الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-52-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٠٤

فقال : ما هذه؟ فقالوا له أصحابه : هذا الرجل من الأنصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه وصنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب به وبالاعراض عنه ، فشكى ذلك إلى أصحابه وقال : والله إليّ لأنكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أدرى ما حدث فيّ وما صنعت؟

قالوا : خرج رسول الله فرأى قبّتك فقال : لمن هذه؟ فأخبرناه ، فرجع الى قبّته فسواها بالأرض ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم فلم ير القبة فقال : ما فعلت القبة التي كانت ها هنا قالوا : شكى إلينا صاحبها انحراصل عنه فأخبرناه فهدمها فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن كلّ ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة ، إلّا ما لا بدّ منه». (١)

ويعرف من هذه الرّواية وما شابهها من الرّوايات نظر الإسلام بجلاء ، فكل بناء «طاغوتي» مشيد بالإسراف والبذخ ومستوجب للغفلة ... يمقته الإسلام ، ويكره للمسلمين أن يبنوا مثل هذه الأبنية التي يبنيها المستكبرون المغرورون الغافلون عن الله ، ولا سيما في محيط يسكن فيه المحرومون والمستضعفون ...

إلّا أن ما ينبغي التنويه به ، أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستعمل القوة للوصول إلى هذا الهدف الإنساني أبدا ، ولم يأمر بتخريب البناء ، بل استطاع أن يحقق هدفه برد فعل لطيف كالإعراض وعدم الاهتمام بالبناء مثلا! ...

ثمّ ينتقد النّبي «هود» قومه على قسوتهم وبطشهم عند النزاع والجدال فيقول : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ).

فمن الممكن أن يعمل الإنسان عملا يستوجب العقوبة ، إلّا أنّه لا يصح تجاوز الحد والانحراف عن جادة الحق والعدل عند محاسبته ومعاقبته ، وأن يعامل ذو الجرم الصغير معاملة ذي الجرم الكبير ... وأن تسفك الدماء عند الغضب ويقع التماصع بالسيف (٢) ، فذلك ما كان يلجأ إليه الجبابرة والظلمة والطغاة آنئذ ...

__________________

(١) مجمع البيان : ذيل الآية محل البحث ، نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٦٣.

(٢) التماصع ، التطاحن والقتال. (المصحح).

٤٢١

ويرى الراغب في المفردات أن «البطش» على زنة (نقش) هو أخذ الشيء بقوّة وقسّوة واستعلاء ...

وفي الحقيقة أن هودا يوبخ عبدة الدنيا عن طرق ثلاثة :

الأوّل : علاماتهم التي كانت مظهرا لحبّ الاستعلاء وحب الذات ، والتي كانت تبنى على المرتفعات العالية ليفخروا بها على سواهم.

ثمّ يوبخهم على مصانعهم وقصورهم المحكمة ، التي تجرهم إلى الغفلة عن الله ، وإن الدنيا دار ممر لا مقر.

وأخيرا فإنّه ينتقدهم في تجاوزهم الحدّ والبطش عند الانتقام ...

والقدر الجامع بين هذه الأمور الثلاثة هو الإحساس بالاستعلاء وحبّ البقاء. ويدلّ هذا الأمر على أن عشق الدنيا كان قد همين عليهم ، وأغفلهم عن ذكر الله حتى ادعو الألوهية ... فهم بأعمالهم هذه يؤكّدون هذه الحقيقة ، وهي أن «حب الدنيا رأس كل خطيئة». (١)

والقسم الثّالث من حديث هود ممّا بيّنه لقومه ، هو ذكر نعم الله على عباده ليحرك فيهم ـ عن هذا الطريق ـ الإحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو الله ...

وفي هذا الصدد يتبع النّبي هود أسلوبي الإجمال والتفصيل ، وهما مؤثران في كثير من الأبحاث ، فيلتفت نحوهم أولا فيقول : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ). (٢)

وبعد هذا التعبير المجمل يذكر تفصيل نعم الله عليهم ، فيقول : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ ...)

فمن جهة وفّر لكم الأمور المادية ، وكان القسم المهم منها ـ خاصّة في ذلك

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ذيل الآية محل البحث.

