الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-52-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٠٤

٢ ـ رغم أن ظاهر الآيات يدلّ على أن حكم القذف (الاتهام بعمل مخل بالشرف والعفة) نزل قبل حديث الإفك ، فلما ذا لم يستدع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله بن أبي سلول وعددا آخر ممّن نشروا هذه الشائعة ليجري الحد الذي فرضه الله؟ (الّا أن يقال بأن آيات القذف والافك نزلت سوية ، وأن حكم القذف قد شرح حينذاك لتناسبه مع الموضوع ، ففي هذه الصورة ينتفي هذا الإشكال ولكن يبقى الأوّل على قوّته).

أمّا بالنسبة لسبب النّزول الثّاني ، فإنّ ما يثير فيه النقاش هو عدّة أمور ، منها :

١ ـ إن الذي وجه التهمة ـ وفقا لسبب النّزول هذا ـ هو شخص واحد لا غير ، في الوقت الذي ذكرت الآيات فيه أنّهم مجموعة ، وقد روّجوا لها لدرجة شيوعها تقريبا في المدينة كلها. لهذا استخدمت الآيات ضمير جمع للمؤمنين الذي عاتبتهم بشدّة ، والذين تورّطوا في تصديق وترويج هذه الشائعة ، وهذا لا ينسجم أبدا مع سبب النّزول الثّاني.

٢ ـ يبقى سؤال هو : إذا كانت عائشة ارتكبت هذا الإثم (القذف) ثمّ ثبت خلاقة ، فلما ذا لم ينفّذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدّ القذف بحقها؟

٣ ـ كيف يمكن للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصدر حكم القتل بحق شخص بشهادة امرأة واحدة؟ مع أنّ التنافس بين زوجات رجل واحدا أمرا اعتياديّا ، والانحراف عن الحق والعدل أو ارتكاب إحداهن لخطأ على الأقل ممكن.

وليس مهما ما يكون سبب النّزول ، بل المهم أن نعلم من مجموع الآيات هو أنه قد اتهم شخص بريء بعمل مخلّ بالعفة والشرف حين نزول هذه الآيات ، وأن الشائعات كانت منتشرة في المدينة ، كما يفهم من الدلائل الموجودة في هذه الآية ، أن هذه التهمة كانت موجهة لشخص له أهمية خاصّة في المجتمع آنذاك. وأن مجموعة من المنافقين المتظاهرين بالإسلام أرادوا الإخلال بالمجتمع الإسلامي بترويجهم هذه الشائعة ، فنزلت هذه الآيات ، وتصدّت لهذه الحادثة بقوة ، ودفعت

٤١

المنحرفين والمنافقين الحاقدين إلى جحورهم.

ومهما يكن سبب نزول هذه الأحكام ، فإنها لا تخص سبب النّزول وحده ، ولا تنصرف لزمانه ومكانه فقط ، بل هي أحكام نافذة في كلّ بيئة وزمان.

بعد هذا الحديث نشرع في تفسير هذه الآيات لنرى كيف يتابع القرآن بفصاحته وبلاغته هذه الحادثة الخاصّة ، وكيف يبحث تفاصيلها بدقة.

* * *

التّفسير

حديث الافك المثير :

تقول أوّل آية من الآيات موضع البحث ، دون أن تطرح أصل الحادثة (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) لأن من علائم الفصاحة والبلاغة ، حذف الجمل الزائدة ، والاكتفاء بما تدلّ عليه الكلمات من معان شاملة.

كلمة «الإفك» على وزن «فكر» كما يقول الراغب الأصفهاني : يقصد بها كل مصروف عن وجهه ، الذي يحق له أن يكون عليه ، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب «مؤتفكة» ثمّ أطلقت على كل كلام منحرف عن الحق ومجانب للصواب ، ومن ذلك يطلق على الكذب «أفك».

ويرى «الطبرسي» في مجمع البيان أن الإفك لا يطلق على كل كذبة بل الكذبة الكبيرة التي تبدل الموضوع عن حالته الأصلية ، وعلى هذا يستفاد أن كلمة «الإفك» بنفسها تبيّن أهمية هذه الحادثة وكذب التهمة المطروحة.

وأمّا كلمة «العصبة» فعلى وزن «فعلة» مشتقّة من العصب ، وجمعها أعصاب ، وهي التي تربط عضلات الجسم بعضها مع بعض ، وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم ، ثمّ أطلقت كلمة «عصبة» على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة.

٤٢

واستخدام هذه الكلمة يكشف عن الارتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث الإفك ، حيث كانوا يشكلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات.

