إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨١

صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) إن واسمها وجملة أرسلنا عليهم خبرها والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمل وريحا مفعول أرسلنا وصرصرا نعت ريحا ومستمر نعت للنحس أو لليوم ، وسيأتي الحديث عن يوم النحس في باب الفوائد (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) الجملة صفة لريحا وكأن واسمها وأعجاز نخل خبرها ومنعقر صفة لنخل والجملة حالية وهي حال مقدّرة وسيأتي المزيد عن هذا التشبيه في باب البلاغة (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) تقدم إعرابها (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها قريبا فجدد به عهدا.

البلاغة :

١ ـ في قوله «تنزع الناس» وضح الظاهر موضع المضمر وذلك لإفادة العموم أي إن النزع يعمّ الذكور والإناث جميعا وإلا فالأصل تنزعهم ، قال مجاهد «تلقى الرجل على رأسه فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه» وقيل كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض ويدخلون في الشعاب ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتدق رقابهم.

٢ ـ التشبيه : وفي قوله : «كأنهم أعجاز نخل منقعر» تشبيه مرسل تمثيلي ، شبّههم بأعجاز النخل المنقعر إذ تساقطوا على الأرض أمواتا وهم جثث غطام طوال ، وقيل كانت الريح تقطع رءوسهم فتبقى أجسادا بلا رءوس فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغارسها.

الفوائد :

يوم النحس : قال الزجّاج : «قيل أنه كان في يوم الأربعاء في آخر الشهر لا تدور» ومن ثم شاع النحس عن يوم الأربعاء التي لا تدور ، قال

٣٨١

الشهاب في حاشيته على البيضاوي «فإن الناس يتشاءمون بآخر أربعاء في كل شهر ويقولون له أربعاء لا يدور وتشاؤمهم به لا يستلزم شؤمه في نفسه» وسيأتي المزيد من هذا البحث في سورة الحاقة.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

اللغة :

(سُعُرٍ) يجوز أن يكون مفرد أي جنون يقال ناقة مسعورة أي كالمجنونة في سيرها قال :

كأنّ بها سعرا إذا العيس هزّها

ذميل وإرخاء من السير متعب

يقول : كأن بناقتي جنونا لقوة سيرها فالعيس جمع عيساء وهي النوق البيض حركها ذميل وإرخاء وهما ضربان من السير متعب كل منهما ، وإسناد الهز إليهما مجاز عقلي من باب الإسناد للسبب وإن أريد

٣٨٢

بالهز التسيير فيكون من الإسناد للمصدر كجد جده ويجوز أن يكون جمع سعير وهو النار.

(الْأَشِرُ) الشديد البطر والتكبّر فهي صيغة مبالغة وقيل انه صفة مشبهة كحذر ويقظ ووطف وعجز وفي المختار «أشر وبطر من باب طرب أو فرح».

(مُحْتَضَرٌ) اسم مفعول من احتضر بمعنى حضر لأن الماء كان مقسوما بينهم لكل فريق يوم أي كل نصيب من الماء يحضره لا يحضر آخر معه ففي يوم الناقة تحضره الناقة وفي يومهم يحضرونه هم ، وحضر واحتضر بمعنى واحد وإنما قال قسمة بينهم تغليبا لمن يعقل والمعنى يوم لهم ويوم لها.

(فَتَعاطى) فتناول السيف وعقرها ، وقد مرّ مدتها.

(الْمُحْتَظِرِ) بكسر الظاء اسم فاعل وهو الذي يتخذ حظيرة من الحطب وغيره والحظيرة الزريبة وفي المختار «الحظيرة تعمل للإبل من شجر لتقيها البرد والريح والمحتظر بكسر الظاء الذي يعملها» والمعنى صاروا كيبس الشجر المفتت إذا تحطم والهشيم المتكسر المتفتت.

