الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-52-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٠٤

الآيات

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))

التّفسير

عاقبة قوم لوط :

إن قوم لوط الغارقين بالغرور والمتمادية بهم رياح الشهوة ، بدلا من أن يذعنوا لنصائح هذا القائد الإلهي ، فتدخل مواعظه في قلوبهم ويخلصوا من تلك الأمواج الرهيبة ، فإنهم نهضوا لمواجهته و (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ...)

إن كلامك يبلبل أفكارنا ، ويسلب اطمئناننا وهدوأنا ، فنحن غير مستعدين

٤٤١

حتى للإصغاء إلى كلامك ... وإذا واصلت هذا الأسلوب ولم تنته منه ، فإنّ أقل ما تجزى به هو الإبعاد والإخراج من هذه الأرض ...

ونقرأ في مكان آخر من القرآن أن قوم لوط سعوا لتنفيذ تهديدهم ، وأمروا بإخراج لوط وأهله ، فقالوا : (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

إن فعل هؤلاء الضالّين ـ بلغ بهم أن يعدوا التقوى والتطهر بينهم أكبر عيب ، وأن يفخروا بالرجس وعدم الطهارة ، وهذه هي العاقبة المشؤومة للمجتمع المسرع نحو الفساد!

ويستفاد من عبارة (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أنّ هذه الجماعة الفاسدة كانوا قد أخرجوا أناسا طاهرين من حيّهم فهدّدوا لوطا بهذا الأمر أيضا ، وهو أنه إذا لم تنته فستنال ما ناله سواك من الإبعاد والإخراج ...

وقد صرّح في بعض التفاسير أنّهم كانوا يخرجون المتطهرين من القرية بأسوأ الحال (١) ...

إلّا أنّ لوطا لم يكترث بتهديدهم ، وواصل نصحه لهم و (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ).

إنّه يريد أن يقول : سأواصل انتقادي إيّاكم ... فافعلوا ما شئتم ... فأنا لا أترك مواجهة هذه الأعمال القبيحة بالاعتراض والنقد! ...

والتعبير بـ «من القالين» يدلّ أيضا على أن جماعة كانوا مثل النّبي لوط يرفضون هذه الأعمال ويعترضون عليها ... رغم أن المنحرفين أخرجوهم من قريتهم آخر الأمر.

كلمة «القالين» جمع «قال» من مادة (قلى) أو (قلي) «على وزني حلق وشرك» ومعناها العداوة الشديدة التي تترك أثرها في قلب الإنسان ، وهذا التعبير

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ، ذيل الآيات محل البحث.

٤٤٢

يكشف عن شدّة تنفّر لوط من أعمالهم ...

والذي يسترعي النظر أن لوطا يقول : إنّي لعملكم من القالين. أي إنّني لا أعاديكم بأشخاصكم ، بل أعادي أعمالكم المخزية ، فلو ابتعدتم عن هذا العمل الشنيع فأنا محبّ لكم وغير قال لكم.

وأخيرا لم تؤثر مواعظ لوط ونصائحه في قومه ، فبدّل الفساد مجتمعهم كلّه إلى مستنقع عفن ... وتمّت الحجة عليهم بمقدار كاف ، وبلغت رسالة لوط مرحلتها النهائية ... فعليه أن يغادر هذه المنطقة العفنة ، وأن ينجّي من معه ممن استجاب دعوته ، لينزل عذاب الله على القوم الفاسقين فيهلكهم ، فسأل لوط ربّه أن يخلّصه من قومه ، فقال : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ).

وبالرغم من أنّ بعضهم احتمل أن يكون المراد من الأهل من الآية جميع من آمن به ... إلّا أن الآية (٣٦) من سورة الذاريات تقول : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

ولكن كما أشرنا من قبل ـ فإن بعض التعابير الواردة في الآيات محل البحث ، تشير إلى أن جماعة من المؤمنين به كانوا قد أبعدوا وأخرجوا من القرية ...

ويستفاد ممّا قيل ـ ضمنا ـ أن دعاء لوط لأهله لم يكن بسبب العلاقة العاطفية والارتباط النسبي القرابتي ، بل لإيمانهم به ...

فاستجاب الله دعاؤه كما تقول الآية التالية : (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ). (١)

وهذه العجوز لم تكن سوى زوج النّبي لوط التي كانت منسجمة مع أفكار قومه الضالين وعقيدتهم ، ولم تؤمن بلوط أبدا ، ولذلك ابتليت بما أبتلي به قومه من العذاب والهلاك.

