الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-51-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١٠

الآيتان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))

التّفسير

هو المالك لكلّ شيء والعالم بكلّ شيء :

خمس سور من القرآن الكريم افتتحت «بحمد الله» ، وارتبط (الحمد) في ثلاثة منها بخلق السموات والأرض وهي (سبأ وفاطر والأنعام) بينما كان مقترنا في سورة الكهف بنزول القرآن على قلب الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجاء في سورة الفاتحة تعبيرا جامعا شاملا لكلّ هذه الاعتبارات (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). على كلّ حال ، الحمد والشكر لله تعالى في مطلع سورة سبأ هو في قبال مالكيته وحاكميته تعالى في الدنيا والآخرة.

يقول تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي

٣٨١

الْآخِرَةِ).

لذا فإنّ الحاكمية والمالكية في الدنيا والآخرة له سبحانه ، وكلّ موهبة ، وكلّ نعمة ، ومنفعة وبركة ، وكلّ خلقة سوية عجيبة مذهلة ، تتعلّق به تعالى ، ولذا فإنّ «الحمد» الذي حقيقته «الثناء على فعل اختياري حسن» كلّه يعود إليه تعالى ، وإذا كانت بعض المخلوقات تستحقّ الحمد والثناء ، فلأنّها شعاع من وجوده عزوجل ولأنّ أفعالها وصفاتها قبس من أفعاله وصفاته تعالى. وعليه فكلّ مدح وثناء يصدر من أحد على شيء في هذا العالم ، فإنّ مرجعه في النهاية إلى الله سبحانه وتعالى.

ثمّ يضيف تعالى قائلا : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

فقد اقتضت حكمته البالغة أن يخضع الكون لهذا النظام العجيب ، وأن يستقرّ ـ بعلمه وإحاطته ـ كلّ شيء في محلّه من الكون ، فيجد كلّ مخلوق ـ كلّ ما يحتاج إليه ـ في متناوله.

وقد تحدّث المفسّرون كثيرا في هذه الآية عن المقصود من الحمد والشكر في الآخرة ..

فذهب بعضهم : إنّ الآخرة وإن لم تكن دار تكليف ، إلّا أنّ عبّاد الرحمن الذين تسامت أرواحهم بعشق بارئهم هناك ، يشكرونه ويحمدونه وينتشون بلذّة خاصّة من ذلك.

وقال آخرون : إنّ أهل الجنّة يحمدونه على فضله ، وأهل النار يحمدونه على عدله.

وقيل : إنّ الإنسان ـ نتيجة وجود الحجب المختلفة على قلبه وعقله في الدنيا ـ لا يمكنه أن يحمد الله حمدا خالصا ، وعند ما ترتفع هذه الحجب يوم القيامة تتّضح مالكيته تعالى وهيمنته على عالم الوجود للجميع مصداقا لقوله تعالى (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وحينها تلهج الألسن بحمده والثناء عليه بكامل خلوص النيّة.

٣٨٢

وكذلك فإنّ الإنسان قد يغفل في هذه الدنيا فيحمد بعض المخلوقات ، متوهما استقلالها ، إلّا أنّه في الآخرة ، وحيث يتّضح ارتباط الكلّ به تعالى كارتباط أشعّة الشمس بقرصها ، فإنّ الإنسان لن يؤدّي الحمد والثناء إلّا لله سبحانه.

فضلا عن كلّ هذا ، فقد ورد مرارا في القرآن الكريم ـ أيضا ـ أنّ أصحاب الجنّة يحمدون الله حين دخولهم جنّات الخلد : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ). (١) (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). (٢)

على كلّ حال فإنّ هذا الحمد والثناء لا ينطلق من ألسنة الناس والملائكة فقط ، بل تسمع همهمة الحمد والتسبيح من كلّ ذرّة في عالم الوجود بإدراك العقل ، فليس من موجود إلّا ويحمده ويسبّحه تعالى.

تنتقل الآية التي بعدها إلى التوسّع في إظهار جانب من علم الله اللامحدود ، تناسبا مع وصف الآية السابقة له تعالى بالحكيم والخبير ، فيقول سبحانه : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها).

نعم ، فقد أحاط علما بكلّ حبّة مطر وقطرة ماء تنفذ وتلج في أعماق الأرض حتّى إذا وصلت طبقة صلدة تجمّعت هناك وصارت ذخيرة للإنسان.