(٢) (أمدّ) مأخوذ من «الإمداد» ، ويطلق في الأصل على أمور توضع بعضها بعد بعض بشكل منظم ، وحيث أن الله يرسل نعمه بشكل منظم إلى عباده استعملت هذه الكلمة هنا أيضا ...

٤٢٢

العصر ـ الأنعام والمطايا من النياق وغيرها. ومن جهة أخرى وفّر لكم القوّة الكافية وهي «الأبناء» للحفاظ على الأنعام وتدجينها ...

وهذا التعبير تكرر في آيات مختلفة ، فعند عدّ النعم المادية تذكر الأموال أولا ثمّ الأبناء ثانيا ، وهم الحفظة للأموال ومنمّوها ، ويبدو أن هذا ترتيب طبيعي ، لا أن الأموال أهم من الأبناء ... إذ نقرأ في الآية (٦) من سورة الإسراء (... وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ...)

ثمّ يضيف بعد ذلك : (وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

وهكذا فقد وفر الله لكم سبل الحياة جميعا ، من حيث الأبناء أو القوّة الإنسانية ، والزراعة والتدجين ووسائل الحمل والنقل ، بشكل لا يحس الإنسان معه بأي نقص أو قلق في حياته!.

لكن ما الذي حدث حتى نسيتم واهب هذه النعم جميعا ، وأنتم تجلسون على مائدته ليل نهار ، ولا تعرفون قدره؟!

وأخيرا ، فإنّ هودا في آخر مقطع من حديثه مع قومه ينذرهم ويهددهم بسوء الحساب وعقاب الله لهم ، فيقول : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ...)

ذلك اليوم الذي ترون فيه نتائج أعمالكم وظلمكم وغروركم واستكباركم ، وحب الذات وترك عبادة الله ... ترون كل ذلك بأم أعينكم.

وعادة ـ يستعمل لفظ (اليوم العظيم) في القرآن ، ويراد منه يوم القيامة العظيم من كل وجه ... إلّا أنّه قد يستعمل في القرآن في اليوم الصعب الموحش المؤلم على الأمم ...

كما نقرأ في هذه السورة في قصة «شعيب» ، أن قومه بعد أن جحدوه ولم يؤمنوا به وعاندوه واستهزءوا به ، أرسل الله عليهم صاعقة «وكانت قطعة من الغيم» فعاقبهم بها ، فسمّي ذلك اليوم باليوم العظيم ، كما تقول الآية : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

٤٢٣

فبناء على هذا قد يكون التعبير بـ «يوم عظيم» في الآية محل البحث ، إشارة إلى اليوم الذي ابتلي به المعاندون من قوم هود (عاد) بالعذاب الأليم وهو الاعصار المدمر ، وسيتجلى الشاهد على هذا المعنى في الآيات المقبلة ...

كما يمكن أن يكون إشارة إلى يوم القيامة وعذابه ... أو إلى العذابين معا ، فيوم الاعصار يوم عظيم ، ويوم القيامة يوم عظيم أيضا ...

* * *

٤٢٤

الآيات

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠))

التّفسير

لا تتعب نفسك في نصحنا :

رأينا في الآيات المتقدمة أحاديث النّبي هود المحترق القلب شفقة لقومه المعاندين «عاد» وما حملته هذه الأحاديث من معان غريزة سامية ... والآن ينبغي أن نعرف جواب قومه الجارح وغير المنطقي ولا المعقول ، يقول القرآن في هذا الصدد (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) فلن يؤثر ذلك فينا ، فلا تتعب نفسك.

أمّا اعتراضك علينا بهذه الأمور فلا محل له من الاعراب (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ).

وليس الأمر كما تقول ، فإنّه لا شيء بعد الموت (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لا في هذا

٤٢٥

العالم ، ولا في العالم الآخر.