__________________

(١) «الغابر» من مادة (الغبور) ومعناه الباقي ، ومتى ما تحركت جماعة وبقي شخص في المكان فإنّه يدعى (غابرا) ولهذا السبب سمي التراب الباقي غبارا ... والغبرة : الباقي من اللبن في ثدي الحيوان.

٤٤٣

وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآيات «٨١ ـ ٨٣ من سورة هود».

أجل ، لقد نجّى الله لوطا والمؤمنين القلّة معه ، فأمر أن يخرج بهم ليلا من تلك المدينة ـ أو القرية ـ فترك قومه الغارقين بالفسق والفجور على حالهم ، فنزل عذاب الله في الغداة ، فتزلزلت بهم الأرض وانهارت عليهم الأبنية والقصور الجميلة حتى أصبح عاليها سافلها وهلكوا جميعا في ديارهم ، وقد عبّر القرآن عن كان ذلك بعبارة موجزة بليغة ، فقال : (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) ولم يكف ذلك بل (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) وأيّ مطر! إنّه وابل من أحجار نزل على تلك الخرائب ليمحو أثرها من الانظار. (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ...)!

والأمطار عادة تمنح الحياة ، إلّا أن هذا المطر كان موحشا مهلكا مخرّبا ...

ويستفاد من الآية (٨٢) من سورة هود أن قرى قوم لوط ومدنهم قلب عاليها سافلها أوّلا ، ثمّ أمطرت بالحجر النضيد المتراكم ، ولعله كان إمطارهم بالحجارة لمحوا آثارهم ، فلم يبق منها غير تل كبير من الأحجار والتراب بدل تلك المدن العامرة ...

ترى هل كانت هذه الأحجار قد حملت من الصحارى على أثر اعصار عظيم وسقطت على رؤوسهم؟ أو هي أحجار نزلت من السماء بأمر من الله عليهم؟!

أو كما يقول بعض المفسّرين كان هناك بركان أو جبل نار قد خمد لفترة ، ثمّ انفجر بأمر الله فأمطرهم بالحجارة ، ليس ذلك معلوما على نحو الدقّة! إلّا أن من المسلّم به أنّ هذه الأحجار ـ أو هذا المطر المهلك ـ لم يترك للحياة في تلك الأرض من أثر!

«وتفصيل هذا الموضوع ذكرناه في ذيل الآيات ٨١ ـ ٨٣ من سورة هود ، كما ذكرناه في الجزء الثامن مع «لطائف» مختلفة فلا بأس بمراجعتها» ...

ومرّة أخرى نواجه في نهاية هذه القصّة الجملتين اللتين تكررتا في القصص المشابهة لها في هذه السورة ، في شأن خمسة أنبياء كرام آخرين ، إذ يقول القرآن :

٤٤٤

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

وأيّة آية أجلى من هذه الآية التي تعرفكم على هذه المسائل المهمّة والبناءة ، دون أن تحتاجوا إلى تجربة شخصية! أجل إن تاريخ الماضين عبرة وآية للآتين ، وليس تجربة ، لأنّ التجربة ينبغي على الإنسان أن يتحمل فيها خسائر ليحصل على نتائجها ... إلّا أنّنا هنا نحصل على النتائج من خسائر الآخرين!.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

وأية رحمة أعظم من أنّه لا يعاقب أقواما فاسقين كقوم لوط فورا ، بل يمهلهم إمهالا كافيا لعلهم يهتدون ، ويجددوا نظرهم في أعمالهم! ...

وأية رحمة أعظم من أن لا يخلط عقابه «الأخضر باليابس» بل لو كان في ألف ألف(١) أسرة غير صالحة أسرة واحدة صالحة ، فإنه ينجيها منها وينزل العذاب على أولئك!

وأية عزّة أعظم من أن ترى بطرفة عين واحدة ديار الفاسقين قد دمرت تدميرا ولم يبق منها أي أثر!

فالأرض التي كانت مهادا لأمنهم أمرت بإقبارهم ، والمطر الذي تحيا به الأرض والناس يكون مميتا لهم!

* * *

__________________

(١) ذكرنا آنفا أن مصطلح ألف ألف هو التعبير العربي الصحيح وأن كلمة مليون ليست عربيّة بل هي غربية فتأمل.

