الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-51-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١٠

أولئك الذين يدعون إلى الشرك والآلهة المتعدّدة ينبغي أن تكون لهم قلوب متعدّدة ، ليجعلوا كلّ واحد منها بيتا لعشق معبود واحد!

من المسلّم أنّ شخصيّة الإنسان السليم شخصية واحدة ، وخطّه الفكري واحد ، ويجب أن يكون واحدا في وحدته واختلاطه بالمجتمع ، في الظاهر والباطن ، في الداخل والخارج ، وفي الفكر والعمل ، فإنّ كلّ نوع من أنواع النفاق أز ازدواج الشخصية أمر مفروض على الإنسان وعلى خلاف طبيعته.

إنّ الإنسان بحكم امتلاكه قلبا واحدا يجب أن يكون له كيان عاطفي واحد ، وأن يخضع لقانون واحد ..

ولا يدخل قلبه إلّا حبّ معشوق واحد ..

ويسلك طريقا معيّنا في حياته ، بأن يتآلف مع فريق واحد ، ومجتمع واحد ، وإلّا فإنّ التعدّد والتشتّت والطرق المختلفة والأهداف المتفرّقة ستقوده إلى اللاهدفية والانحراف عن المسير التوحيدي الفطري.

ولهذا نرى في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في تفسير هذه الآية : «لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان ، إنّ الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه ، فيحبّ بهذا ويبغض بهذا ، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه ، فمن أراد أن يعلم فليمتحن قلبه ، فإن شارك في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولسنا منه» (١).

وبناء على هذا فإنّ القلب مركز الإعتقاد الواحد ، وينفّذ برنامجا عمليا واحدا ، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعتقد بشيء حقيقة وينفصل عنه في العمل ، وما يدّعي بعض المعاصرين من أنّهم يمتلكون شخصيات متعدّدة ، ويقولون : إنّنا قد قمنا بالعمل الفلاني سياسيا ، وبذلك العمل دينيا ، والآخر اجتماعيا ، ويوجّهون بذلك

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٢٣٤.

١٦١

أفعالهم المتناقضة ، فهو ناشئ من نفاقهم وسوء سريرتهم حيث يريدون أن يسحقوا بهذا الكلام قانون الخلقة.

صحيح أنّ أبعاد حياة الإنسان مختلفة ، ولكن يجب أن يحكمها خطّ واحد ، وتسير ضمن منهاج واحد.

ثمّ يتطرّق القرآن إلى خرافة اخرى من خرافات الجاهلية ، وهي خرافة «الظهار» ، حيث أنّ المشركين كانوا إذا غضبوا على نسائهم ، وأرادوا أن يبدوا تنفّرهم وعدم ارتياحهم ، قالوا للزوجة : أنت عليّ كظهر أمّي فيعتبرها بمثابة أمّه ، وكان يعدّ هذا الكلام بمنزلة الطلاق!

يقول القرآن الكريم في تتمّة هذه الآية : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) فلم يمض الإسلام هذا القانون الجاهلي ، ولم يصادق عليه ، بل جعل عقوبة لمن يتعاطاه ، وهي : أنّ من نطق بهذا الكلام فلا يحقّ له أن يقرب زوجته حتّى يدفع الكفّارة ، وإذا لم يدفعها ولم يأت زوجته فإنّ لها الحقّ في أن تستعين بحاكم الشرع ليجبره على أحد أمرين : إمّا أن يطلّقها وفقا لأحكام الإسلام ويفارقها ، أو أن يكفّر ويستمرّ في حياته الزوجية كالسابق (١).

أي منطق هذا الذي تصبح فيه زوجة الإنسان بمنزلة أمّه بمجرّد أن يقول لها : أنت عليّ كظهر أمّي؟! إنّ ارتباط وعلاقة الامّ والولد علاقة طبيعية لا تتحقّق بمجرّد الكلام مطلقا ، ولذلك تقول الآية ٢ ـ سورة المجادلة بصراحة : (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً).

وإذا كان هدف هؤلاء من إطلاق هذه الكلمات هو الإفتراق والانفصال عن المرأة ـ (وهكذا كان في عصر الجاهلية ، حيث كانوا يقولون هذه الكلمات بدل لفظ الطلاق) ـ فإنّ الانفصال عن المرأة لا يحتاج إلى مثل هذا الكلام القبيح السيّء. ألا

__________________

(١) سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ توضيح أكثر حول المسائل المرتبطة بالظهار في ذيل الآيات المناسبة في سورة المجادلة.

١٦٢

يمكن أن يصرّح بالطلاق بتعبير صحيح بعيد عن كلّ ذلك القبح؟

وقال بعض المفسّرين : إنّ «الظهار» في الجاهلية لم يكن يؤدّي إلى انفصال الرجل عن المرأة ، بل إنّه كان يجعل المرأة كالمعلّقة لا يعرف حالها ومصيرها ، وإذا كانت المسألة كذلك ، فإنّ جناية هذا العمل وقبحه ستكون أوضح ، لأنّ كلمة لا معنى لها كانت تحرّم على الرجل علاقته الزوجية مع زوجته من دون أن تكون المرأة مطلّقة (١).

ثمّ تطرّقت الآية إلى ثالث خرافة جاهلية ، فقالت : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ).

