الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-52-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٠٤

استعمال «حربة» يفزع إليها المستكبرون عند الاندحار ، فجابه موسى و (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

فأنا لا أعرف كلماتك ، إنّما أعرف وجود إله ومعبود كبير وهو أنا ... ومن قال بغيره فهو محكوم بالإعدام أو السجن! ...

ويعتقد بعض المفسّرين أن الألف واللام في «من المسجونين» هما للعهد ، وهي إشارة إلى سجن خاص من ألقي فيه يبقى سجينا حتى تخرج جنازته. (١) وفي الواقع كان فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الارهابي ، لأن مواصلة موسى عليه‌السلام بمثل هذه الكلمات ستكون سببا في إيقاظ الناس ، وليس أخطر على الجبابرة من شيء كإيقاظ الناس! ...

* * *

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ، والفخر الرازي ، وروح المعاني ذيل الآية محل البحث.

٣٦١

الآيات

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧))

التّفسير

بلادكم في خطر :

رأينا في الآيات المتقدمة كيف حافظ موسى عليه‌السلام على تفوّقه ـ من حيث المنطق ـ على فرعون ، وبيّن للحاضرين إلى أيّة درجة يعوّل مبدؤه على منطقه وعقله ، وأن ادعاء فرعون واه وضعيف ، فتارة يسخر من موسى ، وتارة يرميه بالجنون ، وأخيرا يلجأ إلى التهديد بالسجن والإعدام! ...

وهنا يقلب موسى عليه‌السلام صفحة جديدة ، فعليه أن يسلك طريقة أخرى يخذل

٣٦٢

فيها فرعون ويعجزه. عليه أن يلجأ إلى القوّة أيضا ، القوّة الإلهية التي تنبع من الإعجاز ، فالتفت إلى فرعون متحدّيا و (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ...)

وهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود ... لأن موسى عليه‌السلام أشار إلى خطّة جديدة! ولفت انظار الحاضرين نحوه ، إذ لو أراد فرعون أن لا يعتدّ بكلامه ، لاعتراض عليه الجميع ولقالوا : دعه ليرينا عمله المهم ، فلو كان قادرا على ذلك فلنرى ، ونعلم حينئذ أنّه لا يمكن الوقوف امامه ، وإلّا فستنكشف مهزلته!! وعلى كل حال ليس من اليسير تجاوز كلام موسى ببساطة ...

فاضطر فرعون إلى الاستجابة لاقتراح موسى عليه‌السلام و (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) «بأمر الله».

ثمّ أظهر إعجازا آخر حيث أدخل يده في جيبه (أعلى الثوب) وأخرجها فإذا هي بيضاء منيرة : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ).

في الحقيقة إن هاتين المعجزتين الكبيرتين ، إحداهما كانت مظهر الخوف ، والأخرى مظهر الأمل ، فالأولى تناسب مقام الإنذار ، والثّانية للبشارة! والأولى تبيّن عذاب الله ، والأخرى نور وآية رحمة! لأنّ المعجزة ينبغي أن تكون منسجمة مع دعوة النّبي عليه‌السلام.

«الثعبان» معناه الحية العظيمة ، ويحتمل الراغب في مفرداته أن «الثعبان» من مادة (ثعب) المأخوذ معناه من جريان الماء ، لأنّ حركة هذا الحيوان تشبه الأنهار المتحركة!

والتعبير بـ «المبين» لعله إشارة إلى هذه الحقيقة! وهي أنّ عصّا موسى عليه‌السلام تبدلت إلى ثعبان عظيم فعلا ، ولم يكن في الأمر من إيهام أو سحر.

ولا بأس بذكر هذه اللطيفة الدقيقة هنا ، وهي أنّ الآية محل البحث عبرت [عن تبدل العصا] بـ «ثعبان». أمّا الآية العاشرة من سورة النمل ، والآية الحادية

٣٦٣

والثلاثون من سورة القصص ، فقد عبرت عنها بـ «جان» «ما تجنّه (١) الأرض وما يمشي عليها من الأفاعي الصغار بسرعة وقفز». أمّا الآية العشرون من سورة طه فقد عبّرت عنها بأنّها «حية» «المشتقّة من الحياة».

