إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨١

بكسر الزاي وفتح الباء وسكون العين والراء المفتوحة والألف المقصورة ومعناه في اللغة السيئ الخلق.

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥))

الإعراب :

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ : قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان تعنت بني إسرائيل ولما رابطة أو حينية وجاء عيسى فعل ماض وفاعل وبالبيّنات متعلقان بجاء وجملة قال لا محل لها وجملة قد جئتكم بالحكمة مقول القول ، ولأبين : الواو عاطفة واللام لام التعليل وأبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والجار والمجرور معطوفان على بالحكمة وعبارة الشهاب : «قوله ولأبين لكم متعلق بمقدر أي وجئتكم لأبين ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلّة حتى جعلت كأنها كلام برأسه» ولكم متعلقان بأبين وبعض الذي مفعول به لأبين وجملة تختلفون صلة وفيه متعلقان بتختلفون (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) لك أن تجعل الفاء عاطفة فيكون الكلام معطوفا على ما سبقه على أنه تتمة كلام عيسى ولك أن تجعلها استئنافية فيكون الكلام مستأنفا من الله للدلالة

١٠١

على طريق الطاعة ومحجتها الواضحة ، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وأطيعون عطف على فاتقوا والياء المحذوفة لمراعاة خط المصحف مفعول به (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الجملة تفسير لما تقدم من قوله وأطيعون وإن واسمها وهو مبتدأ وربي خبر والجملة خبر إن وربكم عطف على ربي والفاء الفصيحة واعبدوه فعل وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الفاء عاطفة واختلف الأحزاب فعل وفاعل ومن بينهم حال من الأحزاب (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) الفاء عاطفة وويل مبتدأ وقد تقدم أنها كلمة عذاب فلذلك ساغ الابتداء بها وللذين خبره ومن عذاب يوم أليم خبر ثان أو حال أي حال كونه كائنا من عذاب يوم القيامة.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠))

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

١٠٢

اللغة :

(الْأَخِلَّاءُ) جمع خليل وهو الصديق وفي المصباح : «الخليل الصديق والجمع أخلاء كأصدقاء وفي القاموس : «والخل بالكسر والضم الصديق المختص أو لا يضم إلا مع ود يقال : كان لي ودّا وخلّا والجمع أخلال كالخليل والجمع أخلّاء وخلّان أو الخليل الصادق أو من أصفى المودّة وأصحّها» واستدرك في التاج فقال : «قال ابن سيده وكسر الخاء أكثر ويقال للأنثى خل أيضا».

(تُحْبَرُونَ) تسرّون سرورا يظهر حباره أي أثره على وجوهكم ، وقال الزجّاج : تكرمون إكراما يبالغ فيه والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل وفي القاموس : «والحبر بفتحتين الأثر كالحبار بكسر أوله وفتحه».

(بِصِحافٍ) بقصاع قال الكسائي : «أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة وهي تشبع العشرة ثم الصحفة وهي تشبع الخمسة ثم المئكلة وهي تشبع الرجلين أو الثلاثة».

(وَأَكْوابٍ) جمع كوب وهو إناء لا عروة له قال قطرب : الإبريق لا عروة له وقال الأخفش : الإبريق لا خرطوم له وقيل كالإبريق إلا أنه لا أذن له ولا مقبض. وقال أبو منصور الجواليقي : «إنما كان بغير عروة ليشرب الشارب من أين يشاء لأن العروة ترد الشارب من بعض الجهات» وقال عدي :

متكئا تصفق أبوابه

يسعى عليه العبد بالكوب

الإعراب :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) هل حرف استفهام معناه النفي أي لا ينظرون ، وينظرون فعل مضارع مرفوع

