الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-52-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٠٤

المضلين وأعداء الحق من أكبر أنواع الجهاد.

وروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

وربّما كان هذا الحديث إشارة إلى نفس هذا الجهاد وإلى عظمة ما يؤديه العلماء في التبليغ بالدين ، هذا التعبير يجسد أيضا عظمة مقام القرآن ، ذلك لأنّه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسلاحه القاطع ، فإنّ قدرته البيانية واستدلاله وتأثيره العميق وجاذبيته فوق تصور وقدرة البشر.

الوسيلة المؤثرة والواضحة كوضوح الشمس وضياء النهار ، والمطمئنة كطمأنينة ستائر الليل ، والمحركة كحركة الرياح الخلاقة ، والعظيمة بعظمة الغيوم وفيما تبثه قطرات المطر من حياة ، حيث أشارت إلى ذلك الآيات السابقة.

وبعد فاصلة وجيزة ، يتناول القرآن الكريم مجددا الاستدلال على عظمة الخالق عن طريق بيان نعمه في النظام الكوني ، فيشير بعد ذكر المطر في الآيات السابقة إلى عدم الاختلاط بين المياه العذبة والمالحة : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً).

«مرج» من مادة «المرج» (على وزن فلج) بمعنى الخلط أو الإرسال ، وهنا بمعنى المجاورة بين الماء العذب والمالح.

«عذب» بمعنى سائغ وطيب وبارد ، و «فرات» بمعنى لذيذ وهنيء.

«ملح» بمعى مالح ، و «أجاج» بمعنى مرّ وحار. (بناء على هذا فملح وأجاج نقطتان مقابلتان لعذب وفرات).

«برزخ» بمعنى حجاب وحائل بين شيئين.

وجملة (حِجْراً مَحْجُوراً) كما أشرنا سابقا (ذيل الآية ٢٢ من هذه السورة) كانت جملة لاخذ الأمان بين العرب يقولونها عند ما يفاجؤون بشخص يخافونه ويرهبونه ، يعني (أعف عنا ، وآمنا ، وابتعد عنا).

على أية حال ، فهذه الآية تصور واحدا من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق

٢٨١

في عالم مخلوقاته ، وكيف يستقر حجاب غير مرئي ، وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب ، فلا يسمح لهما بالاختلاط.

وقد اتّضح اليوم أنّ هذا الحجاب اللامرئي ، هو ذلك «التفاوت بين كثافة المالح والعذب» وفي الاصطلاح «تفاوت الوزن النوعي» لهما ، حيث يكون سببا في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة.

ورغم أنّ جماعة من المفسّرين وقعوا في تعب من أجل اكتشاف مثل هذين البحرين في الكرة الأرضية وأين يوجد بحر عذب الماء في جوار بحر مالح الماء ولا يمتزجان!؟ لكن هذه المشكلة انحلت لنا ، لأنّنا نعلم أن جميع أنهار الماء ، العذب العظيمة التي تصب في البحار عند الساحل ، تشكل بحرا من الماء العذب ، فتدفع المياه المالحة إلى الخلف ، ويستمر هذا الوضع إلى مدّة طويلة ، وبسبب التفاوت في كثافتهما يمتنعان عن الامتزاج مع بعضهما ، فكل واحد منهما يقول للآخر : (حِجْراً مَحْجُوراً).

الملفت هو أنّ سطح البحر يرتفع وينخفض بمقدار كبير بسبب المد والجزر اللذين يحصلان مرّتين في اليوم بتأثير جاذبية القمر وبذلك تغمر المياه العذبة التي شكلت بحرا اليابسة في مصبات تلك الأنهار وأطرافها ، وقد استفاد الناس من هذه الحالة منذ قديم الزمان ، فحفروا جداول كثيرة في أطراف ملتقى الأنهار مع البحر ، وزرعوا أراض شاسعة بالأشجار ، حيث تتمّ سقايتها بنفس ذلك الماء العذب الذي ينتشر في مناطق واسعة بواسطة المد والجزر.