وهذا التفاوت أو الاختلاف في التعابير مثير للسؤال في بدو النظر ، إلّا أنّ الاختلاف أو التفاوت إنّما هو لبيان واحد من أمرين :

١ ـ لعله إشارة إلى حالات ذلك الثعبان المتباينة ، ففي البداية تبدلت العصا إلى جانّ أو حية صغيرة ، ثمّ بدأت تكبر حتى صارت ثعبانا مبينا! ...

٢ ـ أو أنّ هذه الألفاظ الثلاثة «الثعبان ، والجان ، والحية» كلّ منها يرمز إلى بعض الخصائص الموجودة في تلك العصا المتبدلة إلى حالة جديدة! فالثعبان إشارة إلى عظمتها ، والجان إشارة إلى سرعتها ، والحية إشارة إلى حياتها!

غير أن فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى عليه‌السلام ، وكذلك من أجل أن يرفع من معنويات أصحابه والملأ من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها ، فقد (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).

ذلك الإنسان الذي كان يدعوه مجنونا إلى لحظات آنفة ، وإذا هو الآن يعبر عنه بالعليم ، وهكذا هي طريقة الجبابرة وأسلوبهم ، حيث تتبدل كلماتهم في مجلس واحد عدّة مرّات ، ويحاولون التشبث بأي شيء للوصول إلى هدفهم.

وكان فرعون يعتقد أن اتهام موسى بالسحر ألصق به وأكثر قبولا عند السامعين ، لأنّ ذلك العصر كان عصر السحر ، فإذا أظهر موسى عليه‌السلام معاجزه فمن اليسير توجيهها بالسحر.

ومن أجل أن يعبّئ الملأ ويثير حفيظتهم ضد موسى عليه‌السلام ، قال لهم : (يُرِيدُ أَنْ

__________________

(١) جن يجن «من الأضداد في اللغة» والضد في الألفاظ ما يحمل معنيين متضادين ، مثل الجون يطلق على الأسود والأبيض ، وجن بمعنى ستره وأظهره.

٣٦٤

يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ؟).

والغريب في الأمر أن فرعون الذي قال هذا الكلام هو الذي كان يقول من قبل : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)؟!

والآن حيث يرى عرشه متزعزعا ينسى مالكيته المطلقة لهذه الأرض ، ويعدّها ملك الناس ، فيقول لهم : أرضكم في خطر ، إن موسى يريد أن يخرجكم من أرضكم ، ففكروا في حيلة! ...

فرعون هذا لم يكن قبل ساعة مستعدا لأن يصغي لأحد ، كان الآمر بلا منازع ، أمّا الآن فهو في حرج شديد يقول لمن حوله : «ماذا تأمرون»؟! إنّها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف فحسب! ...

ويستفاد من الآية (١١٠) من سورة الأعراف أنّ اتباع فرعون ومن حوله ائتمروا فيما بينهم وتشاوروا في الأمر ، وكانوا في حالة من الاضطراب النفسي بحيث كان كلّ منهم يسأل الآخر قائلا : وأنت ما تقول؟ وماذا تأمرون؟!

أجل هذه سنّة الجبابرة في كل عصر وزمان ... فحين يسيطرون على الأوضاع يزعمون أن كل شيء لهم ، ويعدون الجميع عبيدهم ، ولا يفهمون شيئا سوى منطق الاستبداد. إلّا أنّهم حين تهتزّ عروشهم الظالمة ويرون حكوماتهم في خطر ، ينزلون مؤقتا عن استبدادهم ويلجأون إلى الناس ويتحدثون باسم الناس ، فالأرض أرض الشعب ، والحكومة تمثل الشعب ويحترمون آراء الشعب ، ولكن حين يستقر الطوفان ويهدأ التيار ، فإذا هم أصحاب الأمس و «عادت حليمة إلى عادتها القديمة».