الإعراب :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) فعل ماض وفاعل وبالنذر متعلقان بكذبت وقد تقدم أن النذر إما أن يكون مصدرا فيكون بمعنى الإنذار وإما أن يكون جمع نذير أي منذر (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) الفاء عاطفة وقالوا فعل ماض وفاعل ، وأبشرا الهمزة للاستفهام وبشرا منصوب على الاشتغال أي بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أنتبع بشرا ومنّا صفة لبشرا وواحدا فيه وجهان أظهرهما أنه نعت لبشرا

٣٨٣

إلا أنه يشكل عليه تقديم الصفة المؤولة على الصفة الصريحة ويجاب بأن منّا حينئذ ليس وصفا بل حال من واحدا قدم عليه والوجه الثاني أنه نصب على الحال من الهاء في نتبعه ، والبشر يقع على الواحد والجمع ونتبعه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإن واسمها وإذن حرف جواب وجزاء مهملة ولفي اللام المزحلقة وفي ضلال متعلقان بمحذوف خبر إن وسعر معطوف على ضلال (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وألقي فعل ماض مبني للمجهول والذكر نائب فاعل وعليه متعلقان بألقي ومن بيننا حال من الهاء في عليه أي منفردا وبل حرف إضراب وعطف وهو مبتدأ وكذاب خبر وأشر نعت (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) الجمل مقول قول محذوف تقديره قال تعالى والسين للاستقبال ويعلمون فعل وفاعل وغدا ظرف متعلق بيعلمون ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ والكذاب خبره والأشر صفة والجملة المعلقة لتصدّر الاستفهام بها سدّت مسدّ مفعولي يعلمون (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) إن واسمها ومرسلو الناقة خبرها والجملة مستأنفة لبيان الموعود به وفتنة مفعول لأجله أي اختبارا لهم والفاء الفصيحة وارتقبهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به واصطبر عطف على ارتقبهم ، ومتعلق واصطبر محذوف أي واصطبر على أذاهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) ونبئهم الواو عاطفة ونبئهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول أول وأن وما في حيزها في موضع المفعول الثاني والثالث لأن نبّأ تنصب ثلاثة مفاعيل وأن واسمها وقسمة خبرها وبينهم ظرف متعلق بمحذوف صفة مقسمة أو بقسمة لأنها بمعنى مقسومة وكل مبتدأ وشرب مضاف إليه ومحتضر خبر كل أي محضور لهم أو للناقة (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) الفاء عاطفة ونادوا فعل ماض وفاعل والمعطوف عليه محذوف أي فتمادوا على ذلك ، والأحسن أن تكون الفصيحة أي فبقوا على ذلك مدة ثم

٣٨٤

ملّوا من نضوب الماء وجدب المراعي فأجمعوا على قتلها واتفقوا على الكمون لها حيث تمر وتطوع لهذا الأمر قدار بن سالف ، وقد تقدمت قصته ، فنادوه فتعاطى وصاحبهم مفعول به فتعاطى عطف على فنادوا أي فاجترأ على تعاطي هذا الأمر غير آبه له فعقر عطف على تعاطي (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) تقدم إعرابها قريبا (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها وعليهم متعلقان بأرسلنا وصيحة مفعول به وواحدة صفة ، فكانوا عطف على أرسلنا والواو اسم كان والهشيم المحتظر خبرها وقرئ بالفتح على أنه اسم مكان وهو موضع الاحتظار أي الحظيرة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها قريبا.

البلاغة :

١ ـ في قوله «سيعلمون غدا من الكذاب الأشر» فن الإبهام ليكون الوعيد أحفل بالانتقام والتهديد أشدّ أثرا في النفوس ، وأورده مورد الإبهام وإن كانوا هم المعنيين لأنه أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه وهو شائع في الشعر العربي ، قال أبي الطماح :

ألا عللاني قبل نوح النوائح

وقبل اضطراب النفس بين الجوانح

وقبل غد يا لهف نفسي في غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه. ومنه قول الحطيئة :

للموت فيها سهام غير مخطئة

من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا

٢ ـ التشبيه : وفي قوله «فكانوا كهشيم المحتظر» تشبيه مرسل لإهلاكهم وإفنائهم.

