الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-57-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

لبنها!.

وجملة (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) لعلها إشارة إلى أن غلظة الغيوم وشدة هبوب الرياح ، ليستا في تلك الدرجة التي تمنع خروج قطرات الغيث الصغيرة من الغيم ونزولها على الأرض ، بل إن هذه الذرات الصغيرة ـ على الرغم من الغيوم المغطاة بها صفحة السماء ـ تجد طريقها من خلال الغيوم إلى الأرض ، وتتناثر ناعمة على الأراضي العطشى حتى ترويها بصورة جيدة وفي الوقت ذاته لا تدمر الثمر.

إن الرياح الشديدة والأعاصير التي تقلع الشجرة من أصلها أحيانا ـ على عظمتها وتحرك الصخور ، تأذن للقطرة الناعمة أن تمرّ من خلالها وتستقر على الأرض!

وينبغي الالتفات الى أن كون السحاب قطعات متراكمة «كسفا» ـ وإن لم يكن لنا جليا بهذه الصورة ـ في اليوم الغائم ، حيث تغطي هذه القطع صفحة السماء ، فلا نحس بأنّها على شكل قطع ، بل نراه سحابا مبسوطا .. لكن حين تقلّنا الطائرة وتحلق بنا فوق السحاب أو من خلاله ، نلمس هذه الظاهرة بوضوح!

ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلا : (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).

ثمّ تأتي الآية الأخرى بعدها فتقول : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) (١).

وإنّما يدرك هذا اليأس أو تلك البشارة أمثال العرب الذين يعيشون في رحلاتهم وتنقّلهم في الصحراء ، ولحياتهم علاقة وصلة قريبة مع هذه القطرات ، فأولئك يتفق أحيانا أن يلقى اليأس ظلاله السوداء على أنفسهم الظمأى ، كما أن أراضيهم ومزارعهم تبدو عليها آثار العطش ، وفجأة تهب الرياح المبشرة بنزول

__________________

(١) «مبلس» مأخوذة من مادة الإبلاس ، ومعناها اليأس وعدم الرجاء.

٥٦١

المطر ، الرياح التي يشمّ من خلالها رائحة «الغيث»! وتمرّ لحظات ، فتتسع الغيوم في السماء ثمّ تغلظ وتكون أكثر كثافة ، ثمّ ينزل «القطر» والغيث ، وتمتلئ الحفر بالماء الزلازل ، وتفيض الروافد والسواقي الصغيرة والكبيرة من هذه المائدة السماوية ، وتعود الحياة النضرة إلى الأرض اليابسة ، كما تتبر عم الآمال في قلوب الرحّل في الصحراء ويشرق الأمل في قلوبهم ، وتنجلي عنها غيوم الظلمة واليأس والقنوط!

ويبدو أن تكرار كلمة «من قبل» في الآية للتأكيد ، إذ تبيّن الآية أن الوجوه كانت عابسة متجهمة من قبل المطر بلحظات ، أجل ... لحظات قبل المطر ، وهم قلقون ولكن حين ينزل عليهم الغيث ... تشرق فجأة الوجوه وتبتسم الشفاه ، فكم هو موجود ضعيف هذا الإنسان! وكم هو رحيم هذا الربّ.

ومثل هذا التعبير وارد في كلماتنا العرفية حيث نقول مثلا : إن فلانا كان بالأمس ، نعم بالأمس صديقا لنا ، واليوم هو من أعدائنا ... والهدف من هذا التكرار هو التأكيد على تغيير حالات الإنسان.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يتوجه الخطاب إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها).

والاهتمام أو الاعتماد على كلمة «انظر» هو إشارة إلى أن آثار رحمة الله في إحياء الأرض بالمطر ، هي من الوضوح بمكان بحيث تكفي نظرة واحدة لمشاهدة هذه الآثار ، دون حاجة للبحث والتدقيق.

والتعبير بـ (رَحْمَةِ اللهِ) في شأن المطر هو إشارة الآثار المباركة فيه من جهات مختلفة!.

فالمطر يسقي الأرض ويرعى بذور النباتات ... ويهب الأشجار الحياة الجديدة!

وهو ينقيّ الجو والمحيط من الغبار المتراكم أو المتناثر في الفضاء.

٥٦٢

وهو يغسل النباتات ويمنحها النضرة والطراوة!.

وهو يمضي إلى أعماق التربة والأرض ، وبعد فترة يعود على شكل عيون وقنوات إلى سطح الأرض.

والمطر يدفع الأنهار والسيول وبعد تجمعها خلف السدود يتولد منها «الكهرباء» أو الطاقة والنور والحركة!.