وقال البعض : إن هذه المفردة تستعمل في عشرة إلى أربعين شخصا (١).

وعلى كل حال فإن القرآن طمأن وهدّأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية متطهرة (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، لأنّه كشف عن حقيقة عدد من الأعداء المهزومين أو المنافقين الجبناء ، وفضح أمر هؤلاء المرائين ، وسوّد وجوههم إلى الأبد.

ولو لم تكن هذه الحادثة ، لما افتضح أمرهم بهذا الشكل ، ولكانوا أكثر خطرا على المسلمين.

إنّ هذا الحادث علّم المسلمين أن اتّباع الذين يروّجون الشائعات يجرّهم إلى الشقاء ، وأنّ عليهم أن يقفوا بقوّة امام هذا العمل. كما علّم هذا الحادث المسلمين درسا آخر ، وهو أنّ لا ينظروا إلى ظاهر الحادث المؤلم ، بل عليهم أن يتبحّروا فيه ، فقد يكون فيه خيرا كثيرا رغم سوء ظاهره.

وممّا يلفت النظر أنّ ذكر ضمير «لكم» يعمّ جميع المؤمنين في هذا الحادث ، وهذا حقّ ، لأن شرف المؤمنين وكيانهم الاجتماعي لا ينفصل بعضه عن بعض ، فهم شركاء في السرّاء والضرّاء.

ثمّ تعقّب هذه الآية بذكر مسألتين :

أوّلاهما : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) إشارة إلى أنّ المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق كبار المذنبين لا تحول دون تحمل الآخرين لجزء من هذه المسؤولية ، ولهذا يتحمل كلّ شخص مسئوليته إزاء أية مؤامرة.

__________________

(١) نقل تفسير «روح المعاني» هذا المعنى عن كتاب «الصحاح».

٤٣

والمسألة الثّانية : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) قال بعض المفسّرين : إن الشخص المقصود هو «عبد الله بن أبي سلول» قائد أصحاب الإفك.

وقال آخرون : إنّه مسطح بن أثاثة. وحسان بن ثابت كمصاديق لهذا الخطاب.

وعلى كل حال ، فإنّ الذي نشط في هذا الحادث أكثر من الآخرين ، وأضرم نار الإفك ، هو قائد هذه المجموعة الذي سيعاقب عقابا عظيما لكبر ذنبه. (ويحتمل أن كلمة «تولى» يقصد بها رأس مروجي حديث الإفك).

ثمّ توجّهت الآية التالية : إلى المؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات ، فلا متهم بشدّة (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً).

أي : لماذا لم تقفوا في وجه المنافقين بقوّة ، بل استمعتم إلى أقوالهم الّتي مسّت مؤمنين آخرين كانوا بمنزلة أنفسكم منكم. ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة وتقولوا بأن هذا الكلام كذب وافتراء : (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ).

أنّكم كنتم تعرفون جيدا الماضي القبيح لهذه المجموعة من المنافقين ، وتعرفون جيدا طهارة الذي اتّهم ، وكنتم مطمئنين من عدم صدق هذه التهمة وفق الدلائل المتوفرة لديكم.

وكنتم تعلمون أيضا بما يحاك من مؤامرات ضدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل الأعداء والمنافقين ، لذا فإنّكم تستحقون اللوم والتأنيب لمجرد هذه الشائعات الكاذبة ، ولالتزامكم الصمت إزاءها ، فكيف بكم وقد اشتركتم في نشر هذه الشائعة بوعي أو دون وعي منكم؟

وممّا يلفت النظر أن الآية السابقة بدلا من أن تقول : عليكم أن تحسنوا الظن بالمتهم وتصدقوا تهمته ، فإنها تقول (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) وهذه العبارة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى أنّ أنفس المؤمنين كنفس واحدة ، فإذا اتهم

٤٤

أحدهم ، فكأن التهمة موجهة لجميعهم ، ومثالهم في ذلك كمن اشتكى عضو منه فهبت بقية الأعضاء لنجدته.

وهكذا يجب أن يهب المسلم للدفاع عن إخوته وأخواته في الدين مثلما يدافع عن نفسه (١).

وقد استعملت كلمة «الأنفس» في آيات أخرى من القرآن في هذا المعنى أيضا ـ في مثل هذه الحالات ـ كما هو في الآية (١١) من سورة الحجرات (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)! أمّا الاستناد إلى الرجال والنساء المؤمنين فيشير إلى قدرة الإيمان على ردع سوء الظن بالآخرين.

