الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-57-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

الالتفات إلى أنّ «الربا» معناه في الأصل «الزيادة».

فالتّفسير الأوّل ، وهو أوضح من جميع التفاسير ، ومنسجم مع مفهوم الآية أكثر ، ومتناسق مع الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، أن المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض الأفراد للآخرين ، ولا سيما إلى أصحاب الثروة والمال ، كي ينالوا منهم أجرا أحسن وأكثر!

وبديهي أنّه في مثل هذه الهدايا لا يؤخذ بنظر الاعتبار استحقاق الطرف الآخر ولا الجدارة والأولوية ، بل كل ما يهدف اليه أن تصل الهدية إلى مكان ، تعود على مهديها بمبلغ أوفر ومن الطبيعي أن مثل هذه الهدايا ليس فيها «جنبة» إخلاص ، فلا قيمة لها من الجهة الأخلاقية ، والمعنوية!.

فعلى هذا يكون معنى «الربا» في هذه الآية هو «الهدية والعطية» والمراد من جملة (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) هو أخذ الأجر الوافر من الناس!

ولا شك أن أخذ مثل هذه الأجرة ليس حراما ، إذ ليس فيه شرط أو قرار ، إلّا أنّه فاقد للقيمة الأخلاقية والمعنوية ... ولذلك فقد ورد التعبير عن هذا الربا ـ في روايات متعددة عن الإمام الصادق عليه‌السلام في مصادر معروفة ، بـ «الربا الحلال» في قبال «الربا الحرام» الذي يستلزم الشرط والعقد أو الاتفاق.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام في كتاب تهذيب الأحكام ، في تفسير الآية هو قوله عليه‌السلام : «هو هديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منهما ، فذلك ربا يؤكل»!

كما نقرأ حديثا آخر عنه عليه‌السلام «الربا رباءان ، أحدهما حلال والآخر حرام ، فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضا يريد أن يزيده ويعوضه بأكثر ممّا يأخذه بلا شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر ممّا أخذه على غير شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه ، وهو قوله : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) وأمّا الحرام فالرجل

٥٤١

يقرض قرضا ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه فهذا هو الحرام». (١)

وهناك تفسير آخر لهذه الآية ، وهو أن المراد من الربا في هذه الآية هو الربا الحرام ، وطبقا لهذا التّفسير فإن القرآن يريد أن يقيس الربا بالإنفاق الخالص لوجه الله ، ويبين أن الربا وإن كان ظاهره زيادة المال ، إلّا أنّه ليس زيادة عند الله ، فالزيادة الحقيقية والواقعية هي الإنفاق في سبيل الله.

وعلى هذا الأساس فقد عدّوا الآية مقدمة لمسألة «تحريم الربا» التي ذكرها القرآن في بداية الأمر وقبل الهجرة على سبيل الإرشاد الأخلاقي والنصح ، ولكن تمّ تحريم الربا بعد الهجرة في ثلاث سور «البقرة وآل عمران والنساء» بصورة تدريجية «وكانت لنا إشارة أيضا في الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل على هذا الأساس».

وبالطبع ليس بين المعنيين أيّ تضاد ، ويمكن أن تؤخذ الآية بمعناها الواسع الذي يجمع «الربا الحلال» و «الربا الحرام» ويقاس كلاهما بالإنفاق في سبيل الله ، إلّا أن تعبيرات الآية أكثر انسجاما مع التّفسير الأول ، لأنّ الظاهر من الآية هنا أن عملا قد صدر ليس فيه ثواب ، وهو مباح ، لأنّ الآية تقول : إن هذا العمل لا يربو عند الله ، وهذا يتناسب مع الربا الحلال الذي ليس فيه وزر ولا ثواب ، وليس شيئا يستوجب مقت الله وغضبه ... وقد قلنا : إن الروايات الإسلامية ناظرة إلى هذا المعنى.

وينبغي الإشارة إلى هذه اللطيفة اللغوية ، وهي أنّ كلمة «مضعفون» التي هي صيغة لاسم الفاعل ، لا تعني أنّهم يزيدون ويضعفون بأنفسهم للمال ، بل معناها أنّهم أصحاب الثواب المضاعف ، لأنّ اسم الفاعل قد يأتي في لغة العرب ويراد منه اسم المفعول ، مثل «الموسر» أي : صاحب المال الكثير.

وينبغي أيضا أن يعرف بالنظرة البعيدة أن المراد من الضعف والمضاعف

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٩١.

