الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-51-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١٠

تقول أوّلا : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ).

إنّ مقام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنزلته من العظمة بمكان ، بحيث أنّ خالق عالم الوجود ، وكلّ الملائكة الموكّلين بتدبير أمر هذا العالم بأمر الله سبحانه يصلّون عليه ، وإذا كان الأمر كذلك فضمّوا أصواتكم إلى نداء عالم الوجود هذا ، فـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

إنّه جوهرة نفيسة لعالم الخلقة ، وقد جعل بينكم بلطف الله ، فلا تستصغروا قدره ، ولا تنسوا مقامه ومنزلته عند الله وملائكة السماوات .. إنّه إنسان ظهر من بينكم ، لكنّه ليس إنسانا عاديا ، بل هو إنسان يتلخّص عالم الوجود في وجوده.

وهنا امور يجب الالتفات إليها :

١ ـ (الصلاة) وجمعها «صلوات» ، كلّما نسبت إلى الله سبحانه فإنّها تعني «إرسال الرحمة» ، وكلّما نسبت إلى الملائكة فإنّها تعني «طلب الرحمة» (١).

٢ ـ إنّ التعبير بـ (يصلّون) وهو فعل مضارع يدلّ على الاستمرار ، يعني أنّ الله وملائكته يصلّون عليه دائما وباستمرار صلاة دائمة خالدة.

٣ ـ اختلف المفسّرون في الفرق بين (صلّوا) و (سلّموا) والذي يبدو أنسب للأصل اللغوي للكلمتين ، وأوفق لظاهر الآية القرآنية ، هو : أن (صلّوا) أمر بطلب الرحمة والصلاة على النّبي ، أمّا (سلّموا) فتعني التسليم لأوامر نبي الإسلام الأكرم ، كما ورد في الآية (٦٥) من سورة النساء (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

وكما نقرأ في رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ أبا بصير سأله فقال : قد عرفت صلاتنا على النّبي ، فكيف التسليم؟ قال : «هو التسليم له في الأمور» (٢).

أو أن يكون بمعنى «السلام» على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بـ (السلام عليك يا رسول الله) وما

__________________

(١) أورد الراغب هذا المعنى بعبارات اخرى في المفردات.

(٢) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

٣٤١

أشبه ذلك ، والذي يعني طلب سلامة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الله سبحانه.

يروي «أبو حمزة الثمالي» عن «كعب» ـ وهو أحد أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية قلنا : قد عرفنا السلام عليك ، فكيف نصلّي عليك؟ فقال : «قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد» (١). ومن هذا الحديث تتّضح كيفية الصلاة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك يتّضح معنى «السلام».

وبالرغم من أنّ هذين المعنيين للسلام يبدوان مختلفين تماما ، إلّا أنّه يمكن عطفهما وإرجاعهما إلى نقطة واحدة إذا دقّقنا فيهما ، وهي : التسليم القولي والفعلي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ من يسلّم عليه ويرجو من الله سلامته ، يعشقه ويعرفه كنبي مفترض الطاعة.

٤ ـ ممّا يلفت النظر أنّه قد ورد صريحا في كيفية الصلاة على النّبي وفي روايات لا تحصى من طرق العامّة وأهل البيت ، أن يضاف (آل محمّد) عند الصلوات على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقد روي في «الدرّ المنثور» عن صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه ورواه آخرين عن كعب بن عجرة : أنّ رجلا أتى إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أمّا السلام عليك فقد علمناه ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قل اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد. اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد».

وقد أورد صاحب تفسير الدرّ المنثور ثمانية عشر حديثا آخر إضافة إلى هذا

__________________

(١) المصدر السابق. وروي الحديث الثّاني في كتب الفريقين بطرق متعدّدة ، وبعبارات قريبة الألفاظ.

٣٤٢

الحديث ، صرّحت جميعا بوجوب ذكر «آل محمّد» عند الصلوات.

وقد رويت هذه الأحاديث عن كتب أهل السنّة المعروفة المشهورة عن جماعة من الصحابة منهم : ابن عبّاس ، وطلحة ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو هريرة ، وأبو مسعود الأنصاري ، وبريدة ، وابن مسعود ، وكعب بن عجرة ، وأمير المؤمنين علي عليه‌السلام (١).

وقد رويت في صحيح البخاري (وهو أشهر مصادر الحديث عند أهل السنّة) روايات عديدة في هذا الباب يستطيع من يريد مزيد الإيضاح أن يرجع إليه (٢).