و «الخلق» ـ بضم الخاء واللام ـ معناه العادة والسلوك والأخلاق لأن هذه الكلمة جاءت بصيغة الإفراد بمعنى الطبع والسجيّة والعادة الأخلاقية ... وهي هنا إشارة إلى الأعمال التي كانت تصدر منهم كعبادة الأصنام ، وبناء القصور العالية الجميلة ، وحب الذات ، والتفاخر عن طريق تشييد الأبراج على النقاط المرتفعة ، وكذلك البطش عند الانتقام أو الجزاء ... أي إن ما نقوم به من أعمال هو ما كان يقوم به السلف فلا مجال للاعتراض والانتقاد! ...

وفسّر «الخلق» بعضهم بالكذب ، أي إنّ ما تقوله في شأن الله والقيامة كلام باطل قيل من قبل (إلّا أن هذا التّفسير إنّما يقبل إذا قرئ النص : إن هذا إلّا خلق الأولين. فيكون الخلق فيه على وزن (الحلق) إلّا أن القراءة المشهورة ليست كذلك!).

ويبيّن القرآن عاقبة قوم هود الوبيلة فيقول : (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ).

وفي ختام هذه الاحداث يذكر القرآن تلكما الجملتين المعبّرتين ، اللتين تكررتا في نهاية قصص نوح وإبراهيم وموسى عليهما‌السلام ... فيقول : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) على قدرة الله ، واستقامة الأنبياء وعاقبة المستكبرين السيئة ، ولكن مع ذلك (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

فيمهل إمهالا كافيا. ويمنح الفرصة. ويبيّن الدلائل الواضحة للمضلين ليهتدوا ... إلّا أنه عند المجازاة والعقاب ، وبعد إتمام الحجة يأخذ أخذا عسيرا لا مفرّ لأحد منه أبدا ...

* * *

٤٢٦

الآيات

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢))

التّفسير

لا تطيعوا المسرفين المفسدين :

القسم الخامس من قصص الأنبياء في هذه السورة ، هو قصّة «ثمود» الموجزة القصيرة ، ونبيّهم «صالح» الذين كانوا يقنطون في «وادي القرى» بين المدينة والشام ، وكانت حياتهم مترفة مرفهة ... إلّا أنّهم لطغيانهم وعنادهم أبيدوا وأبيروا حتى لم يبق منهم ديّار ولم تترك لهم آثار ...

٤٢٧

وبداية القصّة هذه مشابهة لبداية قصة عاد «قوم هود» وبداية قصة نوح وقومه ، وهي تكشف كيف يتكرر التاريخ ، فتقول : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ...)

لأنّ دعوة المرسلين جميعا دعوة واحدة ، فتكذيب ثمود نبيّهم صالحا تكذيب للمرسلين أيضا ...

وبعد ذكر هذا الإجمال يفصّل القرآن ما كان بين صلاح وقومه ، فيقول : (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ ...)

لقد كان النّبي صالح هاديا ودليلا لقومه مشفقا عليهم ، فهو بمثابة «الأخ» لهم ، ولم يكن لديه نظرة استعلائية ولا منافع ماديّة ، ولذلك فقد عبّر القرآن عنه بكلمة «أخوهم» ... وقد بدأ دعوته إيّاهم كسائر الأنبياء بتقوى الله والإحساس بالمسؤولية! ...

ثمّ يقول لهم معرفا نفسه : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) وسوابقي معكم شاهد مبين على هذا الأمر (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) إذ لا أريد إلّا رضا الله والخير والسعادة لكم ...

ولذلك فأنا لا أطلب عوضا منكم في تبليغي إيّاكم (... وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) فأنا أدعوكم له ، وأرجو الثواب منه سبحانه ...

كان هذا أوّل قسم من سيرة صالح التي تلخصت في دعوته قومه وبيان رسالته إليهم ...

ثمّ يضع «صالح» إصبعه على نقاط حساسة من حياتهم ، فيتناولها بالنقد ويحاكمهم محاكمة وجدانية ، فيقول : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ).

وتتصورون أن هذه الحياة المادية التي تستغفل الإنسان دائمة له وهو خالد فيها! فلذلك تأمنون من الجزاء ، وأن يد الموت لا تنوشكم؟!

