الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-57-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

بدلا من أن تأتيهم بدليل ، هددتهم بعذاب الله الّذي شمل من سبقهم من الكفّار ، وأنذرتهم بعقابه المخزي ... فوجهت الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).

فأنتم تعترفون أن هذه الوعود تلقّاها أسلافكم ، فلم يكترثوا بها ، ولم يروا ضررا .. فهلّا سرتم في الأرض قليلا ، لتشهدوا آثار هؤلاء المجرمين المنكرين للتوحيد والمعاد ، وخاصة الآثار في المناطق القريبة من الحجاز ... لتنظروا أن الأمر ليس كما تزعمون.

ولكن سيحين موعدكم فلا تعجلوا ... فأنتم كأولئك ستواجهون المصير المحتوم والعاقبة المخزية إذا لم تصلحوا أنفسكم!.

والقرآن دعا مرارا إلى السير في الأرض ، ومشاهدة آثار الماضين ، والمدن الخاوية الخربة التي حاق بأهلها سوء العذاب ، وقصور الظالمين المتداعية ، والقبور الدارسة والعظام النخرة ، والأموال التي خلفها أصحابها المغرورون!!

إنّ مطالعة تلك الآثار التي تعبّر عن التأريخ الحيّ لأولئك الماضين ، توقظ القلوب الغافلة! وتبصّرها بالحق ... والواقع كذلك ، فإن مشاهدة واحد من هذه الآثار يترك في القلب أثرا لا تتركه مطالعة عدّة كتب تأريخية!.

(كان لنا بحث مفصل في هذا المجال ذيل الآية ١٣٧ من سورة آل عمران).

ممّا ينبغي ملاحظته أنّه جاء في هذه الآية التعبير بـ «المجرمين» بدلا من «المكذبين» ... وهو إشارة إلى أن تكذيبهم لم يكن لأنّهم أخطأوا في التحقيق ، بل أساسه العناد واللجاجة. وتلوثهم بأنواع الجرائم!

وحيث أن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يشفق عليهم لإنكارهم ، ويحزن لعنادهم ، ويحترق قلبه من أجلهم ، إذ كان حريصا على هدايتهم ، وكان يواجه مؤامراتهم أيضا .. فإنّ الآية التالية تسري عن قلب النّبي فتقول له : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) ولا تقلق من مؤامراتهم (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ).

١٢١

إلّا أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين ، بدلا من أن يأخذوا إنذار النّبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويستر شدوا بنصحه ، أخذوا يسخرون منه (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

ومع أنّ المخاطب هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الموضوع ذكر بصيغة الجمع «إن كنتم صادقين» لأنّ المؤمنين الصادقين كانوا قد ضموا صوتهم إلى صوت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ... فهم مخاطبون بما خوطب به كذلك!

وهنا يردّ القرآن على استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية ، فيقول مخاطبا نبيّه : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ).

فعلام تستعجلون؟! وعلام تستصغرون عقاب الله؟! أفلا ترحمون أنفسكم؟! ترى ، هل عذاب الله ضرب من الهزل أو المزاح؟ فعسى أن يأخذكم الله بعذابه لكلامكم هذا فيهلككم ... فلم هذا العناد واللجاجة؟!

«ردف» فعل مشتق من (ردف) على وزن (حرف) ومعناه كون الشيء خلف الشيء الآخر ، ولذا يطلق على من يركب الفرس خلف صاحبه (رديف) كما يطلق الرديف على الأشخاص أو الأشياء التي تقف صفا واحدا بعضها خلف بعض.

وهناك كلام عن المراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به ، فقيل : هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى ، إذ صرع من عتاتهم سبعون رجلا وأسر سبعون رجلا!.

كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيرا ، ببركة وجود النّبي إذ كان رحمة للعالمين ، والآية (٣٣) من سورة الأنفال شاهدة عليه (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ).

والتعبير بـ «عسى» لعله على لسان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وحتى لو كان من قبل الله سبحانه ـ فعلى خلاف ما يتصوّره بعضهم ، فإنّه ليس فيه أي إشكال ... إذ هو إشارة إلى وجود مقدمات الشيء ومقتضياته ، مع إمكان أن تقترن هذه المقدمات

١٢٢

بالمانع ، فلا تصل إلى النتيجة النهائية (فلاحظوا بدقّة)!.

ثمّ يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة : وهي أنّ الله إذا لم يعجل في عقابكم ، فذلك بفضله وبرحمته ، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم ، فيقول : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ).