وكذلك وردت في صحيح مسلم روايتان في هذا الباب (٣).

والعجيب في هذا الكتاب أنّه بالرغم من ورود (آل محمّد) عدّة مرّات في هذين الحديثين ، فإنّه اختار هذا العنوان لهذا الباب : (باب الصلاة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) بدون ذكر «الآل»!!

وثمّة مسألة تستحقّ الانتباه وهي : أنّ في بعض روايات أهل السنّة ، وفي كثير من روايات أهل البيت لم ترد حتّى كلمة (على) لتفرّق بين محمّد وآل محمّد ، بل كيفية الصلاة هي : اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.

وننهي هذا البحث بحديث آخر عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ «ابن حجر» يروي في الصواعق : أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، فقالوا : وما الصلاة البتراء؟ قال : تقولون : اللهمّ صلّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللهمّ صلّ على على محمّد وآل محمّد» (٤).

ولهذه الرّوايات فقد اعتبر جمع من كبار فقهاء العامّة إضافة (آل محمّد) إلى

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث ، طبقا لتفسير الميزان ، ج ١٦ ، صفحة ٣٤٤.

(٢) صحيح البخاري ، المجلّد ٦ ، صفحة ١٥١.

(٣) صحيح مسلم ، المجلّد ١ ، صفحة ٣٠٥ باب الصلاة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٤) الصواعق المحرقة ، صفحة ١٤٤.

٣٤٣

اسم «محمّد» في تشهد الصلاة واجبا (١).

٥ ـ هل أنّ الصلاة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واجبة أم لا؟ وإذا كانت واجبة فأين تجب؟

يقول الفقهاء في الإجابة عن هذا السؤال : إنّ جميع فقهاء أهل البيت يعتبرونها واجبة في التشهّد الأوّل والثّاني من الصلاة ، ومستحبة في غيرهما.

وعلاوة على الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام في هذا الباب ، فإنّ الروايات الواردة في كتب أهل السنّة ، والدالّة على الوجوب ، ليست بالقليلة ، ومن جملتها ما ورد عن عائشة أنّها قالت : سمعت رسول الله يقول : «لا يقبل صلاة إلّا بطهور وبالصلاة عليّ».

ويعتبر «الشافعي» ـ وهو من فقهاء العامّة ـ الصلاة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واجبة في التشهّد الثاني ، و «أحمد» في إحدى الروايتين المرويتين عنه ، وجمع آخر من الفقهاء ، غير أنّ «أبا حنيفة» لا يعتبرها واجبة.

والطريف أنّ «الشافعي» قد نظّم فتواه هذه شعرا وذكرها بصراحة حيث يقول :

يا أهل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له (٢)

ثمّ تبيّن الآية التالية النقطة المقابلة للآية السابقة ، فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً).

ماذا يراد من أذى الله سبحانه؟

قال البعض : إنّ المراد منه هو الكفر والإلحاد الذي يغضب الله عزوجل ، لأنّ «الأذى» لا يعني في شأن الله تعالى إلّا إغضابه.

__________________

(١) أورد العلّامة الحلّي هذا القول في بحث التشهّد من التذكرة ـ إضافة إلى كلّ علماء الشيعة ـ عن الإمام أحمد وبعض الشافعية.

(٢) ذكر العلّامة الأميني في كتاب «الغدير» النفيس نسبة هذه الأشعار إلى الشافعي عن شرح المواهب للزرقاني وجماعة آخرين.

٣٤٤

ويحتمل أيضا أن يكون إيذاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين هو إيذاء الله تعالى ، وذكر الله في الآية لأهمية المطلب وتأكيده.

وأمّا إيذاء نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله فله معنى واسع ، ويشمل كلّ عمل يؤذيه ، سواء كان الكفر والإلحاد ومخالفة أوامر الله والافتراءات والتّهم ، أم الأذى الذي يراه حين يدعوهم إلى بيته ، كما مرّ في الآية (٥٣) من هذه السورة (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ).

أو الموضوع الذي ورد في الآية (٦١) من سورة التوبة عند ما اتّهموا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه «اذن» نتيجة إصغائه لكلام الناس ورعايته لأدب المحادثة (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) وأمثال ذلك.

بل ويستفاد من الرواية الواردة في ذيل الآية أنّ إيذاء أهل بيت النّبي وخاصّة علي وفاطمة عليهما‌السلام ، يدخل ضمن الآية ، وقد جاء في المجلّد الخامس من صحيح البخاري ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني» (١).

