إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨١

وعبارة الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي : «في هذا الكلام تجوز أن أحدهما في بين اليدين فإن حقيقته ما بين العضوين فتجوز بهما من الجهتين المقابلتين لليمين والشمال القريبتين منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما» فهو من المجاز المرسل ثم استعيرت الجملة وهي التقدّم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن تلزمه متابعته تصويرا لهجنته وشناعته بصورة المحسوس كتقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره.

٢ ـ الحذف : وحذف مفعول تقدموا كقوله يحيي ويميت وقولهم هو يعطى ويمنع وفي الحذف من البلاغة ما ليس في الذكر لأن الخيال يذهب فيه كلّ مذهب.

٣ ـ التكرير : في تكرير قوله «يا أيها الذين آمنوا» فائدة بلاغية لطيفة وهي إظهار الشفقة على المسترشد وإبداء المناصحة له على آكد وجه ليقبل على استماع الكلام ويعيره باله ، ولتحديد المخاطبين بالذات ، وأنهم هم المعنيون بالمناصحة ، وفيه أيضا استدعاء لتجديد الاستبصار والتيقظ والتنبّه عند كل خطاب.

٤ ـ الكناية : في قوله «من وراء الحجرات» كناية عن موضع خلوته صلى الله عليه وسلم ومقيله مع بعض نسائه وقد ازدادت الكناية بإيقاع الحجرات معرفة بالألف واللام دون الإضافة إليه وفي ذلك من حسن الأدب ما لا يخفى.

الفوائد :

قال الزمخشري : «فإن قلت لخّص الفرق بين الوجهين قلت تلخيصه أن يقدّر الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول له كأنهما شيء

٢٦١

واحد ثم يصب النهي عليهما جميعا صبّا وفي الأول يقدّر النهي موجها على الفعل على حياله ثم يعلّل له منهيا عنه فإن قلت بأيّ النهيين تعلق المفعول له؟ قلت : بالثاني عند البصريين مقدّرا إضماره عند الأول كقوله تعالى : آتوني أفرغ عليه قطرا ، وبالعكس عند الكوفيين وأيّهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

الإعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) يا أيها الذين آمنوا : تقدم إعرابها وإن شرطية وجاءكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به مقدّم وفاسق فاعل مؤخر وبنبإ متعلقان بجاءكم والفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجملة طلبية وتبينوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأن تصيبوا أن وما في حيزها في محل نصب مفعول من أجله على حذف مضاف أي خشية إصابتكم أو كراهة إصابتكم وقوما

٢٦٢

مفعول به وبجهالة في محل نصب حال من الفاعل أي جاهلين ، فتصبحوا الفاء عاطفة وتصبحوا معطوف على تصيبوا والواو اسم تصبحوا وعلى ما فعلتم متعلقان بنادمين ونادمين خبر تصبحوا (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) الواو حرف عطف واعلموا فعل أمر والواو فاعل وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلموا وفيكم خبر أن المقدم ورسول الله اسم إن المؤخر ولو شرطية وجملة يطيعكم حال من الضمير المجرور في قوله فيكم وفي كثير متعلقان بيطيعكم ومن الأمر صفة لكثير واللام واقعة في جواب لو وعنتّم فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب لو والمعنى لوقعتم في العنت أي الهلاك (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة حبب خبرها وإليكم متعلقان بحبب والإيمان مفعول به وزيّنه عطف على حبّب وفي قلوبكم متعلقان بزينه وكره إليكم الكفر عطف على ما تقدم (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل والراشدون خبر أولئك ويجوز أن تعرب هم مبتدأ ثانيا والراشدون خبره والجملة خبر أولئك وجملة أولئك هم الراشدون في محل نصب على الحال أو اعتراضية لا محل لها (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فضلا مفعول من أجله أو مصدر من غير فعله واختلف في ناصبه على الأول فقيل هو حبب إليكم فيتعين كون جملة أولئك هم الراشدون اعتراضية ، وقيل النصب بتقدير فعل أي تبتغون فضلا ونعمة وقيل هو الراشدون على خلاف بين أهل السنة والمعتزلة سنورده في باب الفوائد والله مبتدأ وعلم خبر أول وحكيم خبر ثان.