وإذا كانوا يتصورون أن تأخير العقاب لعدم علم الله سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة ، فهم في غاية الخطأ : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) (١).

فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون ، والغيب والشهادة عنده سيّان.

فهذه المفاهيم هي من نتاج علمنا المحدود ، وإلّا فهي في مقابل غير المحدود تفقد معانيها وتتلاشى حدودها.

وهنا ذكر «علم الله بما تكنّ القلوب» مقدما على علمه بالأفعال الخارجية ، ولعل ذلك هو بسبب أهمية النيات والإرادة! كما يمكن أن يكون التقديم لأنّ الأفعال الخارجية ناشئة عن النيات الداخلية ، والعلم بالعلة مقدم على العلم بالمعلول!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا : إنّه ليس علم الله منحصرا بما تكن القلوب وما تعلن ، بل علمه واسع مطلق! (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٢).

وواضح أن «الغائبة» لها معنى واسع ، فهي تحمل في مفهومها كلّ ما خفي عن حسّنا وغاب ... وتشمل أعمال العباد الخفية والنيات الباطنية ، وأسرار

__________________

(١) «تكنّ» مأخوذ من كنّ على وزن جنّ ، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفّار من خواطر وأفكار عدوانية! ..

(٢) «الغائبة» اسم فاعل مشتق يدل على الوصف ، وكما يعتقد بعضهم «التاء» ليست في هذه الكلمة للتأنيث ، بل هي إشارة للأشياء المخفية ، فهي للمبالغة في الخفاء ... إلا أنّه لا مانع من أن نحتمل أن التاء للتأنيث ، وأن موصوفها محذوف ، وتقديره : وما من خصلة غائبة. أو أشياء غائبة ، والله العالم ..

١٢٣

السماوات والأرض وقيام الناس للحساب يوم القيامة ، زمان نزول العذاب ، وأمثال ذلك. ولا دليل على أن نفسّر «الغائبة» هنا بواحد من هذه الأمور المذكورة آنفا ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ.

والمراد بـ «الكتاب المبين» هو اللوح المحفوظ ، وعلم الله الذي لا نهاية له ، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (٥٩) من سورة الأنعام.

* * *

ملاحظات

التحقيق في الآيات المتقدمة يدل على أن منكري المعاد من أجل أن يتنصّلوا من عبء الإيمان بالقيامة والمسؤوليات الناشئة عنه ، كانوا يتوسلون بثلاثة طرق :

١ ـ استبعاد العودة للحياة بعد أن يغدو الإنسان ترابا ، لاعتقادهم أنّ التراب لا يمكن أن يكون أساسا للحياة!

٢ ـ قدم هذه العقيدة وعدم الجدة فيها.

٣ ـ عدم نزول العذاب على منكري المعاد ... لأنّه لو كان حقّا أن يبتلى المنكرون بالعذاب فلم لا ينزل عليهم!

وقد ترك القرآن الجواب على الإشكالين الأوّل والثاني ، لأنّنا نرى بأم أعيننا أنّ التراب مصدر الحياة وأساسها ، وكنا في البداية ترابا ثمّ صرنا أحياء!

وكون الشيء قديما لا ينقص من أهميّته أيضا ... لأنّ قوانين هذا العالم الأصيلة ثابتة ومستقرة من الأزل حتى الأبد ... وفي الأصول الفلسفية والمسائل الرياضيّة والعلوم الأخر أصول كثيرة ثابتة ... فهل كون امتناع اجتماع النقيضين قديما ، أو جدول ضرب فيثاغورس قديما ، دليلا على ضعفه؟! وإذا رأينا العدل حسنا والظلم سيئا منذ القدم ، ولا يزال كذلك ، فهل هو دليل على بطلانه ... فكثيرا

١٢٤

ما يتفق أن القدم دليل على الأصالة.

وأمّا في شأن الإشكال الثالث ، فيجيب القرآن : ألّا تعجلوا .. فعدم نزول العذاب من لطف الله ، فهو يمهلكم ولا يعذبكم عاجلا ، لكن إذا جاء عذابه فلا مفرّ منه.

* * *

١٢٥

الآيات

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

التّفسير

عمى القلوب لا يقبلون دعوتك!

كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد ... أمّا في الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام على مسألة النبوّة ، وحقّانيّة القرآن ، ليكتمل بهما هذا البحث!.