وورد هذا الحديث في «صحيح مسلم» بهذه العبارة : «إنّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها» (٢).

وروي هذا المعنى في حقّ عليّ عليه‌السلام عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وأمّا «اللعن» الوارد في الآية أعلاه ، فإنّه بمعنى الطرد عن رحمة الله ، وهو في مقابل الرحمة والصلوات التي وردت في الآية السابقة تماما.

إنّ اللعن والطرد عن رحمة الله سبحانه .. تلك الرحمة الواسعة التي لا تعرف الحدود ، يعدّ أسوأ أنواع العذاب ، خاصّة إذا كان هذا الطرد في الدنيا والآخرة كما هو في الآية مورد البحث ، ولعلّ ذكر مسألة اللعن قبل العذاب المهين لهذا السبب.

__________________

(١) صحيح البخاري ، الجزء ٥ ، صفحة ٢٦.

(٢) صحيح مسلم ، المجلّد ٤ ، صفحة ١٩٠٣ باب فضائل فاطمة.

(٣) تفسير مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

٣٤٥

والتعبير بـ (أعدّ) دليل على تأكيد هذا العذاب وشدّته.

وتتحدّث الآية الأخيرة عن إيذاء المؤمنين ، وتهتمّ به جدّا بعد إيذاء الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتقول : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) لأنّ للمؤمن علاقة بالله ورسوله عن طريق الإيمان ، ولهذا جعل في مرتبة الله ورسوله هنا.

وتعبير (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) إشارة إلى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا ذنبا حتّى يؤذوا. ومن هنا يتّضح أنّهم إن بدر منهم ذنب يستوجب الحدّ والقصاص فلا مانع من إجرائه وتنفيذه في حقّهم ، وكذلك لا يشمل هذا الكلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إنّ تقديم «البهتان» على «الإثم المبين» لأهميّته ، لأنّ البهتان يعتبر من أكبر الذنوب ، والجراحات التي تنجم عنه أشدّ ألما من جراحات السنان ، كما قال الشاعر العربي:

جراحات السنان لها التيام

ولا يلتام ما جرح اللسان

وقد أولت الرّوايات الإسلامية هذه المسألة اهتماما فائقا ، ففي حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل يقول : «ليأذن بحرب منّي من آذى عبدي المؤمن» (١).

وقال بعض المفسّرين : يستفاد من أسلوب الآية أنّ جماعة في المدينة كانوا يطلقون الشائعات ويثيرون الشبهات حول المؤمنين ، ويتّهمونهم بما ليس فيهم ، وحتّى نبي الله لم يكن بمنأى عن ألسن أولئك المؤذين. وهذه الفئة ليست قليلة في المجتمعات الاخرى ، وخاصّة في مجتمعات اليوم ، وليس لها عمل إلّا التآمر ضدّ الصالحين والمحسنين ، واختلاق الأكاذيب والتّهم.

__________________

(١) أصول الكافي ، المجلّد ٢ ، صفحة ٣٥.

٣٤٦

لقد هاجم القرآن الكريم هؤلاء الأشخاص أشدّ هجوم ، ووصفت أعمالهم بالبهتان والإثم المبين. والشاهد لهذا الكلام سيأتي في الآيات التالية.

وجاء في حديث آخر يرويه الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عن جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من بهت مؤمنا أو مؤمنة ، أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتّى يخرج ممّا قاله فيه» (١).

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ١٩٤.

٣٤٧

الآيات

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))

سبب النّزول

جاء في تفسير «علي بن إبراهيم» في سبب نزول الآية الاولى : فإنّه كان سبب نزولها أنّ النساء كن يخرجن إلى المسجد ويصلّين خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإذا كان بالليل خرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة ، يقعد الشبّان لهنّ في طريقهنّ فيؤذونهن ويتعرّضون لهنّ فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) ـ إلى قوله ـ (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً

٣٤٨

رَحِيماً) (١).

وجاء في نفس الكتاب في شأن نزول الآية الثانية ، أنّها نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خرج في بعض غزواته يقولون قتل وأسر فيغتمّ المسلمون لذلك ويشكون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله في ذلك : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) (٢) فبذلك هدّدت مختلقي الشايعات بشدّة.

التّفسير

تحذير شديد للمؤذين ومختلقي الإشاعات!