وأخيرا فإنّ قطر السماء يحسّن الجوّ إذ يخفف من شدّة الحر ، ويهدئ من شدّة البرودة.

والتعبير بـ «الرحمة» عن المطر مذكور في عدة آيات من القرآن كما في الآية (٤٨) من سورة الفرقان ، والآية (٦٣) من سورة النمل ، ونقرأ كذلك في سورة الشورى الآية (٢٨) قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ).

ومع الالتفات إلى العلاقة بين المبدأ والمعاد في المسائل المختلفة فإن «القرآن» يضيف قائلا في نهاية الآية : (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

والتعبير بـ «محيي» بصيغة اسم الفاعل مكان الفعل المضارع ، وخاصّة مع كونه مسبوقا بلام التوكيد ، دليل على منتهى التأكيد.

ولقد رأينا مرارا في آيات القرآن الكريم ، أن هذا الكتاب السماوي ـ من أجل إثبات مسألة المعاد ـ ينتخب نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها شاهدا على ذلك!.

ففي سورة (ق) الآية (١١) يعقب القرآن بعد التعبير بحياة الأرض بعد موتها قائلا : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ)! ويشبه هذا التعبير في الآية (٩) من سورة فاطر إذ يقول القرآن:(كَذلِكَ النُّشُورُ).

٥٦٣

والواقع أن قانون الحياة والموت في كل مكان متشابه .. فالذي يحي الأرض الميتة بقطرات السماء ، ويهبها الحركة والبهجة ، ويتكرر هذا العمل على طول السنة ، وأحيانا في كل يوم ، فإن له هذه القدرة على إحياء الناس بعد الموت ، فالموت بيده في كل مكان ، كما أن الحياة بأمره أيضا.

صحيح أن الأرض الميتة لا تحيى ظاهرا ، بل تنمو البذور التي في قلب الأرض ، ولكننا نعلم أن هذه البذور الصغيرة تجذب مقدارا عظيما من أجزاء الأرض إلى نفسها ، وتحوّل الموجودات الميتة إلى موجودات حية! وحتى بقايا هذه النباتات المتلاشية ـ أيضا ـ تمنح القدرة والقوة للأرض لكي تحيى من جديد.

وفي الحقيقة لم يكن لمنكري المعاد أي دليل على مدعاهم سوى الاستبعاد ، والقرآن المجيد إنّما يستشهد بهذه الأمثال لإحباط هذا الاستبعاد منهم أيضا.

* * *

٥٦٤

الآيات

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤))

التّفسير

الموتى والصّمّ لا يسمعون كلامك :

حيث أنّ الكلام كان ـ في الآيات السابقة ـ عن الرياح المباركة التي كانت مبشرات بالغيث والرحمة ، ففي أوّل آية من الآيات أعلاه إشارة إلى الرياح المدمّرة والتي تجلب الضرر ، إذ يقول القرآن في هذا الصدد : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ).

أولئك هم الضعفاء الحمقى فهم قبل نزول الغيث مبلسون آيسون ، وبعد نزوله مستبشرون ، وإذا هبت ريح صفراء في بعض الأيّام وابتلوا مؤقتا تراهم يتصارخون وبالكفر يجأرون ويتجرءون!

٥٦٥

على العكس من المؤمنين الصادقين الذين هم بنعمة الله مستبشرون وعليها يشكرون ، وعند نزول المصائب والمشاكل تراهم صابرون ، ولا يؤثر التغيير المعاشي والحياتي المادي في إيمانهم أبدا ، وليسوا كعمي القلوب ضعيفي الإيمان ، الذين يظهرون إيمانهم بمجرّد هبوب الريح ، ويكفرون مرّة أخرى إذا هبت الريح بشكل آخر!

وكلمة «مصفرا» مشتقّة من «الصفرة» على زنة «سفرة» وهي لون معروف ، ويعتقد أكثر المفسّرين أن الضمير في «رأوه» يعود على الشجر والنباتات التي تصفر وذبل على أثر هبوب الرياح المخربة.

واحتمل بعضهم أنّ الضمير يعود على السحاب ، والسحاب المصفّر طبعا سحاب خفيف ، وهو عادة لا يحمل قطرا ، على العكس من الغيوم السود الكثيرة ، فإنّها تولد الغيث والقطر.

كما يعتقد بعضهم أنّ الضمير في «رأوه» يعود على الريح ، لأنّ الرياح الطبيعية عادة لا لون فيها (فهي عديمة اللون) إلّا أن الرياح التي تهب وهي مصفرة ، فهي ريح سموم وهجير ، وفي كثير من الأحيان تحمل معها الغبار.