ومن جهة أخرى فقد كان الكلام في الآيات السابقة عن علم الله الواسع غير المحدود ، وفي الآيات محل البحث مزيد تفصيل في هذا الشأن.

أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجها للمشركين ، وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم!.

١٢٦

فتقول الآيات أوّلا : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

لقد اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم في مسائل كثيرة! فقد اختلفوا في شأن مريم وعيسى عليهما‌السلام. وفي شأن النّبي الذي بشّرت به «التّوراة» من هو؟

كما أنّهم اختلفوا في ما بينهم في كثير من المسائل الدينية والأحكام الشرعية ... فجاء القرآن موضحا هذه الأمور بجلاء ، وقال : إن المسيح عليه‌السلام عرف نفسه بصراحة فـ (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١).

وقال أيضا : إنّ المسيح ولد من دون أب ، وليس أمره محالا و (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (٢).

وأمّا النّبي الذي بشرت به التّوراة فتنطبق أوصافه على نبي الإسلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تنطبق على أحد سواه!.

وعلى كل حال فإنّ واحدة من مهامّ القرآن هي مواجهة الاختلافات المتولّدة من اختلاط الخرافات وحقائق التعليمات التي جاء بها الأنبياء ... وكل نبي مسئول أن يحسم الاختلافات الناشئة من التحريف والخلط بين الحقّ والباطل ... وحيث أن هذا العبء لا يمكن أن ينهض به رجل أمي لم يسبق له أن يقرأ ، وفي محيط جاهلي ، فيتّضح أنّه مرسل من قبل الله!

ولما كانت مواجهة الاختلافات والوقوف بوجهها مدعاة للهدى والرحمة ، فإنّ الآية التالية تشير إلى هذا «الأصل الكلي» وتقول : (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).

أجل ، إنّه هدى ورحمة من حيث حسم الخلافات ومبارزة الخرافات ، هدى ورحمة لأنّ دليل حقانيته كامن في عظمة محتواه!

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٣٠.

(٢) آل عمران ، الآية ٥٩.

١٢٧

هدى ورحمة لأنّه يهدي إلى سبيل الحق ويدل عليه!.

وذكر «المؤمنين» هنا خاصّة .. هو لما ذكرناه آنفا من أنّه ما لم تتوفر مرحلة من الإيمان في الإنسان ، وهي مرحلة الاستعداد لقبول الحق والتسليم لله ، فإنّه لا يستطيع الاستفادة من هذا المصدر الإلهي الفيّاض.

وحيث أنّ جماعة من بني إسرائيل وقفت بوجه القرآن والحقائق الواردة فيه ، لأوامر الله ، فإنّ الآية التالية تقول في شأنهم : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).

وبالرغم من أنّ هذه الآية لم تصرّح بأن قضاء الله بينهم سيكون يوم القيامة ...

إلّا أنّه بقرينة آيتين أخريين تتحدثان عن اختلافات بني إسرائيل ، وأن الله يقضي بينهم يوم القيامة ، يتّضح أنّ مراد الآية محل البحث هو هذا المعنى ذاته.

ففي الآية (١٧) من سورة الجاثية يقول سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

كما ورد في ذيل الآية (٩٣) من سورة يونس ، هذا النص المتقدم نفسه.

ووصف الله «بالعزيز» و «العليم» إشارة إلى ما ينبغي توفره في القاضي من هاتين الصفتين ، «العلم» بصورة كافية و «القدرة» على إجراء الحكم ، والله سبحانه أعلم من الجميع وأعزّهم.

وهذا الكلام إضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن ، وهو تهديد لبني إسرائيل ، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النّبي وتسرية عنه ، لذا فالآية التالية تقول : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

توكل على الله العزيز الذي لا يغلب ، والعليم بكل شيء .. توكل على الله الذي أنزل القرآن على عظمته فجعله عندك ، فتوكل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين ، لأنّه يرعاك و (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ).

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : إذا كان القرآن حقّا مبينا فلما ذا خالفوه؟

١٢٨

فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال ، فتقول : إذا كان أولئك لا يذعنون للحق المبين ، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام المتين ، فلا مجال للعجب .. لـ (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (١).

بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه ، أمّا إحياء الموتى ـ أو موتى الأحياء ـ لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب ، فلا ترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فإنهم صمّ لا يسمعون فلا يمكنهم أن يسمعوا صوتك ، وخاصة إذا أداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ).