وحتى هذه اللحظة كانت الملامة ذات طابع أخلاقي ومعنوي ، وتقضي بعدم التزام المؤمنين جانب الصمت إزاء مثل هذه التهم القبيحة ، أو أن يكونوا وسيلة بيد مروّجي الشائعات.

ثمّ تهتم الآيات بالجانب القضائي للمسألة فتقول : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي لماذا لم تطلبوا منهم الإتيان بأربعة شهود. (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ).

إنّ هذه الملامة تبيّن أن الحكم بأداء أربعة أشخاص لشهادتهم ، وكذلك حد القذف في حالة عدمه قد نزل قبل الآيات التي تناولت حديث الإفك.

وأمّا الجواب عن سؤال : كيف لم يقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تنفيذ هذا الحدّ؟ فإنّه واضح ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقدم على شيء ما لم يسند من قبل الناس ، فالتعصب القبلي قد يؤدي إلى مقاومة سلبية لبعض أحكام الله ولو بصورة مؤقتة ، وقد ذكر المؤرخون أنّ الأمر كان هكذا في هذه القضية.

وأخيرا جمعت الآية التالية هذه الملامات ، فقالت (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ

__________________

(١) وأما قول البعض بأن المضاف محذوف وتقديره «ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفس بعضهم خيرا» ليس صائبا ويفقد الآية جمالها وروعتها.

٤٥

وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

ونظرا لأن «أفضتم» مشتقة من الإفاضة ، بمعنى خروج الماء بكثرة ، واستعملت في حالات أخرى للتوغل في الماء ، نتج من هذه العبارة أنّ شائعة الاتهام توسعت بشكل شملت المؤمنين مضافا إلى مروجيها الأصليين (المنافقين).

وتبيّن الآية التالية ـ في الحقيقة ـ البحث السابق. وهو كيف ابتلي المؤمنين بهذا الذنب العظيم نتيجة تساهلهم؟ فتقول (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي تذكّروا كيف رحبتم بهذه التهمة الباطلة فتناقلتموها (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ).

وتشير هذه الآية إلى ثلاثة أنواع من ذنوبهم العظيمة في هذا المجال :

الأوّل : تقبّل الشائعة : استقبالها وتناقلها.

الثّاني : نشر الشائعة دون أي تحقيق أو علم بصدقها.

الثّالث : استصغار الشائعة واعتبارها وسيلة للهو وقضاء الوقت ، في وقت تمس فيه كيان المجتمع الإسلامي وشرفه ، إضافة إلى مساسها بشرف بعض المسلمين.

وممّا يلفت النظر أنّ الآية استعملت تعبير «بألسنتكم» تارة أخرى تعبير «بأفواهكم» على الرغم من أنّ جميع الكلام يصدر عن طريق الفم واللسان ، إشارة إلى أنّكم لم تطلبوا الدليل على الكلام الذي تقبلتموه ، ولا تملكون دليلا يسوّغ لكم نشره ، والأمر الوحيد الذي كان بأيديكم هو لقلقة لسانكم وحركات أفواهكم.

ونظرا لهول هذه الحادثة التي استصغرها بعض المسلمين ، أكدتها الآية ثانية ، فأنّبتهم مرّة أخرى ولذعتهم بعباراتها إذ قالت (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

٤٦

وسبق لهذه الآية أن وجهت اللوم لهم لسوء ظنهم بالذي وجه إليه الاتهام باطلا ، وهنا تقول الآية : إضافة إلى وجوب حسن الظن بالمتهم يجب ألا تسمحوا لأنفسكم بالتحدث عنه ، ولا تتناولوا التهمة الموجهة إليه ، فكيف بكم وقد كنتم سببا لنشرها!

عليكم أن تعجبوا لهذه التهمة الكبيرة ، وأن تذكروا الله سبحانه وتعالى ، وأن تلجأوا إلى الله يطهركم من نشر هذه التهمة وإشاعتها. ومع كل الأسف استصغرتموها ونشرتموها بكل يسر ، فأصبحتم بذلك آلة بيد المنافقين المتآمرين المروجين للشائعات.

هذا وسنتناول بالبحث ـ خلال تفسير الآيات القادمة ـ ذنب اختلاق الشائعة ودوافعها ، والسبيل إلى مكافحتها ، بعون الله وتوفيقه.