وهناك احتمال رابع ، وهو أنّ «المصفّر» معناه الخالي ، لأنّه كما يقول الراغب في مفرداته ، يطلق على الإناء الخالي ، والبطن الخالية من الطعام ، والأوردة من الدم أنّها (صفر) على وزن (سفر) ، فعلى هذا يكون هذا التعبير آنف الذكر في شأن الرياح الخالية من القطر والغيث.

وفي هذه الصورة يعود الضمير في «رأوه» على الريح (فلاحظوا بدقة).

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أشهر من الجميع!

وما يستلفت النظر ، هو أنّ الرياح النافعة ذات الغيث جاءت هنا بصيغة الجمع ، ولكن على العكس منها الريح التي تجلب الضرر فقد جاءت بصيغة المفرد ، وهي إشارة إلى أنّ معظم الرياح نافعة ومفيدة ، غير أن ريح السموم هي من

٥٦٦

الحالات الاستثنائية التي تهب أحيانا في السنة مرّة أو في الشهر مرّة .. لكن الرياح المفيدة تهب دائما (ليل نهار).

أو أنّها إشارة إلى أنّ الرياح النافعة إنّما تكون كذلك ويكون لها أثرها المفيد ، إذا تتابعت ، غير أن الريح السيئة تترك أثرها عند هبوبها في المرّة الأولى.

وآخر ما ينبغي الإشارة إليه من اللطائف الضرورية في ذيل هذه الآية ، هو التفاوت ما بين (يَسْتَبْشِرُونَ) في شأن الرياح النافعة التي ذكرتها الآية المتقدمة ، وجملة (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) الواردة في الآية محل البحث.

وهذا الاختلاف أو التفاوت يدل على أنّهم يرون هذه النعم العظيمة المتتابعة التي أنعمها الله عليهم فيفرحون ويستبشرون ، غير أنّهم لو أصيبوا مرّة واحدة أو يوما واحدا بمصيبة ، فإنّهم يضجون ويكفرون حتى كأنّهم غير تاركين للكفر ، حل بهم!.

وهذا تماما يشابه حال أولئك الذين يعيشون عمرا بسلامة ولا يشكرون الله ، لكنّهم إذا مرضوا ليلة واحدة بالحمى «واشتعلوا بحرارتها» فإنّهم يظهرون الكفر وهذه هي حال الجهلة من ضعفاء الإيمان.

وكان لنا في هذا الصدد في الآية (٣٥) من هذه السورة ، والآيتين (٩) و (١٠) من سوره هود ، والآية (١١) من سورة الحج بحوث أخر أيضا.

وفي الآيتين التاليتين ـ بمناسبة البحث الوارد في الآية السابقة ـ فإن الناس يقسمون إلى أربعة طوائف :

١ ـ طائفة «الموتى» الذين لا يدركون أية حقيقة ، وإن كانوا أحياء في الظاهر!

٢ ـ وطائفة «الصم» الذين هم غير مستعدين للاستماع إلى الكلام الحق.

٣ ـ وطائفة «العمي» الذي حرموا من رؤية وجه الحق!

٤ ـ وأخيرا طائفة المؤمنين الصادقين الذين لهم قلوب يفقهون بها ، ولهم

٥٦٧

أعين يبصرون بها ، ولهم آذان يسمعون بها.

فتقول الآية الأولى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) ولذلك لا تؤثر مواعظك في أصحاب القلوب الميتة.

وكذلك (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ).

وتأتي الآية الثّانية لبيان بقية الطوائف فتقول : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).

وكما قلنا من قبل ، فإنّ القرآن لديه ما هو أفضل من «الحياة والموت الماديين والجسمانيين» وأفضل من السمع والبصر الظاهريين فلديه نوع اسمى من هذه الحياة والموت والسمع والبصر ، وتكمن فيها سعادة الإنسان أو شقاؤه!

فالقرآن لديه معيار لتقييم هذه الأمور ، لا بالقيمة المادية والفيزيائية ، بل القيمة المعنوية والإنسانية.

والشرط الأوّل لإدراك الحقيقة أن يكون للإنسان قلب مهيأ ومستعد ، وعين باصرة وأذن سميعة ، وإلّا فلو اجتمع جميع الأنبياء والأولياء وتلوا جميع الآيات الإلهية على من لا يدرك الحقيقة لما اقترفه من الذنوب واللجاجة والعناد ، فإنها لن تؤثر فيه!.

وإنّما أشار القرآن إلى هاتين الحاستين الظاهرتين ، بالإضافة إلى الإدراك الباطني فحسب ، فلأجل أن أكثر معلومات الإنسان ، إمّا أن يكون عن طريق هاتين الحاستين العين والأذن ، أو عن طريق الوجدان والتحليل العقلي!