وتوضيح ذلك : أنّه كان من المتعارف في زمن الجاهلية أنّهم كانوا ينتخبون بعض الأطفال كأولاد لهم ، ويسمّونهم أولادهم ، وبعد هذه التسمية يعطونه كلّ الحقوق التي يستحقّها الولد من الأب ، فيرث الولد من تبنّاه ، كما يرث المتبنّي الولد ، ويجري عليهما تحريم امرأة الأب أو زوجة الابن.

وقد نفى الإسلام هذه العادات غير المنطقية والخرافية أشدّ النفي ، بل ـ وكما سنرى ـ أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقدم ـ لمحو هذه السنّة المغلوطة ـ على الزواج من زوجة ولده المتبنّي «زيد بن حارثة» بعد أن طلّقها زيد ، ليتّضح من خلال هذه السنّة النبوية أنّ هذه الألفاظ الجوفاء لا يمكن أن تغيّر الحقائق والواقع ، لأنّ علاقة البنوّة والابوّة علاقة طبيعية لا تحصل أبدا من خلال الألفاظ والاتّفاقيات والشعارات.

ومع أنّنا سنقول فيما بعد : أنّ زواج النبي بزوجة زيد المطلّقة قد أثار ضجّة عظيمة بين أعداء الإسلام ، وأصبح حربة بيدهم للإعلام المضادّ السيء ، إلّا أنّ هذا العمل كان يستحقّ تحمّل كلّ ذلك الصخب الإعلامي لتحطيم هذه السنّة الجاهلية ، ولذلك يقول القرآن الكريم بعد هذه الجملة : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ).

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، المجلّد ٦ ، صفحة ٥٣٤ ، ذيل الآية مورد البحث.

١٦٣

إنّكم تقولون : إنّ فلانا ولدي ، وأنتم تعلمون علم اليقين أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ الأمواج الصوتية فقط هي التي تخرج من أفواهكم ولا تنبع مطلقا من إعتقاد قلبي ، وهذا كلام باطل ليس إلّا (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ).

إنّ «قول الحقّ» يطلق على القول الذي ينطبق على الواقع الموضوعي تماما ، أو أن يكون من الأمور الاعتبارية التي تنسجم مع مصالح كلّ أطراف القضيّة ، ونعلم أنّ مسألة «الظهار» في الجاهلية ، أو «التبنّي» الذي كان يستحق حقوق الأبناء الآخرين إلى حدّ كبير ـ لم يكونا من الموضوعات العينية ، ولا من الاعتباريات الحافظة لمصلحة عامّة الناس.

ثمّ يضيف القرآن مؤكّدا وموضّحا الخطّ الصحيح والمنطقي للإسلام : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ).

إنّ التعبير بـ (أقسط) لا يعني أنّهم إن دعوهم بأسماء المتبنّين لهم فإنّه عدل ، وإن دعوهم بأسماء آبائهم الواقعيين فإنّه أعدل ، بل ـ وكما قلنا سابقا مرارا ـ إنّ صيغة (أفعل التفضيل) تستعمل في بعض الموارد ولا تدلّ على الوصف المقابل لصفة ما ، فمثلا نقول : من الأفضل أن يحتاط الإنسان ولا يلقي بنفسه في الخطر ، فلا يعني هذا أنّ إلقاء النفس في الخطر والتهلكة حسن ، إلّا أنّ الاحتياط أفضل منه ، بل إنّ المراد المقارنة بين الحسن والقبح.

وتقول الآية لرفع الأعذار والحجج : (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي إنّ عدم معرفة آبائهم لا يكون دليلا على أن تضعوا اسم شخص آخر كأب لهذا الابن ، بل يمكنكم أن تخاطبوهم كإخوانكم في الدين أو أصدقائكم ومواليكم.

(الموالي) جمع «مولى» ، وقد ذكر المفسّرون له معاني عديدة ، فالبعض فسّره هنا بمعنى الصديق والصاحب ، والبعض الآخر بمعنى الغلام المعتق والمحرّر ، لأنّ بعض الأدعياء كانوا عبيدا يشترون ثمّ يتحرّرون ، ولمّا كان أصحابهم قد اهتّموا

١٦٤

بهم وأحبّوهم فإنّهم كانوا يدعونهم كأبناء لهم.

وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ تعبير (مولى) في مثل هذه الموارد كان يرتبط بالعبيد المحرّرين من جهة أنّهم كانوا يحتفظون بعلاقاتهم مع مالكيهم بعد تحرّرهم ، تلك العلاقات التي كانت تنوب عن اولي الأرحام في بعض الجهات من الناحية الحقوقية ، وكانوا يعبّرون عن ذلك بـ (ولاء العتق) ولذلك نقرأ في الروايات الإسلامية أنّ «زيد بن حارثة» بعد أن أعتقه النّبي كان يدّعي زيد بن محمّد ، حتّى نزل القرآن بالأمر أعلاه ، فمن ذلك الحين قال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت زيد بن حارثة» ، وكان الناس يدعونه بعد ذلك : مولى رسول الله (١).

وقالوا أيضا : كان لأبي حذيفة غلام يدعى «سالما» فأعتقه وادّعاه ، فلمّا نزلت هذه الآية كانوا يسمّونه : سالما مولى أبي حذيفة (٢).