ولعلهم لو كانوا عندك وكنت تصرخ فيهم لبلغت بعض أمواج صوتك إلى مسامعهم ، إلّا أنّهم مع صممهم يبتعدون عنك.

كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم ، ولو ببعض العلامات ، إلّا أنّهم عمي (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ).

وهكذا فقد أوصدت جميع طرق إدراك الحقيقة بوجوههم ، فقلوبهم ميتة ، وآذانهم صمّ موقرة ، وأعينهم عمي! فأنت يا رسول الله (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) ويشعرون في أنفسهم بالإذعان للحق.

وفي الحقيقة إن الآيتين ـ آنفتي الذكر ـ تتحدثان عن مجموعة واضحة من عوامل المعرفة وارتباط الإنسان بالعالم الخارجي وهي :

«حس التشخيص» ، والعقل اليقظ ، في مقابل القلب الميت.

«الأذن الصاغية» لاكتساب الكلام الحق ، عن طريق السمع.

__________________

(١) قال جماعة من المفسّرين : إن هذه الجملة والجمل الأخر التي تليها بمثابة الدليل على لزوم توكل النّبي على الله وعدم يأسه ... مع أن الظاهر أنّها جواب على سؤال يثار في شأن القرآن وكونه هو «الحق المبين».

١٢٩

«والعين الباصرة» لرؤية وجه الحق ووجه الباطل ، عن طريق البصر.

إلّا أن العناد واللجاجة والتقليد الأعمى والذنب ... كلها تعمي العين التي بها يرى الإنسان الحقيقة ، وتوفر سمعه ، وتميت قلبه.

ومثل هؤلاء المعاندين المذنبين ، لو جاء جميع الأنبياء والأولياء والملائكة لهدايتهم ، لما أثّروا فيهم شيئا ، لأنّ ارتباطهم بالعالم الخارجي مقطوع ، وهم غارقون في «مستنقع ذواتهم» فحسب!.

ونظير هذا التعبير ورد في سورة البقرة وسورة الروم وسور أخر من القرآن (وكان لنا بحث آخر في نعمة «وسائل المعرفة» في تفسير سورة النحل ذيل الآية ٧٨.

ومرّة أخرى نذكّر بهذه اللطيفة وهي أنّ المراد من الإيمان والتسليم ليس معناه أنّهم قبلوا حقائق الدين من قبل ، فيكون من باب تحصيل الحاصل ، بل الهدف من ذلك أن الإنسان إذا لم يكن فيه شوق للحق وخضوع لأمر الله ، فإنه لا يصغي إلى كلام النّبي أبدا.

* * *

بحثان

١ ـ أسباب التوكل

«التوكل» مأخوذ من «الوكالة» ، وهو في منطق القرآن يعني الاعتماد على الله وجعله وليّا وكيلا ، وعدم القلق والخوف من كثرة المشاكل والموانع وعظم حجمها ، بسبب التوكل على الله!

وهذا الأمر واحد من دلائل الإيمان المهمّة ومدعاة للنصر والتوفيق!.

والطريف أنّ الآيات المتقدمة عدّت التوكل في شيئين :

أحدهما : القدرة والعلم لمن يتوكل عليه الإنسان.

١٣٠

والآخر : وضوح الطريق الذي اختاره الإنسان!.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن يقول : لا مدعاة للضعف والخوف والوحشة ، فأنت تعوّل على الله العزيز الذي لا يقهر ، والعليم الخبير بكل شيء هذا من جهة .. ثمّ إنّك على الطريق الواضح والحق اللائح من جهة أخرى .. فالمدافع عن الحق المبين علام يخاف؟!

وإذا ما رأيت جماعة خالفتك فلا تحزن أبدا ... فهي لا تملك عيونا باصرة ، ولا آذانا صاغية ، ولا قلوبا حيّة! ... وهي خارجة أساسا عن طريق الهداية والتبليغ ... وإنّما يلتفّ حولك طلاب الحق وعشاق الله ، والعطاشى إلى العدل حيث يخفّون نحو منبع القرآن الزلال ، ليرتووا من نميره العذب.

٢ ـ الموت والحياة في منطق القرآن!

هناك كثير من الألفاظ لها مداليل ومعان شتّى بحسب النظرات المختلفة ، ومن هذه الألفاظ ، لفظا الحياة والموت. «فالحياة» بالنظرة المادية تعني الحياة الطبيعة «الفيزيائية» فحسب ، أي متى كان القلب ينبض ، والدم يجرى في العروق إلى أعضاء الجسم كافة ، وكانت الحركة وعملية الجذب والدفع في البدن ، كان البدن حيا .. أمّا إذا سكنت هذه الحركة ، فتدل على «الموت» القطعي الذي يعرف بالاختبار الدقيق خلال عدّة لحظات!.