٥٤٢

ليس معناه «مثل الشيء مرّتين» بل يشمل المثل مرتين ويشمل أمثال الشيء ، والحدّ الأقل في الآية هنا عشرة أمثال ، لأنّ القرآن يقول : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها). (١)

وتبلغ الزيادة أحيانا كما في القرض إلى ثمانية عشر كما نقرأ في هذا حديثا للإمام الصادق عليه‌السلام يقول فيه : «على باب الجنّة مكتوب : القرض بثمانية عشر والصدقة بعشر». (٢)

وقد تبلغ الزيادة إلى سبعمائة «ضعف» كما هو في شأن الإنفاق في سبيل الله ، إذ تقول الآية : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٣)

وفي الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ عودة أخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد ، وهي الموضوع الأساس الذي ورد في كثير من آيات هذه السورة ... وتصف الآية «الله» بأربعة أوصاف لتكون إشارة للتوحيد ومواجهة الشرك ، ودليلا على المعاد أيضا فتقول : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ومن المسلّم به أن المشركين لم يكن أيّ منهم يعتقد بأن الخلق كان من قبل الأوثان ، أو أن أرزاقهم بيد الأوثان والأصنام ، أو أن نهاية حياتهم بأيدي هذه الأوثان كذلك!! بل لأنّهم جعلوا هذه الأوثان المصنوعة واسعة وشفعاء بينهم وبين الله ، فعلى هذا يكون الجواب على هذه الأسئلة هو النفي ، والاستفهام هنا استفهام إنكاري!.

الموضوع الآخر الذي يثير السؤال هنا هو أن أولئك المشركين لم يكونوا

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٦٠.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٩٠.

(٣) البقرة ، الآية ٢٦١.

٥٤٣

يعتقدون بالحياة بعد الموت ، فكيف يستند القرآن في آخر وصف لله تعالى إلى ذلك؟!

لعل هذا التعبير هو لأنّ مسألة المعاد والحياة بعد الموت ـ كما ذكرناها في بحوثنا المتقدمة ـ لها «جنبة» فطريّة ، والقرآن هنا لا يستند إلى معتقداتهم ، بل إلى فطرتهم.

إضافة إلى ذلك فقد يتفق أن متكلما ذلقا حين يواجه شخصا آخر ينكر موضوعا ما ، فيستدرجه بما لديه من حقائق يتقبلها ذلك الآخر ويستند إليها بشكل قطعي ليظهر أثرها ، وينزل صاحبه من مركب الإنكار.

ثمّ بعد هذا كله فإن بين الحياة الأولى من قبل الله وقدرته على ذلك ، والحياة بعد الموت رابطة لا تقبل الانفصام ، ومع ملاحظة هذه الرابطة المنطقية فإن «كلا الأمرين» جاءا في عبارة واحدة.

وعلى كل حال فإن القرآن يقول : عند ما يكون الخلق والرزق والموت والحياة بيد الله ، فالعبادة ينبغي أن تكون له فقط ، ويكشف هذه الحقيقة بقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وهي أنّ المشركين أهانوا كثيرا مقام رب العزة إذ أشركوه في العبادة مع أوثانهم.

* * *

٥٤٤

الآيات

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

التّفسير

أساس الفساد ومصدره أعمال الناس أنفسهم :

كان الكلام في الآيات السابقة عن الشرك ، ونعلم أنّ أساس جميع المفاسد هو الغفلة عن أصل التوحيد والتوجه نحو الشرك ، لذلك فإنّ القرآن ـ في هذه الآيات محل البحث ـ يتحدث عن ظهور الفساد في الأرض بسبب أعمال الناس أنفسهم ، فيقول : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ).

والله يريد أن يريهم ما قدموه و (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ

٥٤٥

يَرْجِعُونَ).

والآية الآنفة الذكر تبيّن المعنى الواسع حول ارتباط الفساد بالذنب ، الذي لا يختصّ بأرض «مكّة» والحجاز ، ولا بعصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو من قبيل القضية الحقيقية التي تبيّن العلاقة بين الموضوع والمحمول!

وبعبارة أخرى : حيثما ظهر الفساد فهو انعكاس لأعمال الناس وفيه ـ ضمنا ـ هدف تربوي ، ليذوق الناس «طعم العلقم» نتيجة أعمالهم ، لعلهم ينتهون ويثوبون إلى رشدهم!