ولكن ربّما يدعو الشخص إنسانا لغير أبيه لاعتياده ذلك سابقا ، أو لسبق لسانه ، أو لاشتباهه في تشخيص نسب الأفراد ، وهذا خارج عن حدود إختيار الإنسان ، فإنّ الله العادل الحكيم لا يعاقب مثل هذا الإنسان ، ولذا أردفت الآية : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (٣) (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

إنّه تعالى يغفر لكم ما سبق ، ويعفو عن السهو والنسيان والاشتباه ، أمّا بعد نزول هذا الحكم فإنّ الله عزوجل سوف لا يغفر لكم مخالفتكم إن صدرت عن عمد وقصد ، فتدعون أفرادا بغير أسماء آبائهم ، وتستمرّون على اتّباع هذا العرف السيء بالدعوة لغير الأب.

وقال بعض المفسّرين : إنّ موضوع الخطأ يشمل الموارد التي يقول فيها

__________________

(١) روح المعاني ، المجلّد ٢١ ، صفحة ١٣١ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) روح البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

(٣) قال المفسّرون : إنّ كلمة (ما) هنا موصولة ، وهي من ناحية الإعراب مبتدأ ، وخبرها محذوف ، وتقدير الجملة : لكن ما تعمّدت قلوبكم فإنّكم تؤاخذون عليه.

١٦٥

الإنسان لآخر تحبّبا : ولدي ، أو يا بنيّ ، أو يقول فيها لآخر احتراما : يا أبت!

وهذا الكلام صحيح ـ طبعا ـ وهذه التعبيرات لا تعدّ ذنبا ، لكن لا لأجل عنوان الخطأ ، بل لأنّ لهذه التعبيرات صفة الكناية والمجاز ، وقرينتها معها عادة ، والقرآن ينفي التعبيرات الحقيقية في هذا الباب ، لا المجازية.

ثمّ تتطرّق الآية التالية إلى مسألة مهمّة اخرى ، أي إبطال نظام «المؤاخاة» بينهم.

وتوضيح ذلك : أنّ المسلمين لمّا هاجروا من مكّة إلى المدينة وقطع الإسلام كلّ روابطهم وعلاقاتهم بأقاربهم وأقوامهم المشركين الذين كانوا في مكّة تماما ، فقد أجرى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله عقد المؤاخاة بينهم وعقد عهد المؤاخاة بين «المهاجرين» و «الأنصار» ، وكان يرث أحدهم الآخر كالأخوين الحقيقيين ، إلّا أنّ هذا الحكم كان مؤقّتا وخاصّا بحالة استثنائية جدّا ، فلمّا اتّسع الإسلام وعادت العلاقات السابقة تدريجيّا لم تكن هناك ضرورة لاستمرار هذا الحكم ، فنزلت الآية أعلاه وألغت نظام المؤاخاة الذي كان يحلّ محلّ النسب ، وجعل حكم الإرث وأمثاله مختّصا بأولي الأرحام الحقيقيين.

وبالرغم من أنّ نظام المؤاخاة كان نظاما إسلاميا ـ على خلاف نظام التبنّي الذي كان نظاما جاهليا ـ ولكن كان من الواجب أن يلغى بعد ارتفاع الحالة الموجبة له ، وهكذا حصل ، غاية ما في الأمر أنّ الآية قبل أن تذكر هذا الحكم ذكرت حكمين آخرين ـ أي كون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وكون نساء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كامّهاتهم ـ كمقدّمة ، فقالت : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ).

ومع أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة الأب ، وأزواجه بمنزلة امّهات المؤمنين إلّا أنّهم لا يرثون منهم مطلقا ، فكيف ينتظر أن يرث الابن المتبنّي؟!

ثمّ تضيف الآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

١٦٦

وَالْمُهاجِرِينَ) ولكن مع ذلك ، ومن أجل أن لا تغلق الأبواب بوجه المسلمين تماما وليكون بإمكان المؤمنين تعيين شيئا من الإرث لإخوانهم ـ وإن كان بأن يوصوا بثلث المال ـ فإنّ الآية تضيف في النهاية : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً).

وتقول في آخر جملة تأكيدا لكلّ الأحكام السابقة ، أو الحكم الأخير : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) ـ في اللوح المحفوظ أو في القرآن الكريم ـ.

كان هذا خلاصة تفسير الآية أعلاه ، والآن يجب أن نتطرّق إلى تفصيل كلّ واحد من الأحكام الأربعة التي وردت في هذه الآية :

١ ـ ما هو المراد من كون النّبي أولى بالمؤمنين؟

لقد ذكر القرآن في هذه الآية أولوية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسلمين بصورة مطلقة ، ومعنى ذلك أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بالإنسان المسلم من نفسه في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان في حقّ نفسه.

ومع أنّ بعض المفسّرين فسّروها بمسألة «تدبير الأمور الاجتماعية» ، أو «الأولوية في مسألة القضاء» ، أو «طاعة الأمر» ، إلّا أنّنا في الواقع لا نمتلك أي دليل على انحصار الآية في أحد هذه الأمور الثلاث.

وإذا لاحظنا في بعض الروايات الإسلامية تفسير الأولوية بـ «الحكومة» ، فهو في الحقيقة بيان لأحد فروع هذه الأولوية (١).

