الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-51-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١٠

لعلي عليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي» (١).

٣ ـ وثمّة حديث مشهور أيضا ، وقد روي في كثير من مصادر العامّة ، وذلك

أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله ، فجعل الناس يطيفون به يقولون ما رأينا بنيانا أحسن من هذا إلّا هذه اللبنة ، فكنت أنا تلك اللبنة».

لقد ورد هذا الحديث في صحيح مسلم بعبارات مختلفة ، وروي عن رواة عديدين ، وقد وردت هذه الجملة «وأنا خاتم النّبيين» في ذيل الحديث الآنف الذكر في أحد الموارد.

ونرى في نهاية حديث آخر : «جئت فختمت الأنبياء» (٢).

وقد ورد هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري ـ كتاب المناقب ـ ومسند أحمد بن حنبل ، وسنن الترمذي والنسائي وكتب اخرى ، وهو من الأحاديث المعروفة والمشهورة جدّا ، وقد أورده مفسّر والفريقين كالطبرسي في مجمع البيان ، والقرطبي في تفسيره ، في ذيل الآية مورد البحث.

٤ ـ لقد ورد كون نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما للنبيين صريحا في كثير من خطب نهج البلاغة ، ومن جملة ذلك ما نراه في الخطبة ١٧٣ في وصف نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث يقول عليه‌السلام : «أمين وحيه ، وخاتم رسله ، وبشير رحمته ، ونذير نقمته».

وجاء في الخطبة ١٣٣ : «أرسله على حين فترة من الرسل ، وتنازع من الألسن.

فقفّى به الرسل ، وختم به الوحي».

وقال عليه‌السلام في الخطبة الاولى من نهج البلاغة ، بعد أن عدّد تعليمات الأنبياء

__________________

(١) روى هذا الحديث محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى : ص ٧٩ طبعة مكتبة القدس ، وابن حجر في الصواعق المحرقة ، ص ١٧٧ طبعة مكتبة القاهرة ، وفي تاريخ بغداد ، المجلّد ٧ ، ص ٤٥٢ طبعة السعادة ، وكتب اخرى ككنز العمّال ، ومنتخب كنز العمال ، وينابيع المودّة. لمزيد الإيضاح حول حديث المنزلة راجع هذا التّفسير ذيل الآية (١٤٤) من سورة الأعراف.

(٢) صحيح مسلم ، الجزء ٤ ، ص ١٧٩٠ ـ ١٧٩١ باب ذكر كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيّين من كتاب الفضائل.

٢٨١

الماضين : «إلى أن بعث الله سبحانه محمّدا رسول لإنجاز عدته ، وإتمام نبوّته».

٥ ـ وقد وردت مسألة الخاتمية في ختام خطبة الوداع ، تلك الخطبة التي ألقاها نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر حجّة له ، وفي آخر سنة من عمره المبارك ، كوصيّة جامعة للناس ، حيث قال : «ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي ، ولا امّة بعدكم» ثمّ رفع يديه إلى السماء حتّى بان بياض إبطيه ، فقال : «اللهمّ اشهد أنّي قد بلّغت» (١).

٦ ـ وجاء في حديث آخر ورد في «الكافي» عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله ختم بنبيّكم النبيّين فلا نبيّ بعده أبدا ، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبدا» (٢).

إنّ الأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة جدّا ، بحيث جمع منها في كتاب (معالم النبوّة) ١٣٥ حديثا من كتب علماء الإسلام عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الإسلام العظام (٣).

٣ ـ إجابة عن عدّة أسئلة :

١ ـ كيف تتناسب الخاتمية مع سير الإنسان التكاملي؟

السوال الأوّل الذي يطرح في هذا البحث هو : هل يمكن أن يتوقّف المجتمع الإنساني؟ أترى يوجد لسير البشر التكاملي حدّ محدود؟ ألسنا نرى بامّ أعيننا أنّ بشر اليوم قد وصلوا في العلم والثقافة إلى مرحلة تفوّق مستوى سابقيهم؟ فمع هذا الحال كيف يمكن أن يغلق سجل النبوّة مطلقا ، فيحرم الإنسان من قيادة أنبياء جدد في سيره التكاملي؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح بالالتفات إلى مسألة واحدة ، وهي أنّ

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٢١ ، ص ٣٨١.

(٢) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل.

(٣) معالم النبوّة. فصل نصوص كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما.

٢٨٢

الإنسان يصل أحيانا إلى مرتبة من النضج الفكري والثقافي بحيث يكون قادرا على الاستمرار في طريقه بالاستعانة المستمرة بالأصول والتعليمات التي تركها له النّبي الخاتم بصورة جامعة ، دون أن يحتاج إلى شريعة جديدة.