ويعلم بالبذور التي تنتقل على سطح الأرض بواسطة الريح أو الحشرات ، لتنبت في مكان ما وتصبح شجرة باسقة أو عشبا طريّا.

يعلم بجذور الأشجار عند توغلها في أعماق التربة بحثا عن الماء والغذاء.

يعلم بالموجات الكهربائية والغازات المختلفة ، بذرّات الهواء التي تنفذ في الأرض ، يعلم بالكائنات الحيّة التي تشقّ طريقها فيها ، ويعطيها الحياة.

وكذلك ، يعلم بالكنوز والدفائن وأجساد الموتى من الإنسان وغيره .. نعم إنّه

__________________

(١) فاطر ، ٣٤.

(٢) يونس ، ١٠

٣٨٣

مطّلع على كلّ هذا.

وكذلك فهو عارف وعالم بالنباتات التي تخرج من الأرض ، والناس الذين يبعثون منها ، بالعيون التي تفور بالماء منها ، بالغازات التي تتصاعد منها ، بالبراكين التي تلوّح بجحيمها ، بالحشرات التي تتّخذ أو كارا فيها ، وتخرج منها.

والخلاصة ، فهو عالم بكلّ الموجودات التي تلج الأرض وتخرج منها أعمّ ممّا نعلمه أو ما لا نعلمه.

ثمّ يضيف قائلا : (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها).

فهو يعلم بحبّات المطر ، وبأشعّة الشمس التي تنثر الحياة ، بأمواج الوحي والشرائع السماوية العظيمة ، وبالملائكة التي تهبط إلى الأرض لإبلاغ الرسالات أو أداء الأوامر الإلهيّة المختلفة. بالأشعة الكونية التي تدخل جو الأرض من الفضاء الخارجي ، بالشهب والذرّات المضطربة في الفضاء والتي تهوي نحو الأرض ، فهو تعالى محيط بهذا كلّه.

وكذلك فإنّه يعلم بأعمال العباد التي تعرج إلى السماء ، والملائكة التي تقفل صاعدة إلى السماء بعد أداء تكاليفها ، وبالشياطين الذين يرتقون إلى السماء لاستراق السمع ، وبفروع الأشجار التي تتطلّع برؤوسها إلى السماء ، وبالأبخرة التي تتصاعد من البحار إلى أعالي السماء لتتكاثف مكونة سحبا. وبالآهات التي تنطلق من قلب المظلوم متصاعدة إلى السماء ... نعم هو عالم بكلّ ذلك.

فهل هناك من مطّلع على كلّ ذلك غيره تعالى؟ وهل يمكن لعلوم جميع العلماء مجتمعة أن تحيط ولو بجزء من هذه المعلومات؟

وفي ختام الآية يضيف تعالى : (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).

لقد وصف الله تعالى نفسه بهاتين الصفتين إمّا لأجل أنّه من جملة الأمور التي تعرج إلى السماء أعمال العباد وأرواحهم فيشملها برحمته ...

أو لأنّ نزول البركات والعطايا السماوية تترشّح من رحمته ، والأعمال

٣٨٤

الصالحة المتصاعدة من العباد مشمولة بغفرانه بمقتضى (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

أو لكون «الرحمة» تشمل من يشكر هذه النعم ، و «الغفران» يشمل المقصّرين في ذلك.

والخلاصة : أنّ الآية أعلاه ، لها معان واسعة من جميع الوجوه ، ولا يجب حصر مؤدّاها في معنى واحد.

* * *

٣٨٥

الآيات

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥))

التّفسير

أقسم بالله لتأتينكم القيامة :

تتعرّض الآيات مورد البحث إلى موضع التوحيد وصفات الله في نفس الوقت الذي تهيء أرضيّة لموضوع المعاد ، لأنّ مشكلات (بحث المعاد) لا يمكن حلّها إلّا عن طريق العلم اللامتناهي للباريّ عزوجل ، كما سنرى.

لذا فإنّ الآيات مورد البحث تبدأ أوّلا بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ). فما هو إلّا كذب وافتراء ، بل إنّ القيامة لا تأتي أحدا من الناس.

٣٨٦

ويريدون بذلك الفكاك والتحرّر من قيود هذه الإعتقادات ، الحساب والكتاب والعدل والجزاء ، ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال.