بعد النهي عن إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الذي ورد في الآية السابقة ، أكّدت الآية هنا على أحد موارد الأذى ، ومن أجل الوقوف أمامه سلكت طريقين : فأمرت المؤمنات أوّلا أن لا يدعن في يد المفسدين والعابثين حجّة يتشبّثون بها في سبيل تحقيق أذاهم ، ثمّ هاجمت المنافقين ومختلقي الإشاعات وهدّدتهم بتهديد قلّ نظيره في آيات القرآن.

فتقول الآية في الجزء الأوّل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ).

هناك رأيان لدى المفسّرين في المراد من «المعرفة» لا يتناقضان :

الأوّل : أنّه كان من المتعارف ذلك اليوم أن تخرج الجواري من المنازل مكشوفات الرأس والرقبة ، ولمّا لم يكن مقبولات من الناحية الأخلاقية ، فقد كان بعض الشباب المتهوّر يضايقوهنّ ، فأمرت المسلمات الحرائر أن يلتزمن الحجاب التامّ ليتميّزن عن الجواري ، وبالتالي لا يقدر أن يؤذيهنّ أولئك الشباب.

__________________

(١) تفسير القمّي ج ٢ ص ١٩٦.

(٢) المصدر السابق طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٠٧.

٣٤٩

ومن البديهي أنّ هذا الكلام لا يعني أنّه كان لأولئك الطائشين حقّ أذى الجواري ، بل المراد سلب الحجّة من الأفراد الفاسدين.

والآخر : أنّ الهدف هو أن لا تتساهل المسلمات في أمر الحجاب كبعض النساء المتحلّلات والمتبرجات المسلوبات الحياء رغم التظاهر بالحجاب ، هذا التبرّج يغري السفلة والأراذل ويلفت انتباههم.

أمّا المراد من «الجلباب» فقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة عدّة معان له :

١ ـ أنّه «الملحفة» ، وهي قماش أطول من الخمار يغطّي الرأس والرقبة والصدر.

٢ ـ أنّه المقنعة والخمار.

٣ ـ أنّه القميص الفضفاض الواسع (١).

ومع أنّ هذه المعاني تختلف عن بعضها ، إلّا أنّ العامل المشترك فيها أنّها تستر البدن.

وتجدر الإشارة إلى أنّ «الجلباب» يقرأ بكسر الجيم وفتحها.

إلّا أنّ الأظهر أنّ المراد هو الحجاب الذي يكون أكبر من الخمار وأقصر من العباءة ، كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب.

والمراد من (يدنين) أن يقربن الجلباب إلى أبدانهن ليكون أستر لهنّ ، لا أن يدعنه كيف ما كان بحيث يقع من هنا وهناك فينكشف البدن ، وبتعبير أبسط أن يلاحظن ثيابهنّ ويحافظن على حجابهنّ.

أمّا ما استفاده البعض من أنّ الآية تدلّ على وجوب ستر الوجه أيضا ، فلا دليل عليه ، والنادر من المفسّرين من اعتبر ستر الوجه داخلا في الآية (٢).

وعلى كلّ حال ، فيستفاد من هذه الآية أنّ حكم الحجاب بالنسبة للحرائر كان

__________________

(١) لسان العرب ، مجمع البحرين ، مفردات الراغب القطر المحيط ، وتاج العروس.

(٢) كان لنا بحث حول فلسفة الحجاب وأهميّته ، وكذلك حول استثناء الوجه والكفّين في ذيل الآيتين ٣١ و٣٢ من سورة النور.

٣٥٠

قد نزل من قبل ، إلّا أنّ بعض النسوة كنّ يتساهلن في تطبيقه ، فنزلت الآية المذكورة للتأكيد على الدقّة في التطبيق.

ولمّا كان نزول هذا الحكم قد أقلق بعض المؤمنات ممّا كان منهن قبل ذلك ، فقد أضافت الآية في نهايتها (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فكلّ ما بدر منكنّ إلى الآن كان نتيجة الجهل فإنّ الله سيغفره لكنّ ، فتبن إلى الله وارجعن إليه ، ونفذن واجب العفّة والحجاب جيدا.

بعد الأمر الذي صدر في الآية السابقة للمؤمنات ، تناولت هذه الآية بعدا آخر لهذه المسألة ، أي أساليب الأراذل والأوباش في مجال الإيذاء ، فقالت : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) (١).