* * *

٤٧

الآيات

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠))

التّفسير

حرمة إشاعة الفحشاء :

تحدثت هذه الآيات أيضا عن حديث الإفك ، والنتائج المشؤومة والأليمة لاختلاق الشائعات ونشرها ، واتهام الأشخاص الطاهرين بتهمة تمس شرفهم وعفتهم. وهذه القضية مهمه بدرجة أن القرآن المجيد تناولها عدّة مرات ، وعرض لها من طرق مختلفة مؤثرة ، باحثا محللا لها من أجل ألّا تتكرر مثل هذه الواقعة الأليمة في المجتمع الإسلامي ، فذكر أولا (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) (١).

__________________

(١) لهذه الجملة كلمة محذوفة هي حرف «لا» وتقديرها : «يعظكم الله أن لا تعودوا لمثله أبدا» وإذا لم نقدّر محذوفا ، فإن عبارة «يعظكم» تعني ينهاكم. أي إن الله ينهاكم من العودة إلى مثل هذا العمل.

٤٨

أي أن من علامات الإيمان أن لا يتوجه الإنسان نحو الذنوب العظام ، وإذا ارتكبها فذلك يدلّ على عدم إيمانه أو ضعفه ، والجملة المذكورة تشكل ـ في الحقيقة ـ أحد أركان التوبة ، إذ أنّ الندم على الماضي لا يكفي ، بل يجب التصميم على عدم تكرار ارتكاب الذنوب في المستقبل ، لتكون توبة كاملة.

ولتأكيد أكثر على أنّ هذا الكلام ليس اعتياديا ، بل صادر عن الله العليم الحكيم ، ولبيان الحقائق ذات الأثر الفعّال في مصير الإنسان ، يقول سبحانه وتعالى (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

فهو يعلم تفاصيل أعمالكم تمام العلم ، ويصدر أحكامه بمقتضى حكمته الهادية لكم. وبتعبير آخر : إنه يعلم حاجاتكم وما يضرّكم وما ينفعكم بمقتضى علمه الواسع ، ويصدر أحكامه وأوامره المتناسبة لاحتياجاتكم بمقتضى حكمته.

ولتثبيت الأمر نقل الكلام من مورده الخاص إلى بيان عام لقانون شامل دائم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يقل «الذين يشيعون الفاحشة ، بل قال : (الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) وهذا يحكي عن الأهمية القصوى التي يدليها القرآن لذلك. وبعبارة أخرى : أنّه لا ينبغي توهم أن ذلك كان من أجل زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو شخص آخر بمنزلتها ، بل من أجل كلّ مؤمن ومؤمنة ، فلا خصوصية في ذلك ، إنّما هي عامّة للجميع على الرغم من أن كل حالة لها خصائصها ، وقد تزيد الواحدة على الأخرى في الخصائص أو تنقص.

كما يجب الانتباه إلى أن إشاعة الفحشاء لا تنحصر في ترويج تهمة كاذبة ضد مسلم مؤمن ، يتهم بعمل مخل بالشرف ، بل هذه مصداق من مصاديقها ولهذا التعبير مفهوم واسع يضم كل عمل يساعد في نشر الفحشاء والمنكر.

وقد وردت في القرآن المجيد كلمة «الفحشاء» غالبا للدلالة على العمل

٤٩

المخل بالعفّة والشرف. ولكن من الناحية اللغوية ، فقد ذكر الراغب الإصفهاني مفهوما واسعا لها فقال : الفحش والفحشاء والفاحشة ، ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال.

ويستعمل القرآن أحيانا هذا المفهوم الواسع ، حيث يقول (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ). (١)

وبهذا يتّضح المفهوم الواسع للآية :

أمّا قول القرآن الكريم : (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) فقد يكون إشارة إلى الحدود والتعزيرات الشرعية. وردود الفعل الاجتماعية ، وما يبتلى به الناس في هذه الدنيا من مظاهر مشؤومة بسبب أعمالهم القبيحة ، إضافة إلى عدم تقبل أية شهادة منهم ، وإدانتهم بالفسق والفجور وافتضاح أمرهم. كل ذلك من النتائج الدنيوية التي تترتب على أقوالهم وأعمالهم القبيحة.

وأمّا عذابهم الأليم في الآخرة ، فيكون في ابتعادهم عن رحمة الله ، واستحقاقهم غضب الله وعذاب النار.

وتختم الآية بالقول (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أجل ، وإن الله يعلم بالعاقبة المشؤومة التي تنتظر الذي يشيعون الفحشاء في الدنيا والآخرة ، ولكنّكم لا تعلمون أبعاد هذه القضية.