والطريف هنا أنّ المراحل الثلاث ـ الواردة في الآيات الآنفة الذكر ـ هي ثلاث مراحل مختلفة من الانحراف وعدم درك الحقيقة ، وهي تبدأ من شديدها وتنتهي بالخفيف منها!

فالمرحلة الأولى : هي موت القلوب المعبر عنها بـ «الموتى» وهذه المرحلة ليس للحقيقة أي طريق للنفوذ فيها.

٥٦٨

والمرحلة الثّانية : مرحلة «الصمم» وعدم السمع ، ولا سيما عند أولئك الذين يديرون ظهورهم وهم في حالة الفرار ، فقد يؤثر فيهم الصراخ الشديد لو كانوا قريبين ، لكن في مثل هذه الحال وهم يفرون ، فلا!

وبالطبع فإنّ هذه الطائفة ليست كالموتى ، فمن الممكن أحيانا أن يتمّ تفهيمهم بالإشارة أو العلامة ، إلّا أنّنا نعرف أن كثيرا من الحقائق لا يمكن بيانها وإيصالها إلى الذهن بالإشارة! وخاصة حين يدير الطرف الآخر ظهره ويكون بعيدا.

المرحلة الثّالثة : (العمى) ، وبالطبع فإن الحياة مع العمي أسهل بمراتب من الحياة مع «الصم» أو الحياة مع «الموتى» ، فعلى الأقل لديهم آذان سميعة ، ويمكن إيصال كثير من المفاهيم إليهم ... لكن اين السمع في إدراك الحقائق من البصر؟!

ثمّ بعد هذا كلّه ، فإنّ تبيين المسائل غير كاف وحده ، فلنفرض أن يقال للأعمى سر باتجاه اليمين أو اليسار ، فإنّ تطبيق هذا الأمر ليس سهلا ، وربّما بأقل خطأ ـ أحيانا ـ في تحديد المقدار ، يؤدي بالأعمى إلى السقوط!

وفي بحثنا المفصل في ذيل الآيتين (٨٠) و (٨١) من سورة النمل ، بيّنا ـ ضمن التحليل لحقيقة الحياة والموت ـ الإشكال الواهي الذي أثاره جماعة من الوهابيين ، إذ يستعينون بمثل هذه الآيات ـ محل البحث وغيرها ـ لإثبات عدم جواز التوسل بالنّبي والأئمّة الطاهرين ، ويقولون : إنّ الموتى (حتى النّبي) لا يفهمون شيئا.

غير أنّنا أثبتنا هناك أن الإنسان ـ خاصّة من هو بمستوى الأئمة الكرام والشهداء العظام ـ له نوع من الحياة البرزخية بعد الموت ، وهناك وثائق كثيرة وأدلة متعددة من القرآن والأحاديث تشهد بذلك وتؤيده ، وفي هذه الحياة البرزخية إدراك وبصر أوسع من الحياة الدنيوية (لمزيد الإيضاح يراجع التّفسير الأمثل ، ذيل الآيات المشار إليها آنفا).

٥٦٩

وهنا ينبغي أن نضيف هذه الجملة ، وهي أن جميع المسلمين في صلاتهم ـ دائما ـ يخاطبون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويسلمون عليه بهذه الجملة «السّلام عليك أيّها النّبي ورحمة الله وبركاته» ونعرف أنّ المخاطبة الحقيقة لا المجازية يجب أن تكون ـ حتما ـ مع إنسان يسمع ويدرك!

فعلى هذا الأساس لازم السلام على النّبي بهيئة المخاطبة من بعيد أو قريب ، أن روحه المقدسة تسمع جميع هذه التحيات ، ولا دليل يقودنا إلى أن نحمل هذه التحيات على المجاز!.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يشير القرآن إلى دليل آخر من أدلة التوحيد ، وهو دليل الفقر والغنى ، ويكمل البحوث التي تدور حول التوحيد في هذه السورة ، فيقول : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً).

كنتم في البداية ضعافا إلى درجة أنّكم لم تكن لكم القدرة على طرد الذباب عنكم ، أو أن تحافظوا على لعاب أفواهكم أن يسيل ، هذا من الناحية الجسمية ، أمّا من الناحية الفكرية فمصداقة قوله تعالى : (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) بحيث لم تعرفوا حتى أبويكم المشفقين عليكم.

لكن ـ قليلا قليلا ـ صرتم ذوي رشد وقوّة ، وصار لكم جسم قوي ، وفكر جيد ، وعقل مقتدر إدراك واسع!