(المرجفون) من مادّة «إرجاف» ، وهي إشاعة الأباطيل بقصد إيذاء الآخرين وإحزانهم ، وأصل الإرجاف : الاضطراب والتزلزل ، ولمّا كانت الإشاعات الباطلة تحدث اضطرابا عامّا ، فقد أطلقت هذه الكلمة عليها.

و (نغرينّك) من مادّة «الإغراء» ، ويعني الدعوة إلى تنفيذ عمل ، أو تعلّم شيء ، دعوة تقترن بالترغيب والتحريض.

ويستفاد من سياق الآية أنّ ثلاث فئات في المدينة كانت مشتغلة بأعمال التخريب والهدم ، وكلّ منها كان يحقّق أهدافه بأسلوب خاصّ ، فظهر ذلك كتيار ومخطّط جماعي ، ولم تكن له صبغة فردية :

فالفئة الاولى : هم «المنافقون» الذين كانوا يسعون لاقتلاع جذور الإسلام عبر مؤامرتهم ضدّه.

والثّانية : هم «الأراذل» الذين يعبّر عنه القرآن : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كما

__________________

(١) (قليلا) هنا مستثنى من محذوف ، والتقدير : لا يجاورونك زمانا إلّا زمانا قليلا.

٣٥١

أنّ هذا التعبير قد ورد في الآية (٣٢) من سورة الأحزاب في شأن من يتّبع أهواءه وشهواته (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).

والفئة الثالثة : هم الذين كانوا يبثّون الإشاعات في المدينة ، وخاصّة عند ما كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين يتّجهون إلى الغزوات ، لإضعاف معنوياتهم ، وكانوا ينشرون الأخبار الكاذبة عن هزيمة النّبي والمؤمنين ، وهؤلاء هم «اليهود» برأي بعض المفسّرين.

وبهذا فإنّ القرآن الكريم هدّد هذه الفئات الثلاثة جميعا.

ويحتمل في تفسير الآية أيضا ، أنّ كلّ أعمال التخريب للفئات الثلاثة كانت من عمل المنافقين ، وفصلها عن بعضها هو فصل الصفات لا الأشخاص.

ومهما كان ، فإنّ القرآن يقول : إنّ هؤلاء إن استمروا في أعمالهم القبيحة المشينة فسنصدر أمرا بالهجوم العام عليهم ، لنقتلع جذورهم من المدينة بحركة المؤمنين الشعبية ، ولا يقدرون على البقاء في المدينة بعد ذلك.

وعند ما يطردون من هذه المدينة ، ويخرجون عن حماية الحكومة الإسلامية ، فإنّهم سيكونون (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً).

«ثقفوا» من مادّة «ثقف» و «ثقافة» ، وهي : السيطرة على الشيء بدقّة ومهارة ، ولهذا يقال للعلم وتحصيله والإحاطة به «ثقافة». وهذا التعبير إشارة إلى أنّهم سوف لا يجدون مكانا آمنا بعد هذا الهجوم ، بل سيبحث عنهم المؤمنون بدقّة حتّى يجدوهم ويرسلوهم إلى ديار الفناء.

وهناك احتمالان في المراد من الآية : فامّا أنّه سيطاردون المنافقين ويتعقّبونهم خارج المدينة ويقتلونهم ، أو أنّهم إذا بقوا في المدينة بعد حكم الإبعاد العام سيلاقون هذا المصير ، ولا منافاة بينهما ، إذ أنّ المعنى هو أنّ هؤلاء المنافقين والمخرّبين والمرجفين ومرضى القلوب سوف لا يكونون بمأمن من سطوة المسلمين الشجعان بعد أن هدرت دماؤهم ، وسحبت الحماية عنهم ، وصدر الحكم

٣٥٢

بإخراجهم من المدينة ، سواء بقوا فيها أم خرجوا.

ثمّ تضيف الآية الأخيرة من هذه الآيات أنّ هذا الأمر ليس جديدا ، بل (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) فكلّما زادت صلافة المفسدين وتجاوزت مؤامراتهم الحدود ، يصدر الأمر بالهجوم عليهم.

ولمّا كان هذا الحكم سنّة إلهيّة ، فإنّه سوف لا يتغيّر ولا يتبدّل أبدا ، حيث أنّ سنّة الله ثابتة (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً).

إنّ هذا التعبير يجسّد كون هذا التهديد حقيقيا وجديا ، ليعلموا أنّ هذا المطلب والمصير حتمي ، وله جذوره ونظائره في التأريخ ، ولا سبيل إلى تغييره وتبديله ، فإمّا أن ينتهوا عن أعمالهم المخزية ، أو أن ينتظروا هذا المصير المؤلم.