ولكنّ القرآن بناء على وضوح أدلّة القيامة يخاطب الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بصورة حاسمة وفي معرف بيان النتيجة ، فيقول : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).

والتركيز على كلمة «ربّ» لأنّ القيامة في الأصل من شؤون الربوبية. فكيف يمكن أن يكون الله مالكا ومربيا للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي ، ثمّ يتخلّى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كلّ شيء ، فتكون حياتهم بلا هدف وخلقهم هباء وبلا معنى.

وقد ركّز القرآن في الآية السابعة من سورة التغابن أيضا على هذا الوصف ، فقال تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ).

وبما أنّ أحد إشكالات الكافرين بالمعاد ، هو شكّهم ـ من جانب ـ في إمكانية جمع وإعادة بناء أعضاء الإنسان الميّت بعد تبعثرها وتفسّخها في التراب. وكذلك ـ من جانب آخر ـ في إمكانية وجود من يمكنه النظر في جميع أعمال العباد التي عملوها في السرّ والعلن والظاهر والباطن ، لذا فإنّ الله تعالى يضيف في تتمّة الآية الكريمة (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١).

ولذا ، فلا يغيب عن علمه تبعثر ذرّات جسم الإنسان في التراب ، ولا اختلاطها بسائر الموجودات ، ولا حتّى حلولها في أبدان أناس آخرين عن طريق الغذاء ، ولا يشكّل مشكلة أمام إعادة بنائه من جديد .. وأعمالهم في هذه الدنيا تبقى محفوظة أيضا ، وإن تغيّر شكلها ، فهو سبحانه المحيط بها علما.

__________________

(١) «يعزب» : من مادة «عزوب» وتعني المتباعد في طلب الكلأ عن أهله ، يقال عزب يعزب ويعزب ثمّ اطلق على كلّ غائب ، يقال رجل عزب ، وامرأة عزبة إذا غاب عنها زوجها.

٣٨٧

وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيات الثالثة والرّابعة من سورة (ق) في قوله تعالى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ، قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ).

ولكن ما هو المقصود من «الكتاب المبين»؟

أغلب المفسّرين قالوا بأنّه «اللوح المحفوظ» ولكن السؤال هو : ما هو اللوح المحفوظ؟!

وكما ذكرنا سابقا فإنّ أقرب تفسير (للّوح المحفوظ) ، هو «لوح العلم الإلهي اللامتناهي» نعم في ذلك اللوح ضبط وقيّد كلّ شيء ، بدون أن يجد التغيير والتبديل طريقه إليه.

وعالم الوجود المترامي الأطراف ، هو الآخر انعكاس عن ذلك اللوح المحفوظ ، بلحاظ أنّ كلّ ذرّات وجودنا وكلّ أقوالنا وأفعالنا ، تبقى محفوظة فيه ، وإن كانت الظواهر تتغيّر ، لكنّها لا تخرج عن حدّها أبدا.

ثمّ يوضّح تعالى الهدف من قيام القيامة في آيتين ، أو بتعبير آخر إعطاء الدليل على لزوم مثل ذلك العالم بعد عالمنا الحالي لمنكري القيامة ، فيقول تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

فإن لم يجاز المؤمنين بصالح عملهم ثوابا ، أفلا يعني ذلك تعطيل أصل العدالة الذي هو أهم أصل من اصول الخلقة؟ وهل يبقى معنى لعدالة الله بدون ذلك المفهوم؟! في الوقت الذي نرى أنّ أغلب هؤلاء الأفراد الصالحين ، لا يتلقون جزاء أعمالهم الحسنة في هذه الدنيا أبدا ، إذن لا بدّ من عالم آخر لكي يتحقّق فيه هذا الأصل.

تقديم «المغفرة» على «الرزق الكريم» ربّما كان سببه : أنّ أشدّ ما يقلق المؤمنين هو الذنوب التي ارتكبوها ، لذا فإنّ الآية تطمئنهم بعرض المغفرة عليهم أوّلا ، فضلا عن أنّ من لم يغتسل بماء المغفرة الإلهية لن يكون أهلا (للرزق الكريم) والمقام

٣٨٨

الكريم!