لذلك يجب أن يقال : إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى من كلّ إنسان مسلم في المسائل الاجتماعية والفردية ، وكذلك في المسائل المتعلّقة بالحكومة والقضاء والدعوة ، وإنّ إرادته ورأيه مقدّم على إرادة أي مسلم ورأيه.

ولا ينبغي العجب من هذه المسألة ، لأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم ووكيل لله سبحانه ، ولا يفكّر ويقرّر إلّا في صالح المجتمع والفرد ، ولا يتّبع الهوى أبدا ، ولا يعتبر

__________________

(١) وردت هذه الروايات في اصول الكافي ، وكتاب علل الشرائع. راجع تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

١٦٧

مصالحه مقدّمة على مصالح الآخرين وأهمّ منها ، بل على العكس من ذلك ، فهو يؤثّر ويقدّم مصالح الامّة على مصالحه دائما عند تعارض المصلحتين.

إنّ هذه الأولوية فرع من أولوية المشيئة الإلهيّة ، لأنّ كلّ ما لدينا من الله سبحانه. إضافة إلى أنّ الإنسان لا يصل إلى أوج الإيمان إلّا عند ما يضحّي بأقوى العلائق والدوافع فيه ، وهو عشقه لذاته في طريق عشقه لذات الله وخلفائه ، ولذلك نقرأ في حديث : «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به» (١).

وجاء في حديث آخر : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» (٢).

وكذلك روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة» (٣).

ويقول القرآن الكريم في الآية (٣٦) من سورة الأحزاب هذه : (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).

نؤكّد مرّة اخرى على أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ الله قد جعل أمر الناس تبعا لأهواء ورغبات شخص ما ، بل من جهة أنّ للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مقام العصمة ، وبمصداق : (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) فإنّ كلّ ما يقوله هو كلام الله ومن الله ، وهو أحرص وأرحم حتّى من الأب بهذه الامّة.

إنّ هذه الأولوية في الحقيقة تقع في مسير منافع الناس في جوانب الحكومة وتدبير المجتمع الإسلامي ، وكذلك في المسائل الشخصية والفردية.

ويتبيّن من هذه الأدلّة أنّ هذه الأولوية تضع على عاتق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسئوليات ثقيلة ضخمة ، ولذلك نقرأ في الرواية المشهورة الواردة في مصادر الشيعة والسنّة ،

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

(٣) صحيح البخاري ، المجلّد ٦ ، صفحة ١٤٥ تفسير سورة الأحزاب ، ومسند أحمد ، الجزء ٢ ، صفحة ٣٣٤.

١٦٨

أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه ، ومن ترك مالا فللوارث ، ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ» (١).

ينبغي الالتفات إلى أنّ «الضياع» هنا بمعنى الأولاد أو العيال الذين بقوا بدون معيل ، والتعبير بـ «الدّين» قبلها قرينة واضحة على هذا المعنى ، لأنّ المراد بقاء الدّين بدون مال يسدّد به.

٢ ـ الحكم الثّاني في هذا الباب يتعلّق بأزواج النّبي حيث يعتبرن كامّهات لكلّ المؤمنين ، وهي طبعا أمومة معنوية وروحية ، كما أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أب روحي ومعنوي للأمّة.

إنّ تأثير هذا الارتباط المعنوي كان منحصرا في مسألة حفظ احترام أزواج النّبي وحرمة الزواج منهنّ ، كما جاء الحكم الصريح بتحريم الزواج منهنّ بعد وفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في آيات هذه السورة ، وإلّا فليس لهذه العلاقة أدنى أثر من ناحية الإرث وسائر المحرّمات النسبية والسببية ، أي إنّ المسلمين كان من حقّهم أن يتزوّجوا بنات النّبي ، في حين أنّ أيّ أحد لا يستطيع الزواج من ابنة امّه. وكذلك مسألة كونهنّ أجنبيات ، وعدم جواز النظر إليهن إلّا للمحارم.

في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ امرأة قالت لعائشة : يا امّه! فقالت :

لست لك لامّ إنّما أنا أمّ رجالكم» (٢) وهو إشارة إلى أنّ الهدف من هذا التعبير هو حرمة التزويج ، وهذا صادق في رجال الامّة فقط.

وثمّة مسألة مطروحة ، وهي احترامهنّ وتعظيمهنّ ـ كما قلنا ـ إضافة إلى قضيّة عدم الزواج ، ولذلك فإنّ نساء المسلمين كنّ قادرات على مخاطبة نساء النّبي

__________________

(١) نقل هذا الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في وسائل الشيعة ، الجزء ٧ ، صفحة ٥٥١ ، وورد هذا المضمون بتفاوت يسير في تفسير القرطبي ، وروح المعاني في ذيل الآيات مورد البحث ، وورد أيضا في صحيح البخاري ، المجلّد ٦ ، صفحة ١٤٥ تفسير سورة الأحزاب.

(٢) مجمع البيان ، وروح المعاني ، ذيل الآيات مورد البحث.

١٦٩

بالامّ بعنوان احترامهنّ.

والشاهد لهذا القول ، أنّ القرآن الكريم يقول : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهذا يعني أولوية النّبي بكلّ النساء والرجال ، وضمير الجملة التالية يعود إلى هذا العنوان الواسع المعنى ، ولذلك نقرأ في العبارة التي نقلت عن «امّ سلمة» ـ وهي من أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّها قالت : أنا امّ الرجال منكم والنساء (١).