ويقول بعضهم : إنّ هذه الآية ناظرة إلى القحط و «الجدب» الذي أصاب المشركين بسبب دعاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على مشركي مكّة! ... فانقطعت المزن ويبست الصحاري ، وصار من الصعب عليهم الصيد من البحر الأحمر أيضا.

وعلى فرض أن يكون هذا الكلام صحيحا تاريخيا ، إلّا أنّه بيان لأحد المصاديق ولا يحدد معنى الآية في مسألة ارتباط الفساد بالذنب ، فهي ليست محدّدة بذلك الزمان والمكان ، ولا بالجدب وانقطاع «الغيث».

وممّا ذكرناه آنفا يتّضح جيدا أنّ كثيرا من التّفاسير المحدودة والضيقة التي نقلها بعض المفسّرين في ذيل الآية غير مقبولة بأي وجه.

كما فسّروا الفساد في الأرض بأنّه قتل «هابيل» على يد «قابيل» ، أو أن المراد بالفساد في البحر هو غصب السفن في عصر موسى ، والخضر عليهم‌السلام.

أو أنّ المراد من الفساد في البر والبحر هو ظهور الحكّام المتسلطين الفاسدين الذين يشيعون الفساد في جميع هذه المناطق!.

وبالطبع فإنّ الممكن أن تكون مصاديق الآية مثل هؤلاء الأفراد الذين يتسلطون على الناس نتيجة الدنيا والمجاملة وجرّ الناس للذل ، ولكن من المسلّم به أن هذا المصداق لا يعني تخصيص مفهوم الآية!.

كما أنّ جماعة من المفسّرين بحثوا في معنى الفساد في البحر أيضا ، فقال

٥٤٦

بعضهم : المراد بالبحر هو المدن التي إلى جانب البحر ، وقال بعضهم : إنّ المراد بالبحر هو «المناطق المخصبة ذات البساتين والأثمار».

ولا نجد دليلا على هذه التمحّلات ، لأنّ البحر معناه معروف ، والفساد فيه لعله قلّة المواهب البحرية ، أو عدم الأمن فيه ، أو الحروب البحرية.

ونقرأ حديثا عن الإمام الصادق عليه‌السلام في هذا الصدد «حياة دواب البحر بالمطر ، فإذا كفّ المطر ظهر الفساد في البحر والبرّ ، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي» (١).

وبالطبع فإنّ ما ورد في هذه الرواية هو مصداق واضح للفساد وما ورد في شأن نزول المطر «وحياة دواب البحر به» فهو موضوع دقيق ، تؤكّد عليه التجربة ، فكلما قلّ ماء السماء «المطر» قل السمك في البحر ، حتى أنّنا سمعنا ممن يقطنون ساحل البحر يقولون: إن فائدة الغيث للبحر أكثر من فائدته للصحراء!.

وفي الآية التالية يأمر الله الناس بالسير في الأرض ليروا شواهد كثيرة «حيّة» من مسألة ظهور الفساد في الأرض بسبب المعاصي والذنوب من قبل الناس. ويوصي نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمرهم بذلك ، فيقول : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ).

انظروا قصور «الظالمين» المتهدمة ، وأبراجها المتداعية والخزائن المطموسة ، وجماعاتهم المتفرقة ، ثمّ انظروا إلى قبورهم المدروسة وعظامهم النخرة!

وانظروا عاقبة أمر الظلم والشرك وما آلى إليه.

أجل (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ).

والشرك أساس الفساد والانحراف والضلال!

ممّا يستلفت الانتباه ، أنّه حين كان الكلام في الآيات السابقة عن نعم الله ،

__________________

(١) تفسير القمي : طبقا لنقل تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٢١٠.

٥٤٧

كانت بدايته حول خلق الإنسان ثمّ رزقه من قبل الله (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) إلّا أن الكلام في الآيات محل البحث التي تتحدث عن العقاب يبدأ الكلام فيها أوّلا بالإشارة إلى زوال النعم على أثر المعاصي والذنوب ، ثمّ الهلاك على أثر الشرك ، لأنّه عند الهبة والعطاء «أوّل الأمر يذكر الخلق ثمّ الرزق» .. وعند الاسترجاع ، «فأوّل الأمر زوال النعمة ثمّ الهلاك».

والتعبير بـ (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) مع الالتفات إلى أنّ هذه السورة مكّية وكان المسلمون في ذلك الوقت قلّة ، فلعل ذلك إشارة إلى أن لا تخافوا من كثرة المشركين ، لأنّ الله أهلك من قبلهم من هو أشدّ منهم ، واكثر جمعا ، وهو في الوقت ذاته إنذار للطغاة ليسيروا في الأرض فينظروا بأم أعينهم عاقبة الظالمين من قبلهم!.