البلاغة :

اشتملت هذه الآيات على أفانين متنوعة من البلاغة نوردها موجزة

٢٦٣

فيما يلى :

١ ـ التنكير : في قوله «إن جاءكم فاسق» والفائدة منه الشياع والشمول لأن النكرة إذا وقعت في سياق الشرط عمّت كما تعمّ إذا وقعت في سياق النفي وقد تقدمت الإشارة إلى هذه القاعدة في غير مكان من هذا الكتاب ، وفي هذا التنكير ردّ على من زعم أنها نزلت في الوليد بن عقبة وهو من كبار الصحابة لأن إطلاق الفسوق عليه بعيد ذلك أن الفسوق هو الخروج من الشيء والانسلاخ منه والوليد كما يذكرون ظن فأخطأ والمخطئ ـ كما يقول الرازي ـ لا يسمى فاسقا فالعموم هو المراد كأنه قال : أي فاسق جاءكم بأيّ نبأ فمحّصوه وأعرضوه على محك التصويب والتخطئة قبل البتّ في الحكم ولا تستعجلوا الأمور.

٢ ـ التقديم : في قوله «واعلموا أن فيكم رسول الله» فقد قدّم خبر إن على اسمها والقصد من ذلك التشدّد على بعض المؤمنين لتحاشي ما استهجنه الله من محاولتهم اتباع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لآرائهم.

٣ ـ التعبير : بالمضارع دون الماضي في قوله : «لو يطيعكم» ولم يقل أطاعكم وذلك لإفادة الديمومة والاستمرار على أن يعمل ما يرونه صوابا وإن عليه كلما عنّ لهم رأي أو بدأت لهم في الأمور بداءة أن يخلد إليهم ويفعل ما يعتقدونه حقا.

٤ ـ الطباق : وذلك في قوله تعالى «حبّب» و «كرّه» وفي التحبيب والتكريه خلاف بين أهل السنّة والمعتزلة لا يتّسع له صدر هذا الكتاب فليرجع إلى المطولات.

٢٦٤

الفوائد :

أورد الزمخشري إشكالا على إعراب فضلا فقال : «فإن قلت من أين جاز وقوعه مفعولا له والرشد فعل القوم والفضل فعل الله والشرط أن يتحد الفاعل؟ قلت لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه تقدست أسماؤه صار الرشد كأنه فعله فجاز أن ينتصب عنه أو لا ينتصب عن الراشدون ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى والجملة التي هي أولئك هم الراشدون اعتراض أو عن فعل مقدّر كأنه قيل جرى ذلك أو كان ذلك فضلا من الله وأما كونه مصدرا من غير فعله فأن يوضع موضع رشدا لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه والفضل والنعمة بمعنى الأفضال» نقول ، وهذا الإشكال الذي أورده الزمخشري بناء على اعتقاد المعتزلة بأن الرشد ليس من أفعال الله تعالى وإنما هو فعلهم حقيقة ، والواقع أن الرشد من أفعال الله ومخلوقاته فقد وجد شرط انتصاب المفعول له وهو اتحاد فاعل الفعلين على أن الإشكال وارد نصا على تقريرنا على غير الحدّ الذي أورده عليه الزمخشري بل من جهة أن الله تعالى خاطب خلقه بلغتهم المعهودة عندهم ومما يعهدونه أن الفاعل من نسب إليه الفعل وسواء كان حقيقة أو مجازا حتى يكون زيد فاعلا وانقض الحائط وأشباهه كذلك وقد نسب إليهم الرشد على طريقة أنهم الفاعلون وإن كانت النسبة مجازية باعتبار المعتقد وإذا تقرر وروده على هذا الوجه فلك في الجواب عنه طريقان إما جواب الزمخشري وإما أمكن منه وأبين وهو أن الرشد هنا يستلزم كونه راشدا إذ هو مطاوعه لأن الله تعالى أرشدهم فرشدوا وحينئذ يتحد الفاعل على طريقة الصناعة اللفظية المطابقة للحقيقة وهو عكس قوله يريكم البرق خوفا وطمعا فإن الإشكال بعينه وارد فيها إذ الخوف والطمع فعلهم أي منسوب إليهم على طريقة أنهم الخائفون الطامعون والفعل