وهذا الأمر يشبه تماما أن يكون الإنسان محتاجا لمعلّم جديد ومربّ آخر في كلّ مرحلة من مراحل الدراسة المختلفة ، حتّى يقضي المراحل المختلفة ، أمّا إذا حصل على الدكتوراه ، أو أصبح مجتهدا له رأيه في العلم أو العلوم المختلفة فإنّه لا يحتاج في دراسته إلى أستاذ جديد ، بل يباشر البحث والمطالعة والتحقيق استنادا إلى ما اكتسبه من الأساتذة السابقين ، وخاصّة استاذه الأخير.

وبتعبير آخر ، فإنّه يحلّ المشاكل والعقبات التي تعترضه بالاستعانة بتلك الأصول الكليّة التي تعلّمها من استاذه الأخير ، وبناء على هذا فلا حاجة لأنّ يظهر دين جديد على مرّ الزمان (تأمّلوا ذلك).

وببيان آخر ، فإنّ كلّ واحد من الأنبياء السابقين قد مهّد جانبا من مسير التكامل ليكون الإنسان قادرا على سلوك هذا الطريق الصعب نحو التكامل وينال الأهلية لاستقبال منهج كامل وجامع لهذا الطريق على يد آخر نبي أرسل من قبل الله تعالى.

من البديهي أنّه مع استلام الخريطة الكاملة والمخطّط الجامع سوف لا تكون هناك حاجة إلى مخطّط آخر ، وهذا في الحقيقة هو التعبير الذي ورد في الرّوايات الدالة على كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما ، والتي عدّت نبيّ الإسلام آخر لبنة ، أو واضع آخر لبنة في قصر الرسالة البديع المحكم. وكلّ ذلك يؤكّد عدم الحاجة إلى دين جديد وشريعة مستحدثة.

أمّا فيما يتعلّق بمسألة القيادة والإمامة ، والتي تعني الإشراف التامّ على تنفيذ هذه الأصول ، والأخذ بأيدي الناس في هذا الطريق ، فهي مسألة اخرى لا يمكن أن يستغني الإنسان عنها في أيّ حين ، ولذلك فإنّ ختام سلسلة النبوّة لا يعني أبدا

٢٨٣

نهاية سلسلة الإمامة ، لأنّ «تبيين» و «توضيح» هذه الأصول و «تحقّقها في الخارج» لا يمكن أن يتمّ من دون الاستعانة بوجود قائد وإمام معصوم.

٢ ـ كيف تتلاءم القوانين الثابتة مع الحاجات المتغيّرة؟

بغضّ النظر عن مسألة السير التكاملي للبشر ، فإنّ هناك سؤالا آخر يطرح هنا ، وهو : أنّنا نعلم أنّ مقتضيات الأزمنة والأمكنة ومتطلباتها متفاوتة ، وبتعبير آخر فإنّ حاجات الإنسان في تغيّر مستمر ، في حين أنّ للشريعة الخاتمة قوانين ثابتة ، فهل تقوى هذه القوانين الثابتة على أن تؤمّن حاجات الإنسان المتغيّرة على مدى الزمان؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال جيدا بملاحظة المسألة التالية ، وهي : أنّه لو كانت لكلّ قوانين الإسلام صفة الجزئية ، وأنّها قد عيّنت لكلّ موضوع حكما جزئيا معينا لكان هناك مجال لهذا السؤال ، أمّا إذا عرفنا بأنّ في تعليمات الإسلام سلسلة من الأصول الكلية الواسعة جدّا ، والتي تقدر على أن تطابق الحاجات المتغيّرة وتؤمّنها ، فلا يبقى مجال لهذا الإشكال.

إنّنا نرى استحداث سلسلة من الاتّفاقيات الجديدة والروابط الحقوقية بين البشر لم يكن لها وجود في عصر نزول القرآن بتاتا ، فمثلا لم يكن في ذلك العصر شيء اسمه «الضمان» بفروعه المتعدّدة (١) ، وكذلك أنواع الشركات التي ظهرت في عصرنا وزماننا حسب الاحتياج اليومي ، لكن يوجد لدينا في الإسلام أصل عامّ ورد في بداية سورة «المائدة» بعنوان «لزوم الوفاء بالعهد والعقد» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وهو قادر على احتواء كلّ هذه الاتفاقيات.

وطبعا هناك قيود وشروط بصورة عامّة وضعت لهذا الأصل العامّ في الإسلام ،

__________________

(١) طبعا يوجد في الإسلام موضوعات تشبه الضمان في حدود خاصّة ، كمسألة ضمان الجريرة ، أو تعلّق ديّة الخطأ المحض بالعاقلة ، إلّا أنّ لها مجرّد شبه بالمسألة كما قلنا.

٢٨٤

يجب أن تؤخذ بنظر الإعتبار أيضا.

بناء على هذا فالقانون الكلّي ثابت في هذا الباب بالرغم من أنّ مصاديقه متغيّرة ، فلا مانع من أن يظهر مصداق جديد له في كلّ يوم.