٤٤٥

الآيات

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤))

التّفسير

شعيب وأصحاب الأيكة :

هذه هي القصّة السابعة ، والحلقة الأخيرة من قصص الأنبياء الواردة في هذه السورة ... وهي قصة «شعيب» عليه‌السلام وقومه المعاندين.

كان هذا النّبي يقطن في «مدين» ، «وهي مدينة تقع جنوب الشامات».

و «أيكة» على وزن (ليلة) «قرية أو أرض معمورة على مقربة من مدين».

٤٤٦

والآية (٧٩) من سورة الحجر تدل على أن «أيكة» كانت تقع في طريق أهل الحجاز إلى الشام.

تقول الآية الأولى من الآيات محل البحث : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ).

إنّهم لم يكذبوا نبيّهم شعيبا فحسب ، بل كذبوا جميع الأنبياء ، لأنّ دعوتهم واحدة ...أو لأنّهم لم يصدقوا ويقبلوا بأيّ رسالة سماوية أبدا ...

والأيكة معناها في الأصل محل مكتظ بالأشجار ، وهي هنا إشارة إلى منطقة تقع على مقربة من «مدين» ، سمّيت بذلك لأن فيها أشجارا كثيرة وماء وظلالا! ...

والقرائن تشير إلى أنّهم كانوا منعّمين مترفين ذوي حياة مرفهة وثروة كثيرة ، وربّما كانوا لهذه الأمور غرقى الغرور والغفلة! ...

ثمّ يتحدث القرآن إجمالا عن شعيب عليه‌السلام وعنهم فيقول : (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ).

وفي الحقيقة فإن دعوة شعيب عليه‌السلام انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر الأنبياء ، وهي التقوى ومخافة الله التي تعدّ أساس المناهج الإصلاحية والتغييرات الأخلاقية والاجتماعية جمعاء ...

والجدير بالذكر أن التعبير «أخوهم» الوارد في قصص صالح وهود ونوح ولوط عليهم‌السلام ، لم يلاحظ هنا. ولعل منشأ ذلك يعود إلى أن «شعيبا» كان من أهل مدين أصلا ـ وتربطه باهلها روابط نسبية ، وليس كذلك مع اصحاب الأيكة ... ولذلك نرى في سورة هود حين يشير القرآن إلى إرسال «شعيب» إلى قومه من أهل مدين يقول : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) إلّا أن الآية محل البحث لما كانت تتحدث عن أصحاب الأيكة ، وشعيب عليه‌السلام لا تربطه رابطة نسبية بهم لم تذكر التعبير «أخاهم» ...

ثمّ أضاف شعيب قائلا : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فطاعتكم

٤٤٧

لي طاعة لله.

واعلموا أنّي أبتغي ثوابه ووجهه (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ).

وهذه التعابير هي التعابير ذاتها التي دعا بها سائر الأنبياء أممهم ، فهي متحدة المآل ومدروسة ، إذ تدعو إلى التقوى ، وتؤكّد على سابقة أمانة النّبي بين قومه ، كما أنّها تؤكّد على أن الهدف من الدعوة إلى الله معنوي فحسب ، وليس ورائها هدف مادي ، ولا يطمع أيّ من الأنبياء بما في يد الآخرين ، ليكون مثارا للشكوك وذريعة للمتذرعين!

و «شعيب» كسائر الأنبياء الذين ورد جانب من تأريخ حياتهم في هذه السورة ، فهو يدعو قومه بعد الدعوة العامّة للتقوى وطاعة الله ، إلى إصلاح انحرافاتهم الأخلاقية والاجتماعية وينتقدهم على هذه الانحرافات ، وحيث أن أهم انحراف عند قومه كان الاضطراب الاقتصادي ، والاستثمار والظلم الفاحش في الأثمان والسلع ، والتطفيف في الكيل ، لذلك فقد اهتم بهذه المسائل أكثر من غيرها ، وقال لهم : (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ (١) الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

وفي هذه الآيات الأخيرة الثلاث يأمر شعيب هؤلاء القوم الضالين بخمسة أوامر في عبارات موجزة ، ويتصور بعض المفسّرين أن هذه العبارات بعضها يؤكّد بعضا ، إلّا أن التدقيق فيها يدلّ على أن هذه الأوامر الخمسة في الواقع تشير إلى خمسة مطالب أساسية ومختلفة ، أو بتعبير آخر : هي أربعة أوامر ونتيجة كليّة! ...