وحيث أن التصور والوعي والانتباه ، ثمّ العودة والإنابة إلى الله ، كل ذلك لا يكون ـ دائما ـ مفيدا ومؤثرا ، ففي الآية التالية يوجه القرآن الخطاب للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) (١) أي يتفرقون «فريق في الجنّة وفريق في السعير».

ووصف الدين بأنه «قيّم» مع ملاحظة أن «القيّم معناه الثابت والقائم» هو إشارة إلى أن هذا التوجه المستمر «أو الإقامة» هي للدين .. أي لأنّ الإسلام دين ثابت ومستقيم وذو نظام قائم في الحياة المادية والمعنوية للناس ، فلا تمل عنه أبدا ، بل أقم وجهك للدين القيم!

وإنّما وجه الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعرف الآخرون واجبهم ووظيفتهم أيضا.

__________________

(١) كلمة «مردّ» في جملة «لا مرد له من الله» مصدر ميمي وهو هنا بمعنى اسم الفاعل فيكون معنى الجملة : لا رادّ له من الله. والضمير في «له» يعود إلى «يوم» ويكون المفهوم العام للجملة. لا يستطيع أي كان أن يعيد ذلك اليوم من الله ، أي يقف بوجه القضاء والمحاكمة بتأخير ذلك اليوم و «تعطيله». والخلاصة : إنّه لا يخلف الله وعده ليعيد ذلك اليوم ، وليس لأحد سواه القدرة على ذلك ؛ فوقوع ذلك اليوم لا بدّ منه وهو يوم محتوم» (فلاحظوا بدقة).

٥٤٨

والتعبير بـ «يصدعون» من مادة «صدع» معناه في الأصل : كسر الإناء ، ثمّ انتقل بالتدريج إلى أي نوع من أنواع التفرق والتشتت. وهنا إشارة إلى انفصال صفوف أهل الجنان عن صفوف أهل النيران ، وكل من هذه الصفوف يتفرق إلى عدة صفوف ، وذلك لسلسلة المراتب في الجنان ، ودركات النيران «والعياذ بالله».

والآية التالية ـ بيان لهذا الانفصال في يوم القيامة ، إذ تقول : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ).

كلمة «يمهدون» مشتقّة من «المهد» على زنة «عهد» وكما يقول الراغب في مفرداته فإنّ معناه السرير المعدّ للطفل ، ثمّ توسعوا في المعنى فصار المهد والمهاد لكل مكان مهيأ ومعد «وفيه منتهى الدعة والراحة» وقد انتخب هذا التعبير لأهل الجنّة والمؤمنين الصالحين ، من هذه الجهة.

والخلاصة : لا تحسبوا أن إيمانكم وكفركم وأعمالكم الصالحة والطالحة لها أثر على الله ، بل أنتم الذين تفرحون بها أو تساءون (يَوْمَ تَرَوْنَها).

ومن الطريف أنّ القرآن اكتفى في شأن الكفار بالتعبير بـ (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ولكن بالنسبة للمؤمنين تضيف الآية التالية : أن المؤمنين لا يرون أعمالهم فحسب ، بل يوليهم الله من مواهبه وفضله فيقول : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ).

ومن المسلّم به أن هذا الفضل لا يشمل الكفار إذ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ...) ولا شكّ أنّ الله يعاملهم وفق عدالته ، ويجزيهم ما يستحقون ، لا أكثر ، لكن لا ينالهم منه فضل وموهبة أيضا.

* * *

٥٤٩

بحوث

١ ـ العلاقة بين الذنب والفساد

ممّا لا شك فيه أن كل ذنب يترك أثره في المجتمع ، كما يترك أثره في الأفراد عن طريق المجتمع أيضا ... ويسبب نوعا من الفساد في التنظيم الاجتماعي ، فالذنب والعمل القبيح ، وتجاوز القانون ، مثلها كمثل الغذاء السيء والمسموم ، إذ يترك أثره غير المطلوب والسيء في البدن شئنا أم أبينا ، ويقع الإنسان فريسة للآثار الوضعية لذلك الغذاء المسموم.

«الكذب» يسلب الاعتماد.

و «خيانة الأمانة» تحطّم الروابط الاجتماعية.