١٠٣

بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر والساعة مفعول به وأن تأتيهم :المصدر المنسبك من أن وتأتيهم بدل من الساعة بدل اشتمال والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة وبغتة حال والواو للحال وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حال ثانية (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الأخلاء مبتدأ ويومئذ ظرف منصوب بعدو أي تنقطع في ذلك اليوم كل آصرة أو خلّة بين المتخالين وتستحيل عداوة ومقتا وإذ ظرف مضاف إلى مثله والتنوين عوض عن الجملة وتقديرها يوم إذ تأتيهم الساعة وبعضهم مبتدأ ثان ولبعض متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لعدو وعدو خبر بعضهم والجملة الاسمية خبر الأخلاء وإلا أداة استثناء والمتقين مستثنى بإلا منصوب (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم ويا حرف نداء وعباد منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة مراعاة لخط المصحف ولا نافية وخوف مبتدأ وساغ الابتداء به لأنه سبق بنفي وعليكم خبر واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال ولا عطف على ما تقدم وأنتم مبتدأ وتحزنون جملة فعلية في محل رفع خبر (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) الذين صفة لعبادي لأنه منادى مضاف وجملة آمنوا صلة الذين وبآياتنا متعلقان بآمنوا وكانوا كان واسمها ومسلمين خبرها والجملة معطوفة على الصلة ، واختار بعضهم أن تكون الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال من الواو وقال أنها آكد (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) ادخلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجنة مفعول به على السعة وأنتم مبتدأ وأزواجكم عطف على أنتم وجملة تحبرون خبر أنتم (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) يطاف فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم في موضع رفع نائب فاعل وبصحاف متعلقان بيطاف ومن ذهب صفة لصحاف وأكواب عطف على صحاف وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب

١٠٤

كقوله تعالى «والذاكرون الله كثيرا والذاكرات» (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) الواو عاطفة وفيها خبر مقدم وما موصول مبتدأ مؤخر وجملة تشتهيه الأنفس صلة ما وتلذ الأعين عطف على الصلة داخلة في حيزها وأنتم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبر أنتم (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وتلك مبتدأ والجنة خبر والتي نعت للجنة وجملة أورثتموها صلة وبما متعلقان بأورثتموها وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبر كنتم (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) لكم خبر مقدم وفيها حال وفاكهة مبتدأ مؤخر وكثيرة صفة ومنها متعلقان بتأكلون وجملة تأكلون نصب لفاكهة ، ويجوز أن تعرب الجنة بدلا من اسم الإشارة فتكون جملة لكم فيها فاكهة هي الخبر ، وعبارة أبي حيان المتفقة مع عبارة الزمخشري هي : «وتلك الجنة مبتدأ وخبر والتي أورثتموها صفة أو الجنة صفة والتي أورثتموها وبما كنتم تعملون الخبر وما قبله صفتان فإذا كان بما الخبر تتعلق بمحذوف وعلى القولين الأولين يتعلق بأورثتموها».

البلاغة :

حفلت هذه الآيات بضروب من البلاغة وأفانين من البيان نوجزها فيما يلي :

١ ـ الإيجاز : وذلك في نداء الله تعالى لعباده ، فقد اشتمل هذا النداء على أمور أربعة : ١ ـ نفى عنهم الخوف ٢ ـ نفى عنهم الحزن ٣ ـ أمرهم بدخول الجنة ٤ ـ بشّرهم باستحواذ السرور على أنفسهم.

٢ ـ الإيجاز أيضا : وذلك في قوله تعالى «وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين» فقد حصر أنواع النعم لأنها لا تعدو أمرين اثنين : إما مشتهاة في القلوب وإما مستلذة في العيون ، وجاء في الحديث : إن

١٠٥

رجلا قال يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل ، فقال : إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أيّ الجنة شئت إلا فعلت فقال أعرابي يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك.

٣ ـ الالتفات : في قوله «وتلك الجنة التي أورثتموها» فقد التفت من الغيبة إلى الخطاب للتشريف والمخاطب كل واحد ممّن دخل الجنة ولذلك أفرد الكاف ولم يقل وتلكم مع أن مقتضى أورثتموها أن يقول وتلكم وذلك للإيذان بأن كل واحد من أهل الجنة مقصود بالذكر لذاته.