ورأينا في عصرنا بقايا السلاطين القدامى كيف يحسبون أن الدولة ملكهم المطلق حين تقبل الدنيا عليهم ، ويأمرون من يرفض إتباعهم بالخروج عن تلك البلاد قائلين له : اذهب في أرض الله العريضة الواسعة ، ففي هذا البلد لا بدّ من تنفيذ ما نقول لا غير. ورأينا هذه الحالة عند ما بدأت هبّت رياح الثورة الإسلامية كيف

٣٦٥

أن الطواغيت أخذوا باحترام الشعب وتعظيمه ، وحتى أنّهم أقروا بذنوبهم وطلبوا العفو ، ولكن الناس الذين عرفوا سجيّتهم طوال سنين مديدة لم ينخدعوا بذلك.

وبعد المشاورة فيما بينهم التفت الملأ من قوم فرعون إليه و (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ). (١) أي أمهلهما وابعث رسلك الى جميع المناطق والأمصار.

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ).

وفي الواقع أن رهط فرعون إمّا أنّهم غفلوا ، وإمّا أنّهم قبلوا اتهامه لموسى وأعين للأمر. فهيأوا خطة على أنّه ساحر ، ولا بدّ من مواجهته بسحرة أعظم منه وأكثر مهارة! ...

وقالوا : لحسن الحظّ إنّ في بلادنا العريضة سحرة كثيرين ، فلا بدّ من جمع السحرة لإحباط سحر موسى عليه‌السلام.

وكلمة (حاشرين) مأخوذه من مادة (الحشر) ومعناه التعبئة والسوق لميدان الحرب وأمثال ذلك ، وهكذا فينبغي على المأمورين أن يعبئوا السحرة لمواجهة موسى عليه‌السلام بأيّ ثمن كان! ...

* * *

__________________

(١) (أرجه) مشتقّة من «الإرجاء» ، ومعناها التأخير وعدم الاستعجال في القضاء ، والضمير في (أرجه) يعود على موسى ، وأصل الكلمة كان (أرجئه) وحذفت الهمزة للتخفيف!

٣٦٦

الآيات

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢))

التّفسير

اجتماع السحرة من كلّ مكان :

في هذه الآيات يعرض مشهدا آخر من هذه القصّة المثيرة ، إذ تحرك المأمورون بحسب اقتراح أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم ، وكان الوعد المحدد (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).

وبتعبير آخر : إنّهم هيئوهم من قبل لمثل هذا اليوم ، كي تجتمعوا في الوعد المقرر في «ميدان العرض» ..

والمراد من «اليوم المعلوم» كما يستفاد من بعض الآيات في سورة الأعراف ، أنّه بعض أعياد أهل مصر ، وقد اختاره موسى عليه‌السلام للمواجهة ومنازلة السحرة ...

وكان هدفه أن يجد الناس فرصة أوسع للاجتماع ، لأنّه كان مطمئنا بأنّه سينتصر ،

٣٦٧

وكان يريد أن يظهر آيات الله وضعف فرعون والملأ من حوله للجميع ، وليشرق نور الإيمان في قلوب جماعة كثيرين! ...

وطلب من الناس الحضور في هذا المشهد : (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) وهذا التعبير يدلّ على أنّ المأمورين من قبل فرعون بذلوا قصارى جهودهم في هذا الصدد ... وكانوا يعلمون أنّهم لو أجبروا الناس على الحضور لكان ردّ الفعل سلبيّا ، لأنّ الإنسان يكره الإجبار ويعرض عنه بالفطرة! لذلك قالوا : هل ترغبون في الحضور؟ وهل أنتم مجتمعون؟ ومن البديهي أن هذا الأسلوب جرّ الكثير إلى حضور ذلك المشهد.

وقيل للناس : إنّ الهدف من هذا الحضور والاجتماع هو أنّ السحرة إذا انتصروا فمعنى ذلك انتصار الالهة وينبغي علينا اتباعهم : (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) فلا بدّ من تهييج الساحة للمساعدة في هزيمة عدو الالهة إلى الأبد.

وواضح أنّ وجود المتفرجين كلّما كان أكثر شدّ من أزر الطرف المبارز ، وكان مدعاة لأن يبذل أقصى جهده ، كما أنه يزيد من معنوياته وعند ما ينتصر الطرف المبارز يستطيع أن يثير الصخب والضجيج إلى درجة يتوارى بها خصمه ، كما أن وجود المتفرجين الموالين بإمكانه أن يضعف من روحيّة الطرف المواجه «الخصم» فلا يدعه ينتصر!