و «الظلم» يسبب إيذاء الآخرين وظلمهم.

والإفراط في الحرية يجرّ إلى الديكتاتورية ، والديكتاتورية تجر إلى الإنفجار.

و «ترك حقوق المحرومين» يورث العداوة والحقد والبغضاء ، و «تراكم الأحقاد والعداوات» يزلزل أساس المجتمع!.

والخلاصة ، أن كلّ عمل غير صحيح له أثره السيّء سواء كان ذلك في دائرة محدودة أم واسعة ، وأحد تفاسير الآية (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) هو هذا (وهذا يبيّن العلاقة الطبيعية بين الذنب والفساد ـ «هنا»).

إلّا أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ كثيرا من الذنوب ـ إضافة لما ذكرنا ـ تجلب معها سلسلة من الآثار السيئة ، وعلاقتها وارتباطها مع تلك الآثار ـ من الناحية الطبيعية على الأقل ـ غير معروفة.

فمثلا ورد في الرّوايات الإسلامية أن قطع الرحم يقصر العمر ، وأن أكل المال الحرام يورث ظلمة القلب ، وأن كثرة الزنا يورث فناء الناس ويقلل الرزق (١).

__________________

(١) في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «للزنا عقوبات ثلاث منها في الدنيا وثلاث في الآخرة ، فأمّا العقوبات فى

٥٥٠

حتى أنّنا لنقرأ حديثا عن الإمام الصادق عليه‌السلام يقول فيه : «من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال» (١)

وقد ورد في القرآن نظير هذا المعنى في تعبير آخر ، حيث يقول القرآن : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢).

إذن فالفساد ـ في الآية محل البحث ـ هو الفساد الأعمّ «الذي يشمل المفاسد الاجتماعية ، والبلايا ، وسلب النعم والبركات».

وممّا يستلفت الانتباه أن الآية المتقدمة يستفاد منها ضمنا أن واحدا من حكم الآفات والبلايا تأثيرها التربوي على الناس ، إذ عليهم أن يروا رد الفعل الناتج من أعمالهم .. ليفيقوا من نومهم وغفلتهم ، ويعودوا إلى الطهارة والتقوى!

ولا نقول : إنّ جميع الشرور والآفات هي من هذا القبيل ، ولكننا نقول : إن قسما منها ـ على الأقل ـ فيه هذه الحكمة والغاية وبالطبع فإنّ له حكمة أخرى بحثناها في محلها.

٢ ـ فلسفة السير في الأرض

لقد وردت مسألة «السير في الأرض» ست مرات في القرآن المجيد ، (في سورة آل عمران والأنعام والنحل والنمل والعنكبوت والروم) حيث وردت مرّة بقصد التفكر في أسرار الخلق (سورة العنكبوت الآية ٢٠) وخمس مرات بقصد العبرة من العواقب الوخيمة التي نالها الظالمون والجبابرة والطغاة الآثمون!

__________________

الدنيا فإنه يسلب النور من الإنسان ، ويبتله بموت الفجأة ، ويقطع الرزق. وأمّا التي في الآخرة فهو على سوء الحساب وغضب الله والخلود في نار جهنم» (سفينة البحار ـ مادة زنى).

(١) سفينة البحار (مادة ذنب).

(٢) الأعراف ، الآية ٩٦.

٥٥١

والقرآن يهتمّ بالمسائل العينية والحسية ـ التي يمكن لمس آثارها في الأمور التربوية ـ اهتماما خاصا ، ولا سيما أنّه يأمر المسلمين أن ينطلقوا من محيطهم المحدود إلى المدى الأرحب ، ويسيروا ويسيحوا في هذا العالم ، وليفكروا في أعمال الآخرين وسجاياهم وعواقب أمورهم ، وأن يستوحوا من هذه «الحياة» العابرة «ويدخروا ذخيرة قيمة» من العبرة والاطلاع!

إنّ القوى الشيطانية في العصر الحاضر ـ من أجل سعة استثمارها في العالم كافة ـ مشطت وفحصت جميع الدول والبلدان والأمم وطريقة حياتهم وثقافتهم ونقاط القوّة والضعف فيهم بصورة جيدة.

إنّ القرآن يقول : بدلا من هؤلاء المستكبرين سيروا أنتم في أرجاء الأرض وبدلا من خططهم ومؤامراتهم الشيطانية تعلموا دروسا رحمانية.