٣٨٥

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

اللغة :

(حاصِباً) ريحا حصبتهم أي رمتهم بالحجارة والحصباء ، قال الفرزدق :

مستقبلين شمال الشام تضربنا

بحاصب كنديف القطن منثور

وفي المختار : «الحصباء بالمدّ الحصى ومنه المحصّب وهو موضع بالحجاز والحاصب الريح الشديدة تثير الحصى والحصب بفتحتين ما تحصب به النار أي ترمى وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به وبابه ضرب» وسيأتي المزيد من معناه في باب الإعراب.

(بِسَحَرٍ) سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يقال رأيت زيدا سحرا من الأسحار ولو أريد من يوم معين لمنع من الصرف لأنه

٣٨٦

معرفة معدول عن السحر لأن حقه أن يستعمل في المعرفة بأل ، وعبارة الزمخشري : «بسحر بقطع من الليل وهو السدس الأخير منه وقيل : هما سحران فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر والآخر عند انصداعه وأنشد :

يا سائلي إن كنت عنها تسأل

مرّت بأعلى السحرين تذأل

وصرف لأنه نكرة» هذا وقد اختلف في تعريف الممنوع فقيل إنه ممنوع من الصرف للتعريف والعدل أما التعريف ففيه خلاف فقيل هو معرفة بالعلمية لأنه جعل علما لهذا الوقت وقيل يشبه العلمية لأنه تعريف بغير أداة ظاهرة كالعلم وأما العدل فإن صيغته معدولة عن السحر المقرون بأل لأنه لما أريد به معين كان الأصل فيه أن يذكر معرّفا بأل فعدل عن اللفظ بأل وقصد به التعريف فمنع من الصرف ، وقال السهيلي والشلوبين الصغير معرف معروف واختلف في منع تنوينه فقال السهيلي : هو على نية الإضافة وقال الشلوبين على نيّة أل.

الإعراب :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) فعل ماض وفاعل وبالنذر متعلقان بكذبت (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها وعليهم متعلقان بأرسلنا وحاصبا مفعول به وإلا أداة استثناء وآل لوط مستثنى بإلا وفي هذا الاستثناء وجهان أحدهما أنه متصل ويكون المعنى أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله فإنه لم يرسل عليهم والثاني أنه منقطع ويكون المعنى أنه لم يرسل على آل لوط والوجه هو الأول ، ونجيناهم فعل وفاعل وبسحر متعلقان بنجيناهم (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمة مفعول مطلق ملاق لعامله في المعنى وهو نجيناهم إذ الإنجاء نعمة ، أو مفعول لأجله تعليل

٣٨٧

لأنجيناهم وإليه جنح الزمخشري واقتصر عليه ومن عندنا صفة لنعمة وكذلك متعلق بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف أي مثل ذلك الإنجاء ونجزي فعل مضارع مرفوع ومن موصول مفعول به وجملة شكر صلة الموصول (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) الواو حرف عطف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأنذرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وبطشتنا مفعول به ثان أو هو منصوب بنزع الخافض قولان ، والفاء حرف عطف وتماروا فعل ماض والواو فاعل أي تدافعوا بالإنذار على وجه الجدال وبالنذر متعلقان بتماروا (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) الجملة عطف على الجملة السابقة وعن ضيفه متعلقان براودوه ، فطمسنا عطف على راودوه وأعينهم مفعول به والفاء عاطفة ومعطوفها محذوف أي فقلنا لهم وجملة ذوقوا مقول القول المحذوف وعذابي مفعول ذوقوا ونذر عطف على عذابي وحذفت ياء المتكلم كما تقدم (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) عطف أيضا وبكرة ظرف متعلق بصحبهم أي من غير يوم معين وعذاب فاعل ومستقر نعت لعذاب أي لا يزول عنهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) تقدم إعراب نظيرها (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) كلام مستأنف مسوق للردّ على سؤال نشأ من حكاية مجيء النذر كأنه قيل فماذا فعلوا حينئذ فقيل كذبوا ، وبآياتنا متعلقان بكذبوا وكلها تأكيد لآياتنا ، فأخذناهم الفاء عاطفة وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به وأخذ عزيز مفعول مطلق ومقتدر صفة لعزيز والإضافة من إضافة المصدر لفاعله.