٤ ـ الاستعارة : فقد شبّه الجنة بالمال الموروث والتلاد الموفور ثم استعار له الإرث على طريق الاستعارة المكنية لأن كل عمل لا بد أن يلقى جزاءه إذ يذهب العمل ويبقى جزاؤه مع العامل ، أو أنها شبّهت في بقائها على أهلها وإفاضة النعم السوابغ عليهم بالميراث الباقي لا ينضب له معين ولا ينتهي إلى نفاد.

وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا ذلك قول الله عزّ وجلّ «ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون» رواه مسلم والترمذي.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ

١٠٦

لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨))

اللغة :

(يُفَتَّرُ) يخفف وفي القاموس : «فتر يفتر ويفتر فتورا وفتارا سكن بعد مدة ولان بعد شدّة وفتره تفتيرا وفتر الماء سكن».

(مُبْلِسُونَ) ساكتون سكوت يأس وفي المصباح : «أبلس الرجل إبلاسا سكت وأبلس سكن».

الإعراب :

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في الوعيد بعد الإفاضة في حديث الوعد وإن واسمها وفي عذاب جهنم خبر أول وخالدون خبر ثان ولك أن تعلّق الجار والمجرور بخالدون (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) الجملة حالية ولا نافية ويفتر فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي العذاب وعنهم متعلقان بيفتر والواو للحال وهم مبتدأ وفيه متعلقان بمبلسون ومبلسون خبرهم والجملة حال ثانية (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وظلمناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به والواو حالية ولكن مخففة مهملة وكان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له أو هو توكيد للواو والظالمين خبر كانوا (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الواو عاطفة ونادوا فعل ماض وفاعل وعبر بالماضي عن المضارع إيذانا بحقيقة وقوعه فهو من باب أتى أمر الله ، ويا مالك نداء ، وسيأتي الحديث عن مالك وندائه في باب الفوائد ، واللام لام الأمر ويقض فعل

١٠٧

مضارع مجزوم بلام الأمر وعلينا متعلقان بيقض أي ليمتنا وربك فاعل (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) إن واسمها وخبرها في موضع نصب مقول القول (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئناكم فعل وفاعل وبالحق متعلقان بجئناكم والواو حالية وإن واسمها وللحق متعلقان بكارهون وكارهون خبر إن.

الفوائد :

١ ـ قرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما يا مال بحذف الكاف للترخيم وقيل لابن عباس : إن ابن مسعود قرأ ونادوا يا مال فقال : ما أشغل أهل النار عن الترخيم وعن بعضهم أن الذي حسن الترخيم لأهل النار ضعفهم عن إتمام الاسم لأنهم في غنية عن الترخيم قال ابن جنّي : «وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم عليه خفتت أصواتهم ووهنت قواهم وذلّت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة» قال الطيبي «قلت هذا اعتذار منه لقراءة ابن مسعود حيث ردّها ابن عباس بقوله : ما أشغل أهل النار عن الترخيم فإن ما للتعجب وفيه معنى الصدّ نظير قولك لمن كان في شدة واشتغل عنها بما لا يهمه : ما أشغلك عن هذا أما يصدّك عن هذا ما أنت فيه من الهول والشدّة» قلت والترخيم هو لغة التسهيل والتليين يقال صوت رخيم أي سهل لين ، واصطلاحا حذف بعض الكلمة على وجه مخصوص وهو ثلاثة أنواع :

١ ـ ترخيم النداء ٢ ـ ترخيم الضرورة ٣ ـ ترخيم التصغير ، ومباحثها في كتب النحو.

ومالك هو خازن النار أي رئيس سدنتها الماضي عليهم كلامه

١٠٨

ومجلسه في وسط النار وفيها جسور تمر عليها ملائكة العذاب فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها.