توجد حتى الآن في جنوب العراق وإيران ملايين من أشجار النخيل ، وقد شاهدنا عن قرب أنّ قسما منها يسقى فقط بهذه الوسيلة ، ويقع على بعد كبير من ساحل البحر ، وأحيانا يتغلب الماء المالح حيث تقل المياه التي تصبها الأنهار الكبيرة في البحر في السنين المجدية ، فيقلق المزارعون من أهل هذه المنطقة ، لأنّ ذلك يضرّ بزراعتهم ضررا بالغا.

٢٨٢

لكن العادة ليست كذلك ، فهذا الماء «العذب الفرات» المستقر إلى جوار الماء «المالح والأجاج» يعدّ ذخيرة عظيمة لهم.

معلوم أن وجود العلل الطبيعية في مثل هذه المسائل لا يقلل من قيمتها أبدا ، وإلّا فما هي الطبيعة؟ ليست هي إلّا فعل الله وإرادته ومشيئته ، وهو تعالى الذي منح هذه الخواص لهذه الموجودات.

والملفت للنظر أنّ الإنسان حينما يجتاز هذه المناطق بالطائرة ، يرى جيدا هذان الماءان المختلفان في اللون ، غير الممتزجين ، فيذكّر هذا المشهد الإنسان بهذه النكتة القرآنية.

إنّ جعل هذه الآية وسط آيات تتعلق بـ «الكفر» و «الإيمان» ربّما تكون أيضا إشارة وتمثيلا لهذا الأمر ، ففي المجتمع الواحد أحيانا ، وفي المدينة الواحدة ، بل حتى في البيت الواحد أحيانا ، يتواجد أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات ، مع أفراد بلا إيمان كالماء المالح الأجاج ... مع طرازين من الفكر ، ونوعين من العقيدة ، ونمطين من العمل ، طاهر وغير طاهر ، دون أن يمتزجا.

في الآية التالية ـ بمناسبة البحث في نزول المطر ، وفي البحرين العذب والأجاج المتجاورين يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان من الماء ، فيقول تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً).

حقا إن النحت في الماء ، وخلق صورة بديعة كهذه على الماء ، دليل على عظمة قدرة الخالق ، وكان الكلام في الآيات السابقة حول إحياء النباتات بواسطة المطر ، والكلام ـ هنا عن مرحلة أعلى ، يعني خلق الإنسان من الماء.

وبين المفسّرين أقوال في المراد من الماء هنا :

ذهب جماعة أنّ المقصود من «بشر» هو الإنسان الأول ، يعني آدم عليه‌السلام ، ذلك لأنّ خلقه كان من «طين» يعني عجينا من ماء وتراب ، إضافة إلى أن الماء كان أوّل موجود خلقه الله تعالى طبقا للرّوايات الإسلامية ، وخلق الإنسان من ذلك الماء ،

٢٨٣

وتنكير «بشر» شاهد على هذا المعنى.

وذهب جماعة آخرون أن المقصود من «الماء» هو ماء النطفة ، حيث يتكون جميع الناس منه بقدرة الخالق ، ومع امتزاج نطفة الرجل «الحيمن» الذي يسبح في الماء مع «البويضة» نطفة المرأة ، تتكون أول نواة لحياة الإنسان ، يعني الخلية الإنسانية الحية الأولى.

لو تدبّر الإنسان وتأمل في مراحل انعقاد النطفة من بدايتها إلى نهايتها ، فسيشاهد الكثير من آيات عظمة الحق وقدرة الخالق فيها ، حيث تكفي وحدها لمعرفة ذاته المقدسة تبارك وتعالى.

الشاهد على هذا التّفسير ، جملة وردت في آخر الآية ، وسنشرحها (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً).

فضلا عن هذا ، فلا شك أنّ الماء يشكل القسم الأكبر من وجود الإنسان ، بالصورة التي يمكن القول أنّ المادة الأساس لوجود أي إنسان هي الماء ، لهذا فإن مقاومة الإنسان إزاء العطش قليلة جدّا ، في حين يستطيع الإنسان أن يقاوم أيّاما وأسابيع حيال قلّة المواد الغذائية.