(الرزق الكريم) يشمل كلّ رزق ذي قيمة ، ومفهوم ذلك واسع إلى درجة أنّه يشمل كلّ المواهب والعطايا الإلهية ، ومنها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وبتعبير آخر فإنّ «الجنّة» بكلّ نعمها المعنوية والماديّة جمعت في هذه الكلمة ، والبعض فسّر «الكريم» بأمرين : الجيد والخالي من المنغّصات ، ولكن يبدو أنّ مفهوم الكلمة أوسع من ذلك بكثير.

ثمّ تضيف الآية الكريمة التالية ، موضّحة نوعا آخر من العدالة فيما يخصّ عقاب المذنبين والمجرمين ، فيقول تعالى : إنّ الذين كذّبوا آياتنا وسعوا في إنكارها وإبطالها وتصوّروا أنّهم يستطيعون الخلاص من دائرة قدرتنا .. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ).

فهناك كان الحديث عن «الرزق الكريم» وهنا عن «الرجز الأليم».

«الرّجز» : في الأصل بمعنى الاضطراب وعدم القدرة على حفظ التوازن ، ومنه قيل «رجز البعير رجزا» فهو أرجز ، وناقة «رجزاء» إذا تقارب خطوها واضطرب لضعف فيها. وأجبرت على تقصير خطواتها لحفظ توازنها ، ثمّ أطلقت الكلمة على كلّ ذنب ورجس. كذلك فإنّ إطلاق كلمة «الرجز» على المقاطع الشعرية الخاصّة بالنزال في الحرب ، من باب قصر مقاطعها وتقاربها.

على كلّ حال فالمقصود من (الرجز) هنا ، أسوأ أنواع العذاب ـ الذي يتأكّد بإرداف كلمة «الأليم» أيضا وأنواع العقوبات البدنية والروحية الأليمة.

والتفت البعض إلى هذه النكتة ، وهي أنّ القرآن الكريم حين ذكر نعم أهل الجنّة لم يستعمل كلمة «من» ليدلّل على سعتها ، بينما جاءت هذه الكلمة عند ذكر العذاب لتكون دليلا على محدوديته النسبية ، ولتتضح رحمته تبارك وتعالى.

«سعوا» : من السعي ، بمعنى كلّ جهد وجدّ في أمر ، والمقصود منها هنا ، الجدّ

٣٨٩

والجهد في تكذيب وإنكار آيات الحقّ وصدّ الناس عن طريق الله سبحانه وتعالى.

معاجزين : من المعاجزة ، بمعنى معجّزين ، أي مثبّطين ، وفي مثل هذه الموارد تطلق على من يفرّ من شخص آخر بحيث لا يمكّنه من التسلّط عليه ، وبديهي أنّ هذا الوصف يستخدم للمجرمين لتوهمّهم الذي يظهرونه عمليا بهذا الاتّجاه ، وعملهم يشبه إلى حد كبير من يتصوّر أنّه يستطيع القيام بأيّة جناية يشاء ، ثمّ يستطيع الفرار من سلطة القدرة الإلهيّة!!.

* * *

٣٩٠

الآيات

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

التّفسير

العلماء يرون دعوتك إنّها حقّ :

كان الحديث في الآيات السابقة عن عمي البصائر ، المغفّلين الذين أنكروا المعاد مع كلّ تلك الدلائل القاطعة ، وسعوا سعيهم لتكذيب الآيات الإلهية ، وإضلال الآخرين.

٣٩١

وعلى هذا ، فإنّ الآيات مورد البحث ، تتحدّث عن العلماء والمفكّرين الذين صدّقوا بآيات الله وسعوا سعيهم لتشجيع الآخرين على التصديق بها ، يقول تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

فسّر بعض المفسّرين عبارة (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، بتلك المجموعة من علماء أهل الكتاب الذين يتّخذون موقف الخضوع والإقرار للحقّ عند مشاهدة آثار حقّانية القرآن الكريم.

وليس هناك مانع من اعتبار علماء أهل الكتاب أحد مصاديق الآية ، ولكن تحديدها بهم يفتقد إلى الدليل ، بل مع الالتفات إلى الفعل المضارع (يرى) وسعة مفهوم (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يتّضح شمول الآية لكلّ العلماء والمفكّرين في كلّ عصر وزمان ومكان.