البلاغة :

التكرير : في الآيات المتقدمة تكرير ملحوظ مقصود والغاية منه التذكير والانتباه من سنة الغفلة التي قد تطرأ على الأذهان فتحجبها عن

٣٨٨

التأمل والتدبّر ، وترين عليها سجوف الجهالات حتى ما تكاد تبصر شيئا وسيأتي المزيد من هذا الفن في سورة الرحمن.

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

الإعراب :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أكفّاركم : الهمزة للاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي وكفّاركم مبتدأ وخير خبر ومن أولئكم متعلقان بخير وأم منقطعة بمعنى بل فهي للإضراب والانتقال إلى وجه آخر من التبكيت ولكم خبر مقدم وبراءة مبتدأ مؤخر وفي الزبر نعت لبراءة (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أم تقدم القول فيها

٣٨٩

ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ونحن مبتدأ وجميع خبر ومنتصر نعت لجميع لأنه بمعنى جمع والجملة مقول القول ، وإنما وحّد منتصر للفظ بجميع فإنه واحد في اللفظ وإن كان اسما للجماعة كالرهط والجيش وقيل لم يقل منتصرون لموافقة رؤوس الآي وهو جيد (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) السين حرف استقبال ويهزم فعل مضارع مبني للمجهول والجمع نائب فاعل ويولون عطف على سيهزم والدبر مفعول به ، ولم يقل الأدبار لموافقة رؤوس الآي أيضا ولأنه اسم جنس لأن كل واحد يولي دبره (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) بل حرف إضراب وعطف والساعة مبتدأ وموعدهم خبر والواو حرف عطف والساعة مبتدأ وأدهى خبر وأمرّ عطف على الساعة ولك أن تجعل الواو للحال (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إن واسمها في ضلال خبرها (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) يوم الظرف متعلق بقول محذوف أي يقال لهم يوم يسحبون وجملة يسحبون في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي النار متعلقان بيسحبون وعلى وجوههم متعلقان بمحذوف حال وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول المقدّر ومسّ مفعول به وسقر مضاف إليه وهي علم لجهنم ولذلك منعت من الصرف لأنها علم مؤنث (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) إن واسمها وكل شيء نصب على الاشتغال بفعل محذوف يفسره ما بعده أي إنّا خلقنا كل شيء خلقناه وجملة الفعل المحذوف في محل رفع خبر إنّا وجملة خلقناه مفسّرة لا محل لها ، وقد نشب خلاف طويل حول هذه الآية لخصناه لك في باب الفوائد ، وبقدر متعلقان بمحذوف حال من كل أي مقدّرا محكما مرتبا (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) الواو عاطفة وما نافية وأمرنا مبتدأ وإلا أداة حصر وواحدة خبر أمرنا وكلمح متعلقان بمحذوف حال من متعلق الأمر وهو الشيء المأمور بالوجود أي حال كونه يوجد سريعا وبالبصر متعلقان بلمح (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا

٣٩٠

أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعراب نظيرها قريبا (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) الواو عاطفة وكل مبتدأ وشيء مضاف إليه وجملة فعلوه صفة وفي الزبر خبر أي الكتب جمع زبور (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) مبتدأ وخبر أي مسطور في اللوح المحفوظ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) إن واسمها وفي جنات خبرها ونهر عطفت على جنات (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) الجار والمجرور بدل بعض من كل من قوله في جنات لأن المقعد بعض الجنات ولك أن تعلقه بمحذوف على أنه خبر ثان لإن وعند مليك ظرف متعلق بمحذوف صفة لجنات أو لمقعد وقيل هو خبر ثان أو ثالث لإن ومليك صيغة مبالغة.