ونضرب مثالا آخر ، وهو : لدينا في الإسلام قانون مسلّم به ، وهو قانون (لا ضرر) يمكن من خلاله تحديد أيّ حكم يكون منبعا ومصدرا للضرر والخسارة في المجتمع ، وعن هذا الطريق ترفع كثير من الاحتياجات. إضافة إلى أنّ مسائل «لزوم حفظ المجتمع» ، و «وجوب مقدّمة الواجب» ، و «تقديم الأهمّ على المهمّ» يمكن أن تكون حلا للمشاكل في كثير من الموارد.

وعلاوة على كلّ ذلك فإنّ الصلاحيات التي تمنح للحكومة الإسلامية عن طريق «ولاية الفقيه» تضع تحت تصرفها إمكانيات واسعة لحلّ المشاكل في إطار اصول الإسلام العامّة.

إنّ بيان كلّ واحد من هذه الأمور ، مع الأخذ بنظر الإعتبار كون باب الاجتهاد ـ أي استنباط الأحكام الإلهية من المصادر الإسلامية ـ يحتاج إلى بحث واسع يبعدنا تناوله عن الموضوع ولكن مع ذلك فإنّ ما أوردناه هنا من باب الإشارة يمكن أن يكون جوابا للإشكال المذكور.

٣ ـ كيف يحرم البشر من فيض الارتباط بعالم الغيب؟

السؤال الآخر هو : إنّ نزول الوحي والاتّصال بعالم الغيب وما وراء الطبيعة يعتبر نافذة أمل لكلّ المؤمنين الحقيقيين ، إضافة إلى أنّه موهبة وفخر لعالم البشرية ، ألا يعتبر قطع طريق الاتّصال هذا ، وغلق نافذة الأمل هذه حرمانا عظيما للبشر الذين يعيشون بعد وفاة خاتم الأنبياء؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة النقطتين أدناه ، وهما :

الاولى : إنّ الوحي والارتباط بعالم الغيب وسيلة لإدراك الحقائق ولمّا بيّنت كلّ

٢٨٥

الاحتياجات والحقائق إلى يوم القيامة في الأصول العامّة والتعليمات الجامعة التي وضعها خاتم النّبيين ، ولذلك فإنّ قطع طريق الاتّصال هذا لا يوجد مشكلة.

الثّانية : إنّ ما يقطع إلى الأبد بعد ختم النبوّة هو الوحي لشريعة جديدة ، أو لتكميل شريعة سابقة ، لا كلّ أنواع الاتّصال بما وراء عالم الطبيعة ، لأنّ للأئمّة ارتباطا بعالم الغيب ، وكذلك المؤمنون الحقيقيون الذين أزالوا الحجب عن قلوبهم ووصلوا إلى مقام المكاشفة والشهادة نتيجة تهذيبهم أنفسهم.

يقول الفيلسوف الشهير «صدر المتألّهين الشيرازي» في مفاتيح الغيب : «واعلم ، أنّ الوحي إذا انقطع ، وباب الرسالة إذا انسدّ استغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجّة وإكمال الدين ، كما قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وأمّا باب الإلهام فلا ينسدّ ، ومدد نور الهداية لا ينقطع لاحتياج الناس لاستغراقهم في هذه الوساوس إلى التنبيه والتذكير ، والله تعالى غلق باب الوحي وفتح باب الإلهام رحمة منه على عباده» (١).

إنّ هذا الارتباط يتولّد عادة من سموّ النفس وارتقاء الروح وتصفيتها وصفاء الباطن ، ولا علاقة لها بمسألة النبوّة والرسالة ، وبناء على هذا فمتى ما تحقّقت مقدّماته وشروطه وجدت هذه الرابطة المعنوية ، وبذلك فلم يكن أيّ بشر محروما من هذا الفيض العظيم ، ولن يكون ـ تأمّلوا ذلك ـ.

* * *

__________________

(١) مفاتيح الغيب ، ص ٤١ ـ ٤٢.

٢٨٦

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))

التّفسير

تحيّة الله والملائكة فرج للمؤمنين :

لمّا كان الكلام في الآيات السابقة عن مسئوليات نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وواجباته الثقيلة الملقاة على عاتقه ، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن جانبا من وظائف المؤمنين من أجل تهيئة الأرضية اللازمة لهذا التبليغ ، وتوسعة أطرافه في جميع الأبعاد ، فوجّهت الخطاب إليهم جميعا وقالت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) ونزّهوه صباحا ومساء (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

أجل .. لمّا كانت عوامل الغفلة في الحياة المادية كثيرة جدّا ، وسهام وسوسة الشياطين ترمى من كلّ جانب صوب الإنسان ، فلا طريق لمحاربتها إلّا بذكر الله الكثير.

٢٨٧

إنّ «الذكر الكثير» ـ بالمعنى الواقعي للكلمة ـ يعني التوجّه إلى الله سبحانه بكلّ الوجود ، لا بلقلقة اللسان وحسب.