أجل إن اتباع فرعون بهذه الآمال كانوا يرغبون أن يحضر الناس ، كما أنّ موسى عليه‌السلام كان يطلب ـ من الله ـ أن يحضر مثل هذا الجمع الحاشد الهائل! ليبيّن هدفه بأحسن وجه.

كل هذا من جهة ، ومن جهة أخرى كان السحرة يحلمون بالجائزة من قبل فرعون (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ...)

وكان فرعون قلقا مضطرب البال ، لأنّه في طريق مسدود ، وكان مستعدّا لأن

٣٦٨

يمنح السحرة أقصى الامتيازات ، لذلك فقد أجابهم بالرضا و (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ). اي إن فرعون قال لهم : ما الذي تريدون وتبتغون؟! المال أم الجاه ، فكلاهما تحت يديّ! ...

وهذا التعبير يدلّ على أن التقرب من فرعون في ذلك المحيط كان مهمّا إلى درجة قصوى! بحيث يذكره فرعون للسحرة ويعدّه أجرا عظيما ، وفي الحقيقة لا أجر أعظم من أن يصل الإنسان إلى مقربة من القدرة المطلوبة! ...

فإذا كان الضالّون يعدّون التقرب من فرعون أعظم أجر ، فإنّ عباد الله لا يرون أجرا أعظم من التقرب الى الله تعالى حتى الجنّة بما فيها من النعيم المقيم لا تقاس بنظرة من وجهه الكريم لهم! ...

ولذلك فإنّ الشهداء في سبيل الله الذين ينبغي أن ينالوا أعظم الأجر لإيثارهم الكبير ، ينالون التقرب من الله بشهادة القرآن! والتعبير القرآني (عِنْدَ رَبِّهِمْ) شاهد بليغ على هذه الحقيقة! ...

وكذلك فإنّ المؤمن السليم القلب حين يؤدي العبادة الله ، يؤديها بهدف «قربة الى الله» ...

* * *

٣٦٩

الآيات

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١))

التّفسير

نور الإيمان في قلوب السحرة :

حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالأجر والقرب منه ، وشدّ من عزمهم ، فإنّهم بدأوا بتهيئة المقدمات ووفروا خلال ما سخت لهم الفرصة عصيّهم وحبالهم ، ويظهر أنّهم صيّروها جوفاء وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق ـ مثلا ـ بحيث تتحرك

٣٧٠

وتلمع عند شروق الشمس عليها!

وأخيرا كان اليوم الموعود والميقات المعلوم ، وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة التاريخيّة ، ففرعون وقومه من جانب ، والسحرة من جانب آخر ، وموسى وأخوه هارون من جانب ثالث ، كلهم حضروا هناك!

وكعادة القرآن في حذف المقدمات المفهومة من خلال الآيات المذكورة ، والشروع بذكر أصل الموضوع ، فيتحدّث عن مواجهة موسى للسحرة حيث التفت إليهم و: (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ).

ويستفاد من الآية (١١٥) من سورة الأعراف ، أنّ موسى عليه‌السلام قال ذلك عند ما سأله السحرة : هل تلقي أنت أوّلا أم نلقي نحن أوّلا؟

وهذا الاقتراح من قبل موسى عليه‌السلام يدلّ أنّه كان مطمئنا لانتصاره ، ودليلا على هدوئه وسكينته أمام ذلك الحشد الهائل من الأعداء وأتباع فرعون ... كان هذا الاقتراح يعدّ أوّل «ضربة» يدمغ بها السحرة ، ويبيّن فيها أنه يتمتع بالهدوء النفسي الخاص ، وأنّه مرتبط بمكان آخر ومتصل به.

وأمّا السحرة الغارقون بغرورهم ، والذين بذلوا أقصى جهودهم لانتصارهم في هذا «الميدان» ، فقد كانوا مستعدين ومؤمّلين لأن يغلبوا موسى عليه‌السلام (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ). (١)

أجل ، لقد استندوا إلى عزّة فرعون كسائر المتملقين ، وبدأوا باسمه وقدرته الواهية!

