعود عليه ، حسنها وقبيحها ، وفي الضمن إشارة لطيفة إلى إنّنا إنّما نصرّ على إرشادكم وهدايتكم ، لا لأنّ ذنوبكم تقيّد في حسابنا ، ولا لأنّ شرّكم يضرّ بنا ، نحن نصرّ على ذلك بدافع الغيرة عليكم وطلبا للحقّ.

الآية التالية ـ في الحقيقة ـ توضيح لنتيجة الآيتين السابقتين ، فبعد أن نبّه إلى أنّ أحد الفريقين على الحقّ والآخر على الباطل ، وإلى أنّ كلّا منهما مسئول عن

__________________

(١) راجع الآيات التالية : النمل : ١ ، النور : ١٢ ، هود : ٦ ، القصص : ٢ ، النمل : ٧٩.

٤٤٣

أعماله ، انتقل إلى توضيح كيفية التحقّق من وضع الجميع ، والتفريق بين الحقّ والباطل ومجازاة كلّ فريق طبق مسئوليته ، فيقول تعالى ، قل لهم بأنّ الله سوف يجمعنا في يوم البعث ، ويحكم بيننا بالحقّ ، ويفصل بعضنا عن بعض ، حتّى يعرف المهتدون من الضالّين ، ويبلغ كلّ فريق بنتائج أعماله. (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ).

وإذا كنتم اليوم ترون أنّكم مخلوطون بعضكم البعض ، وكلّا يدّعي بأنّه على الحقّ وبأنّه من أهل النجاة ، فإنّ هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد ، ولا بدّ أن يأتي يوم التفريق بين الصفوف. فربوبية الله اقتضت فصل «الطيب» من «الخبيث» و «الخالص» من «المشوب» و «الحقّ» عن «الباطل» في النهاية. ويستقرّ كلّ منهما في مكانه اللائق.

فكّروا الآن ماذا ستعملون في ذلك اليوم؟ وفي أي صفّ ستقفون؟ وهل أحضرتم إجابة لمساءلة الله في ذلك اليوم؟.

وفي آخر الآية يضيف ليؤكّد حتمية ذلك التفريق فيقول : (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ).

هذان الاسمان ـ وهما من أسماء الله الحسنى ـ أحدهما يشير إلى قدرة الله تعالى على عملية فصل الصفوف ، والآخر إلى علمه اللامتناهي. إذ أنّ عملية تفريق صفوف الحقّ عن الباطل لا يمكن تحقّقها بدون هاتين الصفتين. واستخدام كلمة «الربّ» في الآية أعلاه إشارة إلى أنّ الله هو المالك والمربّي للجميع ، وذلك ممّا يقتضي أن يكون برنامج مثل ذلك اليوم معدّا ، وفي الحقيقة هي إشارة لطيفة إلى إحدى دلائل «المعاد».

لفظة «فتح» ، كما يشير الراغب في مفرداته «الفتح إزالة الإغلاق والإشكال ، وذلك ضربان : أحدهما يدرك بالبصر كفتح الباب ونحوه ، وكفتح القفل ، والغلق والمتاع. والثّاني : يدرك بالبصيرة كفتح الهم وهو إزالة الغمّ ، وذلك ضروب : أحدها : في الأمور الدنيوية كغمّ يفرج وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه ، والثاني : فتح

٤٤٤

المستغلق من العلوم ، ... إلى أن يقول : و «فتح القضيّة فتاحا» فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها». وعليه فإنّ استخدام هذه المفردة هنا لأنّ الحكم والقضاء يتمّ أيضا هناك ، فضلا عن الفصل والتفريق بينهما الذي هو أحد معاني كلمة «فتح» ـ ومجازاة كلّ بما يستحق.

الجدير بالملاحظة ، هو أنّ بعض الرّوايات أشارت إلى ذكر «يا فتّاح» في الأدعية لحلّ بعض المعضلات ، لأنّ هذا الاسم الإلهي العظيم وهو بصيغة المبالغة من الفتح ـ يدلّل على قدرة الله على حلّ أي مشاكل ورفع أي حسرة وغمّ ، وتهيئة أسباب أي فتح ونصر ، وفي الواقع فإنّه هو وحده (الفتّاح) ، ومفتاح كلّ الأبواب المغلقة في يد قدرته تعالى.