ولكي يتّضح هذه الاختلاف أو التفاوت ، فإنه يلزم الالتفات إلى هذه

__________________

(١) «القسطاس» ، «على وزن نسناس» معناه «ميزان» ... قال بعضهم : أصل هذه الكلمة روميّة ، وقال بعضهم. بل هي عربية ، ويعتقد بعضهم أن القسطاس ميزان كبير ، أما الميزان نفسه المستعمل في لغة العرب فهو الصغير ، وقالوا : إن للقسطاس مؤشرا ولسانا فهو لذلك دقيق الوزن! ...

٤٤٨

الحقيقة ... وهي أن قوم شعيب (أهل مدين وأصحاب الأيكة) كانوا مستقرين في منطقة حساسة تجارية ، وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام ، أو العائدة من الشام إلى الحجاز ، ومن مناطق أخر.

ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في أثناء الطريق إلى أمور كثيرة ...

وطالما يسيء أهل المنطقة الاستفادة من هذه الحالة ، فهم يستغلونها فيشترون بضائعهم بأبخس ثمن ... ويبيعون عليهم المستلزمات بأعلى ثمن «وينبغي الالتفات إلى أن أكثر المعاملات في ذلك الحين كانت قائمة على أساس المعاوضة سلعة بسلعة» ...

وربما تذرعوا عند شراء البضاعة بأن فيها عدة عيوب ، وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عرّفوها بأحسن التعاريف ، وعند ما يزنون لأنفسهم يستوفون الوزن ، وإذا كالوا الآخرين أو وزنوا لهم لا يهتمون بالميزان الصحيح والإستيفاء السليم ، وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه الأمور على كل حال ومضطر إليها ، فلا بدله من أن يقبلها ويسكت عليها! ...

وبغض النظر عن القوافل التي تمرّ عليهم ، فإنّ أهل المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل ببضائعهم مع هؤلاء المطففين ، وليسوا بأحسن حظا من أصحاب القوافل أيضا.

فقيمة المتاع سواء كان الجنس يراد بيعه أو شراؤه تتعين بحسب رغبة الكسبة هؤلاء. والوزن والمكيال على كل حال بأيديهم ، فهذا المسكين المستضعف عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد غاسله!

ومع ملاحظة ما ذكرناه آنفا ، نعود الآن إلى تعابير الآيات المختلفة ... فتارة يقول شعيب لقومه : أوفوا الكيل ، وفي مكان آخر يقول : زنوا بالقسطاس المستقيم ، ونعرف أن تقويم الأجناس والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن ، فهو يشير الى كل واحد منهما ويهتم به اهتماما خاصا ... لمزيد التأكيد على أن لا يبخسوا الناس

٤٤٩

أشياءهم ...

ثمّ إنّ التطفيف أن بخس الناس له طرق شتى ، فتارة يكون الميزان صحيحا إلّا صاحبه لا يؤدي حقه ، وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان ... فهو يغش صاحبه بما فيه من عيب ، وقد جاءت الإشارات في الآيات الآنفة إلى جميع هذه الأمور.

وبعد اتضاح هذين التعبيرين (أَوْفُوا الْكَيْلَ ... وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ) نأتي الى معنى (لا تبخسوا) المأخوذة من «البخس» ، وهو في الأصل النقص ظلما من حقوق الناس ... وقد يأتي أحيانا بمعنى الغش أو التلاعب المنتهي إلى تضييع حقوق الآخرين ... فبناء على ما تقدم ، فإن الجملة الآنفة (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل ، والتلاعب في المعاملات ، وغمط حقوق الآخرين!

وأمّا جملة (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) فمع ملاحظة أن «المخسر» هو من يوقع الآخر أو الشيء في الخسران ... فمعناه واسع أيضا ، إذ يشمل بالإضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن يكون سببا للخسارة وإيذاء الطرف الآخر في المعاملة!

وهكذا فإنّ جميع ما ذكر من الاستغلال وسوء الاستفادة والظلم ، والمخالفة في المعاملة والغش والإخسار ، سواء كان ذلك في الكمية أو الكيفية ، كله داخل في التعليمات آنفة الذكر ...

وحيث أن الاضطراب الاقتصادي ، أو الأزمة الاقتصادية ، أساس لاضطراب المجتمع ، فإنّ شعيبا يختتم هذه التعليمات بعنوان جامع فيقول : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). فتجرّوا المجتمع الى هاوية الفساد والانحطاط ، فعليكم أن تضعوا حدّا لأي نوع من الاستثمار والعدوان وتضييع حقوق الآخرين.