٢ ـ الحديث المتعلق بالآية : وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم فيقولون «ألم تك تأتيكم رسلكم بالبيّنات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال» قال : فيقولون : ادعوا مالكا فيقولون : «يا مالك ليقض علينا ربك» قال فيجيبهم : إنكم ماكثون قال الأعمش : نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام قال فيقولون : ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون : «ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوما ضالّين ، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون» قال : فيجيبهم :«اخسئوا فيها ولا تكلمون» قال فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : إنّ أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يقول : إنكم ماكثون ثم يدعون ربهم فيقولون : «ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون» فلا يجيبهم مثل الدنيا ثم يقول : «اخسئوا فيها ولا تكلمون» ثم ييئس القوم فما هو إلا الزفير والشهيق تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير.

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ

١٠٩

بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

اللغة :

(أَبْرَمُوا) أحكموا وفي المصباح : «وأبرمت العقد إبراما : أحكمته فانبرم هو وأبرمت الشيء دبرته» ويقال أبرم الحبل إذا أتقن فتله والمراد القتل الثاني وأما الأول فيقال له سحل وفي القاموس : السحل ثوب لا يبرم غزله كالسحيل ، قال زهير يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف :

يمينا لنعم السيدان وجدتما

على كل حال من سحيل ومبرم

١١٠

الإعراب :

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كلام مستأنف مسوق للانحاء باللائمة على المشركين لما بدر منهم ، وأم منقطعة بمعنى بل فبل للإضراب والانتقال من توبيخ أهل النار وحكاية حالهم إلى حكاية جناية هؤلاء المشركين والهمزة للإنكار وأبرموا فعل ماض وفاعل وأمرا مفعول به والفاء عاطفة وإن واسمها وخبرها (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟) أم تقدم القول فيها ويحسبون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي تحسبون وجملة لا نسمع خبر أنّا وسرّهم مفعول نسمع ونجواهم عطف على سرّهم (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) بلى حرف جواب أي نسمع ذلك والواو للحال ورسلنا مبتدأ ولديهم ظرف متعلق بيكتبون وجملة يكتبون خبر رسلنا والجملة حالية (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة مسوقة لتفنيد ما ورد من مزاعم لهم في أول السورة بأن لله ولدا من الملائكة وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص وللرحمن خبرها المقدّم وولد اسمها المؤخر والفاء رابطة لجواب الشرط وأنا مبتدأ وأول العابدين خبر وسيأتي معنى تعليق العبادة بكينونة الولد في باب الفوائد (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف ورب السموات والأرض مضاف إليه ورب العرش بدل من رب الأولى وعمّا متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة ما (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) الفاء الفصيحة وذرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ويخوضوا جواب الطلب ولذلك جزم ويلعبوا عطف على يخوضوا ، حتى حرف غاية وجر ويلاقوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل ويومهم مفعول به والذي صفة وجملة يوعدون صلة ويوعدون مضارع

١١١

مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) الواو استئنافية وهو مبتدأ والذي خبره وفي السماء متعلقان بإله لأنه بمعنى معبود ، ومثل له الزمخشري بقولهم هو حاتم طي حاتم في تغلب على تضمين معنى الجواد الذي شهر به كأنك قلت هو جواد في طي جواد في تغلب. وإله خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو والجملة صلة الذي وفي الأرض إله عطف على قوله في السماء إله وهو مبتدا والحكيم العليم خبران (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) الواو عاطفة وتبارك فعل ماض والذي فاعله وله خبر مقدم وملك السموات مبتدأ مؤخر والجملة صلة وما عطف على السموات والأرض والظرف متعلق بمحذوف هو الصلة (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم الساعة مبتدأ مؤخر وإليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) الواو عاطفة ولا نافية ويملك فعل مضارع والذين فاعله وجملة يدعون صلة الموصول ومن دونه متعلقان بيدعون والشفاعة مفعول يملك (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) إلا أداة حصر ومن مستثنى من الذين وهو استثناء منقطع والمعنى ولا يملك آلهتهم ويعني بهم الأصنام والأوثان الشفاعة كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله ولكن من شهد بالحق وهو توحيد الله وهو يعلم ما شهد به هو الذي يملك الشفاعة ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا لأنه يكون المستثنى منه محذوفا كأنه قال ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق فهو استثناء من المفعول المحذوف على حدّ قول الشاعر :

