إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨١

البلاغة :

في قوله «فيهما فاكهة ونخل ورمان» فإنما فصلهما بالواو لتخصيصها بالمزايا والفضل ، وعبارة الزمخشري «فإن قلت : لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت اختصاصا لهما وبيانا لفضلهما فإنهما كأنهما من المزية جنسان آخران كقوله تعالى : وجبريل وميكائيل أو لأن النخل ثمرة فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ومنه قال أبو حنيفة رحمة الله إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث وخالفه صاحباه» وحكى الزجّاج عن يونس النحوي وهو من قدماء النحويين أن النخل والرمان من أفضل الفواكه وإنما فصلا بالواو لفضلهما ، وقال الأزهري : ما علمت أن أحدا من العرب قال في النخل والرمان وثمارها أنها ليست من الفاكهة وإنما قال ذلك من قال لقلة علمه بكلام العرب وتأويل القرآن العربي المبين والعرب تذكر الأشياء جملة ثم تختصّ شيئا منها بالتسمية تنبيها على فضل فيه. وعبارة الكرخي : وهما من الفاكهة وبه قال الشافعي رضي الله عنه وأكثر العلماء فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة وحينئذ فعطفهما عليها من عطف الخاص على العام تفصيلا وقيل إنهما ليسا من الفاكهة وعليه أبو حنيفة حيث قال : من حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكل النخل والرمان» وهل هو من عطف الخاص على العام أم هو عطف ما تضمنه الأول ، والظاهر أن الآية ليست من عطف الخاص على العام لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعمّ عموما شموليا.

٤٢١

سورة الواقعة

مكيّة وآياتها ستّ وتسعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦))

اللغة :

(الْواقِعَةُ) القيامة وصفت بأنها تقع لا محالة أو كأنها واقعة في نفسها.

٤٢٢

(بُسَّتِ) فتنت ، وفي المصباح : بسست الحنطة وغيرها بسّا من باب قتل وهو الفتّ فهي بسيسة فعيلة بمعنى مفعوله.

(هَباءً) الهباء غبار كالشعاع في الرقة وكثيرا ما يخرج شعاع الشمس من الكوّة النافذة.

(مُنْبَثًّا) منتشرا متفرقا بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه.

(أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) الذين يعطون كتبهم بأيمانهم من اليمن والبركة.

(أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) الذين يعطون كتبهم بشمالهم المشائيم على أنفسهم.

(ثُلَّةٌ) جماعة.

(مَوْضُونَةٍ) منسوجة متداخلة كصفة الدرع ، قال الأعشى :

ومن نسج داود موضونة

تساق إلى الحيّ عيرا فعيرا

الإعراب :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) في إذا أوجه :

١ ـ ظرف محض ليس فيها معنى الشرط والعامل فيها ما في ليس من معنى النفي كأنه قيل ينتفي التكذيب بوقوعها إذا وقعت ، وقد ذهب إلى هذا الوجه الزمخشري فقال : «فإن قلت بم انتصب إذا؟ قلت بليس كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل» وردّه أبو حيان فقال : «أما نصبها بليس فلا يذهب نحوي ولا من شدا شيئا من صناعة الإعراب إلى مثل هذا لأن «ليس» في النفي كما وما لا تعمل فكذلك ليس وذلك أن

٤٢٣

«ليس» مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان والقول بأنها فعل هو على سبيل المجاز لأن حدّ الفعل لا ينطبق عليها والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث فإذا قلت يوم الجمعة أقوم فالقيام واقع في يوم الجمعة و «ليس» لا حدث لها فكيف يكون لها عمل في الظرف ، والمثال الذي شبّه به وهو يوم الجمعة ليس لي شغل لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس بل هو منصوب بالعامل في خبر ليس وهو الجار والمجرور فهو من تقديم الخبر على ليس وتقديم ذلك مبني على جواز تقديم الخبر الذي لليس عليها وهو مختلف فيه ولم يسمع من لسان العرب قائما ليس زيد ، وليس إنما تدل على الحكم الخبري عن المحكوم عليه فقط فهي كما ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع جعلها ناس فعلا وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية ، ويظهر من تمثيل الزمخشري إذا بقوله يوم الجمعة أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها ولو كانت شرطا وكان الجواب الجملة المصدّرة بليس لزمت الفاء إلا أن حذفت في شعر إذ ورد ذلك فتقول إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته ولا يجوز ، «لست» بغير فاء إلا إن اضطر إلى ذلك».