ومع هذه الحال لم تستطيعوا أن تحافظوا على هذه القوّة ، فمثلكم كمن يصعد من طرف الجبل إلى قمته ، ثمّ يبدأ بالانحدار من القمة إلى قعر الوادي ، الذي يمثل «مرحلة ضعف الجسم والروح».

هذا التغير والصعود والنّزول خير دليل لهذه الحقيقة ، وهي أنّه لم تكن القوّة من عندكم ولا الضعف ، فكل منهما كان من جهة أخرى ، وهذا بنفسه دليل على أن وراءكم من يدبّر أموركم ويسيّر حياتكم وما عندكم فهو أمر عارض!

٥٧٠

وهذا هو ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلامه النيّر إذ قال : «عرفت الله بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم» (١).

لقد عرفت من هذا الاختلاف والتغير أن القوة الأصلية ليست بأيدينا ، فهي بيد الله ، وليس لدينا بنحو مستقل أي شيء سوى ما وهبنا إيّاه!

ومن الطريف أنّ القرآن يضيف ـ عند بيان الضعف الثّاني للإنسان ـ كلمة (وَشَيْبَةً) غير أنّه لم يذكر «الطفولة» في الضعف الأول ...

وهذا التعبير ربّما كان إشارة إلى أن ضعف الشيخوخة والشيب أشدّ ألما ، لأنّه على العكس من ضعف الطفولة ، إذ يتجه نحو الفناء والموت ... هذا أوّلا.

وثانيا فإن ما يتوقع من الشيبة والمسنين مع ما لهم تجارب ليس كما يتوقع من الأطفال ، على حين أن ضعف كل منهما مشابه للآخر ، وهذا الموضوع يدعوا إلى الإعتبار كثيرا.

فهذه المرحلة هي التي تدفع الأقوياء والطغاة إلى الانحناء ، وتجرهم إلى الضعف والذلة!

أمّا آخر جملة في الآية فهي إشارة إلى علم الله الواسع وقدرته المطلقة : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) وهي بشارة وإنذار في الوقت ذاته ، أي إن الله مطلع على جميع نيّاتكم ، وهو قدير على مجازاتكم وثوابكم!

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة ٢٥٠.

٥٧١

الآيات

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

التّفسير

يوم لا ينفع الاعتذار :

قلنا إن في هذه السورة أبحاثا منسجمة ومتناغمة تتعلق بالمبدأ والمعاد .. وفي الآيات ـ محل البحث ـ يعقب القرآن على البحوث التي كانت حول المبدأ والمعاد أيضا ، فيعود إلى بيان مشهد من مشاهد يوم القيامة الأليمة ، وذلك بتجسيمه حالة المجرمين في ذلك اليوم ، إذ يقول : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ

٥٧٢

الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) في عالم البرزخ أجل (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) فإنّهم فيما سبق كانوا محرومين من إدراك الحقائق ومصروفين عنها.

والتعبير بـ «الساعة» عن يوم القيامة ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ هو إمّا لأنّ يوم القيامة يقع في لحظة مفاجئة ، أو لأنّه من جهة أن أعمال العباد تحاسب بسرعة هناك ،

لأنّ الله سريع الحساب ، ونعرف أنّ «الساعة» في لغة العرب تعني جزءا أو لحظة من الزمن (١).

وبالرغم من أنّ الآية المتقدمة لم تشر إلى مكان (اللبث) حتى احتمل بعضهم أنّ المراد منه هو لبثهم في الدنيا ، الذي هو في الواقع بمثابة لحظة عابرة لا أكثر ، إلّا أنّ الآية التي بعدها دليل واضح على أن المراد منه هو اللبث في عالم البرزخ .. وعالم ما بعد الموت .. وما قبل القيامة ، لأنّ جملة (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) تنهي هذا اللبث إلى يوم القيامة ، ولا يصح هذا إلّا في شأن البرزخ (فلاحظوا بدقة).

ونعرف ـ هنا أيضا ـ أن «البرزخ» ليس للجميع على شاكلة واحدة ، فقسم له في البرزخ حياة واعية ، وقسم مثلهم كمن يغط في نوم عميق ـ في عالم البرزخ ـ ويستيقظون في يوم القيامة ، ويتصورون آلاف السنين ساعة واحدة (٢).

* * *

مسألتان

الأوّل : كيف يقسم المجرمون مثل هذا القسم الكاذب؟

والجواب واضح ، فهم يتصورون ـ واقعا ـ مثل هذا التصور ، ويظنون أن فترة

__________________

(١) كان لنا في هذا الصدد بحث مفصّل ذيل الآية (١٤) من هذه السورة.

(٢) بيّنا هذا البحث «المتعلق بموضوع البرزخ» في ذيل الآية ١٠٠ ، من سورة المؤمنون ، كما نوّهنا عن هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة هناك.