إلّا أنّ النظرة القرآنية تختلف عن النظرة المادية ، فكثير من الناس يعدون أحياء بحسب النظرة المادية ـ إلّا أنّهم أموات بحسب النظرة القرآنية .. كأولئك الذين أشارت إليهم الآيات المتقدمة .. وعلى العكس منهم الشهداء ، فهم بحسب الظاهر أموات ، لكنّهم بالمنطق القرآني أحياء خالدون!

والسبب في هذا الاختلاف بين النظرتين ، هو أنّ الإسلام بالإضافة إلى أنّه يعدّ معيار الحياة الإنسانية وشخصية الإنسان في القيم الروحانية ، فهو يرى في

١٣١

إيصال النفع الى الآخرين وعدمه معيار الوجود الحياة وعدمها في الإنسان.

فالإنسان الذي يرى بحسب الظاهر حيّا ، إلّا أنّه غارق في الشهوات ، فلا يسمع صرخة لمظلوم ، ولا صوتا لمنادي الحق ، ولا ينظر بعين بصيرة فيرى آثار الله في خلقه ، ولا يفكر ولو لحظة واحدة في مستقبله وماضيه .. فمثل هذا الإنسان ميّت في منطق القرآن. أمّا الذين ما تزال آثارهم تملأ الدنيا بعد موتهم ، وأفكارهم أسوة وقدوة للآخرين ، فهؤلاء أحياء خالدون (١).

وبغض النظر عن هذه الأمور كلّها .. فالإسلام ـ حسب ما لدينا من المدارك ـ يؤمن بالحياة البرزخية للناس .. والعجب أن بعض الوهابيين الجهلة يصرون على نفي أي نوع من أنواع الحياة والعلم بعد الوفاة ، حتى للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويمنعون التوسل به ، لأنّه بزعمهم ميّت ولا أثر للميت ، والأعجب من ذلك أنّهم يستندون إلى الآيات ـ محل البحث ـ لتأييد دعواهم!!

في حين أنّ بعضهم الآخر يصرّح على أنّ للنبيّ نوعا من الحياة البرزخية ، حياة أشرف من حياة الشهداء المصرّح بها في القرآن ، وقال : إنّه يسمع سلام المسلّم عليه (٢).

والرّوايات في هذا الشأن كثيرة وافرة عن الفريقين الشيعة والسنة ، أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة المعصومين يسمعون من يسلّم عليهم من بعيد أو قريب ، ويردّون عليه سلامهم ، كما أنّ أعمال الأمّة تعرض عليهم (٣).

ونقرأ في حديث ورد في صحيح البخاري في قصّة معركة بدر أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع بعض أصحابه وقف على «القليب» وقد ألقيت فيه أجساد قتلى المشركين ، فناداهم بأسمائهم ، وقال : هلّا أطعتم الله ورسوله ، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ،

__________________

(١) كان لنا بحث مفصل «في الموت والحياة الروحيين» في ذيل الآية (٢٤) من سورة الأنفال.

(٢) الرسالة الثّانية من الهديّة السنية لمحمّد بن عبد الوهاب ، ص ٤١.

(٣) لمزيد من الإيضاح يراجع كتاب كشف الارتياب ص ١٠٩ للسيد محسن الأمين العاملي.

١٣٢

فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا .. فقال عمر : يا رسول الله ، تكلم أجسادا لا روح فيها ... فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» (١).

ونقرأ في قصّة الجمل عن الأصبغ بن نباتة ، أنّه لما انهزم أصحاب الجمل ركب علي عليه‌السلام بغلة رسول الله الشهباء وسار في القتلى يستعرضهم فمرّ بـ «كعب بن سور» قاضي البصرة وهو قتيل ، فقال : أجلسوه ، فأجلس. فقال : ويلمّك يا كعب بن سور ، لقد كان لك علم لو نفعك .. ولكن الشيطان أضلك فأزلّك فعجلك إلى النّار (٢).

ونقرأ في نهج البلاغة ـ أيضا ـ أنّه عليه‌السلام بعد رجوعه من صفين بلغ مقبرة كانت خلف سور الكوفة ، فخاطب الموتى فقال كلاما في تقلب الدنيا ثمّ قال : «هذا ما عندنا فما خبر ما عندكم ثمّ أضاف عليه‌السلام أمّا لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى» (٣).