وهذه التعليمات ليست بناءة للمجتمع الثري الظالم في عصر شعيب فحسب ،

٤٥٠

بل هي بناءة ونافعة لكل عصر وزمان ، وداعية إلى العدالة الاقتصادية! ...

ثمّ إن «شعيبا» في آخر تعليماته ـ في هذا القسم ـ يدعوهم مرد اخرى إلى تقوى الله فيقول : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ).

فلستم أول قوم أو جماعة خلقوا على هذه الأرض ، فآباؤكم والأمم الأخرى جاءوا وذهبوا ، فلا تنسوا ماضيهم وما تقبلون عليه ...

(الجبلة) مأخوذة من (الجبل) وهو معروف «ما ارتفع من الأرض كثيرا» ويسمى الطود أحيانا ... فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في العظمة ...

قال بعضهم : الجبلة مقدار عددها عشرة آلاف!

كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة الإنسانية ، لأنّها لا تتغير ، كما أن الجبل لا يتغيّر عادة ...

والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أن شعيبا يقول : إنّما أدعوكم إلى ترك الظلم والفساد ، وأداء حقوق الناس ورعاية العدل ، لأنّ ذلك موجود في داخل الفطرة الإنسانية منذ الخلق الأوّل ، وأنا جئتكم لإحياء هذه الفطرة ...

إلّا أنّه ـ وللأسف ـ لم تؤثر كلمات هذا النّبي المشفق ، فأجابوه بمنطق «مرّ وفظ» سنقرؤه في الآيات المقبلة ...

* * *

٤٥١

الآيات

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١))

التّفسير

عاقبة الحمقى :

لما رأى قوم شعيب الظالمون ـ أنّهم لا يملكون دليلا ليواجهوا به منطقه المتين ... ومن أجل أن يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم ، رشقوه بسيل من التهم والأكاذيب.

فالتهمة الأولى هي ما يلصقها الجبابرة دائما والمجرمون بالأنبياء ، وهي

٤٥٢

السحر فاتّهموه بها و (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) (١) ولا يرى في كلامك ما هو منطقي!! وتظن أنّك بهذا الكلام تستطيع تقييد حريتنا في التصرف في أموالنا كما نشاء!!

ثمّ ما الفارق بينك وبيننا لنتّبعك؟! ولا مزيّة لك علينا (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ).

وبعد إلقاء هذا الكلام المتناقض ، إذ تارة يدعونه (من الكاذبين) ورجلا انتهازيا ، وتارة يدعونه مجنونا أو من المسحّرين ، وكان كلامهم الأخير هو : إن كنت نبيّا (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) حيث كنت تهددنا دائما بهذا اللون من العذاب.

و «كسف» على وزن (فرق) جمع (كسفة) على وزن (قطعة) ومعناها قطعة أيضا والمراد من هذه «القطع من السماء» هي قطع الأحجار التي تهوي من السماء ...

وهكذا يبلغ بهم صلفهم ووقاحتهم وعدم حيائهم إلى هذه الدرجة ، وأظهروا كفرهم وتكذيبهم في أسوأ الصور.

إلّا أن شعيبا عليه‌السلام ، وهو يواجه هذه التعبيرات غير الموزونة والكلمات القبيحة وطلبهم عذاب الله ، كان جوابه الوحيد لهم أن (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ ...)

ويشير إلى أنّ الأمر خارج عن يدي ، وأن إنزال العذاب وإسقاط الكسف من السماء غير مخول بها ليطلب كل ذلك منّي ... فالله يعرف أعمالكم ويعلم بها ، وما أنتم أهل له ، فمتى لم تنفع المواعظ وتمّت الحجّة اللازمة ، فإنّ عذابه لا مرد له وسيقطع دابركم لا محالة! ...

وهذا التعبير وأمثاله ممّا يرد على لسان الأنبياء ، وما نلاحظه في آيات

__________________

(١) «المسحّر» كما أشرنا من قبل إليه ، هو المسحور ... أو الذي يقع عليه السحر من قبل السحرة ، لينفذوا في عقله ويبطلوا عمله!!

٤٥٣

القرآن يدل على أنّهم كانوا يوكلون جميع الأمور إلى الله ، وإنّها بإذنه وأمره ، ولم يدّعوا أنّهم قادرون على كل شيء ، أو أنّهم يفعلون ما يشاءون!.