٢ ـ أن العامل فيها اذكر مقدّرا.

٣ ـ أنها شرطية وجوابها مقدّر أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت وهو العامل فيها.

٤ ـ أنها شرطية والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها وهو اختيار أبي حيان وتبع في ذلك مكيا ، قال مكّي : والعامل فيها وقعت لأنها قد يجازى بها فعمل فيها الفعل الذي بعدها كما يعمل في ما ومن اللتين للشرط في قولك ما تفعل أفعل ومن تكرم أكرم.

٥ ـ أنها مبتدأ وإذا رجت خبرها وهذا على القول أنها تتصرف.

٤٢٤

٦ ـ أنها ظرف لخافضة رافعة قاله أبو البقاء أي إذا وقعت خفضت ورفعت.

٧ ـ أنها ظرف لرجت وإذا الثانية إما بدل من الأولى أو تكرير لها.

٨ ـ إن العامل فيها ما دلّ عليه قوله فأصحاب الميمنة أي إذا وقعت بانت أحوال الناس فيها.

٩ ـ أن جواب الشرط قوله فأصحاب الميمنة.

١٠ ـ قال الجرجاني : إذا صلة أي وقعت الواقعة مثل اقتربت الساعة وأتى أمر الله وهو كما يقال قد جاء الصوم أي دنا واقترب.

ووقعت الواقعة فعل وفاعل.

(لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) ليس فعل ماض جامد ناقص ولوقعتها خبرها مقدّم واللام بمعنى في على تقدير المضاف أي ليس كاذبة توجد في وقت وقوعها وكاذبة اسم ليس وكاذبة صفة لموصوف محذوف أي نفس كاذبة ، وقيل «كاذبة» مصدر جاء بلفظ اسم الفاعل بمعنى الكذب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خافضة خبر لمبتدأ محذوف ورافعة خبر ثان (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) يجوز أن تكون إذا بدلا من إذا الأولى أو تأكيدا لها أو خبرا لها على أنها مبتدأ وقد تقدم هذا مفصلا ويجوز أن تكون شرطا والعامل فيها إما مقدّر وإما فعلها الذي يليها كما تقدم في نظيرتها ، وعبارة الزمخشري : «ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة أي تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبسّ الجبال لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض» ، ورجّا مفعول مطلق (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) الجملة معطوفة على الجملة السابقة (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) الفاء عاطفة وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هي وهباء خبرها ومنبثّا صفة لهباء (وَكُنْتُمْ

٤٢٥

أَزْواجاً ثَلاثَةً) عطف على رجّت وكان واسمها وخبرها وثلاثة نعت لأزواجا (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) الفاء عاطفة تفريعية للشروع في تفصيل وشرح أحوال الأزواج الثلاثة وأصحاب الميمنة مبتدأ وما استفهامية في محل رفع مبتدأ ثان والمقصود بالاستفهام التعظيم وأصحاب الميمنة الثاني خبر ما والجملة خبر المبتدأ الأول وتكرير المبتدأ هنا بلفظه أغنى عن الرابط وهو الضمير ومثله «الحاقة ما الحاقة» و «القارعة ما القارعة» ولا يكون إلا في مواطن التعظيم والتحقير وهذا هو القسم الأول من الأزواج (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) عطف على ما تقدم والمقصود هنا تحقير شأنهم وهم القسم الثاني من الأزواج (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الواو عاطفة والسابقون مبتدأ والسابقون تأكيد وهم القسم الثالث من الأزواج وأكثرهم عراقة في الفضل (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) أولئك مبتدأ والمقربون خبره والجملة خبر السابقون واسم الإشارة أغنى عن الرابط وهو الضمير ، واختار الزمخشري أن يكون السابقون خبرا وليس تأكيدا قال «والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم كقوله : وعبد الله عبد الله وقول أبي النجم «وشعري شعري» كأنه قال وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وقد جعل السابقون تأكيدا وأولئك المقربون خبرا وليس بذاك» هذا ما ذكره الزمخشري وليس بعيدا بل لعلّه أقعد بالفصاحة ، ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله : أولئك المقربون فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف وبين الإخبار عنه بقوله المقربون المعرّف بالألف واللام العهدية. وننقل فيما يلي نص ما أورده أبو حيان قال : «والسابقون السابقون جوّزوا أن يكون مبتدأ وخبرا نحو قولهم أنت أنت وقوله : أنا أبو النجم وشعري شعري ، أي الذين انتهوا في السبق أي الطاعات وبرعوا فيها وعرفت حالهم وأن يكون السابقون تأكيدا لفظيا والخير فيما بعد ذلك». وعبارة أبي البقاء «قوله تعالى والسابقون الأول مبتدأ والثاني

