إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٨

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٨

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٧٩

للأمر بالصبر. (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) الفاء عاطفة وإن الشرطية مدغمة في ما الزائدة ونرينك فعل الشرط مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبعض الذي مفعول به ثان وجملة نعدهم صلة الذي ، أو نتوفينك عطف على نرينك والفاء رابطة ، وإلينا يرجعون : إلينا متعلقان بيرجعون والجملة جواب للشرط الثاني وهو نتوفينك وجواب الشرط الأول والتقدير فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل والأسر يوم بدر فذاك أو أن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام.

وإنما حذف جواب الأول دون الثاني لأن الأول إن وقع فذاك غاية الأمل في إنكائهم فالثابت على تقدير وقوعه معلوم وهو حصول المراد على التمام وأما إن لم يقع ووقع الثاني وهو توفيه قبل حلول المجازاة بهم فهذا هو الذي يحتاج إلى ذكره للتسلية وتطمين النفس على أنه وإن تأخر جزاؤهم عن الدنيا فهو حتم في الآخرة ولا بد منه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ورسلا مفعول به ومن قبلك نعت لرسلك أو متعلقان بأرسلنا ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة قصصنا صلة وعليك متعلقان بقصصنا ومنهم من لم نقصص عليك عطف على الجملة الأولى وهي نعت لرسلا أو مستأنفة.

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولرسول خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وبآية متعلقان بيأتي وإلا أداة حصر وبإذن الله

٥٢١

استثناء من أعم الأحوال. (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء أمر الله في محل جر باضافة الظرف إليها وجملة قضي بالحق لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونائب فاعل قضي مستتر تقديره هو أي الأمر وبالحق حال أي ملتبسا بالحق وخسر فعل ماض وهنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بخسر والمبطلون فاعل خسر.

الفوائد :

ضمير النكرة نكرة أم معرفة؟

تساءل بعضهم عن الضمير في قوله «منهم من قصصنا» والعائد على قوله «رسلا» أهو نكرة أم معرفة؟ وأجاب بأنه نكرة لأن مدلوله كمدلول المرجوع إليه وهو نكرة فوجب أيضا أن يكون الراجع نكرة إذ التنكير والتعريف باعتبار المعنى والصحيح انه معرفة لأن الهاء في قولك : «جاءني رجل وضربته» ليست شائعة شياع رجل لأنها تدل على الرجل الجائي خاصة لا على رجل والذي يحقق ذلك أنك تقول جاءني رجل ثم تقول : أكرمني الرجل ولا تعني بالرجل سوى الجائي ولا خلاف في أن الرجل معرفة فوجب أن يكون الضمير معرفة أيضا لأنه بمعناه.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ

٥٢٢

فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

الاعراب :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتعديد بعض آلائه سبحانه ، والله مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بجعل لأنها بمعنى خلق والأنعام مفعول به ، وقد تقدم تفسيرها في سورة الأنعام ولا معنى لتخصيص الإبل وحدها ، ولتركبوا اللام للتعليل وتركبوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بجعل لأنها علة الخلق ومنها متعلقان بتركبوا أي من بعضها فمن للتبعيض ولا معنى لجعلها ابتدائية ومنها تأكلون عطف على ما تقدم (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) الجملة معطوفة. (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) وعليها متعلقان بتحملون وعلى الفلك عطف على وعليها. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) ويريكم آياته عطف

٥٢٣

على جعل لكم الأنعام وآياته مفعول به ثان ، فأي : الفاء عاطفة وأي مفعول مقدم لتنكرون وقدم وجوبا لأن لأسماء الاستفهام الصدارة وتنكرون فعل مضارع مرفوع والاستفهام للتوبيخ قال الزمخشري :«وقد جاءت على اللغة المستفيضة وقولك فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب» قلت وقد ورد تأنيثها كثيرا ومنه قول الكميت :

بأي كتاب أم بأية سنة

ترى حبهم عارا علي وتحسب

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في توبيخهم والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي والفاء عاطفة على مقدر أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض أي في نواحيها وأطرافها والفاء فاء السببية وينظروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والواو فاعل وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان مبدأ أحوالهم وعواقبها وكان واسمها وأكثر خبرها ومنهم متعلقان بأكثر وقوة تمييز وآثارا عطف على قوة وفي الأرض نعت لآثارا. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الفاء عاطفة وما نافية أو استفهامية في محل نصب مفعول أغنى المقدم وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وما الثانية موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع على الفاعلية أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم.