«الذكر الكثير» هو الذي يقذف النور في كلّ أعمال الإنسان ، ويغمرها بالضياء ، ولهذا فإنّ القرآن أمر كلّ المؤمنين في هذه الآية أن يذكروا الله على كلّ حال :

فاذكروه أثناء العبادة ، فاحضروا قلوبكم وأخلصوا فيها.

واذكروه عند إقدامكم على المعصية وتجنّبوها وإذا ما بدرت منكم عثرة وهفوة فبادروا إلى التوبة ، وارجعوا إلى طريق الحقّ.

واذكروه عند النعم واشكروه عليها.

واذكروه عند البلايا والمصائب واصبروا عليها وتحمّلوها.

والخلاصة : لا تنسوا ذكره في كلّ مشهد من مشاهد الحياة والابتعاد عن سخطه ، والتقرّب لما يجلب رضاه.

ونطالع في حديث مروي في «سنن الترمذي» و «مسند أحمد» عن أبي سعيد الخدري عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ فقال : «الذاكرون الله كثيرا».

قال أبو سعيد : فقلت : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله؟! قال : «لو ضرب بسيفه في الكفّار والمشركين حتّى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون أفضل درجة منه» (١) ، وذلك لأنّ الجهاد المخلص لا يمكن أن يتمّ بدون ذكر الله الكثير.

ومن هنا يعلم أنّ للذكر الكثير معنى واسعا ، وإذا ما فسّر في بعض الرّوايات بتسبيح فاطمة عليها‌السلام ـ وهو ٣٤ مرّة (الله أكبر) و٣٣ مرّة (الحمد لله) و٣٣ مرّة (سبحان الله) ـ وفي كلمات بعض المفسّرين بذكر الصفات العليا والأسماء الحسنى ، وتنزيه الله سبحانه عمّا لا يليق به ، فإنّ كلّ ذلك من باب ذكر المصداق الواضح ، لا تحديد

__________________

(١) الدرّ المنثور ، طبقا لنقل الميزان ، المجلّد ١٦ ، صفحة ٣٥٣.

٢٨٨

المعنى بخصوص هذه المصاديق.

وكما يظهر بوضوح من سياق الآيات ، فإنّ المراد من «تسبيح الله» في كلّ غداة وعشي هو استمرار التسبيح ، وذكر هذين الوقتين بالخصوص باعتبارهما بداية اليوم ونهايته ، وما فسّرهما به البعض من أنّ المراد صلاتي الصبح والعصر ، أو أمثال ذلك ، فهو من قبيل ذكر المصداق أيضا.

لهذا فإنّ ذكر الله الكثير ، وتسبيحه بكرة وأصيلا لا يحصل إلّا باستمرار التوجّه إلى الله ، وتنزيهه عن كلّ عيب ونقص ، وتقديسه المتّصل ، فذكر الله غذاء لروح الإنسان كما أنّ الطعام والشراب غذاء للبدن.

وجاء في الآية (٢٨) من سورة الرعد (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ونتيجة هذا الاطمئنان القلبي هو ما ورد في الآيات ٢٧ ـ ٣٠ من سورة الفجر ، حيث تقول : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).

والآية التالية بمثابة نتيجة وعلّة غائيّة للتسبيح في الواقع ، فهي تقول : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الشرك والكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم والتقوى (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) وبسبب هذه الرحمة كتب على نفسه هداية البشر وإرشادهم ، وأمر ملائكته أن تعينهم في ذلك.

«يصلّي» من مادة (صلاة) وهي هنا تعني الرعاية والعناية الخاصّة ، وهذه العناية بالنسبة لله تعني نزول الرحمة ، وبالنسبة للملائكة تعني الاستغفار وطلب الرحمة ، كما نقرأ ذلك في الآية (٧) من سورة غافر : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذه الآية تتضمّن بشارة عظيمة للمؤمنين الذاكرين الله على الدوام ، فهي تقول بصراحة : إنّ هؤلاء ليسوا وحدهم في سيرهم إلى الله ، بل إنّهم ـ بمقتضى (يصلّي) وهو فعل مضارع يدلّ على الاستمرار ـ يسيرون في ظلّ

٢٨٩

رحمة الله وملائكته ، وفي ظلّ هذه الرحمة تزاح حجب الظلمة ، ويغمر قلوبهم وأرواحهم نور العلم والحكمة والإيمان والتقوى.

نعم .. إنّ هذه الآية بشارة كبرى لكلّ سالكي طريق الحقّ بأنّ هناك جاذبية قوية من جانب المعشوق تجذب العاشق إليها لينتهي سعي هذا العاشق الصبّ إلى نتيجة ولا يذهب سدى!

إنّ هذه الآية ضمان لكلّ المجاهدين في سبيل الله أن لا ينالهم قسم الشيطان على إغواء بني آدم ، لأنّهم في زمرة المخلصين المخلصين ، وقد أظهر الشيطان عجزه عن إضلال هذه الزمرة منذ الوهلة الاولى فقال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). (١)

إنّ جملة (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) وبملاحظة أنّ (كان) فعل ماض يدلّ على أنّ الله كان رحيما بالمؤمنين رحمة خاصّة على الدوام ، تأكيد مجدّد على ما جاء في بداية السورة.