الفوائد :

١ ـ شجر خلاف بين أهل السنّة والمعتزلة حول قوله تعالى «إنّا كل شيء خلقناه بقدر» وكان قياس ما مهّد النحاة رفع «كل» لكن لم يقرأ بها واحد من السبعة لأن الكلام مع الرفع جملة واحدة ومع النصب جملتان فالرفع أخصر مع أنه لا مقتضى للنصب هاهنا من أحد الأصناف الستة وهي الأمر والنهي والاستفهام والتمنّي والترجّي والتحضيض ، ولا نجد هنا مناسب عطف ولا غيره مما يعدّونه من محال اختيارهم للنصب ، فإذا تبين ذلك علم أنه إنما عدل عن الرفع إجمالا لسر لطيف يعين اختيار النصب وهو أنه لو رفع لوقعت الجملة التي هي خلقناه صفة لشيء ورفع قوله بقدر خبرا عن كل شيء المقيد بالصفة ويحصل الكلام على تقدير إنّا كل شيء مخلوق لنا بقدر فأفهم ذلك أن مخلوقا ما يضاف إلى غير الله تعالى ليس بقدر ، وعلى النصب يصير الكلام إنّا خلقنا كل شيء بقدر فيفيد عموم نسبة كل مخلوق إلى الله تعالى ، فلما كانت هذه الفائدة لا توازيها الفائدة اللفظية على قراءة الرفع مع ما في

٣٩١

الرفع من نقصان المعنى ومع ما في هذه القراءة المستفيضة من مجيء المعنى تاما كفلق الصبح لا جرم أجمعوا على العدول عن الرفع إلى النصب.

على أن الزمخشري وهو من رؤوس المعتزلة وأعلامهم حاول خرق الإجماع ونقل قراءة بالرفع وخلقناه في موضع الصفة وبقدر هو الخبر أو جملة خلقناه هي الخبر وبقدر حال وعبارته «كل شيء منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر وقرئ كل شيء بالرفع» وقد انفرد بها أبو السمال وهي شاذة.

٢ ـ خلاصة وافية لبحث الاشتغال : وهذه خلاصة وافية لبحث الاشتغال :

أما حدّه فهو أن يتقدم اسم ويتأخر عنه فعل متصرف أو اسم يشبهه ناصب لضميره أو لملابس ضميره بواسطة أو غيرها ، ويكون ذلك العامل بحيث لو فرغ من ذلك المعمول وسلط على الاسم المتقدم لنصبه ، ويجب النصب إذا وقع الاسم المتقدم بعد ما يختص بالفعل كأدوات التحضيض نحو هلّا زيدا أكرمته ، وأدوات الاستفهام غير الهمزة نحو هل زيدا رأيته ، وأدوات الشرط نحو حيثما زيدا لقيته فأكرمه ، ويترجح النصب في ست مسائل :

١ ـ أن يكون الفعل المشتغل طلبا وهو الأمر والدعاء بخير أو شر.

٢ ـ أن يكون الفعل المشتغل مقرونا باللام أو بلا الطلبيتين نحو عمرا ليضربه بكر ، وخالدا لا تهنه.

٣ ـ أن يكون الاسم المشتغل عنه واقعا بعد شيء الغالب عليه أن يليه فعل ولذلك أمثلة منها همزة الاستفهام نحو : «أبشرا منّا واحدا نتبعه».

٣٩٢

٤ ـ أن يقع الاسم المشتغل عنه بعد عاطف غير مفصول بأما المفتوحة الهمزة المشددة الميم ، مسبوق بفعل غير مبني على اسم قبله نحو قام زيد وعمرا أكرمته ، وقوله تعالى «والأنعام خلقها لكم» بخلاف نحو : ضربت زيدا وأما عمرو فأهنته فالمختار فيه الرفع.