وهنا يطرح سؤال ، وهو : هل أنّ تعبير (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) يتناقض مع ما ورد في الآية (٢) من سورة المجادلة : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) فكيف تعتبر نساء النّبي ـ والحال هذه ـ امّهات المسلمين ولم يولدوا منهنّ؟

وينبغي في الإجابة على هذا السؤال الالتفات إلى أنّ مخاطبة امرأة ما بالامّ إمّا أن تكون من الناحية الجسمية أو الروحية ..

فأمّا من الناحية الجسمية : فإنّ هذه المخاطبة تكون واقعية في حالة كون الإنسان مولودا منها فقط ، وهذا هو الذي جاء في الآيات السابقة بأنّ الامّ الجسمية للإنسان هي التي تلده فقط.

وأمّا الأب أو الامّ الروحيين ، فهو الذي له حقّ معنويّ على الإنسان كالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يعتبر الأب الروحي للامّة ، ولأجله اكتسبت أزواجه منزلة واحترام الامّ.

والإشكال الذي كان يوجّه إلى عرب الجاهلية في مورد «الظهار» أنّهم عند ما كانوا يخاطبون أزواجهم بخطاب الامّ فمن المسلّم أنّ مرادهم ليس الامّ المعنوية ، بل المقصود أنّهنّ كالامّ الجسمية ، ولذلك كانوا يعدّونه نوعا من الطلاق ، ونعلم أنّ الامّ الجسمية لا تتحقّق بمجرّد الألفاظ ، بل إنّ شرط ذلك الولادة الجسمية ، وبناء على هذا فإنّ كلامهم كان منكرا وزورا.

__________________

(١) روح المعاني ، ذيل الآيات مورد البحث.

١٧٠

أمّا في مورد أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبالرغم من أنّهنّ لسن امّهات جسميا ، إلّا أنّهنّ امّهات روحيات اكتسابا من مقام واحترام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولهنّ وجوب الاحترام كأمّهات. وإذا رأينا القرآن قد حرّم الزواج من أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآيات القادمة ، فإنّ ذلك شأن آخر من شؤون احترامهنّ واحترام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيأتي توضيح ذلك بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى.

وهناك نوع ثالث من الامّهات في الإسلام وهي الامّ المرضعة ، والتي أشير إليها في الآية (٢٣) من سورة النساء : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) إلّا أنّها في الحقيقة فرع من فروع الامّ الجسمية.

٣ ـ الحكم الثالث : مسألة أولوية أولي الأرحام في الإرث بالنسبة إلى الآخرين ، لأنّ قانون الإرث في بداية الإسلام ـ حيث قطع المسلمون علاقتهم بأقوامهم وأقاربهم على أثر الهجرة ـ نظّم على أساس الهجرة والمؤاخاة ، أي أنّ المهاجرين كانوا يرثون بعضهم من بعض أو مع الأنصار الذين تآخوا معهم ولكن لم تكن هناك ضرورة للاستمرار عليه بعد توسّع الإسلام وإعادة كثير من العلاقات القومية والرحمية السابقة نتيجة إسلام أقوامهم ـ (وينبغي الالتفات إلى أنّ سورة الأحزاب قد نزلت في السنة الخامسة للهجرة ، وهي سنة «حرب الأحزاب») لذلك ثبّتت أولوية أولي الأرحام بالنسبة إلى الآخرين.

وهناك قرائن على أنّ المراد من الأولوية هنا هي الأولوية الإلزامية لا الاستحبابية ، لأنّ إجماع علماء الإسلام على هذا المعنى ، إضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في المصادر الإسلامية ، والتي تثبت هذا الموضوع.

ويجب هنا الالتفات إلى هذه المسألة بدقّة ، وهي : أنّ هذه الآية بصدد بيان أولوية اولي الأرحام في مقابل الأجانب ، لا بيان أولوية طبقات الإرث الثلاث بالنسبة إلى بعضها البعض ، وبتعبير آخر ، فإنّ المفضّل عليهم هنا هم المؤمنون والمهاجرون الذين ورد ذكرهم في متن القرآن : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ).

١٧١

بناء على هذا فإنّ مفهوم الآية يصبح : إنّ أولي الأرحام أولى من الأجانب من ناحية الإرث ، أمّا كيف يرث هؤلاء الأرحام؟ وعلى أي أساس ومعيار؟ فإنّ القرآن سكت عن ذلك في هذا الموضع ، مع أنّه بحث الموضوع مفصّلا في آيات سورة النساء (١).

٤ ـ الحكم الرّابع الذي ورد في الآية أعلاه كاستثناء ، هو استفادة وانتفاع الأصدقاء والأفراد المعينين الذين يخصّهم الأمر من الأموال التي يتركها الإنسان كذكرى ، والذي بيّن بجملة : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) ومصداقه الواضح هو حكم الوصيّة ، حيث يستطيع الإنسان أن يتصرّف في ثلث أمواله ويضعه حيث يشاء ، أو يوصي به لمن يشاء.