٥٧٣

البرزخ كانت قصيرة جدّا ، لأنّهم كانوا في حالة تشبه النوم ، ألا ترى أن أصحاب الكهف الذين كانوا صالحين مؤمنين ، حين أفاقوا بعد نوم طويل ، تصوروا أنّهم لبثوا يوما أو بعض يوم في منامهم.

أو أن أحد الأنبياء الواردة قصته في سورة البقرة (الآية ٢٥٩) بعد أن أماته الله مائة عامة ثمّ بعثه للحياة ثانية ، لم يظهر في تصوره غير أنّه لبث يوما أو بعض يوم.

فما يمنع أن يتصور المجرمون ـ مع ملاحظة حالتهم الخاصة في عالم البرزخ وعدم اطلاعهم ـ مثل هذا التصور!؟

لذا يقول المؤمنون الذين أوتوا العلم ـ كما تذكره الآية التي تأتي بعد هذه الآية ـ : إنّكم غير مصيبين في قولكم ، إذ لبثتم في عالم البرزخ إلى يوم القيامة ، وهذا هو يوم القيامة!.

ومن هنا تتّضح المسألة الثّانية. أي تفسير جملة (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) لأنّ «الإفك» في الأصل معناه تبدل الوجه الحقيقي والانصراف عن الحق ، وهذه الجماعة ابتعدت عن الواقع لحالتها الخاصة في عالم البرزخ ، فلم تستطع أن تحدد لبثها في عالم البرزخ.

ومع ملاحظة أنّه لا حاجة لنا إلى الأبحاث الطويلة التي بحثها جمع من المفسّرين ، وفي أنّه لم يكذب المجرمون عمدا في يوم القيامة ، لأنّه ليس في الآية دليل على كذبهم العمد في هذه المرحلة!.

وبالطبع فإنّنا نرى في آيات القرآن الأخر أمثلة من أكاذيب المجرمين يوم القيامة ، وقد بيّنا الإجابة المفصلة على كل ذلك في ذيل الآية (٢٣) من سورة الأنعام ، لكن ذلك البحث لا علاقة له بموضوع هذه الآيات!

أمّا الآية التالية فتتحدث عن جواب المؤمنين المطلعين على كلام المجرمين الغافلين عن حالة البرزخ والقيامة فتقول : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا

٥٧٤

تَعْلَمُونَ).

وتقديم العلم على الإيمان هو لأنّ العلم أساس الإيمان.

والتعبير (فِي كِتابِ اللهِ) لعله إشارة إلى الكتاب التكويني ، أو إلى الكتاب السماوي ، أو إشارة إليهما معا ، أي كان ـ بأمر الله التكويني والتشريعي ـ مقدّرا أن تلبثوا مثل هذه المدّة في البرزخ ، ثمّ تحشرون في يوم القيامة (١).

وفي أن المقصود بـ (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) من هم؟!

قال بعض المفسّرين : هي إشارة إلى ملائكة الله الذين لهم علم وهم مؤمنون أيضا.

وقال بعضهم : المقصود هم المؤمنين العالمون ، والمعنى الثّاني أظهر طبعا.

وما ورد في بعض الرّوايات من تفسير هذه الآية بالأئمّة الطاهرين ، فهو من قبيل المصداق الواضح لها ، ولا يحدد معناها الوسيع.

وهذه اللطيفة جديرة بالالتفات ، وهي أن بعض المفسّرين قالوا : إنّ ما قاله المجرمون مقسمين بأنّهم ما لبثوا غير ساعة ، وما ردّه عليهم الذين أوتوا العلم والإيمان بأنّهم لبثوا إلى يوم البعث ، هذه المحاورة والكلام منشؤهما أنّ الطائفة الأولى ـ لأنّهم كانوا يتوقعون العذاب ـ كانوا يرغبون في تأخيره ، وكانت الفاصلة وإن طالت بالنسبة لهم قصيرة جدّا عندهم.

أمّا الطائفة الثّانية فلأنّهم كانوا ينتظرون الجنّة ونعمها الخالدة وراغبين في تقديمها ، فكانوا يرون الفاصلة طويلة جدّا (٢).

وعلى كل حال ، فحين يواجه المجرمون واقعهم المرير المؤلم يظهرون

__________________

(١) في كون الآية ، هل فيها تقديم وتأخير ، أم لا؟ هناك كلام ونقاش بين المفسّرين والعلماء ، فقال بعضهم «في كتاب الله» متعلق بجملة «أوتوا العلم والإيمان» فيكون معنى الآية هكذا : الذين أوتوا العلم في كتاب الله ويؤمنون به قالوا مثل هذا الكلام ، وقال بعضهم «في كتاب الله» متعلق بجملة «لبثتم» ونحن اخترنا هذا الرأي أيضا في شرحنا للآية ، لأنّ الحكم بالتقديم والتأخير يحتاج إلى قرينة واضحة ولا نجد هنا قرينة على ذلك!.