وهنا ـ كما يبيّن القرآن في مكان آخر من سورة وآياته ـ تحركت العصيّ كأنّها الأفاعي والثعابين و (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). (٢)

وقد انتخب السحرة العصي كوسائل لسحرهم ، لتتغلّب حسب تصوّرهم على

__________________

(١) «الحبال» جمع «حبل» على وزن (طبل) ومعناها واضح ، والعصي جمع العصا.

(٢) سورة طه ، الآية ٦٦.

٣٧١

عصى موسى ، وأضافوا عليها الحبال ليثبتوا علوّهم وفضلهم عليه ...

فتهللت أسارير وجوه الناس ووجه فرعون فرحا ، وأشرق الأمل في عيني فرعون وأتباعه ، وسرّوا سرورا لم يكن ليخفى على أحد ، وسرت فيهم نشوة اللّذة من هذا المشهد!

إلّا أنّ موسى عليه‌السلام لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير ، فتقدم (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) فتحولت الى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وأدوات السحرة بسرعة بالغة (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ). (١)

وهنا طاف صمت مهيب على وجوه الحاضرين وغشّاهم الوجوم وفغرت الأفواه من الدهشة والعجب ، وجمدت العيون ، ولكن سرعان ما انفجر المشهد بصراخ المتفرجين المذعورين ففر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد ، وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة ...

وتبدّل كل شيء ، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا ـ إلى تلك اللحظة ـ مع فرعون غارقين في الشيطنة ، ولأنّهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه ، فإنّهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن سحرا ، بل هي معجزة إلهية كبرى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ).

الطريف أنّ القرآن يعبر عن خضوع السحرة بـ «ألقي» وهذا التعبير إشارة إلى منتهى التأثير وجاذبية معجزة موسى لهم ، حتى كأنّهم سقطوا على الأرض وسجدوا دون اختيارهم ...

واقترن هذا العمل العبادي ـ وهو السجود ـ بالقول بلسانهم فـ (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

ولئلا يبقى مجال للإبهام والغموض والتردد ، ولئلا يفسر فرعون ذلك تفسيرا

__________________

(١) (تلقف) مشتق من (اللقف) على زنه (السقف) ومعناه إمساك الشيء بسرعة ، سواء كان ذلك باليد أم الفم ، ومعلوم أن المراد هنا الإمساك بالفم والابتلاع ، و (يأفكون) مشتق من (الإفك) ومعناه الكذب ، وهي إشارة إلى وسائلهم الباطلة.

٣٧٢

آخر فإنّهم قالوا : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).

وهذا التعبير يدلّ على أنّه وإن كان موسى عليه‌السلام متكفلا لأمر المبارزة وإلقاء العصا ومحاججة السحرة ، إلّا أنّ أخاه هارون كان يعاضده في الأمر ، وكان مستعدا لتقديم أي عون لأخيه.

وهذا التبدل والتغيّر المفاجئ العجيب في نفوس السحرة بحيث خطوا في لحظة واحدة من الظلمة المطلقة إلى النور المبين. ولم يكتفوا بذلك حتى أقحموا أنفسهم في خطر القتل ، وأعرضوا عن مغريات فرعون ومصالحهم المادية ... كلّ ذلك لما كان عندهم من «علم» استطاعوا من خلاله أن يتركوا الباطل ويتمسكوا بالحقّ!

إنّهم لم يجوبوا باقي الطريق بخطى العقل فحسب ، بل ركبوا خيول العشق ، وقد سكروا من عطر أزهاره ، حتى كأنّهم لم يفيقوا من سكرتهم ، وسنرى أنّهم لهذا السبب استقاموا بشجاعة أمام تهديدات فرعون الرهيبة ...

نقرأ حديثا عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما من قلب إلّا بين إصبعين من أصابع الرحمان ، إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه» (١) (وبديهي أن مشيئة الله في هاتين المرحلتين تتعلق باستعداد الإنسان ، وهذا التوفيق أو سلب التوفيق إنّما هو لأجل قابلية القلوب المختلفة ، وليس اعتباطا).

أمّا فرعون ، فحيث وجد نفسه مهزوما معنويا ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر ، وخاصّة أنه كان يعرف أيّ تأثير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس ، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة ، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر ، فالتفت إلى السحرة و (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ). (٢)

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ٢٠٨.