العبرة والإعتبار من حياة الآخرين أهم من التجارب الشخصية وأكثر قيمة ، لأنّ الإنسان ينبغي أن يتحمل خلال تجاربه أضرارا ليتعلم مسائل جديدة إلّا أن الإنسان عند استلهام العبرة من الآخرين يربح معارف جمة وثمينة دون أن يتحمل ضررا.

وأمر القرآن بالسير في الأرض ينطبق على أكمل الأساليب والطرق التي حصل عليها البشر في العصر الحاضر ، وذلك بأن يأخذوا بأيدي التلاميذ ـ بعد استيعاب المسائل في الكتب ـ ويسيروا في الأرض ، ويطالعوا الشواهد العينية التي قرءوها في الكتب!

وبالطبع فهناك اليوم نوع آخر من السير في الأرض بعنوان «السياحة» في العالم ، وذلك من قبل «الحضارة الشيطانية» لجلب الأموال والثروة «الحرام» التي راجت سوقها ، وغالبا ما تكون فيها أهداف منحرفة وتضليلية ، كنقل الثقافة السقيمة وإشاعة الهوى والسفاهة والحماقة واللهو هذه هي «السياحة المخربة»!

٥٥٢

ولكن الإسلام يؤيد السياحة التي تكون وسيلة لنقل الثقافات الصحيحة والتجارب المتراكمة ، واستكناه أسرار الخلق في عالم البشر وعالم الطبيعة ، واستلهام دروس العبرة من عواقب المفسدين والظالمين الوخيمة.

ولا بأس بالإشارة إلى أنّ هناك سياحة منعها الإسلام ونقرأ حديثا يقول : «لا سياحة في الإسلام» (١).

والمراد من هذا الحديث هو في جميع سنوات حياتهم ـ أو بعضها ـ منفصلين عن الحياة الاجتماعية تماما ، ودون أن يكون لهم نشاط ملحوظ ، فهم يسيحون في الأرض ويعيشون كالرهبان! فيكونون عالة على الآخرين.

وبتعبير آخر : إنّ عمل هؤلاء بمثابة «الرهبانية السيارة» مقابل الرهبان الثابتين المنزوين في الدير والمنعزلين عن المجتمع ، وحيث أن الإسلام يخالف هذا الاتجاه والانزواء الاجتماعي ، فهو يعد هذه «السياحة» غير مشروعة أيضا.

٣ ـ الدين القيّم

كان الخطاب في الآيات المتقدمة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل تمام توجهه نحو الدين المستقيم والثابت ، الذي ليس فيه اعوجاج ولا انحراف ولا تزلزل في قواعده أبدا.

ومن الطريف أن تعبيرات أخرى في آيات القرآن المتعددة جاءت بصدد هذا الدين ، ففي الآية (١٠٥) من سورة يونس جاء التعبير عنه بالحنيف (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً).

وفي الآية (٣) من سورة الزمر وصف بالخالص (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ).

__________________

(١) مجمع البحرين مادة «سيح» ، وفي حديث آخر عن النّبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الكتاب نفسه نقرأ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سياحة أمتي الغزو والجهاد».

٥٥٣

وفي الآية (٥٢) من سورة النحل ، وصف بأنّه واصب ، أي لا يتغير (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً).

وفي الآية (٧٨) من سورة الحج وصف بأنه خال من الحرج والشدة (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)!

ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن!

وكل واحد من هذه الأمور يمثل بعدا من أبعاد الدين الإسلامي ، وهو في الوقت ذاته من باب اللازم والملزوم.

أجل ينبغي أن ينتخب مثل هذا الدين ، وأن يسعى في معرفته ، وأن يحفظ حتى آخر رمق!

٤ ـ لا عودة في يوم القيامة!

قرأنا في الآيات المتقدمة عن يوم القيامة قوله تعالى : (يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) ولا طريق للعودة إلى الدنيا!

ويلاحظ في آيات القرآن الأخر ما يشبه هذا التعبير ، ومن ذلك الآية (٤٤) من سورة الشورى ـ حين يرى الظالمون العذاب يقولون : (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ).

كما وصف يوم القيامة في الآية (٤٧) من سورة الشورى ـ أيضا ـ بقوله تعالى : (يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ).

والحقيقة أن عالم الوجود له مراحل لا عودة فيها إلى مرحلة سابقة ، وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول!

ترى ، هل يرجع الطفل ـ سواء ولد كاملا أو ناقصا ـ جنينا مرّة أخرى إلى رحم أمه؟!