وبالأسلوب المتين ، أسلوب الإجمال والتفصيل ... يشرح النّبي صالح لقومه تلك الجملة المغلقة والمجملة بقوله : وتحسبون أنّكم مخلّدون (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ

٤٢٨

وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ). (١)

ثمّ ينتقدهم على بيوتهم المرفهة المحكمة فيقول : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ).

«الفاره» مشتق من (فره على وزن فرح) ومعناه في الأصل السرور المقرون باللامبالاة وعبادة الهوى ... كما يستعمل في المهارة عند العمل أحيانا ... ومع أن المعنيين ينسجمان مع الآية ، إلّا أنّه مع ملاحظة توبيخ نبيّهم صالح إيّاهم وملامته لهم فيبدو أنّ المعنى الأوّل أنسب ...

ومن مجموع هذه الآيات وبمقايستها مع ما تقدم من الآيات في شأن عاد ، يستفاد أن عادا «قوم هود» كان أكثر اهتمامهم في حب الذات والمقام والمفاخرة على سواهم ... في حين أن ثمود «قوم صالح» كانوا أسرى بطونهم والحياة المرفهة» ... ويهتمون أكبر اهتمامهم بالتنعم ، إلّا أنّ عاقبة الجماعتين كانت واحدة ، لأنّهم جعلوا دعوة الأنبياء التي تحررهم من سجن عبادة الذات للوصول إلى عبادة الله ، جعلوها تحت أقدامهم ، فنال كلّ منهم عقابه الصارم الوبيل ...

وبعد ذكر هذه الانتقادات يتحدث النّبي صالح عليه‌السلام في القسم الثّالث من كلامه مع قومه ، فيقول : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ).

* * *

__________________

(١) «الطلع» مأخوذ من مادة «الطلوع» ويستعمل في ما يكون منه الرطب بعدئذ ، وهو معروف وشكله جميل منضوم نضيد ، له غلاف ينشقّ عنه العذق أول الربيع. ثمّ يلقح بيد الإنسان أو بالرياح ليكون الثمر ... وقد يستعمل الطلع في الثمرة الأولى للنخل! و «الهضيم» من مادة «هضم» ، وله معان مختلفة ، فتارة يراد منه الثمرة الناضجة ، وتارة يطلق على الثمر اللين القابل للهضم ، وتارة يطلق على المهضوم ، وقد يستعمل بمعنى المنضوم المنضد ، فإذا كان الطلع في الآية محل البحث بمعنى العذق أوّل طلوعه ، فالهضيم معناه المنضود ، وإذا كان الطلع أول الثمر فالهضيم معناه الناضج اللين اللطيف ...

٤٢٩

ملاحظة :

العلاقة بين الإسراف والفساد في الأرض!

نعرف أن «الإسراف» هو التجاوز عن حدّ قانون التكوين وقانون التشريع ...

وواضح أيضا أنّ أيّ تجاوز عن الحد موجب للفساد والاختلال وبتعبير آخر : إن مصدر الفساد هو الإسراف ، ونتيجة الإسراف هي الفساد أيضا.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الإسراف له معنى واسع ، فقد يطلق على المسائل المادية كالأكل والشرب ، كما في الآية (٣١) من سورة الأعراف (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا).

وقد يرد في الانتقام والقصاص ـ عند تجاوز الحد ـ كما في الآية (٣٣) من سورة الإسراء (... فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً).

وقد يستعمل في الإنفاق والبذل عند التبذير وعدم التدبير ، كما في الآية (٦٧) من سورة الفرقان : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).

وقد يأتي في الحكم أو القضاء الذي يجرّ إلى الكذب ، كما في الآية (٢٨) من سورة غافر : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)!

وقد يستعمل في الإعتقاد المنتهى إلى الشك والتردد والارتياب كما في الآية (٣٤) من سورة غافر إذ تقول : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ).

وقد يأتي بمعنى الاستعلاء والاستكبار والاستثمار كما جاء في الآية (٣١) من سورة الدخان في شأن فرعون (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ).

وأخيرا فقد يأتي بمعنى مطلق الذنوب كما هو في الآية (٥٣) من سورة الزمر (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً).

وبملاحظة كل ما بيّناه آنفا ، تتّضح العلاقة بين الإسراف والفساد بجلاء ...