وهذا بنفسه دليل على أنّهم يسمعون إلّا أنّهم لا يسمح لهم بالردّ .. ولو أذن لهم لأجابوا!.

فجميع هذه التعبيرات «إشارة» إلى حياة الإنسان البرزخية.

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٥ ، ص ٩٧ ، باب قتل أبي جهل.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ١ ، ص ٢٤٨.

(٣) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار رقم ١٣٠.

١٣٣

الآيات

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥))

التّفسير

لمّا كانت الآية السابقة تتحدث عن استعجال الكفّار بالعذاب ونزوله ، أو تحقق القيامة وانتظارهم بفارغ الصبر ووقوع ذلك ، وكانوا يقولون للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). ومتى يوم القيامة؟! فإنّ الآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى بعض الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ، وتجسد عاقبة المنكرين الوخيمة ، فتقول : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ).

والمراد من قوله تعالى : (وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) هو صدور أمر الله وما وعدهم من العقاب والجزاء .. أو وقوع يوم القيامة وحضور علائمها ، العلائم التي يخضع لها كل من يراها ، ويستسلم لأمر الله ، ويحصل عنده اليقين بأنّ وعد الله حق ، وأن

١٣٤

القيامة قد اقتربت ... وحينئذ توصد أبواب التوبة ... لأنّ الإيمان في مثل هذه الظروف يقع اضطرارا.

وبالطبع فإنّ هذين المعنيين متلازمان لأنّ اقتراب القيامة يقترن بنزول العذاب ومجازاة الكافرين.

ولكن ما هي «دابة الأرض»؟ وما مصداقها؟ وأية مهمّة تحملها؟ .. فالقرآن يجمل ولا يفصل ، وكأنّه يريد أن يترك الموضوع مجملا غامضا ، ليكون الكلام فيه أكثر تأثيرا وباعثا على التهويل.

فيقول مختصرا : يخرج الله موجودا يتحرك «أو دابة من الأرض» بين يدي القيامة ، فيتكلم مع الناس ويقول : «إنّ الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله».

وبتعبير آخر : إنّ مهمّة هذه الدابة هي تفريق الصفوف وتمييز المنافقين والمنكرين من المؤمنين.

وبديهي أن المنكرين يرجعون إلى أنفسهم عند مشاهدة هذه الآيات ، ويندمون على ما سلف منهم وعلى أيّامهم المظلمة ، ولكن ما عسى أن ينفعهم الندم وأبواب التوبة موصدة؟!

وهناك مسائل كثيرة ومطالب وفيرة في خصوصيات «دابة الأرض» وجزئياتها وصفاتها في الرّوايات الإسلامية الواردة في كتب الفريقين ، الشيعة وأهل السنة ، وسنتعرض إليها ذيل هذه الآيات في باب البحوث إن شاء الله.

ثمّ تشير الآيات إلى علامة أخرى من علامات القيامة ، فتقول : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ).

«والحشر» معناه إخراج جماعة ما من مقرّها والسير بها نحو ميدان الحرب أو غيره! و «الفوج» ، كما يقول الراغب في المفردات : الجماعة التي تتحرك بسرعة.

وأمّا «يوزعون» فمعناه حبس الجماعة وإيقافها حتى يلحق الآخر منها بالأوّل .. وهذا التعبير يطلق ـ عادة ـ على الجماعات الكثيرة ، نظير ما قرأنا في

١٣٥

شأن جنود سليمان في هذه السورة ذاتها.

فبناء على هذا يستفاد من مجموع الآية أن يوما سوف سيأتي يحشر الله فيه من كل أمّة جماعة ، ويهيؤهم للحساب والجزاء على أعمالهم!.

والكثير من الأعاظم يعتقدون بأنّ هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة .. لأنّ التعبير لو كان عن القيامة لم يكن قوله «نحشر من كل أمّة فوجا» صحيحا .. إذ في القيامة يكون الحشر عاما للجميع ، كما جاء في الآية (٤٧) من سورة الكهف قوله تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).