٢٦٥

الأول لله تعالى والجواب عنه أنهم مفعولون في معنى الفاعلين بواسطة استلزام المطاوعة لأنه إذا أرادهم فقد رأوا وقد سلف هذا الجواب مكانه وعكسه آية الحجرات إذ تصحيح الكلام بتقدير الفاعل مفعولا وهذا من دقائق العربية.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

اللغة :

(طائِفَتانِ) الطائفة : الجماعة من الناس والقطعة من الشيء ، والذين يجمعهم رأي أو مذهب يمتازون به عن سواهم ومؤنث الطائف والجمع طائفات وطوائف وفي القاموس «والطائفة من الشيء القطعة منه أو

٢٦٦

الواحد فصاعدا أو إلى الألف أو أقلها رجلان أو رجل فيكون بمعنى النفس» وقال شارح القاموس في التاج : «قوله فيكون بمعنى النفس هذا توجيه لكون تائه للتأنيث حينئذ أي النفس الطائفة قال الراغب : إذا أريد بالطائفة الجمع فجمع طائف وإذا أريد به الواحد فيصحّ أن يكون جمعا وكنّى به عن الواحد وأن يكون كراوية وعلامة ونحو ذلك.

(تَفِيءَ) مضارع فاء أي رجع.

(أَقْسِطُوا) أعدلوا من أقسط الرباعي بخلاف قسط الثلاثي الذي معناه الجور يقال قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل قال تعالى : «وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا» وقال في التاج : «ففي العدل لغتان قسط وأقسط وفي الجور لغة واحدة قسط بغير ألف».

(قَوْمٌ) القوم : الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال الله تعالى : الرجال قوّامون على النساء وقال عليه الصلاة والسلام : النساء لحم على وضم إلا ما ذبّ عنه الذابّون والذابّون هم الرجال ، وهو في الأصل جمع قائم كصوّم وزوّر في جمع صائم وزائر أو تسميته بالمصدر ، عن بعض العرب إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما أي قياما ، واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية وفي قول زهير :

وما أدري وسوف أخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد أنهم الذكور فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهنّ توابع لرجالهنّ ، هذا ما ذكره في الكشاف فهو اسم جمع بمعنى الرجال خاصة وأحده في المعنى رجل وقيل جمع لا واحد له من لفظه وقال بعضهم : القوم الجماعة من الناس والجمع أقوام وأقاوم وأقائم وأقاويم ، وقوم الرجل أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جدّ واحد.

٢٦٧

(تَلْمِزُوا) اللمز الطعن والضرب باللسان وفي المصباح : «لمزه لمزا من باب ضرب عابه وقرأ بها السبعة ومن باب قتل لغة وأصله الإشارة بالعين ونحوها».

(تَنابَزُوا) التنابز : تفاعل من النبز وهو التداعي باللقب والنزب منه لقب السوء ، ويقال تنابزوا وتنابزوا إذا دعا بعضهم بعضا بلقب سوء.

الإعراب :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) الواو عاطفة وإن شرطية وطائفتان فاعل لفعل محذوف يفسّره ما بعده ومن المؤمنين نعت طائفتان واقتتلوا فعل ماض مبني على الضم وسيأتي سرّ اتصاله بواو الجماعة في باب البلاغة والفاء رابطة لجواب الشرط وأصلحوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبينهما ظرف متعلق بأصلحوا (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) الفاء عاطفة وإن شرطية وبغت فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والتاء للتأنيث وإحداهما فاعل بغت وعلى الأخرى متعلقان ببغت والفاء رابطة وقاتلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والتي مفعول به وجملة تبغي صلة التي وحتى حرف غاية وجر وتفيء فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والفاعل مستتر تقديره هي وإلى الله متعلقان بتفيء (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الفاء عاطفة وما بعد الفاء تقدم إعرابه وبالعدل حال أي عادلين وإن واسمها وجملة يحب المقسطين خبرها وجملة إن وما بعدها تعليل للأمر لا محل لها (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إنما كافّة ومكفوفة والمؤمنون مبتدأ وإخوة خبر ، فأصلحوا الفاء الفصيحة وأصلحوا فعل أمر مبني على