إنّه يعلم الذين يبيتون في قلوبهم حب هذا الذنب ، ويعلم الذين يمارسونه تحت واجهات خداعة ، أمّا أنتم فلا تعلمون ذلك ولا تدركونه.

أجل ، يعلم الله كيف ينزل أحكامه ليحول دون ارتكاب هذه الأعمال القبيحة.

وكررت الآية الأخيرة ـ ممّا نحن بصدده من الآيات التي تناولت حديث الافك ومكافحة إشاعة الفحشاء ، وقذف المؤمنين المتطهرين ـ هذه الحقيقة

__________________

(١) سورة الشورى ، ٣٧.

٥٠

لتؤكّد القول (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). (١)

* * *

بحوث

١ ـ ما معنى إشاعة الفحشاء؟

بما أن الإنسان مخلوق اجتماعي ، فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه له حرمة يجب أن لا تقلّ عن حرمته الشخصيّة ، وطهارة كلّ منهما تساعد في طهارة الآخر ، وقبح كلّ منهما يسري إلى صاحبه. وبموجب هذا المبدأ كافح الإسلام بشدّة كلّ عمل ينشر السموم في المجتمع ، أو يدفعه نحو الهاوية والانحطاط.

ولهذا السبب حارب الإسلام ـ بقوة ـ الغيبة والنميمة ، لأن الغيبة تكشف العيوب الخفية ، وتسيء إلى حرمة المجتمع.

أوجب الإسلام ستر العيوب والسبب في ذلك هو ما تقدم من الحيلولة دون انتشار الذنوب في المجتمع ، واكتسابها طابع العمومية والشمول.

وعند ما نرى اختصاص الذنب العلني بأهمية أكثر من الذنب الذي يرتكب في الخفاء ، حتى أن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : «المذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور له» (٢). فالسبب هو ما ذكرنا.

وهكذا لنفس السبب يدين القرآن ـ بشدّة ـ ارتكاب الذنوب في العلن ، كإشاعة الفحشاء التي ذكرتها الآيات السابقة فارتكاب الذنوب كالنار التي تسري في الهشيم ، تأتي على المجتمع من أساسه فتنخره حتى تهدمه وتذروه ، لهذا يجب الإسراع لإطفاء هذه النار ، أو لمحاصرتها على الأقل. أمّا إذا زدنا النار لهيبا ،

__________________

(١) لهذه الجملة محذوف كما يبدو في آيات أخرى سبقت ، وتقديره «لو لا فضل الله عليكم لمسّكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم».

(٢) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، باب ستر العيوب.

٥١

ونقلناها من مكان إلى آخر ، فإنّها ستحرق الجميع ، ولا يمكن بعدئذ إطفاؤها أو السيطرة عليها.

وإضافة إلى ذلك ، فإنّه لو عظم الذنب في نظر عامّة الناس ، وتمّت المحافظة على سلامة ظاهر المجتمع من التلوث والفساد ، فإن ذلك يمنع انتشار الفاحشة بصورة مؤكدة. أمّا اشاعة الفحشاء والذنوب والتجاهر بالفسق ، فمن نشأنها أن تحطم هذا السد الحاجز للفساد. ويستصغر شأن الذنوب من قبل الناس ، ويسهل التورط فيها.

وقد جاء في حديث للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله «من أذاع فاحشة كان كمبتدئها» (١).

وجاء في حديث آخر عن محمد بن الفضيل الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : جعلت فداك الرجل من إخواني بلغني عنه الشيء الذي أكرهه فاسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال الإمام عليه‌السلام لي : «يا محمّد كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، وإن شهد عندك خمسون قسامة. وقال لك قول فصدقه وكذبهم ، ولا تذيعن عليه شيئا تشينه به وتهدم به مروءته ، فتكون من الذين قال الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٢) (٣).

وممّا يلزم ذكره أنّ لإشاعة الفحشاء صورا عديدة فتارة يكون من قبيل افتعال تهمة كاذبة ونقلها بين الناس.

واخرى يكون بإنشاء مراكز للفساد ونشر الفحشاء.

__________________

(١) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، باب القبح.

(٢) كتاب ثواب الأعمال ، حسبما ذكره تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ٥٨٢.

(٣) لهذه القضية استثناءات ، منها موضوع الشهادة في المحكمة ، أو حالات النهي عن المنكر حيث لا سبيل إلّا بكشف العمل القبيح الذي يرتكبه شخص ما والشهادة ضده.

٥٢

وثالثة بتوفير وسائل المعصية للناس ، أو تشجيعهم على ارتكاب الذنوب.