في الآية الأخيرة من هذه الآيات والتي هي عبارة عن الأمر الخامس للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يعود القرآن إلى الحديث مرّة اخرى في مسألة التوحيد التي ابتدأ بها ليختمه بها ، يقول تعالى : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ).

فما هي قيمة هؤلاء وقابلياتهم؟ فإن كان مقصودكم حفنة الحجر والخشب الجامدة الميتة. فإنّ ذلك لممّا يدعو إلى الخجل ويدلّل على سوء التوفيق أن تتوهّموا تشابه أحقر الموجودات ـ وهي الجمادات ممّا صنعت أيديكم ـ مع الله تعالى. وإن اعتقدتم بأنّها تمثّل الأرواح والملائكة فالمصيبة أعظم ، لأنّ هؤلاء أيضا مخلوقات له سبحانه وتعالى ، ومنفذة لأوامره.

لذا فبعد هذه الجملة مباشرة ، وبكلمة واحدة يشطب على هذه الأباطيل فيقول : (لَّا) فهذه الأشياء لا تستحقّ أن تعبد أبدا وهذه الأوهام والتصورات ليس لها شيء من الواقعية ، فإلى متى تسلكون هذه الطريقة الخاطئة.

وكلمة «كلّا» مع صغرها استبطنت كلّ هذه المعاني.

ثمّ لأجل تأكيد وتثبيت هذا المعنى يقول مختتما الحديث (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فعزّته وقدرته الخارقة ، تقتضي الدخول في حريم ربوبيته ، وحكمته

٤٤٥

تقتضي توجيه هذه القدرة في محلّها.

نعم ، فإنّ امتلاك هذه الصفات علامة كونه واجب الوجود ، وواجب الوجود وجود لا نهاية له ولا حدّ ، وغير قابل للتعدّد ، ولا شريك له ولا شبيه ، لأنّ أي تعدّد له يعني حدّه وإمكانيته ، بينما «الوجود اللامتناهي» دائما وأبدا واحد لا غير «تأمّل».

* * *

بحث

طريق تسخير القلوب :

كثيرا ما يلاحظ أفراد فضلاء وعلى مستوى من العلم والمعرفة ، لا يمكنهم النفوذ في أفكار الآخرين ، لعدم اطّلاعهم على الفنون الخاصّة بالبحث والاستدلال ، وعدم رعايتهم للجوانب النفسية ، على عكس البعض الآخر الذين ليسوا على وفرة من العلم ، إلّا أنّهم موفّقين من ناحية جذب القلوب وتسخيرها والنفوذ في أفكار الآخرين.

والعلّة الأساسية لذلك هي أنّ طريقة البحث ، وأسلوب التعامل مع الطرف المقابل يجب أن تكون مقرونة بأصول وقواعد تتّسق مع الخلق والروح ، فلا تستثار الجوانب السلبية في الطرف المقابل ، كي لا يندفع إلى العناد والإصرار ، إذ أنّ مراعاة الجانب النفسي ستؤدّي إلى إيقاظ وجدانه وإثارة روح البحث عن الحقيقة وإحيائها فيه.

والمهمّ هنا أن نعلم أنّ الإنسان ليس فكرا وعقلا صرفا كي يستسلم أمام قدرة الاستدلال ، بل علاوة على ذلك فإنّ مجموعة من العواطف والأحاسيس التي تشكّل جانبا مهمّا من روحه مطوية في وجوده ، والتي يجب إشباعها بشكل صحيح ومعقول.

٤٤٦

والقرآن الكريم علّمنا كيفية مزج البحوث المنطقية بالأصول الأخلاقية في المحاورة ، حتّى تنفذ في أرواح الآخرين.

شرط التأثير والنفوذ في روح الطرف المقابل هو إحساس الطرف المقابل بأنّ المتحدّث يتحلّى بالصفات التالية :

١ ـ مؤمن بما يقول ، وما يقوله صادر من أعماقه.

٢ ـ هدفه من البحث طلب الحقّ ، وليس التفوّق والتعالي.

٣ ـ لا يقصد تحقير الطرف المقابل ، وإعلاء شأن نفسه.