٢٦٨

حذف النون والواو فاعل وبين أخويكم ظرف متعلق بأصلحوا (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) عطف على ما تقدم ولعلّ واسمها وجملة ترحمون خبرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) يا أيها الذين آمنوا تقدم إعرابها ولا ناهية ويسخر فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وقوم فاعل ومن قوم متعلقان بيسخر وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء وهي هنا تامة ، وسيأتي حكمها في باب الفوائد ، وأن وما في حيزها فاعلها وخيرا خبر يكونوا ومنهم متعلقان بخير ولا نساء من نساء عطف على قوم من قوم وعسى أن يكن خيرا منهنّ تقدم إعرابها وجملة عسى أن يكونوا مستأنفة ورد مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) عطف على ما تقدم إعرابه واضح (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) بئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والاسم فاعله والفسوق هو المخصوص بالذم وهو مبتدأ خبره الجملة قبله ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف وبعد الإيمان الظرف متعلق بمحذوف حال (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتب فعل مضارع مجزوم بلم وهو فعل الشرط والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل لا محل له أو مبتدأ ثان والظالمون خبر من أو خبرهم والجملة خبر أولئك وجملة فأولئك في محل جزم جواب الشرط.

البلاغة :

١ ـ الحمل على المعنى : قال اقتتلوا والقياس اقتتلتا حملا على المعنى لأن الطائفتين في معنى القوم والناس ثم حمل على اللفظ فقال (بَيْنَهُما).

٢٦٩

٢ ـ التخصيص : خصّ الاثنين بالذكر بقوله فأصلحوا بين أخويكم دون الجمع لأن أقل من يقع منهم الشقاق اثنان فإذا التزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم لأن الفساد والشر المترتبين على شقاق الجمع أكثر منهما في شقاق الاثنين.

٣ ـ وضع الظاهر موضع المضمر : وفيه أيضا وضع الظاهر موضع المضمر مضافا إلى المأمورين بالإصلاح للمبالغة في التقرير والتحضيض وقد مرّت الإشارة إلى هذا الفن.

٤ ـ سرّ الجمع : لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة إيذانا بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه ولأن مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممّن يتلهّى ويستضحك على قوله ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمّل الوزر وكذلك كل من يستطيبه ويضحك منه فيؤدى ذلك وإن أوجده واحد إلى تكثير السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوما.

الفوائد :

١ ـ اختصّت عسى واخلولق وأوشك من بين أفعال المقاربة بجواز إسنادهنّ إلى «أن يفعل» حال كونه مستغنى به عن الخبر فتكون تامة قال ابن مالك في الخلاصة :

بعد عسى اخلولق أوشك قد يرد

غنى بأن يفعل عن ثان فقد

نحو وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم ، وينبني على هذا الأصل فرعان أحدهما أنه إذا تقدم على إحداهنّ اسم هو المسند إليه في المعنى وتأخر عنها أن والفعل نحو زيد

٢٧٠

عسى أن يقوم جاز تقديرها خالية من ضمير ذلك الاسم فتكون عسى مسندة إلى أن والفعل مستغنى بهما عن الخبر فتكون تامة وهذه لغة أهل الحجاز وجاز تقديرها مسندة إلى الضمير العائد إلى الاسم المتقدم عليها فيكون الضمير اسمها وتكون أن والفعل في موضع نصب على الخبر فتكون ناقصة وهذه لغة بني تميم وإلى ذلك أشار ابن مالك بقوله :