وعلى كل حال فإن عذاب الله أزف موعده ـ وكما يعبر القرآن عنه في الآية التالية قائلا : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

«الظلة» في الأصل معناها القطعة من السحاب المظلّل : أي ذي الظل ...

يقول أغلب المفسّرين في ذيل هذه الآية : إن حرّا شديدا محرقا حلّ في أرضهم سبعة أيّام ، ولم يهب نسيم بارد مطلقا ، فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء ـ بعد السبعة أيّام ـ وتحرك نسيم عليل فخرجوا من بيوتهم ، واستظلّوا تحت السحاب من شدّة الحرّ.

وفجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل ، وأحرقتهم بنارها وزلزلت الأرض وهلكوا جميعا.

ونعرف أن الصاعقة تنتج عن تلاقح القوى أو «الطاقة» الموجبة والسابقة ، أو ما يعبر عنها بالشحنات الكهربائية وحين تتلاقح هذه الشحنات بين السحاب والأرض ينتج عنها صوت مرعب وشعلة موحشة ، وقد تهتز الأرض عند وقوعها فيتزلزل محل سقوطها ... وهكذا يتّضح أن اختلاف التعابير في آيات القرآن الواردة عن عذاب قوم شعيب ، يعود إلى حقيقة واحدة! ففي سورة الأعراف جاء التعبير بالرجفة (الآية (٩١) وفي سورة هود جاء التعبير بالصيحة (الآية ٩٤) أمّا في الآيات محل البحث فقد جاء التعبير بـ (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ...)

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين «كالقرطبي والفخر الرازي وغيرهم» يحتمل أن أصحاب الأيكة وأهل مدين كانوا جماعتين أو طائفتين ، وكل طائفة نزل عليهم عذاب خاص ، إلّا أنه مع ملاحظة هذه الآيات المتعلقة بهذا القسم ـ بدقة ـ يتجلّى أن هذا الاحتمال غير وارد! ...

وتختتم القصّة هذه بما ختمت القصص الست السابقة عن أنبياء الله الكرام ، إذ

٤٥٤

يقول القرآن : إن في حكاية أصحاب الايكة ودعوة نبيّهم شعيب وعنادهم وتكذيبهم ، وبالتالي نزول العذاب على هؤلاء المتكبرين درس وعبرة لمن اعتبر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

ومع ذلك كله فإن الله رحيم ودود يمهلهم لعلهم يرجعون ويصلحون أنفسهم ، فإذا تمادوا في الغي واستوجبوا عذاب الله ، أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

أجل (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

* * *

بحوث

١ ـ الانسجام التام في دعوات الأنبياء

في ختام قصص هؤلاء الأنبياء السبعة نجد أن هذه القصص تشكّل حلقة كاملة من حيث الدروس التربوية ... وينبغي أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة» (١) وهي أن قصص هؤلاء الأنبياء جميعا جاءت في سور أخر من القرآن أيضا. إلّا أنها لم تعرض بهذا العرض بحيث نجد أن بداية دعوتهم منسجمة ، كما أنّ نهاياتها منسجمة أيضا.

ولوحظ في خمسة أقسام من هذه القصص أن محتوى الدعوة هو تقوى الله ، ثمّ الإشارة إلى أمانة النّبي ، وعدم مطالبته قومه بالأجر على تبليغه إيّاهم ... وبعد هذه المسائل تعالج المسائل الاجتماعية ، والانحرافات الأخلاقية ، من قبل الأنبياء بلغة تنمّ عن الإشفاق والمحبة ...

ثمّ يبيّن القرآن ردّ فعل الأمم المنحرفة تجاه أنبيائهم ، وأخيرا عاقبتهم الوخيمة ، ويذكر عذاب كل منهم وكيفيته ...

__________________

(١) اللطيفة ، ممّا لطف ودقّ وهي الشيء الخفي الذي يحتاج إلى دقة لإدراكه. (المصحح).

٤٥٥

وفي نهاية كل من هذه القصص السبع يشير القرآن إلى أن في ذلك آية وأن أكثرهم لا يؤمنون ...

ثمّ يؤكّد القرآن أيضا في نهاية كل قصّة منها على قدرة الله (وعزته) ورحمته.