٥ ـ أن يتوهم في الرفع أن الفعل المشتغل بالضمير صفة لما قبله نحو «إنّا كل شيء خلقناه بقدر» لأنه إذا رفع كل احتمل خلقناه أن يكون خبرا له فيكون المعنى على عموم خلق الكائنات الموجودة بقدر خيرا كانت أو شرا كما هو مذهب السنّة ، واحتمل أن يكون خلقناه صفة لشيء وبقدر خبر لكل والتخصيص بالصفة يوهم أن ما لا يكون موصوفا بها لا يكون بقدر والصفة هي المخلوقية المنسوبة له فالمخلوقية التي لا تكون منسوبة له لا تكون بقدر فيوهم أن ثمة مخلوقا لغيره تعالى وهو مذهب المعتزلة وإنما لم يتوهم ذلك مع النصب لكل على أنه مفعول بفعل محذوف يفسره خلقنا ، ويمتنع جعله صفة لكل شيء لأن الصفة لا تعمل في الموصوف وما لا يعمل لا يفسر عاملا ، ومن ثم وجب الرفع لكل إن كان الفعل المتصل بالضمير صفة لكل شيء نحو «وكل شيء فعلوه في الزبر» أي الكتب ولا يصحّ نصب كل لأن تقدير تسليط الفعل عليها إنما يكون على حسب المعنى المراد وليس المعنى هنا أنهم فعلوا كل شيء في الزبر حتى يصحّ تسليط فعلوا على كل شيء وإنما المعنى وكل شيء مفعول لهم ثابت في الزبر وهو مخالف لذلك المعنى فرفع كل واجب على الابتدائية والفعل المتأخر صفة له أو لشيء وفي الزبر خبر كل.

هذا ولم يعتبر سيبويه إيهام الصفة مرجحا للنصب كما فعل ابن مالك بل جعل سيبويه النصب مرجوحا في الآية المذكورة قال : «فأما قوله تعالى : «إنّا كل شيء خلقناه بقدر فإنما جاء على حدّ قوله زيدا

٣٩٣

ضربته وهو عربي كثير» وقال ابن الشجري : «أجمع البصريون في هذه الآية على أن الرفع أرجح لعدم تقدم ما يقتضي النصب ، وقال الكوفيون : النصب فيها أجود لأنه قد تقدم على كل عامل ينصب وهو إن فاقتضى ذلك إضمار خلقنا».

٦ ـ المسألة السادسة مما يترجح نصبه أن يكون الاسم المشتغل عنه جوابا لاستفهام منصوب بما يليه كزيدا ضربته جوابا لمن قال : أيّهم ضربت أو من ضربت فزيد يترجح نصبه لكونه جوابا للاستفهام ليطابق الجواب السؤال في الجملة الفعلية.

هذا وفي قوله «وكل شيء فعلوه في الزبر» يجب رفع كل ويمتنع نصبها لأن تقدير تسليط الفعل عليها إنما يكون على حسب المعنى المراد وليس المعنى هنا أنهم فعلوا كل شيء في الزبر حتى يصحّ تسليط فعلوا على كل شيء والفعل المتأخر صفة له أو لشيء.

٣٩٤

سورة الرحمن

مدنيّة وآياتها ثمان وسبعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))

اللغة :

(الْبَيانَ) في اللغة : المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير ، وفي الاصطلاح أحد فنون البلاغة الثلاثة وهو يبحث في التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية وقد تقدمت أمثلتها في هذا الكتاب.

٣٩٥

(بِحُسْبانٍ) الحسبان : مصدر حسبته أحسبه حسابا وحسبانا وقيل هو جمع حساب كشهاب وشهبان ورغيف ورغفان.

(النَّجْمُ) من النبات ما لم يقم على ساق نحو العشب والبقل والشجر ما قام على ساق وأصله الطلوع يقال : نجم القرن والنبات إذا طلعا وبه سمي نجم السماء وقيل نجم السماء وحده وأراد به جميع النجوم.

(القسط) العدل إنما فعلوه مستقيما بالعدل وقال أبو عبيدة : الإقامة باليد والقسط بالقلب.

(الْأَكْمامِ) جمع كم وهو وعاء الزهرة وفي الصحاح : «والكم بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وأكمام وأكاميم أيضا والكمام بالكسر والكمامة أيضا ما يكمّ به فم البعير لئلا يعضّ يقال منه بعير مكموم أي محجوم وتكممت الشيء غطيته والكم ما ستر شيئا وغطّاه ومنه كمّ القميص بالضم والجمع كمام وكممة والكمّة القلنسوة المدورة لأنها تغطّي الرأس».