٥٢٤

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الفاء هذه هي الفاء الثانية من أربع فاءات متعاقبة فالأولى للعطف كما قلنا بيّنت عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم. والثانية عاطفة أيضا تشير الى تفصيل ما أبهم من عدم الإغناء ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة وجاءتهم رسلهم فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل وبالبينات متعلقان بجاءتهم وجملة فرحوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعندهم ظرف متعلق بمحذوف صلة ما ومن العلم حال (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وحاق عطف على فرحوا وبهم متعلقان بحاق وما موصولة فاعل وجملة كانوا صلة وكان واسمها وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة.

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) وهذه هي الفاء الثالثة وهي لمجرد العطف والتعقيب أي التي تجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقبه ولما حينية ورأوا فعل ماض وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وبأسنا مفعول به وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة آمنا مقول القول وبالله متعلقان بآمنا ووحده حال.

(وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) وكفرنا عطف على آمنا وبما متعلقان بكفرنا وجملة كنا صلة ما وكان واسمها وبه متعلقان بمشركين ومشركين خبر كنا. (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) وهي الفاء الرابعة وهي للعطف وجملة يك معطوفة على آمنّا كأنه قيل فآمنوا فلم ينفعهم إيمانهم وقد أفادت العطف مع التفسير ، ويك فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسمها مستتر تقديره هو أي الشأن وجملة ينفعهم خبرها وايمانهم فاعل ينفعهم ويجوز رفع إيمانهم اسما لكان وجملة

٥٢٥

ينفعهم خبرها المقدم وليست المسألة من باب التنازع ولما حينية وجملة رأوا بأسنا في محل جر بإضافة الظرف إليها. (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) سنة الله مصدر مؤكد لفعل مقدر من لفظه أي سن تعالى بهم سنة من قبلهم ويجوز أن يكون منصوبا على التحذير أي احذروا سنة الله في المكذبين والتي صفة لسنة وجملة قد خلت صلة وفي عباده متعلقان بخلت أي مضت في عباده والواو استئنافية وخسر فعل ماض وهنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بخسر والكافرون فاعل خسر وقد استعير ظرف المكان للزمان أي وخسروا وقت رؤية اليأس ويجوز ابقاؤه على أصله.

البلاغة :

فن التهكم :

في قوله «فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم» الآية فن التهكم وهو في الأصل تهدم البناء ، يقال تهكمت البئر إذا انهدمت والغضب الشديد والتندم على الأمر الفائت وهو في اصطلاح البيانيين الاستهزاء والسخرية من المتكبرين لمخاطبتهم بلفظ الإجلال في موضع التحقير ، والبشارة في موضع التحذير ، والوعد في موضع الوعيد ، والعلم في موضع الجهل ، تهاونا من القائل بالمقول له واستهزاء به ، وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن كثيرا في كتابنا ، قال الزمخشري : «أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى : بل ادّارك علمهم في الآخرة ، وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت الى ربي إن لي

٥٢٦

عنده للحسنى ، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت الى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ، وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء كما قال عز وجل : كل حزب بما لديهم فرحون» وما أجمل قول الحماسي :

أتاني من أبي أنس وعيد

فثل تغيظ الضحاك جسمي

ثل أهلك ، والتغيظ : الغيظ ، وكني عن أبي أنس بالضحاك الذي كان ملكا قصدا للاستهزاء.

الفوائد :

حذف نون مضارع كان المجزوم :

تقدم القول في حذف نون مضارع كان المجزوم بشرط كونه مجزوما بالسكون غير متصل بضمير نصب ولا بساكن ، وقد وقع ذلك في التنزيل في ثمانية عشر موضعا ، وقد سمع في الشعر حذفها إذ وليها ساكن ، قال الخنجر بن صخر الأسدي :

فإن لم تك المرآة أبدت وسامة

فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

فحذف النون مع ملاقاة الساكن ، والمرآة بكسر الميم ومدّ الهمزة آلة الرؤية فكأنه نظر وجهه فيها فلم يره حسنا فتسلى بأنه يشبه الضيغم وهو الأسد ، والوسامة بفتح الواو : الحسن والجمال وحمله جمهور النحاة على الضرورة واستشهد بقول النجاشي :