٤ ـ ليس له مصلحة شخصية فيما يقول ، بل إنّ ما يقوله نابع من الإخلاص.

٥ ـ يكنّ الاحترام للطرف المقابل ، لذا فهو يستخدم الأدب والرقّة في تعبيراته.

٦ ـ لا يريد إثارة العناد لدى الطرف المقابل ، ويكتفي من البحث في موضوع بالمقدار الكافي ، دون الإصرار على إثبات أنّ الحقّ إلى جانبه. ليعرض حديثه.

٧ ـ منصف ، لا يفرط بالإنصاف أبدا ، حتّى وإن لم يراع الطرف المقابل هذه الأصول.

٨ ـ لا يقصد تحميل الآخرين أفكاره ، بل يرغب في إيجاد الدافع لدى الآخرين حتّى يوصلهم إلى الحقيقة بمنتهى الحرية.

الدقّة المتناهية في هذه الآيات ، وأسلوب تعامل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بأمر الله ـ مع المخالفين ، المقترن بكثير من اللفتات الجميلة ، تعتبر دليلا حيّا على ما ذكرناه. فهو أحيانا يصل إلى حدّ لا يشير بدقّة إلى المهتدي أو المضلّ في أحد الفريقين ، بل يقول : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حتّى يثير في الذهن التساؤل عن علامات الهدى أو الضلال في أي الفريقين.

أو يقول : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ).

طبعا لا يمكن إنكار أنّ كلّ ذلك بالنسبة إلى الأشخاص المؤمّل اهتداؤهم ، وإلّا فإنّ القرآن يتعامل مع الأعداء المعاندين والظلمة القساة الذين لا يؤمّل منهم القبول بذلك بطريقة اخرى. أسلوب محاورات الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام مع

٤٤٧

مخالفيهم يمثّل نموذجا حيّا في هذا المجال ، وكمثال على ذلك لاحظوا ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام بهذا الخصوص في كتب الحديث :

ففي أوائل كتاب توحيد المفضّل نقرأ «روى محمّد بن سنان قال : حدّثني المفضّل بن عمر قال : كنت ذات يوم بعد العصر جالسا في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر ، وأنا مفكّر فيما خصّ الله تعالى به سيّدنا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من الشرف والفضائل ، وما منحه وأعطاه وشرّفه وحباه ، ممّا لا يعرفه الجمهور من الامّة وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته ، وخطير مرتبته ، فإنّي لكذلك إذ أقبل «ابن أبي العوجاء ، «رجل ملحد معروف». إلى أن يذكر أحاديث هذا الرجل التي سمعها المفضّل ... إلى أن (قال المفضّل) : فلم أملك نفسي غضبا وغيظا وحنقا ، فقلت : يا عدوّ الله ألحدت في دين الله ، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم وصوّرك في أتمّ صورة ، ونقلك في أحوالك حتّى بلغ إلى حيث انتهيت. فلو تفكّرت في نفسك وصدقك ولطيف حسّك ، لوجدت دلائل الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة ، وشواهده جلّ وتقدّس في خلقك واضحة ، وبراهينه لك لائحة ، فقال:يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك فإن ثبتت لك حجّة تبعناك ، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك ، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق فما هكذا تخاطبنا ، ولا بمثل دليلك تجادل فينا ، ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت ، فما أفحش في خطابنا ، ولا تعدّى في جوابنا ، وإنّه الحليم الرزين ، العاقل الرصين ، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق ، يسمع كلامنا ، ويصغي إلينا ويتعرّف حجّتنا ، حتّى إذا استفرغنا ما عندنا ، وظننا أنّا قطعناه ، دحض حجّتنا بكلام يسير ، وخطاب قصير يلزمنا به الحجّة ، ويقطع العذر ، ولا نستطيع لجوابه ردّا ، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه» (١).

* * *

__________________

(١) توحيد المفضّل ـ أوائل الكتاب.

٤٤٨

الآيات

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))

التّفسير

الدّعوة العالمية :

الآية الاولى من هذه الآيات ، تتحدّث في نبوّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والآيات التي تليها تتحدّث حول الميعاد ، ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن التوحيد ، نصبح أمام مجموعة كاملة من بحوث العقائد ، تتناسب مع كون السورة مكية.