وإذا فسّرت بكونها إشارة إلى «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام» ، كما في تفسير علي بن إبراهيم ، فإنّ ذلك توضيح وإشارة إلى أتمّ وأكمل مصاديق الآية.

نعم ، فأي عالم موضوعي وغير متعصّب إذا تأمّل في ما ورد في هذا الكتاب السماوي ، وتدبّر في معارفه العميقة ، وأحكامه المتينة ، ونصائحه الحكيمة ، ومواعظه المؤثّرة في الوجدان إلى قصصه التأريخية المشعّة بالعبرة ، وبحوثه العلمية الإعجازية ، فسيعلم بأنّها جميعا دليل على حقّانية هذه الآيات.

واليوم ، فإنّ هناك كتبا متنوّعة كتبها مفكّرون غربيون وشرقيون حول الإسلام والقرآن ، تحوي اعترافات ظاهرة على عظمة الإسلام وصدق الآية مورد البحث.

التعبير بـ «هو الحقّ» تعبير جامع ينطبق على جميع محتوى القرآن الكريم ، حيث أنّ «الحقّ» هو تلك الواقعة العينية والوجود الخارجي ، أي إنّ محتوى القرآن يتساوق وينسجم مع قوانين الخلق وحقائق الوجود وعالم الإنسانية.

٣٩٢

ولكونه كذلك فهو يهدي إلى صراط الله ، الله «العزيز» و «الحميد» أي أنّه تعالى الأهل لكلّ حمد وثناء وفي ذات الوقت فانّ قدرته غاية القدرة والغلبة ، وليس هو كأصحاب القدرة من البشر الذي يتعامل منطلقا من كونه على عرش القدرة بالدكتاتورية والظلم والتجاوز والتلاعب.

وقد جاء نظير هذا التعبير في الآية الاولى من سورة «إبراهيم» حيث قال جلّ من قائل : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

وواضح أنّ من كان مقتدرا وأهلا للحمد والثناء ، ومن هو عالم ومطّلع رحيم وعطوف ، من المحتّم أن يكون طريقه أكثر الطرق اطمئنان واستقامة. فمن يسلك طريقه إنّما يقترب من منبع القدرة وكلّ الأوصاف الحميدة.

ويعود تعالى إلى مسألة القيامة والبعث في الآية التي بعدها ، ويكمل البحوث السابقة بطريقة اخرى ، فيقول تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

يبدو أنّ إصرار ـ هؤلاء الكفّار ـ على إنكار مسألة المعاد يعتمد على أمرين : ـ الأوّل : توهمّهم أنّ المعاد الذي تحدّث عنه رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو «المعاد الجسماني» ، أمر يسهل الإشكال عليه والطعن فيه ، وأنّ بإمكانهم تنفير الناس منه فينكرونه بسهولة.

الثّاني : أنّ الإعتقاد بالمعاد ، أو حتّى القبول باحتماله ـ على كلّ حال ـ إنّما يفرض على الإنسان مسئوليات وتعهّدات ، ويضعه وجها لوجه أمام الحقّ ، وهذا ما اعتبره رؤوس الكفر خطرا حقيقيّا ، لذا فقد أصرّوا على إلغاء فكرة المعاد والجزاء الاخروي على الأعمال من أذهان الناس. فقالوا : أيمكن لهذه العظام المتفسّخة ، وهذه الذرّات المبعثرة ، التي تعصف بها الريح من كلّ جانب ، أن تجمع في يوم وتلبس ثوب الحياة من جديد؟

٣٩٣

واستخدامهم لكلمة (رجل) بصيغة النكرة في تعبيرهم عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقصد منه التحقير «وحاشاه».

ولكن فاتهم أنّنا في بدء الخليقة لم نكن إلّا أجزاء مبعثرة ، فكلّ قطرة ماء في أبداننا إنّما كانت قطرة في زاوية من بحر أو ينبوع ماء ، وكلّ ذرّة من مواد أجسامنا ، كانت في جانب من جوانب هذه الأرض المترامية ، وسيجمعها الله تبارك وتعالى في النهاية أيضا كما جمعها في البدء ، وهو على كلّ شيء قدير.

والعجيب أنّهم اعتبروا ذلك دليلا على كذب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو جنونه ، وحاشاه (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ).

وإلّا فكيف يمكن لرجل عاقل أو صادق أن يتفوّه بمثل هذا الحديث!!؟

ولكن القرآن يردّ عليهم بشكل حاسم قائلا : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ).