فلست يأتيه ولا أستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

٥٢٧

فحذف نون لكن ضرورة واستدل الفراء بهذا البيت على أن لكن المشددة مركبة وأصلها لكن ان فطرحت الهمزة للتخفيف ونون لكن للساكنين ومن طريف ما يروى عن هذا البيت أن النجاشي الشاعر عرض له ذئب في سفره فحكى أنه دعا الذئب الى الطعام وقال له : هل لك من أخ يعني نفسه يواسيك بطعامه بغير من ولا بخل فقال له الذئب دعوتني الى شيء لم تفعله السباع قبلي من مؤاكلة بني آدم ولست بآتيه ولا أستطيعه ولكن إن كان في مائك الذي معك فضل عما تحتاج اليه فاسقني منه.

٥٢٨

سورة فصلت

مكية وآياتها اربع وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧))

الاعراب :

(حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) حم خبر لمبتدأ محذوف وتنزيل خبر لمبتدأ محذوف أيضا أي هو تنزيل ومن الرحمن الرحيم متعلقان بتنزيل وأجاز الزجاج أن يكون تنزيل مبتدأ وقوله كتاب الآتي خبره وساغ الابتداء بتنزيل لأنه تخصص بالصفة وعليه درج

٥٢٩

الجلال وشراحه وما ذكرناه أولا أولى (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) كتاب بدل من تنزيل أو خبر بعد خبر وجملة فصلت آياته صفة للكتاب أي ميزت وجعلت تفاصيل في شتى المعاني وآياته نائب فاعل وقرآنا حال من كتاب وعربيا نعت وأجاز الزمخشري إعراب قرآنا بالنصب على الاختصاص ولقوم متعلقان بفصلت وجملة يعلمون نعت لقوم وأعرب الزمخشري لقوم بقوله : «والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله».

(بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) يجوز أن يكونا نعتين لقرآنا وأن يكونا حالين إما من كتاب وإما من آياته وإما من الضمير المنوي في قرآنا ، فأعرض الفاء عاطفة على فصلت وأكثرهم فاعل ، فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يسمعون خبرهم.

(وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) الواو عاطفة أو استئنافية وقالوا فعل ماض وفاعل وقلوبنا مبتدأ وفي أكنة خبر أي أغطية ومما متعلقان بمحذوف أي تمنعنا مما تدعونا وقال أبو البقاء : «هو محمول على المعنى إذ معنى في أكنة أنها محجوبة عن سماع ما تدعونا إليه ولا يجوز أن يكون نعتا لأكنة لأن الأكنة الأغشية وليست الأغشية مما يدعو إليه» وهذا كلام شامل لا يعين الاعراب ولهذا جنحنا إلى تقدير تمنعنا وقريب من الوجه الذي اخترناه قول زاده في حاشيته على البيضاوي : «في الكلام حذف تقديره في أكنة تمنعنا من فهم ما تدعونا إليه فحذف المضاف» فما يتعلق به مما هو النعت لأكنة. ولواو حرف عطف وفي آذاننا خبر مقدم ووقر مبتدأ مؤخر.

٥٣٠

(وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) الواو حرف عطف ومن بيننا خبر مقدم وبينك معطوف على بيننا وحجاب مبتدأ مؤخر ، فاعمل الفاء الفصيحة أي إن عرفت ما قلناه لك ووعيته فاعمل ، وإننا إن واسمها وعاملون خبرها أي فاستمر على دعوتك فإننا مستمرون على ديننا وهو الإشراك وسيأتي مزيد بسط لهذا الكلام في باب البلاغة. (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ وبشر خبر ومثلكم نعت وجملة يوحى نعت ثان لبشر ، وإلي متعلقان بيوحى ونائب الفاعل أن وما بعدها وأنما كافة ومكفوفة وهي مع مدخولها نائب فاعل يوحى وإلهكم مبتدأ وإله خبر وواحد نعت. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الفاء الفصيحة واستقيموا فعل أمر وفاعل وهو متضمن معنى توجهوا ولذلك عدي بإلى واستغفروه عطف على فاستقيموا وويل الواو عاطفة وويل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى الدعاء وللمشركين خبر والذين نعت وجملة لا يؤتون الزكاة صلة ولا يتنافى عطف الاسمية على الفعلية لأن الأول متجدد وهو عدم إيتاء الزكاة والثاني مستمر وهو الكفر (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بهم وهم الثانية تأكيد للأولى وكافرون خبرهم.