أشارت الآيات ابتداء إلى شمولية دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمومية نبوّته لجميع البشر فقالت : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

«كافّة» من مادّة «كفّ» وتعني الكفّ من يد الإنسان ، وبما أنّ للإنسان يقبض

٤٤٩

على الأشياء بكفّه تارة ويدفعها عنه بكفّه تارة اخرى ، فلذا تستخدم هذه الكلمة للقبض أحيانا ، وللمنع اخرى.

وقد احتمل المفسّرون الاحتمالين هنا ، الأوّل بمعنى «الجمع» وفي هذه الحالة يكون مفهوم الآية «إنّنا لم نرسلك إلّا لجميع الناس». أي عالمية دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. ويقوّي هذا المعنى روايات عديدة وردت في تفسير الآية من طرق الفريقين.

وعليه فمحتوى الآية شبيه بالآية (١) سورة الفرقان (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً). وكذلك الآية (١٩) من سورة الأنعام (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).

جاء في حديث عن ابن عبّاس ينقله المفسّرون بمناسبة هذه الآية ، أنّ عمومية دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكرت كواحدة من مفاخره العظيمة.

فعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «أعطيت خمسا ولا أقول فخرا ، بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأحلّ لي المغنم ولا يحلّ لأحد قبلي ، ونصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة فادّخرتها لامّتي يوم القيامة» (١).

وإن كان لم يرد في الحديث أعلاه تصريح بتفسير الآية ، فثمّة أحاديث اخرى بهذا الخصوص ، إمّا أن تصرّح بأنّها في تفسير الآية ، أو يرد فيها تعبير «للناس كافّة» الذي ورد في نفس الآية (٢). وجميعها تدلّل على أنّ مقصود الآية أعلاه ، هو عالمية دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وذكر للآية تفسير آخر مأخوذ من المعنى الثّاني لكلمة «كفّ» وهو (المنع) ، وطبقا لهذا التّفسير تكون «كافّة» صفة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) ويكون المقصود أنّ الله

__________________

(١) تفسير مجمع التبيان ، مجلّد ٨ ، ص ٣٩١.

(٢) انظر تفسير نور الثقلين ، مجلّد ٤ ، ص ٢٥٥ و٢٥٦.

(٣) أحيانا تلحق (التاء) اسم الفاعل لتكون صيغة مبالغة لا علامة للتأنيث كما في «رواية».

٤٥٠

سبحانه وتعالى أرسل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كمانع ورادع وكافّ للناس عن الكفر والمعصية والذنوب ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب.

على كلّ حال ـ كما أنّ لكلّ الناس غريزة جلب النفع ودفع الضرر ـ فقد كان للرسل أيضا مقام «البشارة» و «الإنذار». لكي يوظّفوا هاتين الغريزتين ويحرّكوهما ، ولكن أكثر المغفّلين الجهّال ـ بدون الالتفات إلى مصيرهم ـ ينهضون للوقوف في وجههم ويتنكّرون تلك المواهب الإلهية العظيمة.

وبناء على ما أشارت إليه الآيات السابقة من أنّ الله سبحانه وتعالى يجمع الناس ويحكم بينهم تورد هذه الآية سؤال منكري المعاد كما يلي : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

لقد طرح هذا السؤال من قبل منكري المعاد على الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأنبياء الآخرين مرارا ، حينا لفهم وإدراك هذا المطلب ، وأغلب الأحيان للاستهزاء والسخرية من قبيل : أين هذه القيامة التي تؤكّدون على ذكرها مرارا وتكرارا ، لو كانت حقّا فقولوا متى ستأتي؟ إشارة منهم إلى أنّ الإنسان الصادق في إخباره يجب أن يعلم بجميع جزئيات الموضوع الذي يخبر عنه.

ولكن القرآن الكريم يمتنع دائما عن الإجابة الصريحة على هذا السؤال وتعيين زمان وقوع البعث ، ويؤكّد أنّ هذه الأمور هي من علم الله الخاصّ به سبحانه وتعالى ، وليس لأحد غيره الاطلاع عليها.

لذا فقد تكرّر في الآية التي بعدها ، هذا المعنى بعبارة اخرى ، يقول تعالى : (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ).