٤٢٦

خبره أي السابقون بالخير السابقون إلى الجنة وقيل الثاني نعت للأول أو تكرر توكيدا والخبر أولئك» (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) خبر ثان أو حال من الضمير في المقربون أو متعلق به أي قربوا إلى رحمة الله في جنات النعيم ، وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه كما يقال : دار الضيافة ودار الدعوة ودار العدل (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ثلّة خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلّة من الأولين ومن الأولين نعت وقليل عطف على ثلّة ومن الآخرين نعت لقليل واختار الجلال أن يرتفع ثلّة على الابتداء لوصفه والخبر على سرر الآتية (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) إما خبر على القول بأن ثلّة مبتدأ أو نعت ثان لثلّة على القول بأنها خبر لمبتدأ مضمر (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) حالان من الضمير في عليها أي استقروا عليها متكئين متقابلين لا ينظر بعضهم إلى بعض.

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

اللغة :

(مُخَلَّدُونَ) باقون لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون وقيل من الخلد وهو القرط ، قال امرؤ القيس :

٤٢٧

وهل ينعمن إلا سعيد مخلد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال

والولدان جمع وليد كصبيان بمعنى مولود والولد يجمع على أولاد.

(مَعِينٍ) خمر جارية من منبع لا يفيض ولا ينقطع أبدا.

(لا يُصَدَّعُونَ) لا يحصل لهم صداع بسببها قال الزمخشري :«وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها» والصداع هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه والخمر تؤثر قال علقمة في وصف الخمر :

تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها

ولا يخالطها في الرأس تدويم

(يُنْزِفُونَ) بفتح الزاي وكسرها من نزف الشارب وأنزف يقال نزف الرجل بالبناء للمجهول أي ذهب عقله سكرا ونزف الرجل دما : رعف فخرج دمه كله وكلاهما وارد.

الإعراب :

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) الجملة مستأنفة ويجوز أن تكون حالية وعليهم متعلقان بيطوف وولدان فاعل ومخلدون نعت ولدان ، والمعنى : يدور حولهم للخدمة غلمان لا يهرمون ولا يتغيرون بل شكلهم شكل الولدان دائما (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) بأكواب متعلقان بيطوف ما وبعده عطف عليه ومن معين صفة لكأس (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) الجملة مستأنفة أو حال من الضمير في عليهم ولا نافية ويصدعون بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل وعنها متعلقان به ولا ينزفون عطف على لا يصدعون (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) عطف على ما تقدم أي وكأس ، ومما نعت لفاكهة وجملة يتخيرون صلة (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) عطف على ما تقدم أيضا (وَحُورٌ عِينٌ) يقرأ

٤٢٨

بالرفع ، وفيه أوجه : أحدها هو معطوف على ولدان أي يطفن عليهم للتنعيم لا للخدمة ، والثاني هو مبتدأ خبره محذوف أي لهم حور أو وثم حور ، والثالث هو خبر لمبتدأ محذوف أي ونساؤهم حور ، ويقرأ بالنصب على تقدير يعطون أو يجازون حورا ، ويقرأ بالجر عطفا على أكواب في اللفظ دون المعنى لأن الحور لا يطاف بهنّ ، وقيل هو معطوف على جنات أي في جنات وفي حور. وعين صفة لحور (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) كأمثال نعت ثان لحور واللؤلؤ مضاف إليه والمكنون نعت (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء مفعول من أجله أي يفعل بهم ذلك كله جزاء أو مفعول مطلق لفعل محذوف أي جزيناهم جزاء وبما متعلقان بجزاء وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يعملون خبرها (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) لا نافية ويسمعون فعل مضارع والواو فاعله وفيها متعلقان بيسمعون ولغوا مفعول به والواو حرف عطف ولا نافية وتأثيما عطف على لغوا أي فاحشا من القول أو مما يؤثم (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) إلا أداة استثناء والاستثناء منقطع وقيلا مستثنى منقطع واجب النصب وسلاما سلاما فيه أوجه أحدها أنه بدل من قيلا أي لا يسمعون فيها إلا سلاما سلاما ، والثاني أنه نعت قيلا ، والثالث أنه منصوب بقيلا لأنه مصدر أي إلا أن يقولوا سلاما سلاما واختاره الزجّاج ، والرابع أن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف أي سلّموا سلاما.