البلاغة :

اشتملت الآية «وقالوا قلوبنا في أكنة» الى قوله «عاملون» على نكت بلاغية تستحق أن تكتب بذوب التبر ففيها ثلاث استعارات تمثيلية لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم اليه واعتقاده ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول.

٥٣١

١ ـ فأولها الحجاب الحائل الخارج فقد شبهوا قلوبهم بالشيء المحوى المحاط بالغطاء المحيط له.

٢ ـ وثانيها حجاب الصمم فقد شبهوا أسماعهم بآذان بها صمم من حيث أنها تمج الحق ولا تميل الى استماعه.

٣ ـ وثالثها وأقصاها الحجاب الذي أكن القلب والعياذ بالله فقد شبهوا حال أنفسهم مع الرسول بحال شيئين بينهما حجاب عظيم يمنع من وصول أحدهما الى الآخر فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها فلم تدع هذه الآية حجابا مرتخيا إلا سدلته ولم تبق لهؤلاء الأشقياء مطمعا ولا صريخا إلا استلبته.

هذا ولا بد من الاشارة الى ما تضمنته من إشارات فهي تفيد الابتداء والمعنى أن حجابا ابتدأ منّا وابتدأ منك. أما بين فقد تكررت ومعناها واحد وقد وهم الزمخشري فجعل بين الثانية غير الأولى لأنه جعل الأولى بجهتهم والثانية بجهته وليس الأمر كما ظنه بل بين الأولى هي الثانية بعينها وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين وتكرارها إنما كان لأن المعطوف مضمر محفوظ فوجب تكرار حافظه وهو بين والدليل على هذا أنه لا تفاوت بين أن تقول جلست بين زيد وعمرو وبين أن تقول جلست بين زيد وبين عمرو وإنما كان ذكرها مع الظاهر جوازا ومع المضمر وجوبا لما بيناه فإذا وضح ذلك فموقع من هاهنا كموقعها في قوله تعالى : «وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا» وذلك للإشعار بأن الجهة المتوسطة مثلا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الحجاب.

٥٣٢

الفوائد :

منع الزكاة وسرها :

تساءل المفسرون جميعا : لم خص تعالى من أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة ، وأجابوا بأسئلة متشابهة فحواها أن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته ، ونص عبارة الزمخشري في هذا الصدد : «ألا ترى الى قوله عز وجل : «مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم» أي يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال» هذا ولو استعرضنا معنى اسم الزكاة لوجدناه يرمز الى أسمى الخصائص وأعلاها فهي تطهر المال من الخبث وتنقيه من الآفات وتبعد النفس عن رذيلة البخل ، وتنميها على فضيلة الكرم وتستجلب بها البركة ، وتزيد المتصدق ثناء ومدحا ويكفر جاحدها ويقاتل الممتنعون من أدائها وتؤخذ منهم وإن لم يقاتلوا قهرا ، وعن أنس بن مالك قال : «أتى رجل من تميم الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل ومال وحاضرة فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك وتصل أقرباءك وتصرف حق المسكين والجار والسائل».

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ

٥٣٣

الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) كلام مستأنف مسوق لذكر ما أعد للصالحين بعد ما ذكر ما أعد للجاهلين ، وإن واسمها وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا والصالحات مفعول به منصوب بالكسرة ولهم خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وغير ممنون نعت والجملة الاسمية خبر إن ومعنى غير ممنون : غير مقطوع وقيل غير ممنون به عليهم. (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة تكفرون خبر إن وبالذي متعلقان وبتكفرون وجملة خلق الأرض صلة وفي يومين متعلقان بخلق والمراد مقدار يومين أو في نوبتين كل نوبة أسرع مما يكون في يوم. (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وتجعلون عطف على تكفرون وله في محل نصب مفعول تجعلون الثاني وأندادا مفعوله الأول وذلك مبتدأ والإشارة الى الذي باعتبار اتصافه بما دلت عليه الصلة ورب العالمين خبره.