ويحتمل قويا أيضا ، أنّ جميع هذه المعاني تجتمع في مفهوم الآية ، أي أن الإنسان الأوّل خلق من ماء ، وأن تكوّن جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضا ، وأن الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم الإنسان أيضا ... الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم ، كيف صار مبدأ إيجاد مثل هذا الخلق الجميل!؟ وهذا دليل بيّن على قدرته تبارك وتعالى.

بعد ذكر خلق الإنسان ، يورد جلّ ذكره الكلام عن انتشار الإنسان ، فيقول : (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً).

المقصود من «النسب» هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد ، مثل ارتباط الأب والابن ، أو الإخوة بعضهم مع بعض ، أمّا المقصود من

٢٨٤

«صهر» التي هي في الأصل بمعنى «الختن» هو الارتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق ، مثل ارتباط الإنسان بأقرباء زوجته ، وهذان الاثنان هما ما يعبر عنه الفقهاء في مباحث النكاح بـ «النسب» و «السبب».

في القرآن المجيد في سورة النساء ، أشير إلى المحارم النسبية النسب في سبعة موارد (الأم ، البنت ، الأخت ، العمة ، الخالة ، بنت الأخ ، بنت الأخت) وإلى المحارم السببية في أربعة موارد (بنت الزوجة ، أم الزوجة ، زوجة الابن ، زوجة الأب).

من المؤكّد أن هناك وجهات نظر أخرى لدى المفسّرين في تفسير هذه الجملة ، لكن ما قلناه أوضح وأقوى من جميعها.

فمن جملتها أنّ جماعة منهم اعتبروا «النسب» بمعنى أولاد الابن ، و «الصهر» بمعنى أولاد البنت ، ذلك لأن الارتباط النسبي يحسب على أساس الآباء لا على أساس الأمهات.

وكما قلنا بشكل مفصل ـ في ذيل الآية (٦١) من سورة آل عمران ـ فإنّ هذا اشتباه كبير ، استمدّ من سنن أيّام ما قبل الإسلام ، حيث اعتبروا النسب عن طريق الأب فقط ، وليس للأم أي أثر ، في حين أن من المسلمات في الفقه الإسلامي وبين جميع علماء الإسلام أن الحرمة النسبية من ناحية الأب ومن ناحية الام أيضا (ولزيادة الاطلاع ، راجع التّفسير ذيل الآية (٦١) من سورة آل عمران).

والجدير بالذكر ، أن لدينا حديثا معروفا ، نقل في كتب الشيعة والسنة ، وطبقا لهذا الحديث فإنّ الآية أعلاه نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام ، وذلك أنّ النّبي زوّج ابنته فاطمة من علي عليهما‌السلام ، ولهذا فقد كان علي عليه‌السلام ابن عمّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوج ابنته أيضا ، وهذا معنى «نسبا وصهرا». (١)

__________________

(١) مجمع البيان ، وتفسير روح المعاني ، ذيل هذه الآية.

٢٨٥

ولكن هذه الرّوايات تعتبر بيان للمصاديق الواضحة ، ولا تقدح بعمومية مفهوم الآية ، فالآية تشمل كل ارتباط يكون عن طريق النسب والمصاهرة ، وأحد مصاديقها الواضحة كان ارتباط علي عليه‌السلام من جهتين مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

في ختام الآية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية : (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً).

ويبيّن القرآن الكريم في نهاية المطاف في الآية الأخيرة ـ مورد البحث ـ انحراف المشركين عن أصل التوحيد ، من خلال المقايسة بين قدرة الأصنام وقدرة الخالق ، حيث مرّت نماذج منها في الآيات السابقة ، يقول : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ).

من المسلّم أنّ وجود المنفعة والضرر لا يكون وحده معيار العبادة ، لكن القرآن يبيّن من خلال هذا التعبير هذه النكتة ، وهي أنّهم يفتقدون أية حجة في هذه العبادة ، لأنّ الأصنام موجودات عديمة الخاصية تماما ، وفاقدة لأية قيمة ، ولأي تأثير سلبي أو إيجابي.