(الْعَصْفِ) الذي يعصف فيؤكل من الزرع وقيل : العصف ورق كل شيء يخرج منه الحب.

(الرَّيْحانُ) في المختار : «الريحان نبت معروف وهو الرزق أيضا ، والعصف ساق الزرع والريحان ورقه عند الفرّاء» وقيل العصف التبن وفي الأساس «وصاروا كعصف الزرع وهو حطام التبن ودقاقه».

(آلاءِ) نعم واحدها إلى ، وألى مثل معى وحصى وإلى وألي أربع نعات.

٣٩٦

الإعراب :

(الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الرحمن مبتدأ وجملة علم القرآن خبر وقد تعددت الأخبار في الأفعال التي وردت خلوّا من العاطف على نمط التعديد وإقامة الحجة على الكافرين ، وهذا عند من لا يرى الرحمن آية ومن عدّها آية أعرف الرحمن خبر لمبتدأ محذوف أي الله الرحمن أو مبتدأ خبره محذوف أي الرحمن ربنا وعلّم يتعدى إلى مفعولين حذف أولهما لشموله أي علم من يتعلم وهذا أولى من تخصيص المفعول الأول المحذوف بواحد معين (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وعلّمه البيان فعل ماض وفاعل مستتر ومفعولاه والألف واللام في الإنسان للجنس (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) الشمس مبتدأ والقمر عطف عليه وبحسبان خبر الشمس (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) عطف على ما تقدم وجملة يسجدان خبر النجم (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) الواو عاطفة والسماء مفعول به بفعل محذوف يفسره المذكور وجملة رفعها مفسرة لا محل لها ووضع الميزان فعل وفاعل مستتر ومفعول به (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أن مصدرية ولا نافية وتطغوا فعل مضارع منصوب بأن المصدرية وأن وما بعدها في محل نصب بلام العلّة مقدّرة والجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله ويجوز أن تكون أن مفسّرة ولا ناهية وتطغوا مجزوم بلا فإن قيل إن من شرط المفسّرة أن تكون مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه قلنا : إن وضع الميزان يستدعي كلاما من الأمر بالعدل فيه (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) الواو حرف عطف وأقيموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والوزن مفعول به وبالقسط حال أي افعلوه مستقيما بالعدل والواو حرف عطف ولا ناهية وتخسروا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والميزان مفعول به (وَالْأَرْضَ وَضَعَها

٣٩٧

لِلْأَنامِ) الواو حرف عطف والأرض مفعول به لفعل محذوف يفسّره المذكور وجملة وضعها مفسّره لا محل له وللأنام متعلقان بوضعها أي وطأها وجعلها مدحوة للخلق (فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) فيها خبر مقدم وفاكهة مبتدأ مؤخر والنخل عطف على فاكهة وذات الأكمام صفة للنخل والجملة في محل نصب على الحال من الأرض (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) عطف على ما تقدم فالثلاثة في قراءة العامة معطوفات على فاكهة وفي قراءة ابن عامر بنصب الثلاثة بفعل محذوف تقديره خلق (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الفاء الفصيحة وبأي متعلقان بتكذبان وآلاء مضاف إليه وربكما مضاف لآلاء وتكذبان فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وألف التثنية فاعل والخطاب للثقلين الإنس والجن وسيصرّح به. هذا وقد تكررت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة وسيأتي السر في تكريرها في باب البلاغة.