أجل .. هذه هي رحمة الله الخاصّة التي تخرج المؤمنين من ظلمات الأوهام والشهوات والوساوس الشيطانية ، وتهديهم إلى نور اليقين والاطمئنان والسيطرة على النفس ، ولو لا رحمته سبحانه فإنّ هذا الطريق المليء بالمنعطفات والعراقيل لا يكون سالكا.

وتجسّد الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث مقام المؤمنين وثوابهم بأروع تجسيد وأقصر عبارة ، فتقول : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ).

«التحيّة» من مادّة «حياة» ، وهي تعني الدعاء لسلامة وحياة اخرى. ولمزيد التوضيح راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (٨٥) من سورة النساء.

هذا السّلام يعني السلامة من العذاب ، ومن كلّ أنواع الألم والعذاب والمشقّة ،

__________________

(١) سورة ص ـ ٨٢ ، ٨٣.

٢٩٠

سلام ممتزج بالهدوء والاطمئنان.

ومع أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ «تحيتهم» إشارة إلى سلام المؤمنين وتحية بعضهم بعضا ، إلّا أنّ ملاحظة الآيات السابقة التي كان الكلام فيها عن الصلاة ورحمة الله والملائكة في هذه الدنيا ، تظهر أنّ هذه التحية أيضا من الملائكة في الآخرة ، كما نقرأ ذلك في الآية (٢٣) من سورة الرعد : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ).

ممّا قلناه اتّضح بصورة ضمنية أنّ المراد من جملة (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) هو يوم القيامة الذي سمّي بيوم «لقاء الله» ، وهذا التعبير يستعمل عادة في القرآن بهذا المعنى.

بعد هذه التحيّة ، التي ترتبط ببداية الأمر ، أشارت الآية إلى نهايته فقالت : (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً).

إنّها جملة جمع فيها كلّ شيء على اختصارها ، وأخفيت فيها كلّ النعم والمواهب.

* * *

بحوث

١ ـ ذكر الله على كلّ حال :

عند ما يذكر اسم الله تعالى يتجلّى في قلب الإنسان عالم من العظمة والقدرة والعلم والحكمة ، لأنّ له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وربّ كلّ الكمالات ، ومنزّه عن كلّ عيب ونقص.

إنّ التوجّه المستمر لمثل هذه الحقيقة التي لها تلك الصفات ، يسوق روح الإنسان إلى الخيرات والأعمال الصالحة والطهارات ، ويبعده عن السيّئات والقبائح ، وبعبارة اخرى فإنّ نور صفاته عزوجل يتجلّى في روح الإنسان.

إنّ التوجّه إلى هكذا معبود عظيم يبعث على الإحساس الدائم بحضوره بين

٢٩١

يديه تعالى ، وهذا الإحساس يؤدّي إلى زيادة الفاصلة كثيرا بين الإنسان وبين الذنب والمعصية.

ذكر الله يعني تذكر مراقبته .. ذكر حسابه وجزائه .. ذكر محكمته العادلة .. نعيمه وجحيمه .. وهذا هو الذكر الذي يصفّي الروح ، ويغمر القلب نورا وحيوية.

لهذا ورد في الروايات الإسلامية أنّ لكلّ شيء حدّا ، إلّا ذكر الله فإنّه لا حدّ له!

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام في الرواية التي وردت في اصول الكافي : «ما من شيء إلّا وله حدّ ينتهي إليه ، إلّا الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه».

ثمّ يضيف : «فرض الله عزوجل الفرائض ، فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ ، وشهر رمضان فمن صامه فهو ، والحجّ فمن حجّ حدّه ، إلّا الذكر ، فإنّ الله عزوجل لم يرض منه بالقليل ، ولم يجعل له حدّا ينتهي إليه ، ثمّ تلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (١).

ويقول الإمام الصادق عليه‌السلام في ذيل هذه الرواية ، «وكان أبي كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله ، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله».

وأخيرا ينتهي هذا الحديث الغني المحتوى بهذه الجملة : «والبيت الذي يقرأ فيه القرآن ، ويذكر الله عزوجل فيه تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّي لأهل الأرض» (٢).

إنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان بحيث عدّ «ذكر الله» في حديث يعدل خير الدنيا والآخرة ، فقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من أعطي لسانا ذاكرا فقد اعطي خير الدنيا والآخرة» (٣)

__________________

(١) الكافي ، المجلّد الثّاني ، كتاب الدعاء. باب ذكر الله عزوجل كثيرا.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٢٩٢

والروايات الواردة في أهميّة «ذكر الله» تبلغ من الكثرة حدّا بحيث أنّا لو أردنا إيرادها جميعا هنا لخرجنا عن وضع الكتاب وحدّه ، ولذلك نختم هذا الحديث بحديث آخر قصير عميق المعنى عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث يقول : «من أكثر ذكر الله عزوجل أظلّه الله في جنّته» (١).