* * *

تعليقات

١ ـ ابدأ بنفسك!

الأمر الذي ورد في الآيات مورد البحث حول وجوب رعاية الحجاب الإسلامي بدقّة ، وأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبلغ هذا الأمر ، أوّل ما بدأ بنساء النّبي ، ثمّ بناته ، ثمّ المؤمنات ، وهو إشارة إلى أنّك يجب أن تبدأ بنفسك وأهل بيتك في أيّ برنامج إصلاحي ، وهذا خطّ لكلّ مصلحي البشر.

وبدأ بالزوجات عند ما دار الأمر بين الزوجات والبنات ، وذلك لأنّهنّ أقرب إلى الرجل ، لأنّ البنات يتزوجنّ وينتقلن إلى بيوت الأزواج.

٢ ـ العلاج من طريقين :

لمّا كانت المفاسد الاجتماعية لا تنبعث من علّة واحدة غالبا ، فلذلك يجب أن تبدأ مكافحتها من جميع الجوانب. والطريف في الأمر أنّ الآيات المذكورة ، ومن

٣٥٣

أجل الوقوف أمام مضايقات الطائشين قد أمرت المؤمنات أوّلا أن لا يتركن ذريعة بيد الطائشين ، ثمّ أوقفتهم عند حدّهم بتهديدهم أشدّ تهديد.

وهذا أيضا برنامج دائمي للجميع ، بأنّ الصديق لا بدّ من إصلاحه ، ويوقف العدوّ عند حدّه بالقوّة.

٣ ـ موقع المسلمين القوي :

يستفاد جيّدا من تهديدات الآيات القويّة والشديدة أنّه بعد انتهاء حادثة «بني قريظة» ، واجتثاث جذور هذه الفئة من الأعداء الداخليين الخطرين ، فإنّ موقع المسلمين قد قوي في المدينة تماما ، ولم تكن المخالفات تأتي إلّا من جانب المنافقين المندسّين بين صفوف المسلمين ، أو من جانب جماعة من الأوباش والمتهوّرين ومطلقي الإشاعات ، فتعامل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معهم من موقع القوّة ، وحذّرهم بشدّة بأنّهم إن لم يكفوا عن مؤامراتهم ونفثهم للسموم ، فإنّه سيقوم بتصفية الحساب معهم بهجوم واحد ويقضي عليهم!

وقد أثّر هذا التعامل الحازم والدقيق أثره بوضوح تامّ.

٤ ـ اجتثاث جذور الفساد :

هل أنّ ما ورد في الآيات أعلاه عن اقتلاع جذور المفاسد كمؤامرات المنافقين ، وملاحقة أعراض المسلمين وأذاهم ، وإطلاق الإشاعات يصلح علاجا في سائر الأعصار والقرون ، ولكلّ الحكومات الإسلامية؟

قليل من المفسّرين من بحث ذلك ، إلّا أنّه يبدو أنّ هذا الحكم كسائر الأحكام الإسلامية لا يختّص بزمان أو مكان أو أشخاص.

إذا كان نفث السموم والتآمر قد تجاوز الحدّ على أرض الواقع ، وأصبح كتيار جارف يهدّد المجتمع الإسلامي بأخطار حقيقية ، فما المانع من أن تنفذ الحكومة

٣٥٤

الإسلامية أوامر الآيات أعلاه ، والتي أنزلت على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنحته هذه الصلاحية ، وتعبئ الناس للقضاء على جذور الفساد؟

إلّا أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الأعمال وأمثالها ، خاصّة وأنّها مطروحة كسنّة لا تقبل التغيير ، لا يسمح بها كتصرّف شخصي ، وتمسّك برأي خاصّ ، بل تجوز فقط بعد إذن ولي أمر المسلمين وحكّام الشرع بها.

٥ ـ سنن الله الثابتة :

قرأنا في الآيات السابقة أنّ القرآن ذكر أنّ إحدى سنن الله التي لا تقبل التغيير هي اقتلاع جذور التآمر بهجوم عامّ ، وقد كانت هذه السنّة جارية في الأمم السابقة.