٥٥٤

وهل ترجع الثمرة المقطوفة من الشجرة ـ ناضجة كانت أم لا ـ إلى أغصانها؟!

فانتقال الإنسان من هذا العالم إلى العالم الآخر على هذه الشاكلة ، أي لا طريق للعودة أبدا ... وهذه حقيقة تخيف الإنسان وتهزّه وتنذره ليكون يقظا!.

* * *

٥٥٥

الآيات

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠))

التّفسير

انظر إلى آثار رحمة الله :

قلنا : إن في هذه السورة قسما مهمّا «يستلفت النظر» من دلائل التوحيد

٥٥٦

وآيات الله ، مبينا في سبع آيات تبدأ كل منها بقوله : (وَمِنْ آياتِهِ) قرأنا ست آيات منها بصورة متتابعة ، والآية الأولى من الآيات أعلاه هي سابع الآيات التي مرت. وآخرها.

وحيث كان الكلام في الآيات السابقة عن الإيمان والعمل الصالح ، فبيان دلائل التوحيد ـ أيضا ـ تأكيدا على ذلك!

تقول هذه الآية : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) فهي تمضي سابقة للغيث في حركتها ، فتجمع القطع المتفرقة من الغيوم وتربط بينها وتؤلفها وتحملها إلى الأرض اليابسة العطشى ، وتغطي صفحة السماء ، ومع تغير درجة حرارة الجو تهيء المطر للنزول من هذه الغيوم.

ولعلّ أهمية قدوم الرياح المبشرات ـ لأهل المدن المتنعمة ـ ليست جليّة واضحة .. إلّا أن أهل الصحاري اليابسة الظمأى إلى المطر ، ما إن تتحرك الرياح مصحوبة بالسحاب التي هطلت في نقطة أخرى ـ والنسيم يحمل رائحة الطلّ والرطوبة منها ، حتى يلمع وميض الأمل في قلوبهم.

وبالرغم من أنّ آيات القرآن تستند إلى البشارة في نزول الغيث أكثر من غيرها ، إلّا أنّه لا يمكن تحديد كلمة «مبشرات» في هذا المضمون فحسب ، لأنّ الرياح تصحب بشائر أخر أيضا.

فالرياح تبدل حرارة الجو وبرودته الشديدة إلى «الاعتدال».

والرياح تستهلك العفونة في الفضاء الكبير وتصفي الهواء.

والرياح تخفف من وطء حرارة الشمس على الأوراق والنباتات ، وتمنع من احتراقها بحرارة الشمس.

كما أنّ الرياح تنقل غاز الأوكسجين المتولد من النباتات وأوراق الشجر ـ إلى الإنسان ، وتهب غاز ثاني أوكسيد الكاربون الخارج مع زفير الإنسان وتنفسه إلى النباتات أيضا.

٥٥٧

وهي كذلك تؤدي وظيفة أخرى ، فقد أرسلها الله لواقح تنقل معها لقاح الأزهار الذكور للإناث.

والرياح تحرك الطواحين الهوائية وتصفي البيادر.

والرياح تنقل البذور من المناطق التي قد تجمعت فيها وتنثرها وتبسطها على الصحراء ، كأنّها فلاح مشفق ، فتغدو خضراء ممرعة بعد أن كانت يبابا.

والرياح تنقل السفن مع مسافريها وأثقالهم إلى نقاط مختلفة.

وحتى في هذا العصر الذي حلت الوسائل الحديثة «الماكنات» مكان الرياح ، فما تزال الرياح ذات أثر بالنسبة للسفن في اتجاهاتها المخالفة لها أو الموافقة لها ... سرعة وبطأ!

أجل ، أنّ الرياح مبشرات من جهات شتى.

ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى : (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

أجل ، إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين ، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضا ، وأخيرا فهي سبب للازدهار التجاري.

وقد أشير إلى الموضوع الأوّل بجملة (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) وإلى الثّاني بجملة (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) وللثالث بجملة (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)!

والطريف هنا أن جميع هذه البركات منشؤها الحركة ، الحركة في ذرات الهواء في الفضاء الجوي لكن لا يعرف قدر أية نعمة حتى تسلب عن الإنسان! فيعرفها حينذاك. فما لم تتوقف هذه الرياح والنسائم ، فلا يعرف الإنسان ما ذا يحلّ به من بلاء؟!