إنّ إخفاء تأريخ قيام الساعة ـ حتّى على شخص الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما أسلفنا ـ لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لعباده نوعا من حرية العمل مقترنة بحالة من التهيّؤ الدائم ، لأنّه لو كان تأريخ قيام القيامة معلوما فإنّ الجميع سيغطّون في الغفلة والغرور والجهل حينما يكون بعيدا عنهم ، أمّا حين اقترابه منهم فستكون أعمالهم

٤٥١

ذات جنبة اضطرارية ، وفي كلتا الحالتين تتحجّم الأهداف التربوية للإنسان ، لذا بقي تأريخ القيامة مكتوما ، كما هو الحال بالنسبة إلى «ليلة القدر» تلك الليلة التي هي خير من ألف شهر ، أو تاريخ قيام المهدي عليه‌السلام ، وعبّر عن ذلك المعنى بلطف ما ورد في الآية (١٥) من سورة طه (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى).

أمّا أولئك الذين يتصوّرون أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يجب أن يكون على علم بالتأريخ الدقيق ليوم القيامة لأنّه يخبر عنها ، فإنّ ذلك غاية الاشتباه ، ودليل على عدم معرفتهم بوظيفة النبوّة ، فالنّبي مكلّف بالإبلاغ والبشارة والإنذار ، أمّا مسألة القيامة فمرتبطة بالله سبحانه وتعالى ، وهو وحده الذي يعلم تمام تفاصيلها ، وما يراه الله لازما لأغراض تربوية ، أطلع عليه الرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

هنا يثار سؤال ، وهو أنّ القرآن الكريم في مقام تهديد المخالفين يقول : (لا تَسْتَأْخِرُونَ) ولكن لماذا يقول أيضا : (لا تَسْتَقْدِمُونَ)؟ فما هو تأثير ذلك في هدف القرآن.

للإجابة يجب الالتفات إلى نكتتين :

الاولى : أن ذكر ذينك الإثنين معا إشارة إلى قطعية ودقّة تأريخ أي أمر ، تماما كما تقول : «فلان قطعي الموعد ، وليس لديه تقديم أو تأخير».

الثّانية : أنّ جمعا من الكفّار المعاندين يلحّون على الأنبياء دائما ، بقولهم : لماذا لا تأتي القيامة؟ وبتعبير آخر ، كانوا يستعجلون ذلك الأمر سواء كان ذلك من قبيل الاستهزاء أو غير ذلك. والقرآن يقول لهم : «لا تستعجلوا فإنّ تأريخ ذلك اليوم هو عينه الذي قرّره الله سبحانه وتعالى».

* * *

٤٥٢

الآيات

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣))

التّفسير

لمناسبة البحث الوارد في الآيات السابقة ، حول مواقف المشركين إزاء مسألة المعاد ، تعرّج هذه الآيات إلى تصوير بعض فصول المعاد المؤلمة لهؤلاء المشركين كي يقفوا على خاتمة أعمالهم.

٤٥٣

أوّلا ، يقول تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ). أي ولا بالكتب السماوية السابقة.

كلمة «لن» للنفي الأبدي ، وعليه فهم يريدون القول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انّك حتّى لو بقيت تدعونا للإيمان إلى الأبد فلن نؤمن لك ، وهذا دليل على عنادهم ، بحيث أنّهم صمّموا على موقفهم إلى الأبد ، في حين أنّ من يطلب الحقّ ويسعى له ، إذا لم يقتنع بدليل ما لا يمكنه أن ينكر جميع الأدلّة الممكن ظهورها مستقبلا قبل أن يسمعها ، فيقول : إنّي أردّ جميع الأدلّة الأخرى أيضا.

أمّا من المقصود بـ «الذين كفروا»؟ فقد أشار جمع من المفسّرين إلى أنّهم «المشركون» ، وبعضهم أشار إلى أنّهم «اليهود وأهل الكتاب» ، ولكن القرائن الواردة في الآيات اللاحقة ، والتي تتحدّث عن الشرك ، تدلّل على أنّ المقصود هم المشركون.