(٢) تفسير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث.

٥٧٥

ندمهم ويتوبون ويعتذرون ممّا صنعوا ، لكن القرآن يقول في هذا الصدد : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (١)

وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة ، وهي أن في بعض آيات القرآن تصريحا بعدم الإذن للمجرمين أن يعتذروا (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٢)

غير أنّ الآية محل البحث تقول : لا ينفعهم الاعتذار هناك ، وظاهرها أنّهم يعتذرون ، إلّا أنّه لا أثر لاعتذارهم.

وبالطبع فإنّه لا تضاد بين هذه الآيات ، لأنّ يوم القيامة فيه مراحل مختلفة ، وفي بعض المراحل لا يؤذن للمجرمين بالاعتذار أبدا ويختم على أفواههم ... وإنّما تتحدث الجوارح بما أساءت فحسب ... وفي بعض المراحل تنطلق ألسنتهم بالاعتذار ، إلّا أنّه ... لا ينفعهم الاعتذار أبدا ...؟!

وواحد من أعذارهم أنّهم يلقون تبعات ذنوبهم على أشياخهم في الكفر والنفاق ، فيقولون لهم : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (٣) ، إلّا أن أولئك يردون عليهم بالقول : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) (٤)

وأحيانا يلقون اللوم على الشيطان في تضليلهم وانحرافهم وأنّه وسوس لهم ، إلّا أن الشيطان يجيبهم (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (٥) ، أي لم أكرهكم على الكفر ، إلّا أنّكم استجبتم لي برغبتكم.

وفي الآية التالية إشارة لجميع المواضيع الوارد بيانها في هذه السورة ... إذ تقول : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) لقد ذكرنا فيه الوعد

__________________

(١) كلمة «يستعتبون» مشتقة من «عتب» على وزن «حتم» ومعناها في الأصل الاضطراب النفسي «الداخلي» وحين يصاغ هذا الفعل من باب الإفعال فيكون معناه ازالة هذا الأثر والاضطراب ، كما جاء في لسان العرب أن الاستفعال يؤدي معنى الإفعال هنا ، لذلك يقال في شأن الاسترضاء معناه طلب الرضا والتوبة ، ومعنى الكلمة هنا في الآية هو بمثل ما ذكرناه ، ومعنى ذلك أنّ المجرمين في يوم القيامة ليس لهم القدرة على التوبة.

(٢) المرسلات ، الآية ٣٦.

(٣) سبأ ، الآية ٣١.

(٤) سبأ ، الآية ٣٢.

(٥) إبراهيم ، الآية ٢٢.

٥٧٦

والوعيد ، الأمر والنهي ، البشارة والإنذار ، الآيات الآفاقية والأنفسية ، دلائل المبدأ والمعاد والأخبار الغيبية والخلاصة ذكرنا فيه كل شيء يمكن أن يؤثر في نفوس الناس.

وفي الحقيقة ، إنّ في القرآن ـ بشكل عام ـ وسورة الروم ـ بشكل خاص ـ حيث نحن الآن في مراحلها النهائية ، مجموعة من المسائل والدروس الموقظة لكل فئة ، ولكل طبقة ، ولكل جماعة ، ولكل فكر وأسلوب ... مجموعة من العبر ، والمسائل الأخلاقية ، والخطط والمناهج العملية ، والأمور الاعتقادية ، بحيث استفيد من جميع الطرق والأساليب المختلفة للنفوذ في أفكار الناس ودعوتهم إلى طريق السعادة!

ومع هذه الحال ، فهناك طائفة لا يؤثر في قلوبهم المظلمة السوداء أي من هذه الأمور ، لذلك يقول القرآن في شأنهم : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ).

والتعبير بـ «مبطلون» تعبير جامع يحمل كل معاني الدجل والافتراء والنسب الكاذبة والفاسدة من قبل المشركين ، كنسبة الكذب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والسحر والجنون والأساطير الخرافية ، إذ أن كل واحد من هذه الأمور يمثل وجها من وجوه الباطل ، وقد جمعت كل هذه الأمور تحت كلمة «مبطلون».

أجل ، إنّهم كانوا يتهمون الأنبياء دائما بواحد من هذه الأمور الباطلة ، ليشغلوا عنهم الناس الطيبين الطاهرين ولو لعدّة أيّام ـ بما ينسبونه للأنبياء ممّا أشرنا إليه.