نجا سالم والنفس منه بشدقه

ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر

فهو استثناء من المشفوع فيهم. وجملة شهد بالحق صلة من وهم

١١٢

الواو حالية أو عاطفة وهم مبتدأ وجملة يعلمون خبر (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلقهم خبر من وجملة الاستفهام المعلقة في محل نصب مفعول به ثان لسألتهم وليقولنّ اللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف على القاعدة المعروفة وهي اجتماع قسم وشرط ويقولنّ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة والله فاعل بفعل محذوف دلّ عليه موصول الاستفهام والتقدير خلقنا الله لأن القضية الشرطية لا تستدعي الوقوع ولا عدمه والدليل على أن المرفوع فاعل فعله محذوف لا مبتدأ أنه جاء عند عدم الحذف كقوله تعالى الآنف الذكر «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهنّ العزيز العليم» على أن هذه الحجة قد تعارض بالمثل فيقال والدليل على أنه مبتدأ أنه قد جاء كذلك كقوله تعالى : «قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ـ إلى قوله ـ قل الله ينجيكم منها» وما يقال أنه قدّم لإفادة الاختصاص ممنوع لأن الفاعل لا يجوز تقديمه على عامله على الأصح والأحسن أن يقال إن الحجة الفعلية في هذا الباب أكثر فالحمل عليها أولى. وقال ابن هشام : «يقول بعضهم في ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله إن اسم الله سبحانه وتعالى مبتدأ أو فاعل أي الله خلقهم أو خلقهم الله والصواب الحمل على الثاني بدليل ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ خلقهنّ العزيز الحكيم» وتعقبه الدماميني شارع المغني فقال «هذا معارض بقوله تعالى : قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه إلى أن قال : قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب» وتعقبه الشمني فقال : «وأقول لا يعارضه لأن الكلام إنما هو في خصوص الجواب الذي سنده خلق لا في كل جواب».

١١٣

والفاء عاطفة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) الواو للقسم وقيله أي قوله مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم والجواب إما محذوف أي لأفعلنّ بهم ما أريد وإما مذكور وهو قوله إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كأنه قيل وأقسم بقيله يا رب وقيل هو معطوف على الساعة وفيه بعد وقرئ بالنصب قال الجلال السيوطي «ونصبه على المصدر بفعله المقدّر وقيل إن النصب بالعطف على سرهم ونجواهم وقيل إنه بالعطف على محل الساعة كأنه قيل إنه يعلم الساعة وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر ما بعده أو إن الخبر محذوف تقديره وقيله مسموع أو متقبل» وإن واسمها وخبرها وجملة لا يؤمنون صفة (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة واصفح فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان باصفح وقل عطف على فاصفح وسلام خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر سلام فسوف الفاء عاطفة وسوف حرف تسويف ويعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والمفعول به محذوف للتفخيم أي مغبة أمرهم.

الفوائد :

وعدناك بالحديث عن تعليق العبادة بكينونة الولد وقد شجر بين المفسرين والمتكلمين جدال طويل في صددها وخاصة بين أهل السنّة والمعتزلة ، فقال الزمخشري بأسلوبه البارع ما يلي : «قل إن كان للرحمن ولد وصحّ ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه وهذا كلام وارد على سبيل

١١٤

الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد وذلك أنه علّق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلّق بها محالا مثلها فهو في صورة إثباته الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها» ثم أورد تهكما بأهل السنّة وأرخى للسانه العنان فأساء إلى الذات الإلهية إذ قال : «ونظيره أن يقول العدلي للمجبر إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذب عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول هو شيطان وليس بإله فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفي أن يكون الله تعالى خالقا للكفر وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا مع الدلالة على سماجة المذهب وضلالة الذاهب إليه والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه».