يقول العلّامة الطباطبائي في الميزان : «إن الكون على ما بين أجزائه من

٤٣٠

التضاد والتزاحم ، مؤلف تأليفا خاصا يتلائم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج والآثار ... فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة ، وهو بما بين أجزائه من الارتباط التام يخط لكل من أجزائه سبيلا خاصّا يسير فيها بأعمال خاصّة ، من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط ، فإنّ في الميل والانحراف إفسادا للنظام المرسوم ويتبعه إفساد غايته وغاية الكل ... ومن الضروري أن خروج بعض الأجزاء عن خطه المخطوط له ، وإفساد النظم المفروض له ولغيره ، يستعقب منازعة بقية الأجزاء له ، فإن استطاعت أن تقيمه وترده إلى وسط الاعتدال فهو وإلّا أفنته وعفت آثاره ، حفظا لصلاح الكون واستبقاء لقوامه والإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية ، فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له ، وإن تعدّى حدود فطرته وأفسد في الأرض ، أخذه الله سبحانه بالسنين والمثلات وأنواع النكال والنقمة ، لعله يرجع إلى الصلاح والسداد ، قال الله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). (١)

وإن أقاموا مع ذلك على الفساد ـ لرسوخه في نفوسهم ـ أخذهم الله بعذاب الاستئصال وطهّر الأرض من قذارة فسادهم قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).(٢) (٣).

ومن هنا يتّضح بجلاء ، لم ذكر الله سبحانه في الآيات المتقدمة الإسراف والفساد في الأرض وعدم الإصلاح ، في سياق واحد ومنسجم.

* * *

__________________

(١) الروم ، الآية ٤١.

(٢) الأعراف ، الآية ٩٦.

(٣) راجع تفسير الميزان ، الجزء ١٥ ، الصفحة ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

٤٣١

الآيات

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩))

التّفسير

عناد قوم صالح ولجاجتهم :

لقد استمعتم إلى منطق صالح المتين والمحب للخير ، مع قومه المضلين ـ في الآيات المتقدمة ـ والآن لنستمع إلى جواب قومه في هذه الآيات.

إنهم واجهوه بكلام خشن و (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) فلذلك فقدت عقلك وتتكلم بكلمات غير موزونة ولا معقولة.

ثمّ بعد هذا كله (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) وكل عاقل لا يبيح لنفسه أن يطيع

٤٣٢

إنسانا مثله (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لكي نؤمن بك ونتبعك.

كلمة (المسحّر) مشتقّة من (السحر) ومعناها المسحور ، أي المصاب بالسحر ، إذ كانوا يعتقدون أن السحرة كانوا عن طريق السحر يعطلون عمل العقل ، وهذا القول لم يتّهم به النبيّ صالحا فحسب ، بل اتهم به كثير من الأنبياء ، حتى أن المشركين اتّهموا نبيّنا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به فقالوا : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (١).

أجل ، إنّهم كانوا يرون معيار العقل أن يكون الإنسان متوقفا مع البيئة والمحيط ، فيأكل الخبز ـ مثلا ـ بسعر يومه ، ويطبّق نفسه على جميع المفاسد ... فلو أن رجلا مصلحا إلهيّا دعا الناس للقيام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة وإصلاحها ، عدوّه ـ بحسب منطقهم ـ مجنونا «مسحّرا».

وهناك احتمالات أخر في معنى «المسحّرين» ، صرفنا النظر عنها لعدم مناسبتها ...

وعلى كل حال فإنّ هؤلاء المعاندين من قوم صالح ، طلبوا منه معجزة لا من أجل معرفة الحق ، بل تذرعا بالحجة الواهية ، وعلى نبيّهم أن يتم الحجة عليهم ، فاستجاب لهم ـ وبأمر الله ـ قال : (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).