ويضيف القرآن الكريم في ختام الآية أن الكفرة يعين بعضهم بعضا في مواجهة خالقهم «في طريق الكفر» (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً).

إن هؤلاء ليسوا وحدهم في طريق الضلال ، إنهم يقوي بعضهم بعضا بشكل قاطع ، ويعبئون القوى ويقيمون العراقيل ضد دين الله ونبيّه والمؤمنين الحقيقيين.

وإذا رأينا أن بعض المفسّرين يحصر «الكافر» الوارد في هذه الآية في «أبي جهل» فمن باب ذكر المصداق البارز ، وإلّا فإنّ الكافر في كل مورد له معنى واسع يشمل جميع الكفار.

* * *

٢٨٦

مسألتان

١ ـ وحدة القيادة

في الآية الأولى ـ مورد البحث ـ قرأنا قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) ولكننا لم نفعل مثل هذا ... ومن المسلّم أن علة ذلك لأن الأنبياء قادة الأمم ، ونعلم أن التعدد في مسألة القيادة يؤدي إلى إضعاف كل أمّة وشعب ، خاصّة وأنّ الكلام هنا عن خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويجب أن تستمر هذه القيادة حتى نهاية العالم. لذا تتّضح ـ أكثر ـ أهمية التمركز والوحدة في القيادة.

القائد الواحد يستطيع أن يوحد جميع القوى ، ويمنحها الانسجام والوحدة.

وفي الحقيقة فإن مسألة وحدة القيادة انعكاس لحقيقة التوحيد في المجتمع الإنساني ، ويكون في النقطة المقابلة ظواهر الشرك والتفرقة والنفاق.

وما ورد في الآية (٢٤) من سورة فاطر : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) فليس ثمّة منافاة مع البحث أعلاه ، لأن الكلام فيها عن الأمة ، لا أهل كل مدينة وكل بلد.

فلو أغمضنا النظر عن مقام الأنبياء ، فإنّ هذا الأصل صحيح أيضا حتى في أدنى مستويات القيادة ، والشعوب التي صارت أسيرة التعدد في القيادة ، انتهت إلى التجزئة في سائر شؤونها ، فضلا عن الضعف والعجز.

٢ ـ القرآن وسيلة الجهاد الكبير

«الجهاد الكبير» تعبير بليغ عن أهمية منهج الكفاح الرّباني البنّاء.

الملفت للانتباه في الآيات أعلاه ، هو أنّ هذا العنوان قد أعطي للقرآن ، أو بعبارة أخرى : للأشخاص الذين يجاهدون بالقرآن مظاهر الضلال والانحرافات والتلوثات.

هذا التعبير يبيّن المواجهات المنطقية والعقائدية من جهة ، ويكشف عن

٢٨٧

عظمة مقام القرآن من جهة أخرى.

ورد في بعض الرّوايات : أنّ أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة ... خرجوا ليلة ليستمعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كلّ رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكلّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا! ثمّ انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثّانية عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة! ثمّ انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثّالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود! فتعاهدوا على ذلك ، ثمّ تفرقوا.

فلمّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثمّ خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني ـ يا أبا حنظلة ـ عن رأيك فيما سمعت من محمّد. فقال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ، ولا ما يراد بها.

قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به.

قال : ثمّ خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟

فقال : ماذا سمعت!؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنّا كفرسي رهان ، قالوا : منّا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!!.

٢٨٨

قال : فقام عنه الأخنس وتركه. (١)

نعم ، جاذبية القرآن ردت هؤلاء إلى أنفسهم ليالي متوالية ، وكانوا حتى بياض الصبح غرقى هذه الجاذبية الإلهية ، لكن التكبر والتعصب والحرص على المصالح المادية كان مسلطا عليهم بحيث منعهم من قبول الحق.

ولا شك أنّ هذا النّور الإلهي له هذه القدرة على أن يجذب إليه كل قلب مستعد أينما كان ، ولهذا كان القرآن وسيلة «الجهاد الكبير» في الآيات مورد البحث.

* * *

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٣٧ ، وفي ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ١٧٢.