(٢) جاء التعبير في هذه الآية (٧١) من سورة طه بـ (آمَنْتُمْ لَهُ) وجاء التعبير في الآية (١٢٣) من سورة الأعراف

٣٧٣

لقد تربع على عرش الاستبداد سنين طوالا ، ولم يكن يترقب من الناس أن لا يسجدوا أو يقوموا بعمل دون إذنه فحسب ، بل كان ترقّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونة به وبأمره ، فليس لهم أن يفكّروا دون اذنه!! وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبرين!.

هذا المغرور الطائش لم يكن مستعدّا لأن يذكر اسم الله ولا اسم موسى ، بل اكتفى بالقول (آمنتم له)! والمراد من هذا التعبير هو التحقير!!

إلّا أن فرعون لم يقنع بهذا المقدار ، بل أضاف جملتين أخريين ليثبّت موقعه كما يتصوّر أوّلا ، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلة نياما.

فاتّهم السحرة أوّلا بأنّهم تواطؤوا مع موسى عليه‌السلام وتآمروا على أهل مصر جميعا ، فقال: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ).

وقد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه الساحة ، فتضلوا أهل مصر وتجرّوهم إلى الخضوع تحت سيطرة حكومتكم ، وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وتحلّوا العبيد محلهم ...

إلّا أنني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة ، وسأخنق المؤامرة في مهدها (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).

أي : لا أكتفي بإعدامكم فحسب ، بل أقتلكم قتلا بالتعذيب والزجر بين الملأ العام ، وعلى جذوع النخل ، (لأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف يؤدي إلى الموت البطيء ، فيذوق معه الإنسان التعذيب أكثر).

وهذه هي طريقة الجبابرة والحكّام الظلمة في كل عصر وزمان ، ففي البدء يتهمون الرجال المصلحين بالتآمر ضد الناس ، وبعد الاستفادة من حربة التهمة يعملون السيف في رقاب ليضعف موقع المطالبين بالحق ولا يجدوا معاضدا لهم ، فيزيحوهم من طريقهم.

إلّا أن فرعون لم يحقق هدفه هنا ، لأن السحرة قبل لحظة ـ والمؤمنين في هذه

٣٧٤

اللحظة ـ قد غمر قلوبهم الإيمان ، وأضرمهم عشق الله ، بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون ، فأجابوه بضرس قاطع واحبطوا خطته و (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ).

فأنت بهذا العمل لا تنقص منّا شيئا ، بل توصلنا إلى معشوقنا الحقيقي والمعبود الواقعي ، فيوم كانت هذا التهديدات تؤثر فينا لم نعرف أنفسنا ولم نعرف ربّنا ، وكنّا ، ضالين مضلين ، إلّا أنّنا عثرنا اليوم على ضالتنا (فاقض ما أنت قاض)!

ثمّ أضافوا بأنّهم واجهوا النّبي موسى عليه‌السلام من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيرا ، ولكن مع ذلك فـ (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِين ...)

إنّنا لا نستوحش اليوم من أي شيء ، لا من تهديداتك ، ولا من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ولا من الصلب على جذوع النخل.

وإذا كنّا نخاف من شيء ، فإنّما نخاف من ذنوبنا الماضية ، ونرجو أن تمحى في ظل الإيمان وبفضل الله ولطفه!

أية طاقة وقوّة هذه التي إن وجدت في الإنسان صغرت عندها أعظم القوى ، وهانت عنده أشد الأمور ، وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية والإيثار؟! إنّها قوّة الإيمان.

إنّها شعلة العشق النيرة ، التي تجعل الشهادة في سبيل الله أحلى من الشهد والعسل ، وتصيّر الوصال إلى المحبوب أسمى الأهداف!

هذه هي القوّة التي استعان بها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وربّى المسلمين الأوائل عليها ، وأوصل أمة جهلاء متأخرة إلى أوج الفخر بسرعة مذهلة ، فكانت الأمة المسلمة التي أذهلت الدنيا!