وقد نوّه أبو حيان بإساءة الزمخشري فقال بعد أن نقل ما نقلناه من كلام الزمخشري : «ثم ذكر كلاما يستحق عليه التأديب بل السيف نزّهت كتابي عن ذكره» وهذا ليس بالردّ كما ترى بل فيه مقابلة المهاترة بالمهاترة والشطط بالشطط.

وردّ الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي قاضي الإسكندرية المتوفى سنة ٦٨٣ ه‍ على الزمخشري ردّا حسنا سلك فيه جادة النقد الصحيح فقال «لقد اجترأ عظيما واقتحم مهلكة في تمثيله بقول من سمّاه عدليا إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه فأنا أول القائلين إنه شيطان وليس بإله فلينتقم عليه ذلك بقول القائل : قد ثبت عقلا وشرعا أنه تعالى خالق لذلك في القلوب كما خلق الإيمان وفاء بمقتضى دليل العقل الدال على أن لا خالق إلا الله وتصديقا بمضمون قوله تعالى : «هل من خالق غير الله

١١٥

وقوله : الله خالق كل شيء وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا ونقلا لزمه فرك أذنه وغلّ عنقه إذ يلحد في الله إلحادا لم يسبقه إليه أحد من عباده الكفرة ولا تجرأ عليه ما ردّ من مردّة الفجرة» إلى آخر هذا الرد الذي لم يخل من السباب والشتائم أيضا.

ثم قال الزمخشري : «وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه فقيل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه وقيل إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد» وقيل : هي إن النافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد وقد فنّد أبو حيان هذه الوجوه كلها بما لا يتّسع له صدر هذا الكتاب.

وعبارة الشوكاني : «أي إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد ، كذا قال ابن قتيبة وقال الحسن والسدّي : إن المعنى ما كان للرحمن ولد ويكون قوله فأنا أول العابدين ابتداء كلام ، وقيل المعنى :قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته ولكنه يستحيل أن يكون له ولد وفيه نفي للولد على أبلغ وجه وأتم عبارة وأحسن أسلوب وهذا هو الظاهر من النظم القرآني ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : وإنّا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره إن ثبت ما تقوله بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به ، فتكون إن شرطية وهذا ما اخترناه ورجحه ابن جرير وغيره وهناك أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا لأنها من التمحّل والتكلّف لا يليق بالقرآن الكريم أن يأتي بها أو يرمي إليها لأن القرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ.

١١٦

سورة الدخان

مكيّة وآياتها تسع وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

الإعراب :

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) تقدم القول في مثلها في سورة الزخرف فجدّد به عهدا (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) إن واسمها وجملة أنزلناه خبرها وفي ليلة متعلقان بأنزلناه ومباركة نعت ليلة وجملة إنّا أنزلناه جواب القسم وإنّا إن واسمها وجملة كنّا خبرها وكان واسمها ومنذرين خبرها وجملة إنّا كنّا لا محل لها لأنها جواب القسم أيضا من غير عاطف أو مستأنفة أو تفسيرية لجواب القسم (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ

١١٧

حَكِيمٍ) الجملة مستأنفة أو صفة لليلة وعبارة الزمخشري غاية في إعرابها قال : «فإن قلت إنّا كنّا منذرين فيها يفرّق كل أمر حكيم ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسّر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى : إنّا أنزلناه في ليلة مباركة كأنه قيل أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم» وفيها متعلقان بيفرق ويفرق فعل مضارع مبني للمجهول وكل أمر نائب فاعل وحكيم صفة لأمر أي يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم وجميع شئونهم (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أجازوا في أمرا وجوها عديدة ولم يترجح لنا وجه معين لنجزم به فنورد عبارة أبي البقاء ثم نورد بقية الأقوال في باب الفوائد قال : «في نصبه أوجه أحدها هو مفعول منذرين كقوله لينذر بأسا شديدا والثاني هو مفعول له والعامل فيه أنزلناه أو منذرين أو يفرق والثالث هو حال من الضمير في حكيم أو من أمر لأنه قد وصف أو من كل أو من الهاء في أنزلناه والرابع أن يكون في موضع المصدر أي فرقا من عندنا والخامس أن يكون مصدرا أي أمرنا أمرا ودلّ على ذلك ما يشتمل الكتاب عليه من الأوامر والسادس أن يكون بدلا من الهاء في فأنزلناه» ومن عندنا صفة لأمر أو متعلق بيفرق وإن واسمها وجملة كنّا مرسلين خبر إنّا (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أجازوا في رحمة خمسة أوجه متساوية الرجحان الأول المفعول لأجله والعامل فيه إما أنزلناه وإما أمرا وإما يفرق وإما منذرين والثاني أنه مصدر منصوب بفعل مقدّر أي رحمنا رحمة والثالث أنه مفعول بمرسلين والرابع أنه حال من ضمير مرسلين أي ذوي رحمة والخامس أنه بدل من أمرا فيجيء فيه ما تقدم ، ومن ربك صفة لرحمة أو متعلق بنفس الرحمة وإن واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والسميع العليم خبران لهو أو لإنه وقد تقدمت له نظائر