٢٨٩

الآيات

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩))

التّفسير

أجري هو هدايتكم :

كان الكلام في الآيات السابقة حول إصرار الوثنيين على عبادتهم الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ، وفي الآية الحالية الأولى يشير القرآن إلى مهمّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبالة هؤلاء المتعصبين المعاندين ، فيقول تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً). (١)

__________________

(١) «نذير» في اعتقاد البعض صيغة مبالغة ، في حين أنّ «مبشر» اسم فاعل فقط ، هذا التفاوت التعبيري يمكن أن يكون بسبب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في مواجهة فئة بلا إيمان وكان لها إصرار بالغ على انحرافها ، فلا بد أن يبالغ في إنذارها. (روح المعاني ذيل الآية مورد البحث).

٢٩٠

إذا لم يتقبل هؤلاء دعوتك ، فلا جناح عليك ، فقد أديت مهمتك في البشارة والإنذار ، ودعوت القلوب المستعدة إلى الله.

هذا الخطاب ، كما يشخص مهمّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كذلك يسلّيه ، وفيه نوع من التهديد لهذه الفئة الضالة ، وعدم المبالاة بهم.

ثمّ يأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهم أنني لا أريد منكم في مقابل هذا القرآن وابلاغكم رسالة السماء أي أجر وعوض : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ثمّ يضيف : إن الأجر الوحيد الذي أطلبه أن يهتدي الناس إلى طريق الله (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

يعني أجري وجزائي هو هدايتكم فقط ، وبكامل الإرادة والإختيار أيضا ، فلا إكراه ولا إجبار فيه ، وكم هو جميل هذا التعبير الكاشف عن غاية لطف ومحبة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأتباعه ، ذلك لأنّه عدّ (١) أجره وجزاءه سعادتهم.

بديهي أنّ للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجرا معنويا عظيما على هداية الأمة ، ذلك لأن «الدال على الخير كفاعله».

وذكر المفسّرون احتمالات أخرى أيضا في تفسير هذه الآية من جملتها : يرى جماعة من المفسّرين أنّ معنى هذه الآية هكذا «أنا لا أريد منكم أي جزاء إلّا ما أردتم من إنفاق الأموال على المحتاجين في سبيل الله ، وذلك مرتبط برغبتكم». (٢)

لكنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى معنى الآية.

اتّضح ممّا قلناه أعلاه ، أنّ الضمير في «عليه» يرجع إلى القرآن وتبليغ دين الإسلام ، لأن الكلام كان في عدم المطالبة بالأجر والجزاء في مقابل هذه الدعوة.

هذه الجملة بالإضافة إلى أنّها تقطع حجج المشركين ، فهي توضح أن قبول

__________________

(١) بناء على هذا فالاستثناء في الآية أعلاه «استثناء متصل» وإن بدا منقطا لأول وهلة.

(٢) الاستثناء في هذه الحالة «استثناء منقطع».

٢٩١

هذه الدعوة الإلهية سهل ويسير جدّا لكل أحد ، بلا مشقّة ولا خسارة.

وهذا بنفسه شاهد على صدق دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونقاء فكره ومنهجه ، وذلك لأنّ الأدعياء الكاذبين لا بدّ أن يدخلوا في هذا العمل رغبتهم في الأجر والجزاء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وتبيّن الآية التي بعدها المعتمد الأساس للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ).

فمع هذا المعتمد والملجأ والمولى الذي ما زال ولن يزال حيا دائما ، فلا حاجة لك بأجر وجزاء هؤلاء ، ولا خوف عليك من ضررهم ومؤامراتهم.

والآن حيث الأمر على هذه الصورة فسبح الله تنزيها له من كل نقص ، وأحمده إزاء كل هذه الكمالات (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ).

من الممكن اعتبار هذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة ، لأنّ تعالى هو المنزّه من كل عيب ونقص ، وأهل لكل كمال وجمال ، وحقيق بالتوكل عليه.

ثمّ يضيف القرآن الكريم : لا تقلق من بهتان ومؤامرات الأعداء ، لأنّ الله مطلع على ذنوب عباده وسيحاسبهم : (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً).