إلّا أن هذا المشهد ـ على كل حال ـ كان غاليا وصعبا على فرعون وقومه ، بالرغم من أنّه طبّق تهديداته ـ طبقا لبعض الروايات ـ فاستشهد على يديه السحرة المؤمنون ـ إلّا أن ذلك لم يطفئ عواطف الناس تجاه موسى فحسب ، بل أثارها

٣٧٥

أكثر فأكثر! ...

ففي كل مكان كانت اصداء النّبي الجديد ... وفي كل حدب وصوب حديث عن أوائل الشهداء المؤمنين ، وهكذا آمن جماعة بهذا النحو ، حتى أن جماعة من قوم فرعون وأصحابه المقربين حتى زوجته ، آمنوا بموسى ايضا.

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : كيف عبر السحرة التائبون المؤمنون عن أنفسهم بأنّهم أوّل المؤمنين ...

هل كان مرادهم أنّهم أوّل المؤمنين في ذلك المشهد؟!

أو كان مرادهم أنّهم أوّل المؤمنين من حماة فرعون؟!

أو أنّهم أوّل المؤمنين الذين وردوا «الشهادة».

كل هذه الأمور محتملة ، ولا تتنافى في ما بينها.

وهذه التفاسير إنّما تصحّ في صورة ما لو قلنا بأنّ جماعة من بني إسرائيل أو من غيرهم آمنوا بموسى قبل ذلك ، أما لو قلنا بأنّهم أمروا بعد البعثة أن يتصلوا بفرعون مباشرة وأن يوردوا الضربة الأولى عليه ، فلا يبعد أن يكونوا أول المؤمنين ، ولا حاجة عندئذ إلى تفسير آخر.

* * *

٣٧٦

الآيات

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩))

التّفسير

مصير الفراعنة :

في الآيات المتقدمة ... رأينا كيف أنّ موسى خرج منتصرا من تلك المواجهة.

رغم عدم إيمان فرعون وقومه إلّا أن هذه القضية كان لها عدة آثار مهمّة ، يعدّ كلّ منها انتصارا مهمّا :

١ ـ آمن بنو إسرائيل بنبيّهم «موسى عليه‌السلام» والتفّوا حوله بقلوب موحّدة ... لأنّهم بعد سنوات طوال من القهر والتعسف والجور يرون نبيّا سماويا في أوساطهم يضمن هدايتهم وعلى استعداد لأنّ يقود ثورتهم نحو الحرية وتحقيق النصر على فرعون.

٣٧٧

٢ ـ لقد شقّ موسى عليه‌السلام طريقة وسط أهل مصر من الأقباط وغيرهم ... ومال إليه جمع منهم ، أو على الأقل خافوا من مخالفته ، وطافت أصداء دعوة موسى في أرجاء مصر جمعاء!

٣ ـ وأهمّ من كل ذلك أنّ فرعون لم ير في نفسه القدرة ـ لا من جهة أفكار عامّة الناس ، ولا من جهة الخوف على مقامة ـ على مواجهة رجل له عصا كهذه العصا ، ولسان مؤثر كلسان موسى.

هذه الأمور هيأت أرضية ملائمة لأن ينشر موسى عليه‌السلام دعوته بين الناس ، ويتمّ الحجة عليهم!

ومرّت سنون طوال على هذا المنوال ، وموسى عليه‌السلام يظهر المعاجز تلو المعاجز ـ كما أشارت إليها سورة الأعراف وبينّاها في ذيل الآيات ١٣٠ ـ ١٣٥ منها ـ إلى جانب منطقه المتين ، حتى ابتلى الله أهل مصر بالقحط والجذب لسنوات لعلهم يتّقون «لمزيد الإيضاح لا بأس بمراجعة تفسير الآيات آنفة الذكر» ...

ولمّا أتمّ موسى على أهل مصر الحجة البالغة ، وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين ، نزل الوحي على موسى أن يخرج بقومه من مصر ، والآيات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أوّلا : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ).

وهذه خطة إلهية على موسى عليه‌السلام أن يمتثلها ويسري بقومه ليلا ، وإنّ على فرعون وقومه أن يعلموا ذلك فيتبعوهم ليحدث ما يحدث بأمر الله.

والتعبير بـ «عبادي» بضمير الإفراد ، مع أن الفعل (أوحينا) في الجملة ذاتها مسند إلى ضمير الجمع ، إنّما هو لبيان منتهى محبة الله لعباده المؤمنين ...