والمخاطب في كلمة «أنتم» يمكن أن يكون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين الحقيقيين ، ويمكن أن يكون جميع أصحاب الحق من الأنبياء والائمّة المعصومين عليهم‌السلام وأتباعهم ، لأنّ هذه المجموعة من الكفار تخالف جميع اتباع الحق.

والآية التي بعدها تبيّن السبب في مخالفة هذه الطائفة ، فتقول : إن لجاجة هؤلاء التي لا حدّ لها وعداءهم للحق ، إنّما هو لفقدانهم الإحساس والإدراك

٥٧٧

بسبب كثرة ذنوبهم ، ولأنّهم لا يعلمون شيئا ... إذ تقول : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

وكلمة «يطبع» مأخوذة من الطبع ، ومعناها ختم الشيء ، وهي إشارة إلى ما كان يجري في السابق ، وهو جار أيضا اليوم إذ يختم على الشيء كيلا يتصرف به ويغلق بإحكام ، وقد يضعون عليه القفل ويضربون عليه مادة لزجة مختومة بإشارة معينة كما بيّنا بحيث لا يمكن فتح ذلك الشيء إلّا بكسره ، فيفتضح أمره بسرعة.

وكان القرآن استعمل هذا التعبير كناية عن القلوب التي لا ينفذ إليها النصح ، والذين فقدوا الوجدان والعقل والعلم ، ولا أمل في هدايتهم.

وممّا يسترعي الانتباه أنّ في الآيات السابقة ذكر العلم أساسا للإيمان ، وفي هذه الآية ذكر الجهل أساسا للكفر وعدم التسليم للحق.

أمّا آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ التي تقع في آخر سورة الروم ، فهي تأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرين مهمين ، وتبشره بشارة كبرى ، لتحثه على مواصلة الوقوف والتصدي للمشركين والجاهلين والسفهاء بالاستقامة والصبر.

تقول أوّلا : إذا كان الأمر كذلك ، فعليك بالصبر والاستقامة امام الحوادث المختلفة ، وفي مقابل انواع الأذى والبهتان والمصاعب (فَاصْبِرْ).

لأنّ الصبر والاستقامة هما مفتاح النصر الأصيل.

وليكون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر اطمئنانا ، فإنّ الآية تضيف (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فقد وعدك والمؤمنين بالنصر ، والاستخلاف في الأرض ، وغلبة الإسلام على الكفر ، والنور على الظلمة ، والعلم على الجهل. وسوف يلبس هذا الوعد ثوب العمل!.

وكلمة «الوعد» هنا إشارة إلى الوعود المكررة التي وعدها القرآن في انتصار المؤمنين ، ومن ضمنها الآية (٤٧) من هذه السورة (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

والآية (٥١) من سورة غافر (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

٥٧٨

وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ!).

وتقول الآية (٥٦) من سورة المائدة أيضا (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

وتأمر ثانيا بضبط الأعصاب والهدوء وعدم الانحراف في المواجهة الشديدة والمتتابعة ، حيث تقول الآية : (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

إنّ مسئوليتك أن تتحمل كل شيء ، وأن يتسع صدرك وخلقك لجميع الناس فهذا هو الجدير بقائد وزعيم لأمثال هؤلاء.

كلمة (لا يَسْتَخِفَّنَّكَ) مشتقّة من «الخفة» وهي خلاف الثقل ، أي كن رزينا قائما على قدميك لئلا يهزك مثل هؤلاء الأفراد ويحركوك من مكانك ، وكن ثابتا ومواصلا للمسيرة باطمئنان ، إذ أنّهم فاقدو اليقين ، وأنت مركز اليقين والإيمان!.

هذه السورة بدأت بوعد انتصار المؤمنين على الأعداء ، وانتهت أيضا بهذا الوعد ، إلّا أن شرطها الأساس هو الصبر والاستقامة!.

* * *

ربّنا ، هب لنا صبرا واستقامة حتى لا يهزنا طوفان الحوادث والمشاكل من مكاننا أبدا.

إلهنا ، نلتجئ إلى ذاتك المقدسة ، ألّا نكون من زمرة الذين لا تؤثر في قلوبهم الموعظة والنصح والإرشاد والعبر والنذر!.

إلهنا ، إن أعداءنا متحدون ، وهم مسلّحون بأنواع الأسلحة الشيطانية ، فانصرنا ـ ربّنا ـ على أعدائنا في الخارج ، وشيطاننا في الداخل.

آمين يا رب العالمين

انتهاء سورة الروم

ونهاية المجلد الثاني عشر

* * *

٥٧٩
٥٨٠