والشاهد الآخر على أنّ الآيات هذه تتحدث عمّا يقع قبيل القيامة ، هو أن الآيات التي قبلها كانت تتحدث عن الحوادث التي تقع قبل القيامة ، والآيات التي تلي الآيات محل البحث تتحدث عن الحوادث التي تقع قبيل القيامة أيضا ... فمن البعيد أن تتحدث الآيات السابقة واللاحقة عن ما يقع قبل القيامة ، وهذه الآيات محل البحث ـ فقط ـ تتحدث عن ما يقع في يوم القيامة.

وهناك روايات كثيرة في هذا الصدد عن مسألة الرجعة سنتناولها في البحوث القادمة إن شاء الله ، إلّا أن المفسّرين من أهل السنة يعتقدون أن الآية ناظرة إلى يوم القيامة ، وقالوا : إنّ المراد بالفوج هو إشارة إلى رؤساء الجماعات وأئمتهم! وأمّا عدم الانسجام بين الآيات الذي يحدثه هذا التّفسير ، فقالوا : إنّ الآيات بحكم التأخير والتقديم ، فكأن الآية (٨٣) حقّها أن تقع بعد الآية (٨٥).

إلّا أننا نعلم أن تفسير الفوج بالمعنى الآنف الذكر خلاف الظاهر ، وكذلك عدم انسجام الآيات بأنّها في حكم التأخير والتقديم هو خلاف الظاهر أيضا.

(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١).

__________________

(١) جملة (أمّا ذا كنتم تعملون) جملة استفهاميّة و (أما) مركبة من (أم) التي هي حرف عطف وتأتي بعد همزة

١٣٦

وقائل هذا الكلام هو الله سبحانه ، والمراد من «الآيات» هي المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، أو أوامر الله ، أو الجميع!.

والمراد من جملة (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) هو أنّكم بدون أن تتحققوا وتطّلعوا على حقيقة الأمر ، كذبتم الآيات ، وهذا منتهى الجهل وعدم المعرفة أن ينكر الإنسان شيئا دون أن يتحقق منه!.

وفي الحقيقة فإنّهم يسألون عن شيئين.

الأوّل : تكذيبهم دون أن يفحصوا عن الحق.

والآخر : عن أعمالهم التي كانوا يقومون بها.

وإذا كانت الآية ـ آنفة الذكر ـ تتحدث عن القيامة ، فمفهومها واضح. وأمّا إذا كانت تشير إلى مسألة الرّجعة ـ كما يقتضيه انسجام الآيات ـ فهي إشارة إلى أنّه عند ما يرجع إلى هذه الدنيا طائفة من المجرمين ... فولي الأمر الذي يمثل الله ، وهو خليفته في الأرض ، يتحقق منهم ويسألهم عمّا فعلوه في حياتهم ، ثمّ يجازيهم حسب ما يستحقون من الجزاء الدنيوي ، ولا يمنع هذا من عذاب الآخرة ، كما أن كثيرا من المجرمين ينالون الحدّ الشرعي في هذه الدنيا ، ويستوفون جزاءهم ، فإذا لم يتوبوا فإنّ ما يستحقون من العقاب ينتظرهم في الآخرة.

وبديهي أنّ هؤلاء المجرمين لا يستطيعون الإجابة على أيّ من هذين السؤالين ، لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تضيف قائلة : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ).

وهذا القول أو العذاب دنيوي ، إذا فسّرنا الآية بالرجعة ، أو هو عذاب الآخرة إذا فسّرنا الآية بيوم القيامة.

* * *

__________________

الاستفهام عادة ، وتسمّى بالمعادلة ، و (ما) الاستفهامية. ومعنى الآية : أو أيّ شيء كنتم تعملون.

١٣٧

بحوث

١ ـ ما هي دابة الأرض؟!

«الدّابة» معناها ما يدب ويتحرك ، و «الأرض» معناها واضح .. وخلافا لما يتصوّره بعضهم بأنّ الدّابة تطلق على غير الإنسان ... بل الحق أنّها ذات مفهوم واسع يشمل الإنسان أيضا ، كما نقرأ في الآية (٦) من سورة هود (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ، وفي الآية (٦١) من سورة النحل (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ).

وفي الآية (٢٢) من سورة الأنفال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ).

إلّا أنّه ـ كما ذكرنا في تفسير الآية آنفا ـ فإنّ القرآن لا يفصّل في بيان هذه الكلمة وإنّما يذكرها على إجمالها ، فكأنّ البناء كان على الإجمال والإبهام ، والوصف الوحيد المذكور لها بأنّها تكلم الناس وتميز المؤمن من غير المؤمن ... إلّا أنّ هناك كلاما طويلا في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين في الشأن ، ويمكن تلخيص مجموعها في تفسيرين :

١ ـ فطائفة تعتقد بأنّ هذه «الدابة» حيوان غير مألوف ومن غير جنس الإنسان له شكل عجيب ، ونقلوا له عجائب شبيهة بما يخرق العادات والمعاجز!.