وهذا الانسجام ـ قبل كل شيء ـ يدلّ على تجلي مفهوم وحدة دعوات الأنبياء ، بحيث كانوا ذوي منهج واحد وبداية واحدة ونهاية واحدة ... وجميعهم كانوا معلمي مدارس الإنسانية ... وبالرغم من أنّ محتوى هذه المدارس كان ينبغي أن يتغيّر بتقدم الزمن والمجتمع الإنساني ، إلّا أنّ الأصول والنتائج تبقى على حالها.

ثمّ بعد هذا كله ، فإن هذه القصص كانت تسرّي عن قلب النّبي والمؤمنين القلّة في ذلك العصر (والمؤمنون في كل عصر) وتسلّي خاطرهم ، لئلا يحزنوا وييأسوا من كثرة المشركين والأعداء الضالين ، وأن يثقوا ويتوقعوا العاقبة لهم ... وأن يكون أملهم بذلك كبيرا ...

كما أن ذلك إنذار للجبابرة والمستكبرين والظالين ـ في كل عصر وزمان ـ لئلا يتصوروا بأنّ عذاب الله بعيد عنهم ... العذاب بأنواعه كالزلزلة والصاعقة ، والطوفان والبركان ... وانشقاق الأرض والخسف ، والأمطار الغزيرة التي تعقبها السيول المدمّرة ، والإنسان المعاصر ضعيف أمامها كضعف الإنسان الغابر ... لأن الإنسان المعاصر ـ بالرغم من جميع قواه وتقدمه الصناعي عاجز أمام الطوفان والصاعقة والزلزلة ... ويبقى ضعيفا لا حول له ولا طول! ...

كل ذلك من أجل أن الهدف من قصص القرآن هو تكامل الناس وبلوغهم الرشد ، والهدف تنوير القلوب ومعالجة الهوى بالتعقّل ... وأخيرا فإنّ الهدف هو مواجهة الظلم والانحراف ...

٤٥٦

٢ ـ التقوى ، بداية دعوة الأنبياء جميعا :

ممّا يلفت النظر أن قسما مهما من قصص هؤلاء الأنبياء ـ الوارد ذكرهم في سورة الشعراء ـ ذكر في سورة هود والأعراف ، إلّا أن في بداية ذكرهم وبيان سيرتهم في اقوامهم الدعوة إلى وحدانية الله ـ عادة ـ ويبتدأ في تلك السور عند ذكرهم. بجملة (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)!

إلّا أنّه في هذه السورة (الشعراء) ـ كما لاحظنا ـ كانت بداية دعوتهم قومهم (أَلا تَتَّقُونَ ...) والحق أنّهما تعودان إلى نتيجة واحدة ... لأنّه إذا لم توجد في الإنسان أدنى مراتب التقوى ، وهي طلب الحق ، فإنه لا يؤثر فيه شيء ، لا الدعوة إلى التوحيد ولا غيرها ... لذا فإنّنا نقرأ في بداية سورة البقرة قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

وبالطبع فإنّ التقوى لها مراحل ـ أو مراتب ـ وكل مرتبة هي درجة للرقي إلى المرحلة التالية أو المرتبة الأخرى ...

كما نلاحظ اختلافا آخر بين هذه السورة وسورتي الأعراف وهود ، ففي سورتي الأعراف وهود كانت دعوة الأنبياء تتركز على نبذ الأصنام ، أمّا المسائل الأخر فكانت تحت الشعاع ، إلّا أنه في سورة الشعراء هذه تتركز الدعوة على مكافحة الانحرافات الأخلاقية والاجتماعية ، كالمفاخرة وطلب الاستعلاء ، والإسراف ، والانحراف الجنسي ، والاستثمار والتطفيف. إلخ ... وهذا الأمر يكشف بأن تكرار هذه القصص في القرآن له حساب خاص ، ولكلّ هدف معين يعرف من السياق!

٣ ـ الانحرافات الاخلاقية

ممّا يلفت النظر أنّ الأقوام المذكورين في هذه السورة ، بالإضافة إلى انحرافهم عن أصل التوحيد نحو الشرك وعبادة الأوثان ، الذي يعدّ أصلا مشتركا

٤٥٧

بينهم ، فإنهم كانوا متورطين بانحرافات أخلاقية واجتماعية خاصّة «وكل قوم لهم انحرافات خاصّة» ...

فبعضهم كانوا أهل مفاخرة وتكبر ... كقوم هود عليه‌السلام.

وبعضهم كانوا أهل إسراف وترف كقوم صالح عليه‌السلام.