و «الناقة» معروفة عند العرب ، وهي أنثى الجمل ، والقرآن لم يذكر خصائص هذه الناقة التي كان لها حالة إعجازية ، إلّا أنه ذكرها بنحو الإجمال ... لكننا نعرف أنّها لم تكن ناقة كسائر النياق الطبيعية ، فكما يقول جماعة من المفسّرين : كانت هذه الناقة بحالة من الإعجاز بحيث خرجت من قلب الجبل. ومن خصائصها أنّها كانت تشرب ماء الحيّ في يوم ، واليوم الآخر لأهل الحي «أو القرية» وهكذا دواليك ... كما أشارت الآية آنفة الذكر إلى هذا المعنى ، ووردت الإشارة إلى هذا المعنى في الآية (٢٨) من سورة القمر أيضا.

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية ٨.

٤٣٣

وقد ذكر المفسّرون لها خصائص أخر (١).

وعلى كل حال ، كان على صالح عليه‌السلام أن يعلمهم أن هذه الناقة ناقة عجيبة وخارقة للعادة ، وهي آية من آيات عظمة الله المطلقة فعليهم أن يدعوها على حالها ، وقال : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ...)

وبديهي أن المترفين قوم صالح المعاندين كانوا يعلمون أن يقظة الناس ستؤدي إلى الإضرار بمنافعهم الشخصية فتآمروا على نحر الناقة : (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) (٢) لأنّهم رأوا أنفسهم قاب قوسين من العذاب الالهي.

ولما تجاوز طغيانهم الحدّ ، وأثبتوا بأعمالهم أنّهم غير مستعدين لقبول الحق ، اقتضت إرادة الله ومشيئته أن يطهر الأرض من وجودهم الملوّث (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ).

وكما نقرأ في الآية (٧٨) من سورة الأعراف ، والآية (٦٧) من سورة هود ، ما جاء عن عذاب الله لهم إجمالا ... أن الأرض زلزلت من تحتهم ليلا ، فانتبهوا من نومهم وجثوا على الركب فما أمهلهم العذاب وأخذتهم الرجفة والصيحة ، فاهتزت حيطانهم وهوت عليهم فأماتتهم جاثمين على حالهم ففارقوا الدنيا بحال موحشة رهيبة! ...

ويقول القرآن في ختام هذه الحادثة ما قاله في ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم إبراهيم عليه‌السلام ، فيعبّر تعبيرا بليغا موجزا يحمل بين ثناياه عاقبة أولئك الظالمين : إن في قصة قوم صالح ، وفي صبره وتحمله واستقامته ومنطقه القويم من جهة ، وعناد قومه وغرورهم وانكارهم للمعجزة البيّنة ، والمصير

__________________

(١) لمزيد الإيضاح في هذا الصدد يراجع تفسير الآية (٦١) من سورة هود ...

(٢) كلمة (عقروها) مأخوذة من مادة (عقر) على زنة (قفل) ومعناها في الأصل أساس الشيء وجذره ، وقد تأتي بمعنى حز الرأس ، وتأتي بمعنى قطع الأرجل من الحيوان ، وما إلى ذلك.

٤٣٤

الأسود الذي آلو إليه دروس وعبر : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

أجل ، ليس لأحد أن يغلب ربّه ، فما فوق قوته من قوّة!! وهذه القوّة وهذه القدرة العظيمة لا تمنع أن يرحم أولياءه ، بل أعداءه أيضا : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). (١)

* * *

__________________

(١) تقول الروايات إن الذي قتل ناقة صالح كان واحدا لا غير ... إلّا أن القرآن يعبر عن هذا الفعل بصيغة الجمع (فعقروها). وهذا التعبير لأن الآخرين كانوا راضين بعمله ويضمون أصواتهم إلى صوته ، ويعتقدون بمعتقده ... وتنفتح نافذة من هنا على أصل اسلامي ، وهو أنّ العلائق الفكرية والمذهبيّة تجعل المنتمين إليها في صف واحد ، وتكون عاقبتهم واحدة. لمزيد الإيضاح يراجع الآية (٦٥) من سورة هود ...

٤٣٥

الآيات

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦))

التّفسير

السفلة المعتدون :

سادس نبيّ ـ ورد جانب من حياته وحياة قومه المنحرفين في هذه السورة ـ هو «لوط» عليه‌السلام ، ومع أنّه كان يعيش في عصر إبراهيم الخليل ، إلّا أنّ قصته لم تأت بعد قصّة إبراهيم عليه‌السلام ، لأن القرآن لم يكن كتابا تاريخيا ليبيّن الحوادث بترتيب وقوعها ... بل يلفت النظر إلى جوانبه التربوية البناءة ، والتي تقتضي تناسبا آخر ...