هذه الدابة تخرج في آخر الزمان ، وتتحدث عن الإيمان والكفر ، وتفضح المنافقين وتسمهم بميسمها!

٢ ـ وطائفة تعتقد ـ حسب الرّوايات الإسلامية الواردة في هذا الشأن ـ أنّها إنسان فوق العادة ـ إنسان متحرك فعّال! وواحد من أفعاله الأصلية تمييز المؤمنين عن المنافقين ووسمهم .. حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أن معه عصا موسى عليه‌السلام وخاتم سليمان .. ونحن نعرف أن عصا موسى رمز للقدرة والإعجاز ، وخاتم سليمان رمز للحكومة والسلطة الإلهية! فإذا هذا الإنسان

١٣٨

رجل قويّ ذو سلطة وهيمنة!

وقد جاء في حديث عن «حذيفة بن اليمان» عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصف هذه الدابة قوله : «لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، فتسم المؤمن بين عينيه ويكتب بين عينيه مؤمن ، وتسم الكافر بين عينيه ويكتب بين عينيه كافر ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان» (١).

وقد طبق هذا المفهوم في روايات كثيرة على «أمير المؤمنين» عليه‌السلام ففي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ رجلا قال لعمار بن ياسر : في القرآن آية شغلت بالي وجعلتني في شك قال عمار : أيّة آية هي؟ قال : آية (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) فيقول عمار : والله لا أجلس على الأرض ولا آكل طعاما ولا أشرب ماء حتى أريكها. ثمّ يأخذه عمار إلى الإمام علي ، وهو يأكل طعاما فلما بصر به الإمام علي ناداه فجاء عمار عنده وأكل معه!.

فتعجب الرجل ولم يصدق هذا المشهد ، إذ كان عمار قد حلف ووعده أن لا يجلس على الأرض ولا يأكل ولا يشرب حتى يريه دابة الأرض ، فكأنّه نسي وعده!.

فلمّا قام عمار وودّع عليّا .. قال له الرجل : عجيب منك أن تقسم بالله أن لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس على الأرض ، حتى تريني دابة الأرض! ... فقال له عمار : أريتكها لو كنت تعقل (٢).

ونظير هذا المعنى في تفسير العياشي ، إلّا أنّه ورد اسم «أبي ذر» مكان عمار (٣).

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية محل البحث.

(٢) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث ..

(٣) المصدر السابق.

١٣٩

وينقل العلّامة المجلسي رحمه‌الله في بحار أنواره بسند معتبر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه ، فحرّكه برجله ، ثمّ قال : قم يا دابة الله ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله أنسمّي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟

فقال لهم : «لا والله ما هو إلّا له خاصّة وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) ثمّ قال : يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ، ومعك ميسم تسم به أعداءك» (١).

وبناء على هذه الرّواية ، فالآية تنطبق على الرجعة وتنسجم هي والآية التي تليها في الرجعة!.

ويقول المرحوم «أبو الفتوح الرازي» في تفسيره في ذيل الآية : طبقا للأخبار التي جاءتنا عن طريق أصحابنا ، فإن دابة الأرض كناية عن المهدي «صاحب الزمان عليه‌السلام» (٢).

ومع الأخذ بنظر الإعتبار لهذا الحديث والأحاديث المتقدمة ، يمكن أن يستفاد من دابة الأرض مفهوم واسع ، ينطبق على أي إمام عظيم يخرج في آخر الزمان ويميز الحق عن الباطل.

وهذا التعبير الوارد في الرّوايات الاسلامية بأن معه عصا موسى عليه‌السلام التي هي رمز القوة والإنتصار ، وخاتم سليمان عليه‌السلام الذي يرمز للحكومة الإلهية ، قرينة على أن دابة الأرض إنسان نشط فعال فوق العادة!.

كما أنّ ما ورد في الرّوايات الإسلامية من أنّها تسم المؤمن بين عينيه فيكتب مؤمنا ، وتسم الكافر فيكتب كافرا ينسجم والقول بأنّها إنسان!.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ٥٢ ، خ ٣.

(٢) تفسير الرازي ، ج ٨ ص ٤٢٣.

١٤٠