البلاغة :

١ ـ التكرير : في قوله «فبأيّ آلاء ربكما تكذبان» تكرير عذب وقد تقدم القول فيه والسر في تكرير الآية عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه وبعد آيات فيها ذكر النار وشدائدها لأن من جملة الآلاء رفع البلاء وتأخير العقاب والتقرير بالنعم المعدودة والتأكيد في التذكير بها كلها ولأن من علامات العاطفة المحتدمة هذا التكرير ، قالت ليلى الأخيلية ترثي توبة بن الحميّر :

لنعم الفتى يا توب كنت ولم تكن

لتسبق يوما كنت فيه تحاول

ونعم الفتى يا توب كنت لخائف

أتاك لكي تحمي ونعم المجامل

ونعم الفتى يا توب كنت إذا التقت

صدور المعالي واستثال الأسافل

ونعم الفتى يا توب جارا وصاحبا

ونعم الفتى يا توب حين تناضل

٣٩٨

لعمري لأنت المرء أبكي لفقده

ولو لام فيه ناقص الرأي

جاهل لعمري لأنت المرء أبكي لفقده

إذا كثرت بالملجمين ال

تلاتل أبى لك ذم الناس يا توب كلما

ذكرت أمورا محكمات

كوامل أبى لك ذم الناس يا توب كلما

ذكرت سماح حين تأوي الأ

رامل فلا يبعدنك الله يا توب إنما

كذاك المنايا عاجلات و

آجل فلا يبعدنك الله يا توب إنما

لقيت حمام الموت والموت عاجل

فخرجت في هذه الأبيات من تكرار إلى تكرار لاختلاف المعاني التي عددتها وأمثال التكرير أكثر من أن تحصى والاستفهام فيها للتقرير.

٢ ـ الحذف :

وفي قوله «علّم القرآن» الحذف فقد حذف المفعول الأول لدلالة المعنى عليه لأن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص كما يقال فلان يطعم الطعام إشارة إلى كرمه ولا يبيّن من أطعمه.

٣ ـ في قوله «والشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان» فن التوهيم وقد تقدمت الإشارة إليه وأنه عبارة عن إتيان المتكلم بكلمة يوهم باقي الكلام قبلها أو بعدها أن المتكلم أراد اشتراك لغتها بأخرى أو أراد تصحيفها أو تحريفها أو اختلاف إعرابها أو اختلاف معناها أو وجها من وجوه الاختلاف والأمر بضد ذلك ، فإن ذكر الشمس والقمر يوهم السامع أن النجم أحد نجوم السماء وإنما المراد النبت الذي لا ساق له ومنه قول أبي تمام :

من كل أبيض يجلو منه سائله

خدا أسيلا به خد من الأسل

فإن ذكر الخد الأسيل أي الناعم المشرق يوهم أن المراد بخد من الأسل أي الرماح مثله مع أن المراد الجرح ومنه توهيم التصحيف ومثاله قول أبي الطيب :

٣٩٩

وإن الفئام التي حوله

لتحسد أرجلها الأرؤس

فإن لفظة الأرجل أوهمت السامع أن المتنبي أراد القيام ومراده الفئام بالفاء الموحدة وهي الجماعات لأن القيام يصدق على أقل الجمع فتفوت المبالغة منه.

٤ ـ في قوله «والأرض وضعها للأنام» إلى آخر الآيات التي عدد فيها سبحانه آلاءه دليل على أن التشدد وسلوك الطريق الأصعب الذي يشقّ على المكلف ليسا محمودين لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس ، وقد روي عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أعدني على أخي عاصم قال : فما باله؟ قال لبس العباءة يريد النسك فقال علي رضي الله عنه : عليّ به فأتي به مؤتزرا بعباءة مرتديا لأخرى شعث الرأس واللحية فعبس في وجهه وقال : ويحك أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا؟ بل أنت أهون على الله من ذلك ، أما سمعت الله يقول في كتابه : «والأرض وضعها للأنام» إلى قوله «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» أفترى الله أباح هذه لعباده إلا ليبتذلوه ويحمدوا الله عليه فيثيبهم عليه وإن ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالقول ، قال عاصم فما بالك في خشونة مآكلك وخشونة ملبسك؟ قال ويحك إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بصفة الناس.

هذا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الطيب إذا وجده وكان يحبّ الحلواء والعسل ويعجبه لحم الذراع ويستعذب له الماء فأين التشديد من هذا وإذن فالاقتصار على البشع في المأكول من غير عذر تنطّع.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ

٤٠٠