وقد ورد نظير هذا التعبير في مواضع اخرى من القرآن ، ومن جملتها ما ورد في الآية (٣٨) من سورة الأحزاب هذه ، فبعد أن أجاز سبحانه مخالفة سنّة جاهلية خاطئة وإلغاءها في مسألة مطلقة الابن بالادّعاة ، يقول : ليس للنبي أيّ ذنب إذا ما نفّذ أوامر الله مهما كانت.

ثمّ يضيف تعالى : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً).

وفي الآية (٤٣) من سورة فاطر ، وبعد أن هدّد الكافرين والمجرمين بالفناء والهلاك ، يقول سبحانه : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً).

وفي الآية (٨٥) من سورة غافر ، وبعد أن صرّح بأنّ إيمان الكفّار العنودين من الأقوام الماضين عند مشاهدتهم عذاب الاستئصال لم ينفعهم شيئا ، يضيف : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ).

وفي الآية (٢٣) من سورة الفتح ، وبعد أن ذكر انتصار المؤمنين وهزيمة الكفّار في الحروب ، وأن ليس لهم ولي ولا نصير ، يضيف : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ

٣٥٥

وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً).

وكذلك في الآية (٧٧) من سورة الإسراء عند ما يبيّن مؤامرة إبعاد النّبي أو قتله ، يضيف : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً).

يستفاد من مجموع هذه الآيات جيّدا أنّ المراد من السنّة في مثل هذه الموارد : القوانين الإلهيّة الثابتة والأساسية ، سواء التكوينية منها أم التشريعية ، التي لا تتغيّر مطلقا.

وبتعبير آخر : فإنّ لله سبحانه في عالم التكوين والتشريع قوانين وأصولا ثابتة ، كالقوانين الأساسية والدساتير المسنونة بين شعوب العالم والتي لا تتبدّل ، ولا تكون عرضة للتغيير ، وهذه القوانين الإلهية كانت حاكمة على الأقوام الماضين ، وتحكّمنا اليوم ، وستكون حاكمة في المستقبل على الأجيال الآتية.

إنّ نصرة النّبي ، وهزيمة الكفّار ، ووجوب تنفيذ أوامر الله والعمل بموجبها ، حتّى وإن أدّت إلى إثارة سخط الناس وعدم رضاهم ، عدم جدوى التوبة حين نزول العذاب الإلهي ، وأمثال ذلك هي جزء من هذه السنن الخالدة.

إنّ هذه التعبيرات تسلّي خواطر كلّ السائرين في طريق الحقّ ، وتمنحهم الهدوء والطمأنينة من جهة ، وتوضّح من جهة اخرى وحدة دعوة الأنبياء وانسجامها ، وتناسق القوانين الحاكمة على نظام الخلقة ونظام الحياة الإنسانية واتّحادها ، وهي في الحقيقة فرع من فروع التوحيد.

* * *

٣٥٦

الآيات

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

التّفسير

يسألون أيّان يوم القيامة؟!

كانت الآيات السابقة تتحدّث عن مؤامرات المنافقين والأشرار ، وقد أشير في هذه الآيات التي نبحثها إلى واحدة اخرى من خططهم الهدّامة ، وأعمالهم المخرّبة ، حيث كانوا يطرحون أحيانا هذا السؤال : متى تقوم القيامة التي يخبر بها محمّد ويذكر لها كلّ هذه الصفات؟ وذلك إمّا استهزاء ، أو لزرع الشكّ فيها في قلوب

٣٥٧

البسطاء ، فتقول الآية : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ).

ويحتمل أيضا أن يكون بعض المؤمنين قد سأل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا السؤال بدافع من حبّ الاستطلاع ، أو للحصول على معلومات أكثر حول هذا الموضوع.

غير أنّ ملاحظة الآيات التي تلي هذه الآية ترجّح التّفسير الأوّل ، والشاهد الآخر لهذا الكلام ما ورد في الآيتين ١٧ ـ ١٨ / سورة الشورى في هذا الباب ، حيث تقولان : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها).

ثمّ تقول الآية ـ مورد البحث ـ في مقام جوابهم : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ولا يعلمها حتّى المرسلون والملائكة المقرّبون.

ثمّ تضيف بعد ذلك : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً).

وبناء على هذا يجب أن نكون مستعدّين دائما لقيام القيامة ، وهذه هي الحكمة من كونها خافية مجهولة لئلّا يظنّ أحد أنّه في مأمن منها ، ويتصوّر أنّ القيامة بعيدة فعلا ، ويعتبر نفسه في معزل عن عذاب الله وعقابه.