والمقصود من «الذي بين يديه» هو تلك الكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن على أنبياء سابقين ، وقد ورد هذا التعبير في كثير من آيات القرآن مشيرا إلى هذا المعنى ـ خصوصا بعد ذكر القرآن ـ وما احتمله البعض من أنّ المقصود منه هو «المعاد» أو «محتوى القرآن» فيبدو بعيدا جدّا.

على كلّ حال فإنّ إنكار الإيمان بكتب الأنبياء السابقين ، يحتمل أن يكون المقصود به. نفي نبوّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال نفي الكتب السماوية الاخرى ، باعتبار أنّ القرآن أكّد على موضوع ورود دلائل على نبوّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة والإنجيل ، ولهذا يقولون : نحن لا نؤمن لا بهذا الكتاب ولا بالكتب التي سبقته.

ثمّ تنتقل إلى الحديث حول وضع هؤلاء في القيامة من خلال مخاطبة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ

٤٥٤

إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) (١).

ومرّة اخرى يستفاد من الآية أعلاه أنّ من أهمّ مصاديق «الظلم» هو «الشرك والكفر».

التعبير «عند ربّهم» إشارة إلى أنّهم حاضرون بين يدي مالكهم وربّهم ، وما أكثر وأشدّ خجلا من أن يكون الإنسان حاضرا بين يدي من كفر به ، في حين أنّ كلّ وجوده غارق بنعمه.

في حين أنّ «المستضعفين» الذين اتّبعوا بجهلهم «المستكبرين» وهم الذين سلكوا طريق الغرور والتسلّط على الآخرين ورسموا لهم منهجهم الشيطاني ، هناك : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ).

إنّهم يريدون بذلك إلقاء مسئولية ذنوبهم على عاتق هؤلاء «المستكبرين» ، مع أنّهم لم يكونوا حاضرين للتعامل معهم بمثل هذه القاطعية في دار الدنيا ، لأنّ الضعف والخور والذلّة كانت حاكمة على وجودهم ، وقد فقدوا حريتهم ، أمّا هناك وبعد أن تبعثرت تلك المفاهيم الطبقية التي كانت سائدة في دار الدنيا ، وانكشفت نتائج أعمال الجميع ، فهم يقفون وجها لوجه مقابل هؤلاء ويتحدّثون بصراحة ويتلاومون معهم.

لكن «المستكبرين» لا يبقون على صمتهم بل (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ). كلّا ، فلسنا بمسؤولين ، فمع امتلاككم حرية الإرادة ، استسلمتم لأحاديثنا الباطلة ، وكفرتم وألحدتم متناسين أحاديث الأنبياء المنطقية ، (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ).

صحيح أنّ المستكبرين ارتكبوا ذنبا كبيرا بوسوستهم ، ولكن حديثهم الذي تذكره الآية الكريمة له حقيقة أيضا ، حيث أنّ المتملّقين لم يكن عليهم أن يصمّوا

__________________

(١) (يرجع) : تأتي كفعل لازم وكفعل متعدّي ، وقد وردت هنا بالحالة الثّانية لتعطي معنى العودة ، ومجيئها بعد «بعضهم إلى بعض» معناه في النتيجة بمعنى «مفاعلة».

٤٥٥

أسماعهم وأبصارهم ويلهثوا وراءهم ، وإنّما عليهم أيضا مسئولية ذنوبهم.

ولكن المستضعفين لا يقتنعون بهذا الجواب ، ويعاودون القول مرّة اخرى لإثبات جرم المستكبرين : (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ، بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً).

نعم ، فأنتم الذين لم تكفوا عن بثّ السموم ، ولم تفرطوا بأي فرصة من الليل أو النهار من أجل تحقيق أهدافكم المشؤومة ، فصحيح أنّنا كنّا أحرارا في القبول بذلك ، وبذا نكون مقصّرين وجناة ، ولكن باعتباركم عامل الفساد فأنتم مسئولون ومجرمون ، بل إنّكم واضعو حجر الأساس لذلك ، خاصّة وأنّكم كنتم تتحدّثون معنا دائما من موقع القدرة والسلطة ، (التعبير بـ «تأمروننا» شاهد على هذا المعنى).