ولمزيد الاطلاع في هذا المجال يراجع المجلّد الثّاني من اصول الكافي ـ الأبواب التي تتعلّق بذكر الله ، وخاصّة الأبواب التي تقول : إنّ الآفات والبلايا والمصائب لا تحيط بمن يذكرون الله).

وهناك مطلب ينبغي التأكيد عليه ، وهو أنّ كلّ هذه البركات والخيرات لا ترتبط قطعا بالذكر اللفظي وحركة اللسان الخالية من الفكر والعمل ، بل الهدف هو الذكر الذي يكون مصدرا ومنبعا للفكر .. ذلك الفكر الذي يتجلّى نوره في أعمال الإنسان ، كما صرّحت الروايات بهذا المعنى (٢).

٢ ـ توضيح حول «لقاء الله» :

قلنا : إنّ هذا التعبير في القرآن المجيد يشير إلى القيامة عادة ، ولمّا كان اللقاء الحسّي لا يصدق في شأن الله ، إذ ليس هو بجسم ، وليس له العوارض الجسمية ، ولذلك اضطر بعض المفسّرين إلى تقدير شيء هنا ، فقالوا : إن المراد هو «لقاء ثواب الله» ، أو «لقاء ملائكة الله».

غير أنّ «اللقاء» يمكن أن يؤخذ هنا بمعنى اللقاء الحقيقي بعين القلب ، حيث أنّ الحجب تزال في القيامة وتتجلّى عظمة الله وآياته أكثر من أيّ وقت مضى ، ويصل الإنسان إلى مقام المشاهدة الباطنية والرؤية القلبية ، وينال كلّ شخص من هذه المشاهدة مرتبة تتناسب مع مقدار معرفته وعمله الصالح.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) خصال الصدوق ، طبقا لنقل تفسير الميزان ، المجلّد ١٦ ، صفحة ٣٥٣.

٢٩٣

وللفخر الرازي في تفسيره هنا بيان جميل يمكن جمعه مع ما قلناه ، فهو يقول : إنّ الإنسان يغفل في هذه الدنيا عن الله غالبا نتيجة لغرقه في الأمور المادية ، والسعي لتحصيل المعاش ، إلّا أنّه يتوجّه يوم القيامة بكلّ وجوده إلى ربّ العالمين ، لأنّ كلّ هذه المشاغل الفكرية ستزول ، وهذا هو معنى لقاء الله (١).

ثمّ إنّه اتّضح ممّا قلناه أنّ قول بعض المفسّرين بأنّ هذا التعبير إشارة إلى لحظة الموت واللقاء بملك الموت لا يناسب الآيات مورد البحث ، ولا التعبيرات المشابهة الواردة في آيات القرآن الاخرى ، وخاصّة وأنّ ضمير المفعول الذي في جملة «يلقونه» جاء بصيغة المفرد ، وهو إشارة إلى ذات الله المقدّسة في حين أنّ الملائكة التي تقبض الأرواح جمع ، وجاءت كلمة «الملائكة» بصيغة الجمع في الآية السابقة أيضا (إلّا اللهمّ أن تقدّر كلمة ما).

٣ ـ أجور المؤمنين معدّة منذ الآن!

إنّ جملة (أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) توحي بأنّ الجنّة ونعمها قد خلقت ، وهي بانتظار المؤمنين. ويمكن أن يتبادر هذا السؤال إلى الأذهان : إنّ التهيئة والإعداد يليقان بالشخص المحدود القدرة ، حيث أنّه ربّما لا يستطيع في بعض الأحيان أن يهيء وقت الحاجة ما يريد ، إلّا أنّ مثل هذه الحاجة إلى الاستعداد لا تصدق في شأن الله سبحانه ، إذ أنّ قدرته لا تحدّ ، وإذا أراد شيئا في أيّة لحظة فإنّه يقول له : كن فيكون ، فما هو المراد من التأكيد على التهيئة والإعداد في هذه الآية وسائر آيات القرآن الاخرى؟!

وبملاحظة نقطة واحدة يحلّ هذا الإشكال ، وهي أنّ تهيئة الشيء ليس نابعا من كون القدرة محدودة دائما ، بل قد يكون أحيانا من أجل تهدئة الخاطر واطمئنان

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآية مورد البحث.

٢٩٤

النفس أكثر ، وقد يكون أحيانا من أجل زيادة الاحترام والإكرام ، ولذلك فإنّنا إذا دعونا ضيفا ، وبدأنا بتهيئة وسائل استقباله وضيافته ، فسنكون قد اهتممنا به واحترمناه أكثر ، على عكس ما إذا قمنا بهذا الاستعداد لاستقباله يوم مجيئه ، وفي ساعة وصوله ، فإنّ هذا كاف لوحده في الدلالة على عدم اهتمامنا وقلّة احترامنا لهذا الضيف.