وبهذا فإنّ الإسلام عند ما وضع أساس الإرث على دعامة القرابة والرحم بدل الروابط والعلاقات السابقة ، لم يقطع وشائج الصلة بين الإنسان ورفقائه الذين يعزّهم وباقي إخوته المسلمين تماما ، فالإنسان حرّ في التصرّف في ماله من ناحية الكميّة والكيفيّة ، إلّا أنّ هذه الحرية مشروطة بأن لا تزيد على الثلث ، ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا لم يوص بشيء فإنّ كلّ أمواله تقسّم بين أقاربه وذوي رحمه طبقا لقانون الإرث ، ولا يترك له ثلث في هذه الحالة (٢).

* * *

__________________

(١) بناء على هذا ، فإنّ استدلال بعض الفقهاء بهذا التعبير على أولوية طبقات الإرث بالنسبة إلى بعضها البعض لا يبدو صحيحا ، وربّما سبّب حرف الباء في (أولى ببعض) مثل هذا الاشتباه ، فظنّوا أنّ المفضّل عليهم هنا هم البعض ، في حين أنّ القرآن الكريم ذكر صريحا أنّ المفضّل عليهم هم من المؤمنين والمهاجرين. نعم .. إنّ تعبير (أولو الأرحام) لا يستطيع أن يشعر بمفرده أنّ المعيار هو الرحم والقرابة ، وأنّ درجة القرابة كلّما قويت وارتفعت فستكون أحقّ بالتقدّم ـ لاحظوا ذلك ـ.

(٢) يعتقد جمع من المفسّرين أنّ الاستثناء في جملة (إلّا أن تفعلوا ..) استثناء منقطع ، لأنّ حكم الوصيّة غير حكم الإرث ، ولكنّا نعتقد أن لا مانع من أن يكون الاستثناء هنا متّصلا ، لأنّ جملة (وأولو الأرحام ...) دليل على أن الأقارب أولى من الأجانب بالنسبة إلى الأموال التي يتركها الميّت ، إلّا أن يكون قد أوصى ، فإنّ الموصى له يكون حينئذ أولى من الأرحام في إطار الثلث ، وهذا في الحقيقة شبيه بالاستثناءات التي وردت في آيات الإرث بصيغة (من بعد وصيّة ...).

١٧٢

ملاحظة

وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير الآية أعلاه فيما يتعلّق بأولي الأرحام ، حيث فسّرت هذه الآية في بعض منها بمسألة «إرث الأموال» ، كما هو المعروف بين المفسّرين ، في حين فسّرت في البعض الآخر بمسألة «إرث الخلافة والحكومة» في آل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

ومن جملتها ما نقرؤه في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام حينما سئل عن تفسير هذه الآية ، أنّه قال : «نزلت في ولد الحسين عليه‌السلام» .. قيل : في المواريث؟ قال : «لا ، نزلت في الإمرة» (١).

من البديهي أنّه ليس المراد من هذه الأحاديث نفي مسألة إرث الأموال ، بل المراد لفت الانتباه إلى أنّ للإرث معنى واسعا يشمل إرث الأموال وإرث الولاية والخلافة.

وليس لهذا التوارث أي وجه شبه مع مسألة توارث السلطنة في سلسلة الملوك والسلاطين ، فإنّ التوارث هنا نتيجة للأهلية واللياقة ، ولذلك فإنّه يشمل من بين أولاد الأئمّة من كانت له هذه الأهلية ، ويشبه تماما ما يريده إبراهيم عليه‌السلام من الله سبحانه لذريّته ، فيقول الله له : إنّ الإمامة والولاية لا تنال الظالمين ، بل هي خاصّة بالطاهرين (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

ويشبه أيضا ما نقوله في الزيارات أمام قبور الشهداء في سبيل الله ، ومن جملتها ما نقوله أمام قبر الإمام الحسين عليه‌السلام : السّلام عليك يا وارث آدم ، ووارث نوح ، ووارث إبراهيم ، ووارث موسى وعيسى ومحمّد ... فإنّ هذا الإرث في الجوانب العقائدية والأخلاقية والمعنوية والروحية.

* * *

__________________

(١) أخرج هذه الأحاديث العلّامة السيّد هاشم البحراني في تفسير البرهان ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، ومن جملتها الحديث أعلاه ، والحديث (١٦) من سلسلة الأحاديث هذه.

١٧٣

الآيتان

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

التّفسير

ميثاق الله الغليظ :

لمّا كانت الآيات السابقة قد بيّنت الصلاحيات الواسعة للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت عنوان (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فإنّ هذه الآيات تبيّن واجبات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر الأنبياء العظام الثقيلة العظيمة ، لأنّا نعلم أنّ الصلاحيات تقترن دائما بالمسؤوليات ، وحيثما وجد «حقّ» كان إلى جانبه «تكليف» ومسئولية ، فإنّ هذين الأمرين لا يفترقان أبدا. بناء على هذا فإنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إن كان له حقّ وصلاحية واسعة ، فإنّ عليه في المقابل مسئوليات ضخمة.

تقول الآية الأولى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) وعلى هذا فإنّها تذكر أوّلا جميع الأنبياء في مسألة الميثاق ، ثمّ تخصّ بالذكر منهم خمسة أنبياء هم أولو

١٧٤

العزم ، وعلى رأسهم نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لعظمته وجلالته وشرفه ، وبعده الأنبياء الأربعة من أولي العزم حسب ترتيب ظهورهم ، وهم : «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى» عليهم‌السلام.