وجرّدن عسى أو ارفع مضمرا

بها إذا اسم قبلها قد ذكرا

وقد جاء التنزيل كما في الآية التي نحن بصددها بلغة أهل الحجاز ، والفرع الثاني أنه إذا ولى إحداهنّ أن والفعل وتأخر عنها اسم هو المسند إليه في المعنى نحو عسى أن يقوم زيد جاز الوجهان السابقان فيما إذا تقدم المسند إليه في المعنى وعلى هذا يكون مبتدأ مؤخرا لا غير ، وجاز أيضا وجهان آخران أحدهما أنه يجوز في ذلك الفعل المقرون أن يقدّر خاليا من الضمير العائد إلى الاسم المتأخر فيكون الفعل مسندا إلى ذلك الاسم المتأخر وتكون عسى مسندة إلى أن والفعل مستغنى بها عن الخبر فتكون تامة والثاني أن يقدّر ذلك الفعل محتملا لضمير ذلك الاسم المتأخر فيكون الاسم المتأخر مرفوعا بعسى وتكون أن والفعل في موضع نصب على الخبرية بعسى مقدّما على اسمها فتكون ناقصة.

٢ ـ المشاقّة في الإسلام : ننقل فيما يلى خلاصة عن الفصل الممتع الذي عقده الزمخشري بصدد المشاقة في الإسلام وواجب المسلمين حيالها إذا استشرت واستحكمت قال : «هذا تقرير لما ألزمه من تولّى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقّة من المؤمنين وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم

٢٧١

يفضل الإخوة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غاياتها ، ثم قد جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته ويركبوا الصعب والذلول مشيا بالصلح وبثّا للسفراء بينهما إلى أن يصادف ما وهى من الوفاق من يرقعه وما استشنّ من الوصال من يبله ، فالأخوة في الدين أحقّ بذلك وبأشدّ منه وعن النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

اللغة :

(تَجَسَّسُوا) يقال تجسّس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه وقرئ ولا تحسسوا بالحاء ، والمعنيان متقاربان ، وقال الأخفش ليست تبعد إحداهما عن الأخرى لأن التجسس البحث عمّا يكتم عنك والتحسّس

٢٧٢

بالحاء طلب الأخبار والبحث عنها ، وقيل إن التجسس بالجيم هو البحث ومنه قيل : رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسّه ، وفي القاموس : «ولا تجسسوا أي خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله عزّ وجلّ أو لا تفحصوا عن بواطن الأمور أو لا تبحثوا عن العورات» وجاء فيه أيضا : «والتحسّس الاستماع لحديث القوم وطلب خبرهم في الخير» وقال في الأساس : «ومن أين حسست هذا الخبر وأخرج فتحسّس لنا وضرب فما قال حس وجىء به من حسّك وبسّك ، وأنشد يصف امرأة ويشكوها :

تركت بيتي من الأشياء

قفرا مثل أمس

كل شيء كنت قد جمّ

عت من حسّى وبسّى

(شُعُوباً) جمع شعب بفتح الشين وهو أعلى طبقات النسب وقال أبو حيان : «الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة فالشعب يجمع القبائل والقبيلة تحمي العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن يجمع الأفخاذ والفخذ يجمع الفصائل ؛ خزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وسمّيت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها ومنه اشتقّت الشعوبية بضم الشين وهم قوم يصغّرون شأن العرب سمّوا بذلك لتعلقهم بظاهر قوله تعالى :«وجعلناكم شعوبا وقبائل» وقال ابن هبيرة في المحكم : غلبت الشعوبية بلفظ الجمع على جيل من العجم حتى قيل لمحتقر أمر العرب شعوبى وإن لم يكن منهم وأضافوا إلى الجمع لغلبته على الجيل الواحد كقولهم أنصاري.