فأي ضلال أوضح من أن يرى منكر المعاد بامّ عينيه مثالا لهذا المعاد في عالم الطبيعة في كلّ عام بإحياء الأرض الميتة بالزرع.

المعاد الذي لو لا وجوده لما كان للحياة في هذا العالم أي معنى أو محتوى.

وأخيرا فإنكار المعاد مساو لإنكار قدرة وعدل وحكمة الله جلّ وعلا.

ولكن لماذا يؤكّد تعالى أنّهم الآن في العذاب والضلال؟

ذلك لأنّ الإنسان يواجه في حياته مشاكل وأحداثا لا يمكنه ـ بدون الإيمان بالآخرة ـ تحمّلها ، والحقيقة أنّ الحياة لو حدّت بهذه الأيّام القليلة من عمر الدنيا لكان تصوّر الموت بالنسبة لكلّ إنسان كابوسا مرعبا ، لهذا السبب نرى أنّ منكري المعاد في قلق دائم منغّص وعذاب أليم ، في حال المؤمنين بالمعاد يعتبرون الموت قنطرة إلى عالم البقاء ، ووسيلة لكسر القيود والتحرّر من سجن الدنيا.

نعم ، فالإيمان بالمعاد ، يغمر قلب الإنسان بالطمأنينة ، ويهوّن عليه المشكلات ، ويجعله أكثر قدرة على الإيثار والفداء والتضحية.

٣٩٤

أمّا الذين يرون المعاد ـ لجهلهم وكفرهم ـ دليلا على الكذب أو الجنون ، إنّما يأسرون أنفسهم في عذاب العمى ، والضلال البعيد.

ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبروا هذا العذاب إشارة إلى عذاب الآخرة ، ولكنّ ظاهر الآية يدلّل على أنّهم أسرى هذا العذاب والضلال الآن وفي هذه الدنيا.

ثمّ ينتقل القرآن الكريم لتقديم دليل آخر عن المعاد ، مقترن بتهديد الغافلين المعاندين فيقول تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

فإنّ هذه السماء العظيمة بكلّ عجائبها ، بكواكبها الثابتة والسيّارة ، وبالأنظمة التي تحكمها ، وكذلك الأرض بكلّ مدهشاتها وأنواع موجوداتها الحيّة ، وبركاتها ومواهبها ، لأوضح دليل على قدرة الخلّاق العظيم.

فهل أنّ القدير على كلّ هذه الأمور ، عاجز عن إعادة الإنسان بعد الموت إلى الحياة؟

وهذا هو «برهان القدرة» الذي استدلّ به القرآن الكريم في آيات اخرى في مواجهة منكري المعاد ، ومن جملة هذه الآيات ، الآية (٨٢) من سورة يس. الآية (٩٩) من سورة الإسراء والآيتين (٦ و٧) من سورة ق.

ونشير إلى أنّ هذه الجملة كانت مقدّمة لتهديد تلك الفئة المتعصّبة من ذوي القلوب السوداء ، الذين يصّرون على عدم رؤية كلّ هذه الحقائق. لذا يضيف تعالى قائلا : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) فنأمر الأرض فتنشقّ بزلزلة مهولة وتبتلعهم ، أو نأمر السماء فترميهم بقطعات من الحجر وتدمّر بيوتهم وتهلكهم (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أجل ، إنّ في هذا الأمر دلائل واضحة على قدرة الله تعالى على كلّ شيء ، ولكن يختّص بإدراك ذلك كلّ إنسان يتدبّر في مصيره ويسعى في الإنابة إلى الله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).

لا بدّ أن سمع أو شاهد كلّ منّا نماذج من الزلازل أو الخسف في الأرض ، أو

٣٩٥

سقوط النيازك من السماء ، أو بتساقط وتناثر صخور الجبال بسبب صاعقة أو انفجار بركان ، وكلّ عاقل يدرك إمكانية حصول مثل هذه الأمور في أيّة لحظة وفي أيّ مكان من العالم ، فإذا كانت الأرض هادئة تحت أقدامنا ، والسماء آمنة فوق رؤوسنا ، فلأنّها كذلك بقدرة اخرى وبأمر من آمر ، فكيف نستطيع ـ ونحن المحكومون بقدرته في كلّ طرفة عين ـ إنكار قدرته على البعث بعد الموت ، أو كيف نستطيع الفرار من سلطة حكومته!!.