وهذا يوحي بأنّ الميثاق المذكور كان ميثاقا عامّا أخذ من جميع الأنبياء ، وإن كان أولو العزم متعهّدين بذلك الميثاق ومسئولين عنه بصورة أشدّ. ذلك الميثاق الذي بيّن بتأكيد شديد جدّا بجملة : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١).

المهمّ أن نعلم أيّ ميثاق هذا الذي أخذ من كلّ الأنبياء؟! للمفسّرين هنا أقوال مختلفة يمكن القول أنّها جميعا فروع مختلفة لأصل واحد ، وهو تأدية مسئولية التبليغ والرسالة والقيادة وهداية الناس في كلّ الأبعاد والمجالات.

إنّ الأنبياء كانوا مكلّفين جميعا بدعوة كلّ البشر إلى التوحيد قبل كلّ شيء ، وكانوا مكلّفين أيضا بأن يؤيّد بعضهم بعضا ، كما أنّ الأنبياء اللاحقين يصدّقون ويؤكّدون صحّة دعوة الأنبياء السابقين. والخلاصة : أن تكون الدعوة إلى جهة واحدة ، وأن يبلغ الجميع حقيقة واحدة ، ويوحّدوا الأمم تحت راية واحدة.

ويمكن ملاحظة الشاهد على هذا الكلام في سائر آيات القرآن أيضا ، فنقرأ في الآية (٨١) من سورة آل عمران : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

وورد نظير هذا المعنى في الآية (١٨٧) من سورة آل عمران ، حيث تقول بصراحة : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) وعلى هذا فإنّ الله سبحانه قد أخذ الميثاق المؤكّد من الأنبياء بأن يدعوا الناس إلى توحيد الله ، وتوحيد دين الحقّ والأديان السماوية ، وكذلك أخذه من علماء أهل

__________________

(١) الميثاق ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ هو العقد المؤكّد بيمين وعهد ، وبناء على هذا فإن ذكر (غليظا) في الآية تأكيد يضاف على هذا المعنى.

١٧٥

الكتاب بأن لا يقصّروا في تبيان الدين الإلهي بكلّ ما في وسعهم ، وأن لا يكتموا ذلك أبدا.

وتبين الآية التالية الهدف من بعثة الأنبياء والميثاق الغليظ الذي أخذ منهم ، فتقول : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً).

للمفسّرين تفسيرات كثيرة لكلمة «الصادقين» ، ومن هم المقصودون بها؟ وأيّ سؤال هذا السؤال؟ إلّا أنّ الذي يبدو منسجما مع آيات هذه السورة وآيات القرآن الاخرى ، هو : أنّ المراد منهم المؤمنون الذين صدّقوا ادّعاءهم بالعمل ، وأثبتوا صدقه بترجمته عمليّا ، وبتعبير آخر : فإنّهم خرجوا من ساحة الاختبار والامتحان الإلهي مرفوعي الرؤوس.

والشاهد لهذا القول :

أوّلا : إنّ «الصادقين» هنا وضعوا في مقابل الكافرين ، فيستفاد هذا المعنى بوضوح من قرينة المقابلة.

ثانيا : نقرأ في الآية (٢٣) من هذه السورة : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) ثمّ تقول الآية (٢٤) مباشرة : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).

ثالثا : عرّفت الآية (١٥) من سورة الحجرات ، والآية (٨) من سورة الحشر (الصادقين) جيّدا ، ففي آية الحجرات نقرأ : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

وتقول آية الحشر : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

وبهذا يتّضح أنّ المراد من الصادقين : هم الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم في ميادين حماية دين الله والجهاد والثبات والصمود أمام المشاكل وبذل الأرواح

١٧٦

والأموال (١).

أمّا ما هو المراد من سؤال الصادقين عن صدقهم؟ فيتّضح بملاحظة ما قلناه آنفا أنّ المراد هو : هل يثبتون إخلاص نيّتهم في أعمالهم ويصدقون في ادّعائهم .. في الإنفاق والجهاد والثبات أمام الصعاب والمشاكل ، وخاصّة صعوبات ميدان الحرب ، أم لا؟

وأين سأل هذا السؤال؟ ظاهر الآية أنّه في القيامة ، في محكمة العدل الإلهيّة ، وآيات القرآن العديدة أيضا تخبر عن وقوع مثل هذا السؤال في القيامة بصورة عامّة.

إلّا أنّه يحتمل أيضا أن يكون لهذا السؤال جانب عملي ويقع في الدنيا ، حيث يخضع كلّ من يدّعي الإيمان للسؤال عن بعثة الأنبياء ، وعمله هو الجواب على هذا السؤال ، لأنّه سيقرّر فيما إذا كان صادقا في ادّعائه.

* * *

__________________

(١) احتمل جمع من المفسّرين احتمالا آخر في معنى هذه الآية ، وهو أنّ المراد من «الصادقين» هنا هم الأنبياء ، حيث يسألون يوم القيامة عن مدى قيامهم ووفائهم بعهدهم وميثاقهم؟ إلّا أنّ الشواهد الثلاثة التي ذكرناها أعلاه تنفي هذا التّفسير. واحتمل أيضا أن يكون المراد أعمّ من الأنبياء والمؤمنين ، إلّا أنّ التّفسير الذي ذكر أعلاه أكثر انسجاما مع آيات هذه السورة وسائر آيات القرآن.