ورابعة يرتكب الذنب في العلن دون ملاحظة الدين ، ولا رعاية لقانون ولا التفات لآداب عامّة ، وكل هذه مصاديق لإشاعة الفحشاء ، لأنّ لهذه الكلمة مفهوما واسعا (فتأملوا جيدا).

٢ ـ مصيبة الشائعات

إن اختلاق ونشر الشائعة الكاذبة يودّي إلى سيطرة القلق واستبداد الاضطراب وانعدام الثقة ، وهذه من أهمّ ما ترمي إليه الحرب النفسيّة للمستعمرين بغية إثارة البلبلة ونشر الفزع ، ليتسنى لهم التّغلّب العسكريّ والسياسيّ.

فعند ما يعجز العدو عن إلحاق الضرر بصورة مباشرة ، يقوم بنشر الشائعات ، لبث الرعب والقلق في الناس ، ليشغلهم بأنفسهم ، وليحرفهم عن أهم قضاياهم حساسية ، وليتسنّى له الظهور عليهم والتمكّن منهم في كل مجال. واختلاق الشائعة من الأسلحة المخربة المستعملة ضدّ الصالحين والطيبين ، لعزلهم وإقصاء الناس عنهم.

وبحسب أسباب النّزول المعروفة بشأن الآيات موضع البحث لجأ المنافقون إلى أخسّ السبل لتلويث سمعة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحط من شأنه المقدّس لدى الناس ، باختلاق شائعة تمسّ طهارة وعفة إحدى زوجاته مستغلين في ذلك فرصة سنحت لهم ، ممّا أدى إلى تشويش أفكار المسلمين ، وإدخال الحزن إلى قلوبهم ، بحيث اضطرب الجميع. وأصاب المؤمنين القلق الشديد حتى نزل الوحي وأنقذهم من هذه الحالة ، ومرّغ أنوف المنافقين في الوحل بما اختلقوا هذه الشائعة.

وجعلهم عبرة للآخرين.

ورغم أن اختلاق الشائعة يعد نوعا من الكفاح في المجتمعات التي تسودها الدكتاتورية ويفتقد الناس فيها الحرية إلّا أن من أسبابها ودوافعها الانتقام ،

٥٣

وتصفية الحساب مع أشخاص معنيين ، وإزالة الثقة العامّة بالشخصيات الكبيرة.

وحرف الرأي العام عن القضايا الجوهرية.

ولا يهمنا أن نعلم دوافع اختلاق الشائعات ، إنّما المهم تحذير المجتمع من مغبة الوقوع في برائن الذين يختلقون الشائعات وينشرونها بين الناس ، وبذلك يدمرون المجتمع وأنفسهم بأيديهم! وأن نعلّم الناس بأن يدفنوا الشائعة في مهدها ، وإلّا فقد أدخلنا السرور إلى قلب العدو ، وعرضنا أنفسنا إلى عذاب الدنيا والآخرة كما نصت عليه الآيات السابقة.

٣ ـ استصغار الذنب

يستفاد من الآيات السابقة أنها استنكرت استصغار نشر البهتان والتهمة ، وهو خطأ فادح وجرم عظيم وفي الحقيقة إن استصغار الذنب بذاته ذنب آخر. فالذي يرتكب الذنب ويشعر بعظمة ذنبه ، ويندم على ما فعل هو الذي يؤمل فيه التوبة والجبران.

أمّا الذي يستصغر الذنب ويقول : ما أسعدني إن كان ذنبي هذا فقط فهذا الشخص يسير في طريق خطر وقد يواصل ارتكاب ذنبه ، لهذا نقرأ في حديث للإمام علي عليه‌السلام قوله : «أشد الذنوب ما استهان به صاحبه» (١).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٣٤٨.

٥٤

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦))

٥٥

التّفسير

للعقوبات حساب!

على الرغم من عدم متابعة هذه الآيات حديث الإفك بصراحة ، إلّا إنّها تعتبر مكملة لمضمون ذلك البحث ، وتحذّر المؤمنين جميعا من تأثير الأفكار الشيطانية التي تبدو أوّلا في صورة باهتة ، فلا بدّ من الانتباه إليها ، وإلّا فالنتيجة سيئة للغاية ، ولا يمكن تلافيها بسهولة فعلى هذا حينما يشعر الفرد بأوّل وسوسة شيطانية بإشاعة الفحشاء أو ارتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقوّة حاسمة ، حتى يمنع من انتشاره وتوسعه.

وتخاطب الآية الأولى المؤمنين ، فتقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (١).