٢٧٣

الإعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) اجتنبوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وكثيرا مفعول به ومن الظن صفة لكثيرا وإن واسمها وخبرها إن وما في حيزها تعليل للنهي فالجملة لا محل لها (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الواو حرف عطف ولا ناهية وتجسسوا فعل مضارع مجزوم بلا ولا يغتب عطف على ولا تجسسوا وبعضكم فاعل وبعضا مفعول به (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) الهمزة للاستفهام التقريري ويحب فعل مضارع مرفوع وأحدكم فاعل وأن وما في حيزها مفعول يحب وميتا حال من لحم أخيه ومن من الأخ والفاء الفصيحة أي إن صحّ هذا فكرهتموه وكرهتموه فعل وفاعل ومفعول به والواو لإشباع ضمة الميم وسيرد في باب البلاغة مزيد من بحثه (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) الواو استئنافية واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وإن واسمها وخبراها (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) إن واسمها وجملة خلقناكم خبرها ومن ذكر متعلقان بخلقناكم وأنثى عطف على ذكر (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) الواو حرف عطف وجعلناكم فعل وفاعل ومفعول به أول وشعوبا مفعول به ثان واللام للتعليل وتعارفوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) إن واسمها وعند الله ظرف متعلق بمحذوف حال وأتقاكم خبرها وإن واسمها وخبراها والجملتان المصدّرتان بإن مستأنفتان.

البلاغة :

في هاتين الآيتين أفانين متنوعة من البلاغة ندرجها فيما يلى :

١ ـ التنكير في قوله «كثيرا من الظن» والسر فيه إفادة معنى

٢٧٤

البعضية للإيذان بأن في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين لئلا يجترئ أحد على ظن إلا بعد تأمّل وبعد نظر وتمحيص واستشعار للتقوى والحذر من أن يكون الظن طائش السهم ، بعيدا عن الإصابة ، وما أكثر الذين تسوّل لهم ظنونهم ما ليس واقعا ولا يستند إلى شيء من اليقين.

٢ ـ الاستعارة التمثيلية الرائعة في قوله تعالى «أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه» فقد شبّه من يغتاب غيره بمن يأكل لحم أخيه ميتا وفيها مبالغات أولها الاستفهام الذي معناه التقرير كأنه أمر مفروغ منه مبتوت فيه ، وثانيها جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ، وثالثها إسناد الفعل إلى كل أحد للإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحبّ ذلك ، ورابعها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وهو أكره اللحوم وأبعثها على التقزّز حتى جعل الإنسان أخا ، وخامسها أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا ومن ثم فصحت هذه الآية وأكبرها أصحاب البيان وقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما صام من ظل يأكل لحوم الناس» وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قال : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول فقال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته.

وعن ابن عباس أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فينام عن شأنه يوما فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما أداما وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان بذلك فعند ذلك قالا لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه

٢٧٥

وسلم قال لهما ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، فقالا : ما تناولنا لحما فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت ...

ثم إن الغيبة على ثلاثة أضرب :

١ ـ أن تغتاب وتقول لست أغتاب لأني أذكر ما فيه فهذا كفر ، ذكره الفقيه أبو الليث في التنبيه لأنه استحلال للحرام القطعي.

٢ ـ أن تغتاب وتبلغ غيبة المغتاب فهذه معصية لا تتم التوبة عنها إلا بالاستحلال لأنه أذاه فكان فيه حق العبد أيضا وهذا محمل قوله عليه الصلاة والسلام : الغيبة أشدّ من الزنا قيل : وكيف؟ قال الرجل يزنى ثم يتوب عنه فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه.

٣ ـ إن لم تبلغ الغيبة فيكفيه التوبة والاستغفار له ولمن اغتابه ، فقد أخرج ابن أبى الدنيا عن أنس رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفّارة من اغتبته أن تستغفر له.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا

٢٧٦

تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

اللغة :

(يَلِتْكُمْ) ينقصكم ويظلمكم ، يقال ألته السلطان حقه أشدّ الألتة وهي لغة غطفان وأسد ولغة أهل الحجاز لاته ليتا وقرئ باللغتين لا يلتكم ولا يألتكم وفي السمين «قراءة أبي عمرو بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي وبالكسر والضم في المضارع وقراءة الآخرين بترك الهمز من لاته يليته كباعه يبيعه وقيل هو من ولته يلته كوعده يعده».