فتوقف الهواء يجعل الحياة في أفضل الحقول كالحياة في أشد المطامير والسجون ظلمة! وعلى العكس فلو أن نسيما عليلا هب في خلايا السجون

٥٥٨

الانفرادية لجعلها كالفضاء الرحب «المفتوح» ، وعادة فإنّ واحدا من أساليب التعذيب في السجون هو سدّ منافذ الهواء!.

حتى أنّ الهواء لو توقف في المحيطات وهدأت الأمواج ، لأصبحت حياة الحيوانات البحرية مهددة بالخطر على أثر قلّة الأوكسجين ، ويتحول البحر حينذاك إلى مستنقع متعفن موحش!

يقول «الفخر الرازي» إن جملة (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) مع ملاحظة أن الإذاقة تستعمل في الشيء القليل ، فهي إشارة أن جميع الدنيا ونعمها لا تتجاور الرحمة القليلة ، أمّا الرحمة الواسعة (من قبل الله) فهي خاصة بالحياة الأخرى!.

وفي الآية التالية يقع الكلام عن إرسال الأنبياء إلى قومهم ، في حين أن الآية التي بعدها تتحدث عن هبوب الرياح مرّة أخرى ، ولعل وجود هذه الآية بين آيتين تتحدثان عن نعمة هبوب الرياح له جانب اعتراضي ، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين.

ولعل ذكر النبوّة إلى جانب هذه المسائل ، إنّما هو لإكمال البحث المتعلق بالمبدأ والمعاد ، إذ ورد البحث عنهما مرارا في هذه السورة كما قاله بعض المفسّرين.

ويمكن أن يكون وجود هذه الآية إنذارا لأولئك الذين يتمتعون بجميع هذه النعم الكثيرة ويكفرون بها.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية تقول : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية ، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل ، ولم يستجب آخرون لها برغم النصائح (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) ونصرنا المؤمنين (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

والتعبير بـ «كان» التي تدل على أن هذه السنة لها جدر عميق ، والتعبير بـ «حقّا» وبعده التعبير بـ «علينا» هو بنفسه مبين للحق ومشعر به ، جميع هذه

٥٥٩

الألفاظ تأكيدات متتابعة في هذا المجال وتقديم «حقا علينا» على «نصر المؤمنين» الذي يدل على الحصر ، هو تأكيد آخر. وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى «إن نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عمليا دون الحاجة إلى نصر من الآخرين».

وهذه الجملة ـ ضمنا ـ فيها تسلية وطمأنة لقلوب المسلمين ، الذين كانوا حينئذ في مكّة تحت ضغوط الأعداء واضطهادهم وكان الأعداء أكثر عددا وعددا.

وأساسا فإنّ أعداء الله طالما كانوا غرقى في الآثام والذنوب ، فإنّ ذلك بنفسه أحد عوامل انتصار المؤمنين ، لأنّ الذنب سيدمرهم آخر الأمر ويهيء وسائل هلاكهم بأيديهم ، ويرسل عليهم نقمة الله.

أمّا الآية الأخرى فتعود ثانية لذكر نعمة هبوب الرياح فتقول : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) (١) أي القطع الصغيرة المتراكمة ثمّ تخرج قطرات المطر منها على شكل حبات صغيرة (فَتَرَى الْوَدْقَ (٢) يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ).

أجل ، إن واحدا من الآثار المهمة عند نزول الغيث ، يقع على عاتق الرياح ، إذ تحمل قطعات السحاب من البحر إلى الأرض العطشى واليابسة ، والرياح هي المأمورة ببسط السحاب والغيوم في السماء جعلها متراكمة بعضها فوق بعض ، وبعد أن تلطف الجو وتصيره رطبا تهيء الغيث للنزول.

إن مثل الرياح كمثل راعي الغنم المحنّك ، الذي يجمع قطيع الغنم عند الاقتضاء من أطراف الصحراء ، ويسير بها في مسير معيّن ليقوم بالتالي على حلب

__________________

(١) «الكسف» جمع «كسفة» على وزن «حجلة» ومعناها القطعة ، وهي هنا ـ كما يبدو ـ إشارة إلى القطعات من الغيوم المتراكمة بعضها فوق بعض فتجعلها غليظة وشديدة ، وذلك حين تكون الغيوم مهيأة لنزول المطر.

(٢) «الودق» على وزن (الحلق) وتطلق على ذرات الماء الصغيرة كمثل الغبار أحيانا ، إذ تتناثر عند نزول الغيث في السماء ، كما تطلق على قطرات «المطر» المتفرقة أحيانا ...

٥٦٠