وفي الوقت نفسه ، لا يمنع هذا الكلام من تعاظم الأجر والثواب وزيادته وفق العمل ، وأنّ المؤمنين كلّما اجتهدوا أكثر في تهذيب أنفسهم وتطهيرها ، فإنّ الأجور الإلهيّة المعدّة لهم تتكامل أكثر وتعظّم ، وتسير نحو الكمال بنفس النسبة التي يتكاملون فيها.

* * *

٢٩٥

الآيات

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨))

التّفسير

السّراج المنير!

الخطاب في هذه الآيات موجّه إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّ نتيجته لكلّ المؤمنين ، وبذلك فإنّها تكمل الآيات السابقة التي كانت تبحث في بعض وظائف المؤمنين وواجباتهم.

لقد جاءت في الآيتين الأوليين من هذه الآيات الأربع «خمس صفات» للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاء في الآيتين الأخريين بيان خمس واجبات يرتبط بعضها ببعض ، وتكمل إحداها الاخرى.

تقول الآية أوّلا : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) فهو من جانب شاهد على أعمال أمّته ، لأنّه يرى أعمالهم كما نقرأ ذلك في موضع آخر : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ

٢٩٦

وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ). (١) وهذا العلم يمكن تحقّقه عن طريق عرض أعمال الامّة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، وقد مرّ تفصيل ذلك في ذيل الآية المذكورة (١٠٥ من سورة التوبة).

وهو من جانب آخر شاهد على الأنبياء الماضين الذين كانوا شهودا على أممهم : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً). (٢)

ومن جهة ثالثة فإنّ وجودك بما لك من الصفات والأخلاق والبرامج والتعليمات البنّاءة ، إضافة إلى تاريخك المشرق وأعمالك المشرفة ، شاهد على أحقّية دينك ، وشاهد على عظمة الله وقدرته.

ثمّ تطرّقت الآية إلى الصفتين الثّانية والثالثة فقالت : (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) فهو مبشّر للمحسنين بثواب الله اللامتناهي .. بالسلامة والسعادة الخالدة .. بالظفر والتوفيق المليء بالفخر والاعتزاز .. ونذير للكافرين والمنافقين من عذاب الله الأليم .. من خسران كلّ رأسمال الوجود ، ومن السقوط في شراك التعاسة في الدنيا والآخرة.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ البشارة والإنذار يجب أن يقترنا في كلّ مكان ، وأن يكون أحدهما معادل للآخر ، لأنّ نصف وجود الإنسان عبارة عن حبّه لجلب المنفعة ، ونصفه الآخر سعيه لدفع المضرّة عنه ، فالبشارة تشكّل الدافع على القسم الأوّل ، والإنذار على النصف الثاني ، فالمناهج التي تعتمد على جانب واحد لم تدرك حقيقة الإنسان ، ولم تدرك دوافعه وميوله (٣).

وأشارت الآية التالية إلى الصفة الرّابعة والخامسة ، فقالت : (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً).

* * *

__________________

(١) التوبة ، ١٠٥.

(٢) النساء ، ٤١.

(٣) لقد أوردنا بحثا مفصّلا في هذا الباب تحت عنوان أصلان تربويان مهمّان ، في ذيل الآية (١١٩) من سورة البقرة.

٢٩٧

ملاحظات

وهنا ينبغي الانتباه إلى عدّة ملاحظات :

١ ـ لقد ذكر مقام «الشهادة» ، وكون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهدا قبل جميع صفاته الاخرى ، وذلك لأنّ هذا المقام لا يحتاج إلى مقدّمة سوى وجود النّبي ورسالته ، فعند ما يتمّ نصبه في هذا المقام يكون شاهدا من جميع الجهات التي ذكرناها سابقا ، غير أنّ مقام «البشارة» و «الإنذار» أمر يتحقّق بعد ذلك.

٢ ـ إنّ الدعوة إلى الله سبحانه مرحلة تأتي بعد البشارة والإنذار ، لأنّ البشارة والإنذار وسيلة لتهيئة الأفراد لقبول الحقّ ، فعند ما تتهيّأ هذه الأرضية عن طريق الترغيب والترهيب ، تبدأ مرحلة الدعوة إلى الله سبحانه ، وستكون مؤثّرة في هذه الحالة فقط.

٣ ـ مع أنّ كلّ أعمال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإذن الله وأمره ، إلّا أنّ الدعوة هي الوحيدة التي قيّدت بإذن الله هنا ، وذلك لأنّ أشقّ أعمال الأنبياء وأهمّها هي الدعوة إلى الله سبحانه ، حيث يجب عليهم أن يسوقوا الناس في طريق يخالف ميولهم وشهواتهم ، فيجب أن تستبطن إذن الله وأمره ونصرته في هذه المرحلة ليتمّ تنفيذها ، ومن هنا يتّضح أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يملك شيئا من عند نفسه ، بل كلّ ما يقوله بإذن الله (١).