وقصّة لوط وما جرى لقومه تنسجم في حياة الأنبياء الآخرين الذين ورد ذكرهم في ما بعد ...

يقول القرآن أوّلا في هذا الصدد : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ).

٤٣٦

ورود «المرسلين» بصيغة الجمع ، إمّا لأنّ دعوة الأنبياء عليهم‌السلام واحدة ، فتكذيب الواحد منهم تكذيب للجميع ، أو أن قوم لوط لم يؤمنوا بأيّ نبي قبل لوط واقعا وحقيقة ...

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى دعوة لوط التي تنسجم مع دعوة الأنبياء الآخرين الماضين ، فيقول : (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ).

ولحن كلماته وقلبه المتحرق لهم ، العميق في تودّه إليهم ، يدل على أنّه بمثابة «الأخ» لهم.

ثمّ أضاف لوط قائلا : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) فلم تعرفوا عنّي خيانة حتى الآن ... وسأرعى الأمانة في إيصال رسالة الله إليكم أبدا (... فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فأنا زعيمكم إلى السعادة والنجاة.

ولا تتصوروا أنّ هذه الدعوة وسيلة اتخذها للحياة والعيش ، وأنّ وراءها هدفا مادّيا ، كلّا : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ).

ثمّ يتناول بالنقد أعمالهم القبيحة ، وقسما من انحرافاتهم الأخلاقية ...

وحيث أنّ أهم نقطة في انحرافاتهم ... هي مسألة الانحراف الجنسي ، لذلك فإنّه ركّز عليها وقال : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ). فتختارون الذكور من بين الناس لإشباع شهواتكم!!

أي ، إنّكم على الرغم ممّا خلق الله لكم من الجنس المخالف «النساء» حيث تستطيعون أن تعيشوا معهن بالزواج المشروع عيشا طاهرا هادئا ، إلّا أنّكم تركتم نعمة الله هذه وراءكم ، ولوّثتم أنفسكم بمثل هذا العمل القبيح المخزي ...

كما ويحتمل في تفسير هذه الآية أن «من العالمين» جاء قيدا لقوم لوط أنفسهم ، أي إنّكم من دون العالمين وحدكم المنحرفون بهذا الانحراف والمبتلون به ... كما أن هذا الاحتمال ينسجم مع بعض التواريخ إذ يقال أن أوّل أمّة ارتكبت

٤٣٧

الانحراف الجنسي «اللواط» بشكل واسع هي قوم لوط ، (١) إلّا أن التّفسير الأوّل مع الآية التالية ـ أكثر انسجاما.

ثمّ أضاف قائلا : (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ).

فالحاجة والغريزة الطبيعية ، سواء كانت روحية أم جسمية لم تجرّكم إلى هذا العمل الانحرافي الشنيع ابدا ، وإنّما جرّكم الطغيان والتجاوز ، فتلوثتم وخزيتم به ...

إن ما تقومون به يشبه من يترك الثمر الطيب والنافع والسالم ، ويمضي نحو الغذاء المسموم الملوّث المميت ... فهذا الفعل ليس حاجة طبيعية ... بل هو التجاوز والطغيان!

* * *

بحثان

١ ـ الانحراف الجنسي انحراف مخجل

أشار القرآن في سور متعددة منه ـ كالأعراف وهود والحجر والأنبياء والنمل والعنكبوت ، إلى ما كان عليه قوم لوط من الوزر الشنيع ... إلّا أن تعابيره ـ في السور المذكورة آنفا ـ يختلف بعضها عن بعض ... وفي الحقيقة إن كل تعبير من هذه التعابير يشير إلى بعد من أبعاد عملهم الشنيع :

ففي «الأعراف» نقرأ مخاطبة لوط إيّاهم (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). (٢)

وفي الآية (٧٤) سورة الأنبياء يتحدث القرآن عن لوط فيقول : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ).