الإعراب :

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) قالت الأعراب فعل ماض وفاعل وجملة آمنا في محل نصب مقول القول وجملة لم تؤمنوا في محل نصب مقول القول أيضا والواو حرف عطف ولكن حرف استدراك مهمل وقولوا فعل أمر وفاعل وجملة أسلمنا مقول القول والواو للحال ولما حرف نفي وجزم ويدخل فعل مضارع مجزوم بلما وما في لما من معنى التوقع دال على أنهم قد آمنوا فيما بعد والإيمان فاعل وفي قلوبكم متعلقان بيدخل (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة وإن شرطية وتطيعوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعول به ورسوله عطف على الله ولا نافية

٢٧٧

ويلتكم فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الشرط ومن أعمالكم حال لأنه كان صفة لشيئا وشيئا مفعول به ثان أو مفعول مطلق وإن واسمها وخبراها (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) إنما كافّة ومكفوفة والمؤمنون مبتدأ والذين خبر وجملة آمنوا صلة وثم حرف عطف للتراخي والفائدة منه الإشارة إلى أن نفي الريب عنهم ليس في وقت حصول الإيمان فيهم فقط بل هو مستمر بعد ذلك فيما يتطاول من أزمنة وآماد ولم حرف نفي وقلب وجزم ويرتابوا فعل مضارع مجزوم بلم (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) وجاهدوا عطف على آمنوا وبأموالهم متعلقان بجاهدوا وكذلك قوله في سبيل الله وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والصادقون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعوله وبدينكم متعلقان بتعلمون لأنه بمعنى التعريف والواو للحال والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول به وفي السموات صلة والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) يمنّون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وعليك متعلقان بيمنّون وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض وقل فعل أمر وجملة لا تمنّوا مقول القول وعليّ متعلقان بتمنّوا وإسلامكم نصب بنزع الخافض أيضا (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بل حرف إضراب وعطف والله مبتدأ وجملة يمنّ عليكم خبر وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أيضا وللإيمان متعلقان بهداكم وإن شرطية وكنتم صادقين في موضع جزم فعل الشرط وجوابه محذوف يدلّ عليه ما قبله أي فهو المانّ عليكم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ

٢٧٨

غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) إن واسمها وجملة يعلم خبرها والله مبتدأ وبصير خبر وبما تعملون متعلقان ببصير.

البلاغة :

في قوله تعالى «قالت الأعراب آمنّا» إلخ الآية فن سمّاه صاحب الصناعتين وغيره الاستدراك ، وغيره يسمّيه الاستثناء ، وهو يتضمن ضربا من المحاسن زائدا على ما يدل عليه المدلول اللغوي كقوله الآنف الذكر فإن الكلام لو اقتصر فيه على ما دون الاستدراك لكان منفرا لهم لأنهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقادهما إيمانا ، فأوجبت البلاغة تبيين الإيمان فاستدرك ما استدركه من الكلام ليعلم أن الإيمان موافقة القلب للسان ولأن انفرد اللسان بذلك يسمى إسلاما لا إيمانا وزاده إيضاحا بقوله «ولما يدخل الإيمان في قلوبكم» وبعضهم يدخل هذا النوع في نطاق فن يقال له جمع المختلفة والمؤتلفة فإنهم ظنوا أن الإيمان العمل باللسان دون العمل بالجنان فجاء قوله تعالى «ولكن قولوا أسلمنا» مؤتلفا لقولهم آمنّا وهم يعتقدون أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وخالف ذلك قوله تعالى «قل لم تؤمنوا» وائتلف به قوله مبينا حقيقة الإيمان وأنه خلاف ما ظنوا بقوله سبحانه «ولما يدخل الإيمان في قلوبكم».

٢٧٩

سورة ق

مكيّة وآياتها خمس وأربعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨))

اللغة :

(مَرِيجٍ) مضطرب وأصله من الحركة والاضطراب ومنه مرج الخاتم في إصبعه إذا قلق من الهزال ، وفي المختار : «مرج الأمر والدين اختلط وبابه طرب وأمر مريج مختلط» والمعنى أنهم لا يثبتون على رأي واحد فتارة يقولون : شاعر وتارة ساحر وتارة كاهن.

٢٨٠