١١٨

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) رب السموات والأرض بدل من ربك وما عطف على السموات والأرض والظرف صلة الموصول وإن شرطية وكنتم في محل جزم فعل الشرط وموقنين خبر كنتم وجواب الشرط محذوف تقديره فأيقنوا بأن محمدا رسوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) الجملة خبر أيضا لأن ، وربكم خبر رابع أو خبر لمبتدأ محذوف ورب آبائكم الأولين عطف على ما تقدم (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) إضراب عن محذوف كأنه قال فليسوا بموقنين بل هم في شكّ بحسب ضمائرهم وهم مبتدأ وفي شك خبر وجملة يلعبون حال.

الفوائد :

١ ـ ليلة القدر : المراد بالليلة المباركة ليلة القدر وقد اختلف فيها وفي تحديد موعدها وقيل ليلة النصف من شعبان ويمكن الرجوع في معرفتها إلى المطولات هذا ويتطلع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إلى ليلة القدر والاحتفال بها والحرص عليها والتعرّض لما يحتشد فيها من خير كثير وثواب كبير وليلة القدر من الشئون الدينية التي صحّ بها النص صحة لا تدع في صدر المؤمن ريبا أو حرجا وإن كان لم يرد معها ذلك السر الذي دعا المسلمين إلى تكريمها من أجله ، والذي نراه أن ليلة القدر لم تكن ولن تكون بابا يفتح في السماء أو نورا يملأ فضاء البيت وإنما هي مبدأ لرحمة الله الشاملة التي استنفذت الإنسانية كلها من ربقة الطغيان وأخذت بأيدي الحيارى إلى مسالك واضحة المعالم شريفة الغايات والأهداف يستشعرون فيها برد الطمأنينة ، وراحة السكينة واسترجاع الرشد العازب ، وربما كان من أجل هذه المعاني الشريفة في ليلة القدر جعل قيامها سترا للعيوب وغفرانا للذنوب فقال رسول الله

١١٩

صلى الله عليه وسلم من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.

٢ ـ أقوال المعربين في أمرا : قال الزمخشري : «أمرا من عندنا نصب على الاختصاص ، جعل كل أمر جزلا بأن وصفه بالحكيم ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا كائنا من لدنا وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ، ويجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق لأن معنى الأمر والفرقان واحد من حيث أنه إذا أحكم بالشيء وكتبه فقد أمر به أو يكون حالا من أحد الضميرين في أنزلناه إما من ضمير الفاعل أي أنزلناه آمرين أمرا أو من ضمير المفعول أي أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل».

أما الشهاب السمين فقد قال فيه أوجه : أحدها أن ينتصب حالا من فاعل أنزلناه والثاني أنه حال من مفعوله أي أنزلناه آمرين أو مأمورا به والثالث أن يكون مفعولا له وناصبه إما أنزلناه وإما منذرين وإما يفرق والرابع أنه مصدر من معنى يفرق أي فرقا وهناك أقوال أخرى لا تخرج عن هذا النطاق.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

١٢٠