بديهي أنّ المستكبرين لا يملكون جوابا لهذا القول ، ولا يمكنهم إنكار جرمهم الكبير ذاك ، لذا فإنّ الفريقين يندمون على ما قدّمت أيديهم ، المستكبرون على إضلالهم للآخرين ، والمستضعفون على إيمانهم وقبولهم بتلك الأباطيل المشؤومة ، ولكن لكي لا يفتضحوا أكثر فانّهم يكتمون الندم حينما يواجهون العذاب الإلهي .. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا).

فمع أنّ الكتمان لا ينفع في «يوم البروز» هناك ، ومع عدم إمكانية إخفاء شيء ، إلّا أنّهم ـ جريا على ما تعوّدوه في الدنيا من قبل ـ يتوهّمون أنّ في استطاعتهم كتمان حالتهم ، فيلجئون إلى ذلك.

نعم ، فهم في الدنيا حينما يلتفتون إلى اشتباههم ويندمون لم يكونوا يمتلكون الشجاعة لإظهار ندمهم الذي هو أوّل طريق التوبة وإعادة النظر ، وتلك هي الخصلة الأخلاقية الخاصّة بهم والتي يمارسونها في الآخرة أيضا. ولكن ما الفائدة؟

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون ذلك الكتمان للندامة بسبب الرهبة الشديدة من مشاهدة العذاب الإلهي ، وانحباس أنفاسهم في صدورهم وانعقاد ألسنتهم

٤٥٦

نتيجة الأغلال التي غلّت بها رقابهم والسلاسل التي لفّتهم. مع أنّهم يطلقون صرخاتهم في مواقف اخرى من القيامة (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (١).

وقال آخرون : إن «أسرّوا» بمعنى «أظهروا» بناء على أنّ هذه اللفظة تستعمل لمعنيين متضادّين في اللغة العربية ، ولكن من ملاحظة الموارد التي استعملت فيها هذه اللفظة في القرآن وغير القرآن ، يبدو هذا المعنى مستبعدا ، بلحاظ أنّ «سرّ» عادة تستخدم للإشارة إلى ما يقابل «العلن». وقد ضعّف الراغب هذا المعنى أيضا مع أنّ بعض علماء اللغة أشار إلى كلا المعنيين (٢).

وعلى كلّ حال ، فإنّ هؤلاء قد وجدوا نتائج أعمالهم (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

نعم ، فأعمال وجنايات الكفّار والمجرمين هي التي أضحت قيودا وسلاسل تلفّ أعناقهم وأيديهم وأرجلهم ، لقد كانوا في هذه الدنيا أسارى هوى النفس والطمع والظلم والرغبة في المقام ، وفي يوم القيامة حيث تتجسّد الأعمال ، يظهر ذلك الأسر بشكل آخر ... إذن ، فالآية تشير أيضا إلى قضيّة تجسّم الأعمال التي أشرنا إليها مرارا. لأنّها تقول : (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وأي تعبير أكثر وضوحا وحيوية من ذلك التعبير عن تجسّم الأعمال.

التعبير بـ «الذين كفروا» يشير إلى أنّ فريقي الغاوين والمغويين المستضعفين وكلّ الكفّار يلقون ذلك المصير ، وعادة فإنّ ذكر ذلك الوصف هو إشارة إلى أنّ علّة عقابهم إنّما هي «كفرهم».

* * *

__________________

(١) الأنبياء ، ١٤.

(٢) انظر لسان العرب ذيل مادّة (سرّ) فهناك بحث مفصّل بهذا الخصوص مع اختلافات أهل اللغة والأدب ، مجلّد ٤ ، ص ٣٥٧.

٤٥٧

الآيات

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨))

التّفسير

الأموال والأولاد ليست دليلا على القرب من الله ..

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة في الغاوين من المستكبرين ، فإنّ جانبا آخر من هذا المبحث تعكسه الآيات أعلاه بطريقة اخرى ، وتقدّم المواساة أيضا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ضمن إشارتها بأن لا تعجب إذا خالفك المخالفون ، فإنّ المستكبرين

٤٥٨

المرفّهين طبعوا على مخالفة أنبياء الحقّ ، فتقول الآية المباركة : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

«نذير» من «الإنذار» وهو الإخبار الذي فيه تخويف ، وإشارة إلى أنبياء الله الذين ينذرون الناس من عذاب الله في قبال الانحرافات والظلامات والذنوب والفساد.