ثمّ تطرّقت الآية إلى تهديد الكافرين ، وتناولت جانبا من عقابهم الأليم ، فقالت : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

الفرق بين «الولي» و «النصير» هنا هو : أنّ «الولي» من يتولّى القيام بكلّ الأعمال وتنفيذها ، أمّا «النصير» فهو الذي يعين على الوصول إلى الهدف المطلوب. إلّا أنّ هؤلاء الكافرين لا وليّ لهم في القيامة ولا نصير.

ثمّ بيّنت جزءا آخر من عذابهم الأليم في القيامة فقالت : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) وهذا التقليب إمّا أن يكون في لون البشرة والوجه حيث تصبح حمراء أو سوداء أحيانا ، أو من جهة تقلّبهم في النار ولهيبها حيث تكون وجوههم في مواجهة النار أحيانا ، وأحيانا جوانب اخرى (نعوذ بالله من ذلك).

٣٥٨

هنا ستنطلق صرخات حسرتهم ، و (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فإنّا لو كنّا أطعناهما لم يكن ينتظرنا مثل هذا المصير الأسود الأليم.

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (١).

(السادة) جمع «سيّد» ، وهو المالك العظيم الذي يتولّى إدارة المدن المهمّة أو الدول ، و «الكبراء» جمع «كبير» وهو الفرد الكبير سواء من ناحية السنّ ، أو العلم ، أو المركز الاجتماعي وأمثال ذلك. وبهذا فإنّ السادة إشارة إلى رؤساء البلاد العظام ، والكبراء هم الذين يتولّون إدارة الأمور تحت إشراف أولئك السادة ، ويعتبرون معاونين ومشاورين لهم ، وكأنّهم يقولون : إنّنا قد جعلنا طاعة السادة محل طاعة الله ، وطاعة الكبراء مكان طاعة الأنبياء ، فابتلينا بأنواع الانحرافات والتعاسة والشقاء.

من البديهي أنّ معيار السيادة وكون الشخص كبيرا بين أولئك الأقوام هو القوّة والسيطرة ، والمال والثروة الغير مشروعة ، والمكر والخداع. وربّما كان إختيار هذين التعبيرين هنا من أجل أنّهم يحاولون توجيه عذرهم ويقولون : لقد كنّا تحت تأثير العظمة الظاهرية لأولئك.

هنا تثور ثائرة هؤلاء الجهنميين الضالّين ، ويطلبون من الله سبحانه أن يزيد في عذاب مضلّيهم وعقابهم أشدّ عقاب فيقولون : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) ـ عذاب لإضلالهم ـ.

من المسلّم أنّ هؤلاء يستحقّون العذاب واللعن ، واستحقاقهم للعذاب المضاعف واللعن الكبير بسبب سعيهم في سبيل إضلال الآخرين ، ودفعهم إلى طريق الانحراف.

والطريف ما ورد في الآية ٣٨ من سورة الأعراف ، من أنّ هؤلاء المتّبعين

__________________

(١) إنّ الألف في «الرسولا» و «السبيلا» هي ألف الإطلاق ، ولتناسق آخر الآيات ، وإلّا فإنّ التنوين لا يجتمع مع الألف واللام مطلقا.

٣٥٩

الضالّين عند ما يطلبون عذاب الضعف لسادتهم وأئمّتهم ، يقال : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (١).

إنّ كون عذاب أئمّة الكفر والضلال مضاعفا واضح ، لكن لما ذا يكون عذاب من اتّبعهم مضاعفا؟

إنّ سبب ذلك هو أنّهم استحقّوا عذابا لضلالتهم ، والعذاب الآخر لمعونة الظالمين ومؤازرتهم ، لأنّ الظالمين لا يقدرون على أن يستمرّوا في عمل ما لوحدهم مهما كانت لهم من قوّة ، إلّا أنّ أتباعهم هم الذين يؤجّجون نار حروبهم ، ويسجرون أتون ظلمهم وكفرهم ، وإن كان عذاب أئمّة الكفر ـ إذا ما قورن بعذاب المتّبعين ـ أشدّ وآلم بدون شكّ.

وقد كان لنا بحث مفصّل في هذا الباب في الآية (٣٠) من هذه السورة.

* * *

__________________

(١) ممّا يستحقّ الانتباه أنّه قد ورد «الضعفان» في الآيات مورد البحث ، و «الضعف» في آية سورة الأعراف ، إلّا أنّه بالتدقيق في معنى الضعف يتّضح أنّ لكليهما معنى واحدا.

٣٦٠