وإذا فسّرنا الشيطان بأنه كل مخلوق مؤذ وفاسد ومخرّب ، يتّضح لنا شمولية هذا التحذير لأبعاد حياتنا كلها ، وحيث لا يمكن جرّ أي إنسان مؤمن متطهر مرّة واحدة إلى الفساد ، فإنّ ذلك يتمّ خطوة بعد أخرى في طريق الفساد :

الخطوة الأولى : مرافقة الملوثين والمنحرفين.

الخطوة الثّانية : المشاركة في مجالسهم.

الخطوة الثّالثة : التفكير بارتكاب الذنوب.

الخطوة الرّابعة : ارتكاب الأعمال المشتبه بها.

الخطوة الخامسة : ارتكاب الذنوب الصغيرة.

وأخيرا الابتلاء بالكبائر. وكأنّ الإنسان في هذه المرحلة يسلّم نفسه لمجرم

__________________

(١) هناك محذوف لجملة (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) وهو جواب الشرط وتقديره «ومن يتبع خطوات الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر فإنّه يأمر بهما» (روح المعاني ، المجلد الثامن عشر ، صفحة ١١٢ تفسير آخر الآيات موضع البحث) ويجب الانتباه إلى أن جملة فإنه يأمر بالفحشاء ، لا يمكن اعتبارها جوابا للشرط.

٥٦

ليقوده نحو الهاوية ، أجل هذه (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) (١).

ثمّ تشير الآية إلى أهم النعم الكبيرة التي منّ الله بها على الإنسان في هدايته فتقول : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

ولا شك في أنّ الفضل والرحمة الإلهية ينقذان الإنسان من الانحطاط والانحراف من الذنوب جميعا ، فالله منحه العقل ، ولطف به فأرسل إليه الرّسل ، ويسّر له سبل الارتقاء والاهتداء ، وأعانه على استكمال الخير. وإضافة إلى هذه المواهب شمل الله الذين تطهروا بتوفيقاته الخاصّة ، وإمداداته التي يستحقونها ، والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس.

وكما أسلفنا. مرارا ، فإنّ عبارة «من يشاء» لا تعني المشيئة دون مبرّر ، بل إنّ الله يهدي عباده الذين يسعون في نيلها ، الذين يسيرون في الطريق إلى الله ، ويجاهدون في سبيله ، فيمسك الله بيدهم ويحفظهم من وساوس الشيطان وكيده حتى يبلغهم الهدف الأسمى.

وبعبارة أخرى : إنّ الفضل والرحمة الإلهية تارة يكون لهما جانب تشريعي عن طريق الرسل عليهم‌السلام والكتب السماوية وما فيها من تعاليم إلهية وبشارات وإنذارات سماوية. وأخرى يتخذ الفضل والرحمة الإلهية جانبا تكوينيا عن طريق الإمدادات المعنوية الإلهية.

والآيات موضع البحث استهدفت القسم الثّاني ، بدليل عبارة «من يشاء» ، ويجب الانتباه إلى أن «الزكاة» و «التزكية» تعني في الأصل النمو ، والعمل من أجل النمو ، إلّا أنها وردت غالبا بمعنى التطهّر والتطهير.

ويمكن إرجاعها إلى أصل واحد ، إذ أنّ النمو والرشد لا يمكن أن يتحققا إلّا

__________________

(١) بحثنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الآية (٩٠) من سورة النحل.

٥٧

بزوال الحواجز والتطهير من المفاسد والرذائل.

وذكر عدد من المفسّرين سببا لنزول الآية الثّانية ـ من الآيات موضع البحث ـ يكشف عن تلاحمها مع الآيات السابقة ، قال : إنّ هذه الآية نزلت بشأن عدد من الصحابة أقسموا على عدم تقديم مساعدة مالية إلى الذين تورّطوا في هذه القضية وأشاعوا هذه التهمة بين الناس ، وألا يشاركوهم همومهم ، فنزلت هذه الآية لتمنعهم من ردّ فعل قاس ، وأمرتهم بالعفو والسماح.

وقد روى سبب النّزول هذا «القرطبي» في شأن نزول هذه الآيات في تفسيره عن ابن عباس والضحاك ، ورواه المرحوم «الطبرسي» عن ابن عبّاس ، ورواه آخرون لدى تفسير الآيات موضع البحث ، وهو يمتاز بعموميته.