البلاغة :

١ ـ في قوله «كأمثال اللؤلؤ المكنون» تشبيه مرسل مجمل ، ووجه الشبه محذوف وهو الصون ، قال الشاعر يصف امرأة بالصون وعدم الابتذال فشبّهها بالدرّة المكنونة في صدفتها فقال :

قامت تراءى بين سجفي كلة

كالشمس يوم طلوعها بالأسعد

٤٢٩

أو درّة صدفية غوّاصها

بهج متى يرها يهلّ ويسجد

٢ ـ وفي قوله «لا يصدعون عنها ولا ينزفون» فن الإيجاز وقد تقدم ، فجمع في هاتين الكلمتين جميع عيوب الخمر في الدنيا.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

اللغة :

(سِدْرٍ) السدر شجر النبق.

(مَخْضُودٍ) أصل الخضد عطف العود اللين فمن هاهنا المخضود الذي لا شوك له لأن الغالب أن الرطب اللين لا شوك له وفي المختار : «خضد الشجر قطع شوكة وبابه ضرب فهو خضيد ومخضود» ، وقال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة :

إن الحدائق في الجنان ظليلة

فيها الكواعب سدرها مخضود

(طَلْحٍ) الطلح : شجر الموز ، وقال أبو عبيدة : هو كل شجر عظيم كثير الشوك ، قال بعض الحداة :

٤٣٠

بشرها دليلها وقالا

غدا ترين الطلح والجبلا

وقال الزجّاج : الطلح شجر أم غيلان فقد يكون على أحسن حال.

(مَنْضُودٍ) اسم مفعول من نضدت المتاع أي جعلت بعضه فوق بعض.

(أَبْكاراً) البكر التي لم يفترعها الرجل فهي على خلقتها الأولى من حال الإنشاء ، ومنه البكرة لأول النهار والباكورة لأول الفاكهة والبكر الفتى من الإبل وجمعه بكار وبكارة وجاء القوم على بكرتهم وبكرة أبيهم.

(عُرُباً) جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها عشقا له.

(أَتْراباً) جمع ترب وهو اللذة الذي ينشأ مع مثله في حال الصبا وهو مأخوذ من لعب الصبي بالتراب أي هم كالصبيان الذين هم على سنّ واحدة ، قال عمر بن أبي ربيعة :

أبرزوها مثل المهاة تهادى

بين عشر كواعب أتراب

الإعراب :

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمل أولا ، وأصحاب مبتدأ وما اسم استفهام للتعظيم في محل رفع مبتدأ وأصحاب اليمين خبر ما والجملة خبر أصحاب والرابط إعادة المبتدأ بلفظه كما تقدم (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) خبر ثان لأصحاب أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم في سدر ومخضود نعت لسدر (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ

٤٣١

وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) عطف على وله في سدر ولا في لا مقطوعة للنفي كقولك مررت برجل لا طويل ولا قصير ولذلك لزم تكرارها (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) إن واسمها وجملة أنشأناهنّ خبر وإنشاء مفعول مطلق وعبارة الكشاف «إنّا أنشأناهنّ إنشاء : ابتدأنا خلقهنّ ابتداء جديدا من غير ولادة فإما أن يراد اللاتي ابتدئ إنشاؤهنّ أو اللاتي أعيد إنشاؤهنّ ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أم سلمة سألته عن قوله تعالى :إنّا أنشأناهنّ إنشاء ، فقال : يا أم سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا جعلهنّ الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء كلما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا فلما سمعت عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قالت : وأوجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس هناك وجع (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) الفاء عاطفة وجعلناهنّ فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وأبكارا مفعول به ثان وعربا أترابا نعتان لأبكارا (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) لأصحاب اليمين متعلقان بأنشأناهنّ (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ثلّة خبر لمبتدأ محذوف ومن الأولين نعت لثلّة وثلّة من الآخرين عطف على ما تقدم.