وفعلا امتثل موسى عليه‌السلام هذا الأمر ، وعبأ بني إسرائيل بعيدا عن أعين أعدائهم ، وأمرهم بالتحرك ، واختار الليل خاصّة لتنفيذ أمر الله لتكون خطته نافذة.

إلّا أن من البديهي أن حركة جماعة بهذا الشكل ليس هينا يسيرا يمكن

٣٧٨

إخفاؤه لزمان طويل ، فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه ، وكما يحدثنا القرآن عن ذلك أن فرعون أرسل رسله وأعوانه الى المدن لجمع القوات : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ).

بالطبع فإنّ في تلك الظروف ، وصول إبلاغ فرعون إلى المدائن ، وجميع مناطق مصر ، يحتاج إلى زمان معتنى به لكن من الطبيعي أن يصل هذا البلاغ المدن القريبة بسرعة وتتحرك القوى المعدّة فورا ، وتؤدي مقدمة الجيش مهمّتها ، وتتبعها بقية الأفواج بالتدريج ...

ولتعبئة الناس ـ ضمنا ـ وتهيئة الأرضية لإثارتهم ضد موسى وقومه ، أمر فرعون أن يعلن (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ).

فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه الفئة القليلة حتما.

و «الشرذمة» في الأصل تعني القلة من الجماعة ، كما تعني ما تبقى من الشيء ، ويطلق على اللبوس الممزق الخلق «شراذم» ، فبناء على هذا يكون المعنى أنّ هؤلاء «أي موسى وقومه» بالإضافة إلى أنّهم قليلون فهم متفرقون ، فكأن فرعون ، بهذا التعبير أراد أن يجسم عدم انسجام بني إسرائيل من حيث أعداد الجيش فيهم ...

ثمّ تضيف الآية الأخرى حاكية عن لسان فرعون (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) فمن يسقي مزارعنا غدا ، ومن يبنى لنا القصور؟ ومن يخدم في البيوت والقصور غيرهم؟!

ثمّ إنّا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا : (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) ومستعدون جميعا لمواجهتهم.

وقد فسّر بعضهم «حاذرون» على أنها من الحذر ، بمعنى الخوف والخشية من التآمر ، وفسّر بعضهم (حاذرون) على أنها من الحذر ، بمعنى الفطنة والتهيؤ من حيث السلاح والقوّة. إلّا أن هذين التّفسيرين لا منافاة بينهما ، فربّما كان فرعون

٣٧٩

وقومه قلقين من موسى ومستعدين لمواجهته أيضا.

ثمّ يذكر القرآن النتيجة الإجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته ، وقيام حكومة بني إسرائيل ، فيقول : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ... وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ).

أجل (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ).

وهناك اختلاف بين المفسّرين في المراد من كلمة (مَقامٍ كَرِيمٍ) ، فقال بعضهم بأنّها القصور المجللة والمساكن المظللة ...

وقال بعضهم بأنّها المجالس المنعقدة بالحبور والسرور والنشاط.

وقال بعضهم : المراد مقام الحكام والأمراء ، الذين يجلسون على كراسيهم ومن حولهم أتباعهم وجنودهم يمتثلون أوامرهم ...

وقال بعضهم : بل يعني المنابر التي كان يصعدها الخطباء «المنابر التي كانت لصالح فرعون وحكومته وجهازه فهي بمثابة أبواق إعلام له».

وبالطبع فإن المعنى الأوّل أنسب من الجميع كما يبدو ، رغم أن هذه المعاني غير متباينة ومن الممكن أن تجتمع هذه المعاني جميعا في مفهوم الآية ...

فالمستكبرون (فرعون وقومه) أخرجوا من قصورهم وحكومتهم وموقعهم وقدرتهم ، كما أخرجوا من مجالسهم المنعقدة بالحبور والسرور.

* * *

ملاحظتان

١ ـ هل حكم بنو إسرائيل في مصر؟!

على أساس تعبير الآيات المتقدمة (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ ...) فإنّ جمعا من المفسّرين يعتقدون أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر وسيطروا على

٣٨٠