٥٣٤

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها) الواو عاطفة على الأصح فقد منع أبو البقاء وغيره العطف قال : «وجعل فيها هو مستأنف غير معطوف على خلق لأنه لو كان معطوفا عليه لكان داخلا في الصلة ولا يجوز ذلك لأنه فصل بينهما بقوله تعالى : وتجعلون الى آخر الآية وليس من الصلة في شيء» ويمكن أن يرد على ذلك بأن قوله وتجعلون وإن كان معطوفا على تكفرون فهو بمثابة الاعتراض بين المتعاطفين والاعتراض كثيرا ما يأتي بينهما فالحق الذي لا مرية فيه أنه معطوف على خلق الأرض فهو من جملة الصلة وفيها في محل المفعول الثاني ورواسي مفعول جعل الأول ، ولك أن تعلق الجار والمجرور بجعل على أنه بمعنى خلق فهو ينصب مفعولا واحدا ومن فوقها نعت لرواسي وما أجمل وقع هذا النعت لئلا يتوهم أنها من تحتها فتكون ممسكة لها ومانعة من الميدان ثم لتكون الجبال معروضة للناظرين بحيث تحتاج هي والأرض الى ممسك لها وبارك فيها عطف على جعل فيها.

(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) وقدر فيها عطف على ما تقدم أي أرزاق أهلها ومعايشهم وفي أربعة أيام متعلقان بقدر أي في تمام ومقدار أربعة أيام وسواء نصب على المصدر أي استوت الأيام الأربعة استواء لا تزيد ولا تنقص وقرىء بالجر على الوصف وبالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وللسائلين متعلقان بسواء بمعنى مستويات للسائلين أو بمحذوف كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل في كم يوم خلقت الأرض وما فيها أو متعلقان بمقدر أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين والمحتاجين إليها من المقتاتين. وأجاز أبو البقاء إعراب سواء حلا بعد أن ذكر الأوجه المتقدمة وهو جائز على أنه حال من الضمير في أقواتها أو فيها أو من الأرض.

٥٣٥

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) ثم حرف عطف للترتيب الإخباري لا الزماني واستوى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وإلى السماء متعلقان باستوى من قولك استوى الى مكان كذا إذا قصده وتوجه إليه توجها مستقيما لا يلوي غلى شيء والواو للحال وهي مبتدأ ودخان خبر وسيأتي معنى هذا التشبيه في باب البلاغة.

(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) الفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى ولها متعلقان بقال وللأرض عطف على لها وائتيا فعل أمر مبني على حذف النون وألف الاثنين فاعل وطوعا وكرها مصدران في موضع الحال أي طائعتين أو كارهتين وسيأتي مزيد بحث عن هذه الآية في باب البلاغة.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) الفاء عاطفة وقضاهن فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وسبع سموات مفعول ثان لقضاهن لأنه ضمن معنى صير ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من مفعول قضاهن فتكون قضى بمعنى صنع أي معدودة ويجوز أن يكون منصوبا على البدلية من الضمير ويجوز أن يكون تمييزا وإليه جنح الزمخشري قال «ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا لسبع سنوات على التمييز» ويعني الزمخشري بقوله مبهما أنه لا يعود على السماء لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى بخلاف كونه حالا أو مفعولا ثانيا ، وأوحى عطف على فقضاهن وفي كل سماء متعلقان بأوحى وأمرها مفعول به.

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وزينا عطف على ما تقدم على طريق الالتفات كما سيأتي في باب البلاغة وزينا فعل وفاعل والسماء مفعول به والدنيا نعت وبمصابيح متعلقان بزينا أي بنجوم وحفظا مفعول مطلق لفعل محذوف أي وحفظناها

٥٣٦

حفظا من استراق الشياطين السمع للشهب وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولا لأجله على المعنى كأنه قال وخلقنا المصابيح زينة وحفظا وذلك مبتدأ والاشارة الى ما ذكر كله بتفاصيله وتقدير العزيز العليم مضاف إليه.

البلاغة :

١ ـ التشبيه البليغ الصوري :

في قوله «ثم استوى الى السماء وهي دخان» تشبيه بليغ صوري لأن صورتها صورة الدخان في رأي العين والمراد بالدخان البخار الذي تتشكل منه الطبقات الهوائية فلا منافاة مع أحدث نظريات العلم.

٢ ـ الاستعارة المكنية :

وفي قوله استوى الى السماء استعارة مكنية فالمستعار الاستواء والمستعار منه كل جسم مستو والمستعار له هو الحق عز وجل وقد تقدم تفصيل هذه الاستعارة كثيرا فتدبره.