١٧٧

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١))

التّفسير

الامتحان الإلهي العظيم في مواجهة الأحزاب :

تتحدّث هذه الآيات والآيات الاخرى التالية ، والتي تشكّل بمجموعها سبع عشرة آية ، عن أعسر الامتحانات والاختبارات الإلهية للمؤمنين والمنافقين ، واختبار مدى صدقهم في العمل ، الذي بحث في الآيات السابقة.

إنّ هذه الآيات تبحث أحد أهمّ حوادث تاريخ الإسلام ، أي عن «معركة الأحزاب» ، تلك المعركة التي كانت في الواقع نقطة انعطاف في تاريخ الإسلام ، وقلبت موازين القوى بين الإسلام والكفر لصالح المسلمين ، وكان ذلك النصر مفتاحا للانتصارات المستقبلية العظيمة ، فقد انقصم ظهر الأعداء في هذه الغزوة ،

١٧٨

ولم يقدروا بعد ذلك على القيام بأيّ عمل مهمّ.

إنّ حرب الأحزاب ـ وكما يدلّ عليها اسمها ـ كانت مجابهة شاملة من قبل عامّة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطر نتيجة توسّع وانتشار هذا الدين.

لقد اشعلت أوّل شرارة للحرب من قبل يهود «بني النظير» الذين جاؤوا إلى مكّة وأغروا «قريش» بحرب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووعدوهم بأن يساندوهم ويقفوا إلى جانبهم حتّى النفس الأخير ، ثمّ أتوا قبيلة «غطفان» وهيّئوهم لهذا الأمر أيضا.

ثمّ دعت هذه القبائل حلفاءها كقبيلة «بني أسد» و «بني سليم» ، ولمّا كان الجميع قد أحسّ بالخطر فإنّهم اتّحدوا واتّفقوا على أن يقضوا على الإسلام إلى الأبد ، ويقتلوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقضوا على المسلمين ، ويغيروا على المدينة ويطفئوا مشعل الإسلام ونوره.

أمّا المسلمون الذين رأوا أنفسهم أمام هذا الجحفل الجرّار ، فإنّهم اجتمعوا للتشاور بأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقبل كلّ شيء أخذوا برأي «سلمان الفارسي» وحفروا حول المدينة خندقا حتّى لا يستطيع العدو عبوره بسهولة ويهجم على المدينة ، ولهذا كان أحد أسماء هذه المعركة «معركة الخندق».

لقد مرّت لحظات صعبة وخطرة جدّا على المسلمين ، وكانت القلوب قد بلغت الحناجر ، وكان المنافقون من جهة أخرى قد شمّروا عن السواعد وجدّوا في تآمرهم على الإسلام ، وكذلك ضخامة عدد الأعداء وقلّة عدد المسلمين ـ (ذكروا أنّ عدد الكفّار كان عشرة آلاف ، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثة آلاف) واستعداد الكفّار من ناحية المعدّات الحربية وتهيئة كافّة المستلزمات ، كلّ ذلك قد رسم صورة كالحة للمصير المجهول في أعين المسلمين.

إلّا أنّ الله سبحانه أراد أن ينزل هنا آخر ضربة بالكفر ، ويميّز صفّ المنافقين عن صفوف المسلمين ، ويفضح المتآمرين ، ويضع المسلمين الحقيقيين في موضع

١٧٩

الاختبار العسير.

وأخيرا انتهت هذه الغزوة بانتصار المسلمين ـ كما سيأتي تفصيل ذلك ـ فقد هبّت بأمر الله عاصفة هو جاء اقتلعت خيام الكفّار وأتلفت وسائلهم ، وألقت في قلوبهم الرعب الشديد ، وأرسل سبحانه قوى الملائكة الغيبية لعون المسلمين.

وقد أضيف إلى ذلك تجلّي قدرة وعظمة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أمام عمرو بن عبد ودّ ، فلاذ المشركون بالفرار من دون القدرة على القيام بأيّ عمل.

نزلت الآيات السبع عشرة من هذه السورة ، واستطاعت بتحليلاتها الدقيقة والفاضحة أن تستفيد من هذه الحادثة المهمّة من أجل انتصار الإسلام النهائي وقمع المنافقين بأفضل وجه.

كان هذا عرضا لمعركة الأحزاب التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة (١) ، ومن هنا نتوجّه إلى تفسير الآيات ونؤجّل سائر جزئيات هذه الغزوة إلى بحث الملاحظات.

يلخّص القرآن الكريم هذه الحادثة في آية واحدة أوّلا ، ثمّ يتناول تبيان خصوصياتها في الستّ عشرة آية الاخرى ، فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) (كثيرة جدا) (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) ويعلم أعمال كلّ جماعة وما قامت به في هذا الميدان الكبير.

وهنا جملة مطالب تستحقّ الدقّة :

١ ـ إنّ تعبير (اذكروا) يوحي بأنّ هذه الآيات نزلت بعد انتهاء الحرب ومضي فترة من الزمن أتاحت للمسلمين أن يحلّلوا في عقولهم وأفكارهم ما كانوا قد رأوه ليكون التأثير أعمق.

__________________

(١) ما ذكرناه أعلاه كان اختصارا لبحث مفصّل أورده المؤرخّون ، ومن جملتهم ابن الأثير في الكامل.

١٨٠