* * *

هنا يجب الالتفات إلى جملة امور :

١ ـ يعبّر القرآن الكريم هنا عن السماء التي فوق رؤوسنا ، والأرض التي تحت أقدامنا بـ (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) و (ما خَلْفَهُمْ). وهو المورد الوحيد الذي يلاحظ فيه مثل هذا التعبير. وهذا التعبير لعلّه إشارة إلى أنّ قدرة وعظمة الله أظهر في السماء وقت طلوع أو غروب الشمس وظهور القمر والنجوم فيها. ونعلم أنّ من يقف غالب باتّجاه الأفق تكون السماء بين يديه ، والأرض التي تأتي بالدرجة الثّانية من الأهميّة اطلق عليها (ما خَلْفَهُمْ).

كذلك هي إشارة إلى هؤلاء المغرورين أنّهم إن لم يجيزوا لأنفسهم النظر إلى ما فوق رؤوسهم ، فلا أقل من أن ينظروا إلى ما بين أيديهم في جوار الأفق.

٢ ـ نعلم بأنّنا نعيش بين مصدرين عظيمين من مصادر الخطر على حياتنا :

أوّلهما : باطن الكرة الأرضية المشتعل الذي هو عبارة عن صخور مذابة ومشتعلة وفي حالة من الفوران ، وفي الحقيقة فإنّ حياة جميع البشر فوق مجموعة من البراكن ـ بالقوّة ـ وبمجرّد صدور أمر إلهي صغير ينطلق أحد هذه البراكين ليهزّ منطقة عظيمة من الأرض وينثر عليها الأحجار الملتهبة والمواد المعدنية المذابة المشتعلة.

٣٩٦

وثانيهما : مئات الآلاف من الأحجار الصغيرة والكبيرة السابحة في الفضاء الخارجي تنجذب نحو الأرض يوميا بفعل جاذبيتها ، ولو لا احتراقها نتيجة اصطدامها بالغلاف الغازي ، لكنّا هدفا «لمطر حجري» بشكل متواصل ليل نهار ، وأحيانا تكون أحجامها وسرعتها وقوّتها إلى درجة أنّها تتخطّى ذلك المانع وتنطلق باتّجاه الأرض لتصطدم بها. وهذا واحد من الأخطار السماوية ، وعليه فإذا كنّا نعيش وسط هذين المصدرين الرهيبين للخطر ، بمنتهى الأمن والأمان بأمر الله ، أفلا يكفي ذلك لأن نتوجّه إلى جلال قدرته العظيمة ونسجد تعظيما وطاعة له!!.

٣ ـ من الجدير بالملاحظة أنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث أشارت إلى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) ولكنّها حدّدت (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ). والإشارة تستبعد ذلك المتمرّس بالعصيان الذي خلع عن رقبته طوق العبودية لله سبحانه وتعالى ، والغافلين الذين أداموا السير في الطريق الخاطئة الملوّثة بالخطايا واستبعدوا عن أذهانهم ـ كليا ـ التوبة والإنابة ، فهؤلاء أيضا لا يمكنهم الانتفاع من هذه الآية المشرقة ، لأنّ وجود الشمس الساطعة لا يكفي وحده لتحصل الرؤية ، بل يستلزم أيضا العين المبصرة وارتفاع الحجاب بينهما.

* * *

٣٩٧

الآيتان

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))

التّفسير

المواهب الإلهية العظيمة لداود :

بناء على ما مرّ ذكره في آخر المجموعة السابقة من الآيات وما قلناه حول «العبد المنيب» والثواب. ولعلمنا بأنّ هذا الوصف قد ذكر للنبي داود عليه‌السلام (في الآية ٢٤ من سورة ص) ـ كما سيرد شرحه بإذن الله ـ فالأفضل من أن نتعرّض لجانب من حياة هذا النّبي عليه‌السلام كمثال للإنابة والتوبة وإكمال البحث السابق. وهي أيضا تنبيه لكل من يغمط نعم الله ويتناساها ، ويتخلّى عن عبوديته لله عند جلوسه على مسند القدرة والسلطة.

في الآية الاولى يقول تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً).