وبعضهم كانوا مبتلين بالانحراف الجنسي كقوم لوط عليه‌السلام.

وبعضهم كانوا عبدة المال بحيث كانوا يتلاعبون بالمعاملات كقوم شعيب عليه‌السلام.

وبعضهم كانوا مغرورين بالثروة كقوم نوح عليه‌السلام.

إلّا أن عقابهم كان متشابها إلى حدّ ما ، وكانت نهايتهم الهلاك ...

فبعضهم أهلكوا بالصاعقة والزلزلة كقوم شعيب وقوم لوط وقوم صالح وقوم هود.

وبعضهم أهلكوا بالطوفان كقوم نوح عليه‌السلام.

وفي الحقيقة ، فإن الأرض التي هي مهد للدعة والاطمئنان ، وكانوا يمرحون عليها ، أمرت بإهلاكهم! ...

والماء والهواء الذين هما سببا حياتهم نفذا الأمر بإماتتهم!

وما أعجب أن تكون حياة الإنسان في قلب الموت ، وموته في قلب الحياة ، وهو مع كل ذلك غافل مغرور!

* * *

٤٥٨

الآيات

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧))

التّفسير

عظمة القرآن في كتب «السابقين». (١)

بعد بيان سبع قصص عن الأنبياء السابقين ، والعبر الكامنة في تأريخ حياتهم ، يعود القرآن مرة أخرى إلى البحث الذي شرعت به السورة ، بحث عظمة القرآن وحقانية هذا الكلام الإلهي المبين ، إذ يقول : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وأساسا فإن بيان جوانب مختلفة عن سير الأنبياء السابقين بهذه الدقة والظرافة ، والخو من أي نوع من الخرافات والأساطير الكاذبة ، وفي محيط مليء بالأساطير والخرافات ، ومن قبل إنسان لا يعرف القراءة والكتابة ، أو لم يسبق له

__________________

(١) كلمة «السابقين» نعت ومنعوته محذوف وتقديره الأنبياء (المصحح).

٤٥٩

أن تعلمهما ... كل ذلك بنفسه دليل على أن هذا الكتاب تنزيل من ربّ العالمين ، وهذا نفسه دليل على إعجاز القرآن!!

لذلك تضيف الآية التالية قائلة : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ).

ولو كان القرآن لم ينزله ملك الوحي «الروح الأمين من قبل الله» لم يكن بهذا الإشراق والصفاء والخلو من الخرافات والأساطير والأباطيل ...

وممّا يلفت النظر أن ملك الوحي وصف بوصفين في الآية : الأوّل أنّه الروح ، والوصف الثّاني أنّه الأمين ...

فالروح هي أساس الحياة ، والأمانة ، هي شرط أصيل في الهداية والقيادة! ...

أجل ، إن هذا الروح الأمين نزل بالقرآن (عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). (١) فالهدف هو أن تنذر الناس ، وأن تحذرهم من مغبة الانحراف عن التوحيد ، ليحذروا من سوء العاقبة ... إن الهدف من بيان تأريخ السالفين لم يكن مجرّد شرفا فكريا ولملء الفراغ ، بل إيجاد الإحساس بالمسؤولية واليقظة ، والهدف هو التربية وبناء شخصية الإنسان! ...

ولئلا تبقى حجّة لأحد ولا عذر ، فإنّ القرآن أنزل (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ...)

فهذا القرآن نازل بلسان عربي فصيح ، خال من الإبهام ، للإنذار والإيقاظ ، ولا سيما أنه نزل في محيط يتذرع أهله بالحجج الواهية ، نزل بليغا واضحا ...

هذا اللسان العربي هو أكمل الألسنة واللغات وأغناها أدبا ومقاما ...

والجدير بالذكر أن أحد معاني «عربي» هو ذو الفصاحة والبلاغة ـ بقطع النظر عن كيفية اللسان ، وكما يقول الراغب في المفردات : العربي : الفصيح البيّن من الكلام ...

وفي هذه الصورة فإنه ليس المعوّل على لسان العرب ، بل الأساس صراحة

__________________

(١) واضح ـ هنا ـ أن المراد من القلب هو روح النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا القلب الذي يعدّ مضخّة للدم ... وانتخاب هذا التعبير إشارة إلى أنّك يا رسول الله استوعبت القرآن بروحك وقلبك ، وهذه المعجزة السماوية مقرّها قلبك.

٤٦٠