البلاغة :

١ ـ في قوله «وفرش مرفوعة» إن فسرت الفرش بأنها جمع فراش كان معناها على حقيقته أي مرفوعة على السرر وإن أريد بها النساء كانت كناية عن موصوف والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا ويدل على هذا التأويل قوله «إنّا أنشأناهنّ إنشاء».

٢ ـ وفي قوله «عربا أترابا» كناية أيضا عن عودتهنّ أو نشأتهنّ في سنّ صغيرة ، قالت عجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : إن الجنة لا تدخلها العجائز ، فولّت وهي تبكي

٤٣٢

فقال عليه الصلاة والسلام أخبروها أنها ليست بعجوز ، وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم : يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين» والعرب جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها ، قال المبرد : هي العاشقة لزوجها ، وقال زيد بن أسلم : هي الحسنة الكلام والأتراب : هنّ اللواتي على ميلاد واحد وسنّ واحدة.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

اللغة :

(سَمُومٍ) السموم : الريح الحارّة التي تدخل في مسام البدن ، ومسام البدن خروقه ومنه أخذ السمّ الذي يدخل في المسام.

٤٣٣

(يَحْمُومٍ) اليحموم هو الدخان الأسود البهيم ، وفي المختار :«وحممه تحميما سخم وجهه بالفحم والحمم الرماد والفحم وكل ما احترق من النار الواحدة حممة واليحموم الدخان».

(الْحِنْثِ) الذنب ويعبّر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم : لم يبلغوا الحنث ، وإنما قيل ذلك لأن الإنسان عند بلوغه يؤاخذ بالحنث أي الذنب ، وتحنث فلان أي جانب الحنث وفي الحديث : كان صلى الله عليه وسلم يتحنث بنار حراء ، أي يتعبد لمجانبته الإثم ، فتفعّل في هذه كلها للسلب.

(الْهِيمِ) الإبل العطاش التي لا تروى من الماء لداء يصيبها والواحد أهيم والأنثى هيماء ، وأصل هيم هيم بضم الهاء بوزن حمر ، لكن قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء ، وعبارة السمين : «والهيم جمع أهيم وهيماء وهو الجمل والناقة التي أصابها الهيام وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت أو تسقم سقما شديدا».

الإعراب :

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) تقدم إعراب نظيرها قريبا فجدّد به عهدا والكلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمله من أحوالهم بعد أن فصّل حال أصحاب اليمين (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) خبر ثان أو خبر لمبتدأ مضمر وقد تقدم نظيره (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) عطف على ما تقدم (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) الجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب وإن واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها والظرف متعلق بمحذوف حال أو بمترفين ومترفين خبر كانوا (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) عطف على ما تقدم وكان واسمها وجملة يصرّون خبرها وعلى الحنث متعلقان بيصرّون والعظيم نعت (وَكانُوا

٤٣٤

يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) عطف أيضا وكان واسمها وجملة يقولون خبرها والهمزة للاستفهام وإذا ظرف للشرط متعلق بشيء دلّ عليه قوله أإنا لمبعوثون ، ألا ترى أن إذا ظرف من الزمان فلا بدّ له من فعل أو معنى فعل يتعلق به ولا يجوز أن يتعلق بقوله متنا لأنه مضاف إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف وإذا لم يجز حمله على هذا الفعل ولا على ما بعد إن من حيث لم يعمل ما بعد إن فيما قبلها كما لا يعمل ما بعد لا فيما قبلها فكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله علمت أنه يتعلق بشيء دلّ عليه قوله أإنا لمبعوثون وذلك نحشر أو نبعث ونحوهما مما يدلّ عليه هذا الكلام.