أمّا في الآية ـ محل البحث ـ فقد قرأنا مخاطبة لوط إياهم بقوله : (بَلْ أَنْتُمْ

__________________

(١) في شأن انحراف هؤلاء القوم ، يذكر التأريخ قصة يمكن مراجعتها في تفسير الآية (٨١) من سورة هود ...

(٢) سورة الأعراف ، الآية ٨١.

٤٣٨

قَوْمٌ عادُونَ).

وجاء في الآية (٥٥) من سورة النمل قوله لهم : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) «الآية ٥٥».

كما جاء في الآية (٢٩) من سورة العنكبوت على لسان لوط مخاطبا إيّاهم (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ). (١)

وهكذا فقد ذكر هذا العمل القبيح بعناوين «إسراف» ، «خبيث» ، «فسق» ، «تجاوز» ، «جهل» ، و «قطع السبيل».

«الإسراف» من جهة أنّهم نسوا نظام الخلق في هذا الأمر ، وتجاوزوا عن الحد ، و «التعدّي» ذكر أيضا لهذا السبب.

و «الخبيث» هو ما ينفر منه طبع الإنسان السليم ، وأيّ عمل أقبح من هذا العمل الذي ينفر منه؟!

«الفسق» معناه الخروج عن الطاعة ـ طاعة الله ـ والتعري عن الشخصيّة الإنسانية ، وهو من لوازم هذا العمل حتما.

و «الجهل» لعدم معرفتهم بعواقب هذا الفعل الوخيمة على الفرد والمجتمع! ...

وأخيرا فإن «قطع السبيل» هو النتيجة السيئة لهذا الفعل ، لأنّه سيؤدي إلى انقطاع النسل عند اتساع هذا الفعل ، لأنّ العلاقة نحو الجنس المشابه ستحل محل العلاقة نحو الجنس المخالف بالتدريج (كما هي الحال بالنسبة للواط والسحاق).

٢ ـ العواقب الوخيمة للانحراف الجنسي.

بالرغم من بحثنا لهذا الموضوع في ذيل الآيات ٨١ ـ ٨٣ بحثا مفصّلا في أضرار هذا العمل القبيح ، إلّا أنه ـ نظرا لأهميته ـ نرى هنا من اللازم أن نذكر

__________________

(١) قيل أن المراد من (تقطعون السبيل) أي تقطعون سبيل الفطرة وتداوم النسل ، وفسّره آخرون بأنّ المراد هو أن قوم لوط كانوا قطّاع طرق وسرّاقا! ...

٤٣٩

مطالب أخر مضافا إلى ما سبق!

في الحديث عن النّبي (محمّد) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا يجد ريح الجنّة زنوق وهو المخنث». (١)

وفي حديث آخر عن الإمام علي عليه‌السلام أنه قال : «اللواط هو الكفر». (٢)

وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا في فلسفة تحريم اللواط والسحاق أنه قال : «علة تحريم الذكران للذكران ، والإناث للإناث ، لما ركب في الإناث وما طبع عليه الذكران ، ولما في إتيان الذكران الذكران ، والإناث للإناث من انقطاع النسل ، وفساد التدبير ، وخراب الدنيا». (٣)

وهذه المسألة قبيحة جدّا في نظر الإسلام بحيث جعل ـ في أبواب الحدود ـ حدّة القتل دون شك ... حتى الذين يقومون بعمل أدنى من اللواط والسحاق جعل لهم عقابا صارما ...

ففي حديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قبل غلاما من شهوة ، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار». (٤)

وعقوبة من يفعل مثل هذا الفعل تتراوح من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين سوطا ...

وعلى كل حال ، فلا شك أن الانحراف الجنسي من أخطر الانحرافات الاجتماعية ... لأنّه يلقي بظله المشؤوم على جميع المسائل الأخلاقية ، ويجر الإنسان إلى الانحراف العاطفي.

«وكان لنا بحث مفصل في هذا الصدد في ذيل الآية ٨١ من سورة هود».

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، ج ٧٩ ، ص ٦٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق ، ص ٦٤.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٧٩ ، ص ٧٢.

٤٤٠