٤ ـ إنّ كون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (سراجا منيرا) إشارة إلى المعجزات وأدلّة أحقّية دعوة الرّسول ، وعلامة صدقها ، فهو سراج منير شاهد بنفسه على نفسه ، يزيح الظلمات ويلفت الأنظار ويجذب القلوب إليه ، فكما أنّ بزوغ الشمس دليل على وجود الشمس ، فكذلك وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله دليل على كونه حقّا ، ودليل على أحقّيته.

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ لفظة «السراج» قد وردت في القرآن المجيد أربع مرّات ، ثلاث منها في شأن الشمس ، ومن جملتها ما ورد في الآية (١٦) من سورة

__________________

(١) يحتمل أيضا أنّ قيد (بإذنه) يعود إلى جميع الأوصاف السابقة ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو أنّ الضمير يعود إلى مسألة الدعوة إلى الله.

٢٩٨

نوح حيث تقول : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً).

«السراج» في الأصل يعني المصباح الذي يضاء سابقا بواسطة الفتيلة والزيت ، وبواسطة الطاقة الكهربائية وأمثالها في العصر الحاضر ، فينبعث ضياؤه ونوره ، إلّا أنّه اطلق ـ على قول الراغب في مفرداته ـ على كلّ مصدر للنور فيما بعد ، وإطلاقه على الشمس من أجل أنّ نورها ينبع من داخلها ، ولا تكتسب نورها من مصدر آخر كالقمر.

إنّ وجود النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كالشمس المنيرة التي تزيح ظلمات الجهل والشرك والكفر عن سماء روح البشر ، لكن كما لا ينتفع العمي بنور الشمس ، وكما تخفي الخفافيش أنفسها عنه حيث لا طاقة لعيونها برؤية هذا النور ، فإنّ عمي القلوب العنودين المتعصّبين لم يستفيدوا ولن يستفيدوا من هذا النور مطلقا ، وكان أبو جهل وأمثاله يضعون أصابعهم في آذانهم حتّى لا يسمعوا صوت قرأنه ونغمته.

إنّ الظلام يبعث على الخوف والوحشة دائما ، والنور يبعث الاطمئنان والراحة ، فالسرّاق واللصوص يستغلّون ظلام الليل للسطو على الدور ونهب ما يقدرون عليه ، والحيوانات المفترسة تخرج من حجورها في ظلمة الليل غالبا.

الظلام يسبّب الفرقة ، والنور يسبّب الاجتماع ، ولذلك فإنّنا إذا أسرجنا سراجا في ليلة مظلمة فستجتمع حوله أنواع الحشرات في فترة قصيرة.

إنّ النور والضياء أساس نمو الأشجار ، ونضج الفواكه والأثمار ، والخلاصة : كلّ نشاطات الحياة ، وتشبيه وجود النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمصدر للنور يبعث على تداعي كلّ هذه المفاهيم في الذهن.

إنّ وجود النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أساس الهدوء والاطمئنان ، وفرار لصوص الدين والإيمان ، وهرب الذئاب الضارية الظالمة لمجتمعاتها ، ويوجب هدوء الخاطر ، ونمو روح الإيمان والأخلاق ، والخلاصة : أساس الحياة والحركة ، وتأريخ حياته شاهد حي على هذا الموضوع.

٢٩٩

وفي الآيتين الأخريين من الآيات مورد البحث بيانا لخمسة واجبات من واجبات النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله المهمّة بعد بيان صفاته الخمس ، فتقول أوّلا : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) وهي إشارة إلى أنّ مسألة تبشير النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يحدّ بالثواب الإلهي بمقدار أعمال المؤمنين الصالحة ، بل إنّ الله سبحانه يفيض عليهم من فضله بحيث تضطرب المعادلة بين العمل والجزاء تماما كما تشهد بذلك الآيات القرآنية.

فتقول في موضع : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها). (١)

وتقول في موضع آخر : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ). (٢)

وقد تذهب أبعد من ذلك فتقول : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).(٣)

وبهذا فإنّ أبعاد الفضل الإلهي الكبير أوسع وأسمى ممّا يخطر في التصوّر والأوهام.

ثمّ تناولت الواجب الثّاني والثالث ، فقالت : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ).

لا شكّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطع الكافرين والمنافقين مطلقا ، إلّا أنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان ، ولذلك أكّدت الآية على هذا الموضوع بالخصوص من باب التأكيد على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتحذير والقدوة للآخرين ، فهي تحذّرهم من الأخطار والعقبات المهمّة التي تعترض طريق القادة المخلصين ، والتي تجرّهم إلى المساومة والتسليم أثناء المسيرة ، وتتهيّأ أرضية هذا التسليم عن طريق التهديد تارة ، وعن طريق منح الامتيازات تارة اخرى ، حتّى أنّ الإنسان قد يشتبه أحيانا فيظنّ أنّ الخضوع والامتثال لمثل لهذه المساومة والاستسلام هو طريق الوصول

__________________

(١) الأنعام ، ١٦٠.

(٢) البقرة ، ٢٦١.

(٣) الم السجدة ، ١٧.

٣٠٠