ومتنا فعل وفاعل وكنّا عطف على متنا وكان واسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام وإن واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبرها (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الهمزة للاستفهام والواو حرف عطف وآباؤنا معطوف على الضمير المستكن في مبعوثون وحسن العطف على الضمير من غير تأكيد نحن لوجود الفاصل الذي هو الهمزة وقيل المعطوف عليه محل إن واسمها بعد ملاحظة تقدم المعطوف على الخبر والتقدير أإنا أو آباؤنا مبعوثون والأولون نعت لآباؤنا (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) كلام مستأنف مسوق للردّ على إنكارهم وتحقيقا للحق ، وإن واسمها والآخرين عطف على الأولين واللام المزحلقة ومجموعون خبر إن ، وإن واسمها وخبرها في محل نصب مقول القول وإلى ميقات يوم متعلقان بمجموعون ومعلوم نعت ليوم ، وقد ضمن الجمع معنى السوق فعدّي بإلى وإلا فكان الظاهر تعديته بفي (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي داخل في حيز القول وإن واسمها وأيها منادى نكرة مقصودة والضالون بدل من أيها والمكذبون نعت للضالون (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) اللام المزحلقة وآكلون خبر إنكم ومن شجر متعلقان بآكلون ومن زقوم بدل

٤٣٥

من قوله من شجر أو عطف بيان أو نعت (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) الفاء حرف عطف ومالئون معطوف على آكلون ومنها متعلقان بمالئون والبطون مفعول لاسم الفاعل وأنت ضمير الشجر لأنه اسم جنس واسم الجنس يجوز تذكيره وتأنيثه (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) الفاء حرف عطف وشاربون معطوف على آكلون وعليه متعلقان بمحذوف حال ومن الحميم متعلقان بشاربون (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) الفاء حرف عطف وشاربون عطف على ما تقدم وشرب الهيم مفعول مطلق وصحّ عطف الشيء على نفسه لأنهما في الحقيقة مختلفان فالأول شرب للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء وهو أمر عجيب في حدّ ذاته والثاني شرب للحميم على ذلك كما تشرب الهيم الماء وهو أمر أعجب وأشد غرابة. وفي هذا التشبيه فائدتان : إحداهما التنبيه على شربهم منه والثانية عدم جدوى الشرب وأن المشروب لا ينجع فيه كما ينجع في الهيم (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) هذا مبتدأ ونزلهم خبر ويوم الدين الظرف متعلق بمحذوف حال أي كائنا في ذلك اليوم العصيب.

البلاغة :

١ ـ في قوله «لا بارد ولا كريم» فن الاحتراس وقد تقدم تعريفه ، وهنا لمّا قال وظل من يحموم أوهم أن الظل ربما جلب لهم شيئا من الراحة بعد التعب فنفي عنه صفتي الظل يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال التي تنشر البرد والروح وتجلب النفع لمن يأوي إليه ويتفيأ تحته ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه فقوله لا بارد ولا كريم صفتان للظل لا لقوله من يحموم ، وهنا يرد اعتراض بأن الفاء تفيد الترتيب مع التعقيب ، ونقول نصّ الرضي على أنه غير واجب مع أنه هنا يفضي إلى عدم توازن الفاصلتين وجعلهما نعتين ليحموم لا يلائم

٤٣٦

البلاغة القرآنية كما أن فيه فن التعريض وهو أن الذين يستأهلون الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون أشجى لحلوقهم وأدعى لتحسرهم ، ولهذه النكت جميعها علل استحقاقهم هذه العقوبة بقوله «إنهم كانوا قبل ذلك مترفين» قال الرازي : «والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل أنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك للتنبيه على أن الثواب منه تعالى فضل والعقاب منه عدل والفضل سواء ذكر سببه أم لم يذكر لا يوهم بالمتفضل نقصا ولا ظلما وأما العدل فإنه إن لم يذكر سبب العقاب يظن أنه ظالم ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين جزاء بما كانوا يعملون كما قال في السابقين لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء بحقه» وهذا كلام جميل جدا فتدبره ولا تنس المقابلة الخفيّة الكامنة فيما بين سطور هذا الكلام العجيب فهؤلاء الذين أمسّوا بهذه المثابة كانوا في الدنيا يعيشون غارقين في الترف ، متقلبين في أعطافه فإذا بهم وقد لفّهم السموم واليحموم يتذكرون ما كانوا فيه ويقابلون بينه وبين حالتهم الراهنة والتجسيد والتخييل حاضران مهيآن أمامهم ، تتقراهما أيديهم بلمس على حدّ قول البحتري.