٣ ـ وفي قوله «فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين» فنون شتى نجملها بما يلي :

أـ إسناد القول للأرض والسماء وتوجيه الخطاب لهما من باب المجاز العقلي والقصد من هذا المجاز تصوير قدرته سبحانه واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات للطوع والكره لهما ، ويجوز أن يكون هذا من باب الاستعارة المكنية فقد شبههما بكائنين حين عاقلين ثم

٥٣٧

حذف المشبه به وأثبت شيئا من لوازمه لتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة الطائع كما تقول نطقت الحال بكذا بدل دلت فيجعل الحال كالانسان الذي يتكلم في الدلالة والبرهان ثم يتخيل له النطق الذي هو من لازم المشبه به وينسب اليه.

ب ـ الطباق بين طوعا وكرها.

ج ـ تغليب المذكر العاقل على المؤنث أو التنزيل منزلته في قوله «قالتا أتينا طائعين».

٤ ـ الالتفات :

وفي قوله «وزينا السماء الدنيا بمصابيح الآية» التفات من الغيبة الى التكلم فقد أسند التزيين الى ذاته سبحانه لإبراز مزيد العناية بالتزيين المذكور.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦))

٥٣٨

اللغة :

(صَرْصَراً) : قال الزمخشري : «الصرصر : العاصفة التي تصرصر أي تصوت في هبوبها وقيل : الباردة التي تحرق بشدة بردها ، تكرير لبناء الصر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ويقبض» وفي القاموس «الصرة بالكسر شدة البرد أو البرد كالصرّ فيهما وأشد الصياح وبالفتح الشدة من الكرب والحرب والحر ... وصرّ يصرّ من باب ضرب صرّا وصريرا صوّت وصاح شديدا» وقال ابن قتيبة صرصر يجوز أن يكون من الصرّ وهو البرد ويجوز أن يكون من صر الباب وأن يكون من الصرة وهي الصيحة ومنه فأقبلت امرأته في صره» وقال الراغب : «صرصر لفظه من الصر وذلك يرجع الى الشد لما في البرودة من التعقّد».

وللصاد مع الراء فاء وعينا للكلمة معنى الشدة والظهور النصوع ، فصرب : جاء بضربة تزري الوجه وتقول : جزى الله بضربة ، من جاءنا بصربة ، وصرح بما في نفسه وبنى صرحا وصروحا وقعد في صرحة داره أي في ساحتها وصرحت الخمرة : ذهب عنها الزبد ، والصراخ : صوت المستغيث وصوت المغيث إذا خرج بقومه للإغاثة قال سلامة :

إنا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له قرع الظنابيب

أي كان الغياث له ، وهذا يوم صرد وصرد ويوم صرد وقد صرد يومنا وليلة صردة ورجل صرد وريح مصراد باردة شديدة البرد ، وصرعته تركته صريعا وتركتهم صرعى وصرعهم ريب المنون

٥٣٩

وليس أشد من ذلك وبات صريع الكأس ، قال مسلم بن الوليد صريع الغواني :

هل العيش إلا أن أروح مع الصبا

وأغدو صريع الراح والأعين النجل

وحفظك الله من صرف الزمان وصروفه وتصاريفه ، وزرع صريم ومصروم مجزوز وصرم النخل واصطرمه ، وماء صريّ مجموع.

ولا يجتمع إلا ليظهر ، قال ذو الرمة :

صرى آجن يزوي له المرء وجهه

ولو ذاقه ظمآن في شهر ناجر

وهذا من الغريب الذي يبز اللغات.

(نَحِساتٍ) : بكسر الحاء وسكونها وهما قراءتان سبعيتان أي مشئومات عليهم فأما الكسر فهو صفة على فعل وفعله فعل بكسر العين أيضا يقال نحس فهو نحس كفرح فهو فرح وأشر فهو أشر وأما السكون فهو مصدر وصف به كرجل عدل ولكن يشكل على هذه القراءة جمعه فإن الفصيح في المصدر الموصوف به أن يوحد وكأن المسوغ له اختلاف أنواعه في الأصل.

الاعراب :

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) كلام مستأنف على طريق الالتفات ، مسوق لتحذيرهم بعد إعراضهم ، وللالتفات سر بليغ نورده في باب البلاغة ، وإن شرطية وأعرضوا فعل

٥٤٠