«مترفوها» جمع «مترف» من مادّة «ترف» بمعنى «التوسّع في النعمة» و (المترف) الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش. وأترفته النعمة أي أطغته (١).

نعم ، فإنّ هذه الفئة المترفة الغافلة الطاغية كانت الصف المتقدّم من مخالفي الأنبياء عادة ، لأنّهم يرون أنّ تعليمات الأنبياء تتضارب مع أمانيهم وأهوائهم من جهة ، ولأنّ الأنبياء يدافعون عن حقوق المحرومين التي اغتصبها هؤلاء المترفين ونالوا هذا النعيم ، من جهة ثانية ، ولأنّهم دائما يستخدمون عامل التسلّط لحماية مصالحهم وأموالهم من جهة ثالثة ، والأنبياء يقفون قبالهم في كلّ هذه الحالات ، لذا فإنّهم يهبّون فورا لمخالفة الأنبياء.

العجيب أنّهم لا يشيرون إلى حكم أو فقرة خاصّة ليخالفوها ، بل إنّهم فورا ومرّة واحدة يقولون (نحن كافرون بكلّ ما بعثتم به) ولن نخطوا معكم خطوة واحدة ، وهذا بعينه أحسن دليل على عنادهم وتعصّبهم إزاء الحقّ.

وقد كشف القرآن في آيات مختلفة عن مسألة مهمّة ، وهو أنّ المحرومين هم أوّل من يلبّي دعوة الأنبياء ، والمتنّعمين المغرورين أيضا هم أوّل مجموعة ترفع لواء المخالفة.

ورغم أنّ منكري دعوة الأنبياء لا ينحصرون في هذه المجموعة فقط ، ولكنّهم غالبا عامل الفساد الأوّل والدعاة إلى الشرك والخرافات ، ويسعون دوما إلى إكراه

__________________

(١) لسان العرب ، مجلّد ٩ ، ص ١٧.

٤٥٩

الآخرين لسلوك طريقهم. وردّ هذا المعنى أيضا في الآيات ٢٣ ـ الزخرف ، و١١٦ ـ هود ، و٣٣ ـ المؤمنون.

هذه المجموعة لم تقف فقط في وجه الأنبياء فحسب ، بل قبال أيّة خطوة إصلاحية من قبل أي عالم أو مصلح أو مفكّر مجاهد ، فقد كانوا السبّاقين للمخالفة ، ولا يتورّعون في ارتكاب أيّة جريمة وتآمر ضدّ هؤلاء المصلحين.

تشير الآية التالية إلى المنطق الأجوف الذي يتمسّك به هؤلاء لإثبات أفضليتهم ولاستغفال العوام فتقول : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً).

إنّ الله يحبّنا ، فقد أعطانا المال الوفير ، والقوّة البشرية ، وذلك دليل على لطفه بحقّنا وإشارة إلى مقامنا وموقعنا عنده ، ولذلك لن نعاقب أبدا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)! فلو كنّا مطرودين من رحمته فلم سخّر لنا كلّ هذه النعم؟ الخلاصة ، إنّ وفرة النعيم في دنيانا دليل واضح على كونه كذلك آخرتنا!!

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون قولهم : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) دليلا على إنكارهم الكلّي للقيامة والعذاب. ولكن الآيات اللاحقة تدلّل على عدم قصد هذا المعنى ، بل المراد هو (القرب من الله بسبب الثروة التي يملكونها).

الآية التي بعدها تردّ بأرقى أسلوب على هذا المنطق الأجوف الخدّاع وتنسفه من الأساس ، وبطريق مخاطبة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تقول الآية الكريمة : قل لهم : إنّ ربّي يرزق من يشاء ويقدر لمن يشاء ، وذلك أيضا طبق مصالح مرتبطة بامتحان الخلق وبنظام حياة الإنسان ، وليس له أي ربط بقدر ومقام الإنسان عند الله سبحانه وتعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ).

وعليه فلا يجب اعتبار سعة الرزق دليلا على السعادة ، وقلّته على الشقاء.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). طبعا أكثر الجهّال المغفّلين هم كذلك ، وإلّا فإنّ هذا الأمر واضح للعارف.

ثمّ تتابع الآيات هذا المعنى بصراحة أكثر. تقول : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ

٤٦٠