٢ ـ وفي الآية «هذا نزلهم يوم الدين» فن التهكم وقد مرّ أيضا ، فقد سمّى الجحيم وما فيه من صنوف العذاب وضروب الأهوال نزلا تهكما بهم لأن النزل ما يعدّ للنازل تكرمة له كما في قوله تعالى «فبشّرهم بعذاب أليم» وكقول أبي الشعراء الضبّي :

وكنّا إذا الجبار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

أي إذا نزل بنا الجبار مع جيشه نزول الضيف ، وفيه تهكم به

٤٣٧

حيث جاء محاربا فشبهه بمن جاء للمعروف طالبا ورشح ذلك التشبيه بجعل الرماح والسيوف المرهفة المسنونة نزلا له وهو الطعام المعدّ للضيف.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

اللغة :

(تُمْنُونَ) أمنى يمني ومنى يمني : قذف المني في الرحم وهو

٤٣٨

النطفة ، وقرأ ابن السماك تمنون بفتح التاء والأصل من المني وهو التقدير ، قال الشاعر :

لا تأمنّ وإن أمسيت في حرم

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

ومنه المنية لأنها مقدّرة تأتي على مقدار وفي المختار : «وقد منى من باب رمى وأمنى أيضا».

(قَدَّرْنا) بالتشديد والتخفيف قال :

ومفرهة عنس قدرت لساقها

فخرت كما تتايع الريح بالقفل

والمعنى قدرت ضربي لساقها فضربتها فخرت ، ومثله في المعنى :

وإن تعتذر بالمحلّ من ذي ضروعها

على الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

(حُطاماً) الحطام : الهشيم الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء وأصل الحطم الكسر ، والحطم السوّاق بعنف يحطم بعضها على بعض ، قال :

قد لفّها الليل بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم (تَفَكَّهُونَ) التفكّه أصله تناول ضروب الفواكه للأكل والفكاهة المزاح ومنه حديث زيد : كان من أفكه الناس مع أهله ، ورجل فكه طيب النفس ، وقد استعير هنا للتنقل في الحديث ، وقيل معناه تندمون ، وحقيقته تلقون الفكاهة عن أنفسكم ولا تلقى الفكاهة إلا من الحزن فهو من باب تحرّج وتأثم ، وقيل تفكهون : تعجبون وقيل تتلاومون وقيل تتفجعون وكله من باب التفسير باللازم.

٤٣٩

(لَمُغْرَمُونَ) جمع مغرم ، والمغرم هو الذي ذهب ماله بغير عوض وأصل الباب اللزوم والغرام العذاب اللازم قال الأعشى :

إن يعاقب يكن غراما وإن يع

ط جزيلا فإنه لا يبالي

(تُورُونَ) الإيراء إظهار النار بالقدح يقال أورى يوري ووريت بك زنادي أي أضاء بك أمري ويقال : قدح فأورى إذا ظهرت النار فإذا لم يور يقال قدح فأكبى ، وفي المصباح : «ورى الزند يري وريا من باب وعى وفي لغة وري يري بكسرهما وأورى بالألف وذلك إذا أخرج ناره» وفي المختار : «وأوراه غيره أخرج ناره» وفي معاجم اللغة : تستخرجون النار من الزناد وهو جمع زند والزند العود الذي يقدح به النار وهو الأعلى والزندة السفلى فيها ثقب وهي الأنثى فإذا اجتمعتا قيل زندان والجمع زناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر.

(الْمُزْنِ) السحاب جمع مزنة وفي القاموس : «المزن بالضم السحاب أو أبيضه أو ذو الماء ، القطعة مزنة».

(أُجاجاً) في المختار : «ماء أجاج مرّ شديد الملوحة ، وقد أجّ الماء يؤج أجوجا بالضم».

(لِلْمُقْوِينَ) للمسافرين أي جعلناها ينتفع بها المسافرون وخصّوا بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين ، وقال قطرب : «المقوي من الأضداد يقال للفقير مقو لخلوّه من المال ويقال للغني مقو لقوته على ما يريده» وقيل المقوي النازل بالقواء من الأرض ليس بها أحد وأقوت الدار خلت من أهلها ، قال النابغة :

أقوى وأقفر من نعم وغيّرها

هوج الرياح بهابي الترب موار

وقال عنترة :

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

٤٤٠