إلّا أن مجموعة من مفسّري أهل السنة يصرّون على أن هذه الآية نزلت بخصوص «أبي بكر» حيث أقسم بعد حادث الإفك على عدم تقديم أية مساعدة مالية لـ ـ «مسطح بن أثاثة» الذي كان ابن خالته ، أو ابن أخته ، وهو الذين نشر شائعة الإفك ، في حين أنّ الضمائر التي استعملتها الآية ، جاءت بصيغة الجمع ، وتبيّن أنّ مجموعة من المسلمين اتخذوا قرارا بقطع مساعداتهم عن هؤلاء المجرمين ، إلّا أنّ هذه الآية نهتهم عن العمل.

ومن المعلوم أنّ الآيات القرآنية لا تختص بسبب النّزول فقط ، بل تشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، فهي توصي المسلمين جميعا بألّا يستسلموا لعواطفهم ، وألّا يتخذوا مواقف عنيفة إزاء أخطاء الآخرين.

نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النّزول هذا :

يقول القرآن (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عددا ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل الله إذ خدعهم المنافقون ، ولم يجز الله طردهم من المجتمع

٥٨

الإسلامي لماضيهم المجيد ، كما لم يسمح بعقابهم أكثر ممّا يستحقونه.

كلمة «يأتل» مشتقّة من «أليّة» (على وزن عطيّة) أي اليمين ، أو إنّها مشتقة من «ألو» (على وزن دلو) بمعنى التقصير والترك.

وعلى هذا ، فإنّ الآية تعني وفق المعنى الأوّل النّهي عن هذا القسم بقطع مثل هذه المساعدات (١) ، وعلى المعنى الثّاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل.

ثمّ تضيف الآية (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ).

فإنّكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم ، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

والمثير للدهشة أنّ أصحاب الإفك أدينوا بشدّة في آيات شديدة اللهجة ، إلّا أنّها تسيطر على مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحدّ في العقوبة بثلاث جمل ذات تشعشع أخّاد ، الأول : الأمر بالعفو والسماح.

ثمّ تقول : ألا تحبّون أن يغفر الله لكم؟ فينبغي عليكم أن يعفوا وتصفحوا كذلك.

ولتأكيد ذلك تذكر الآية صفتين من صفات الله «الغفور» و «الرحيم».

وهكذا تقول الآية للناس : لا يمكنكم أن تكونوا أحرص من الله الذي هو صاحب هذا الحكم ، وهو يأمركم بألّا تقطعوا مساعداتكم.

ممّا لا شك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الإفك لم يكونوا مشاركين في التآمر بهذا الصدد ، ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الإفك وتبعهم مسلمون مضلّلون.

ولا شك في أنّهم جميعا مقصّرون ومذنبون ، ولكن بين هاتين المجموعتين

__________________

(١) في هذه الحالة يجب تقدير وجود حرف «لا» قبل «يؤتوا» فيكون التقدير «ولا يأتل ... أن لا يؤتوا».

٥٩

فرق كبير ، وعلى هذا يجب أن لا يعامل الجميع سواسية.

وعلى كل حال ، ففي الآيات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم ، وتذكير لهم بأن لا يتجاوزوا الحدّ المقرّر في معاقبة المذنبين ، ولا ينبغي طردهم من المجتمع الإسلامي ، أو إغلاق باب المساعدة في وجوهم ، ذلك من أجل المحافظة عليهم كي لا يزدادوا انحرافا فيقعوا في أحضان العدو ، أو ينحازوا إلى جانبه.

وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه ، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم «قوة الدفع». وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون الله غفورا رحيما. فإنها تكشف عن «قوة الجذب»!

ثمّ تعود الآية إلى قضية القذف واتّهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن ، فتقول بشكل حازم : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

ذكرت هذه الآية المباركة ثلاث صفات لهؤلاء النسوة ، كلّ واحدة تشكل دليلا على مدى الظلم الذي تعرضن إليه باتهامهنّ في شرفهنّ : «المحصنات» أي العفيفات الطاهرات الذيل و «الغافلات» البعيدات عن كل تهمة وتلوّث و «المؤمنات» ، كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا العمل (١).

كما أنّ عبارة ـ «غافلات» تلفت النظر ، لأنّها تكشف عن منتهى طهارتهنّ من أي انحراف وتلوّث ، أي أنهن غافلات عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأنّهن لا يعلمن بوجود مثل هذا العمل فتارة يكون الإنسان في مقابل الذنب أن لا يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج وهذه مرحلة عالية من التقوى.

__________________

(١) الميزان ، تفسير الآيات موضع البحث ، المجلد ١٥ ، صفحة ١٢٢.

٦٠