مفردة «فضل» ذات معنى وسيع ، يشمل كلّ المواهب التي تفضّل الله بها على داود ، وزادها التنكير سعة ودلّل على عظمة تلك المواهب.

٣٩٨

فقد شمل داود بالمواهب العظيمة سواء من الناحية المادية أو المعنوية ، وقد تعرّض القرآن الكريم مرارا لذكرها.

ففي موضع يقول تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ). (١)

وفي موضع آخر يقول تعالى على لسان داود (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ). (٢)

وسترد ضمن حديثنا حول آخر هذه الآيات ، معجزات مختلفة تمثّل جزءا من هذا الفضل العظيم ، وكذلك الصوت الباهر ، والقدرة العالية على القضاء العادل التي أشير إليها في سورة (ص) تمثّل لونا آخر من ذلك الفضل الإلهي ، وأهمّ من ذلك كلّه النبوّة والرسالة التي شرّف بها داود.

وعلى كلّ حال ، فبعد هذه الإشارة الإجمالية العامّة ، تبدأ الآية بشرح وتوضيح جوانب من الفضائل المعنوية والمادية التي تمتّع بها داود ، فيقول تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ).

كلمة «أوّبي» في الأصل من «التأويب» بمعنى الترجيع وإعادة الصوت في الحلق. وهذا الأصل يستعمل أيضا بمعنى «التوبة» لأنّ حقيقتها الرجوع إلى الله.

ومع أنّ كلّ ذرّات الوجود تذكر الله وتسبّح بحمده ، سواء سبّح داود عليه‌السلام معها أو لم يسبّح ، ولكن الميزة التي خصّ بها داود هي أنّه ما إن يرفع صوته ويبدأ التسبيح ، إلّا ويظهر ما كان خفيّا وكامنا في الموجودات ، وتتبدل الهمهمة الباطنية إلى نغمة علنية منسجمة ، كما ورد في الروايات من تسبيح الحصاة في يد الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام عند ذكره لقصّة داود «إنّه خرج يقرأ الزبور ،

__________________

(١) النمل ، ١٥.

(٢) النمل ، ١٦.

٣٩٩

وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلّا أجابه» (١).

وبعد ذكر هذه الفضيلة المعنوية ، تذكر الآية فضيلة مادية اخرى فتقول : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).

يمكن القول ، بأنّ الله تعالى علّم داود ـ إعجازا ـ ما استطاع بواسطته تليين الحديد حتّى يمكنه من صنع أسلاك رقيقة وقوية لنسج الدروع منها ، أو أنّه كان قبل داود يستفاد من صفائح الحديد لصناعة الدروع والإفادة منها في الحروب ، ممّا كان يسبّب حرجا وإزعاجا للمحاربين نتيجة ثقل الحديد من جهة ، وعدم قابلية تلك الدروع للانحناء أو الالتواء حين ارتدائها ، ولم يكن أحد قد استطاع حتّى ذلك اليوم نسج الدروع من أسلاك الحديد الرفيعة المحكمة ، ليكون لباسا يمكن ارتداؤه بسهولة والإفادة من قابليته على التلوّي والانحناء مع حركة البدن برقّة وإنسياب (٢).

ولكن ظاهر الآية يدلّل على أنّ ليونة الحديد تمّت لداود بأمر إلهي ، فما يمنع الذي أعطى لفرن النار خاصية إلانة الحديد ، أن يعطي هذه الخاصية لداود بشكل آخر ، وقد أشارت بعض الروايات أيضا إلى هذا المعنى.

فقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : «إنّ الله أوحى إلى داود : نعم العبد أنت إلّا أنّك تأكل من بيت المال ، فبكى داود أربعين صباحا ، فألان الله له الحديد ، وكان يعمل كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستّين درعا فباعها بثلاثمائة وستّين ألفا فاستغنى عن بيت المال» (٣).

صحيح أنّ بيت المال يؤمّن مصارف الأشخاص الذين يقدّمون خدمة مجانية للامّة ، ويتحمّلون الأعباء التي لا يتحمّلها غيرهم ، ولكن ما أروع أن يستطيع

__________________

(١) الميزان ، ج ١٦ ، ص ٣٦٧.

(٢) انظر تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٣٤٣. وتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣١٥.

(٣) مجمع البيان ـ ج ٨ ص ٣٨١.

٤٠٠