الآية التالية بيان لقدرة الخالق في ساحة عالم الوجود ، ووصف آخر لهذا الملاذ الأمين ، يقول تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ). ثمّ (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فأخذ بتدبير العالم.

إنّ من له هذه القدرة الواسعة يستطيع أن يحفظ المتوكلين عليه من كل خطر وحادثة ، فكما أنّ خلق العالم كان بواسطة قدرته ، كذلك فإنّ إدارة وقيادة وتدبير ذلك العالم بأمر ذاته المقدسة.

ضمنا ، فإنّ خلق العالم بشكل تدريجي إشارة إلى أنّ الله لا يعجل في أي عمل ، فإذا لم يجاز أعداءك سريعا ، فلأجل أن يمنحهم الفسحة والفرصة حتى يأخذوا بإصلاح أنفسهم ، فضلا عن أن من يعجل هو من يخاف الفوت ، وهذا غير

٢٩٢

متصور بالنسبة إلى الله القادر المتعال.

في مسألة خلق عالم الوجود في ستة أيّام ، فإنّ «اليوم» في مثل هذه الموارد بمعنى «المرحلة» ، أو الفترة الزمنية وهذه الفترة من الممكن أن تستغرق ملايين أو مليارات من السنين ، وشواهد هذا المعنى في الأدب العربي وغيره كثيرة ، بحثناه بشكل مفصل في تفسير الآية (٥٤) من سورة الأعراف ، وشرحنا هناك هذه المراحل الست.

وأيضا فإنّ معنى «العرش» وجملة (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وردت هناك أيضا.

وفي ختام الآية يضيف تعالى : (الرَّحْمنُ) : من شملت رحمته العامّة جميع الموجودات ، فالمطيع والعاصي والمؤمن والكافر يغترفون من خوان نعمته التي لا انقطاع فيها.

والآن ، حيث ربّك الرحمن القادر المقتدر ، فإذا أردت شيئا فاطلب منه فإنّه المطلع على احتياجات جميع عباده : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً).

هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ نتيجة لمجموع البحوث السابقة. يأمر الله النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعلن لهم أنّني لا أريد منكم أجرا ، وتوكل على الله الجامع لكل الصفات ، القادر ، والرحمن ، والخبير ، والمطلع ، وأطلب منه أي شيء تريده.

للمفسّرين أقوال أخرى في تفسير هذه الجملة ، فقد جعلوا السؤال هنا بمعنى الاستفهام (لا الطلب) ، وقالوا : إن مفهوم الجملة هو : إذا أردت أن تسأل في موضوع خلق الوجود وقدرة الخالق ، فاسأله هو ، فهو العالم بكل شيء.

بعض آخر ، بالإضافة إلى أنّهم فسروا «السؤال» بـ «الاستفهام» قالوا : إن المقصود بـ «الخبير» جبرئيل ، أو النّبي ، يعني : اسألهما عن صفات الله.

التّفسير الأخير بعيد جدّا بالتأكيد ، وما قبله أيضا غير متناسب كثيرا مع الآيات السابقة ، والأقرب هو ما قلناه في معنى الآية من أن المقصود من السؤال

٢٩٣

هو الطلب من الله. (١)

* * *

مسألتان

١ ـ أجر الرسالة

نقرأ في كثير من آيات القرآن أنّ أنبياء الله كانوا يبيّنون هذه الحقيقة بصراحة : إنّنا لا نسأل أي أجر من أي أحد ، بل إنّ أجرنا على الله العظيم فقط.

الآيات ١٠٩ و ١٢٧ و ١٤٥ و ١٦٤ و ١٨٠ سورة الشعراء ، وكذلك الآيات ٢٩ و ٥١ سورة هود ، والآية ٧٢ سورة يونس و ٤٧ سورة سبأ ، تدل على هذا المعنى.

لا شك أن عدم المطالبة بالأجر هذه ، تدفع كل اتهام عن الأنبياء ، فضلا عن أنّهم يستطيعون أن يواصلوا عملهم بحرية تامة ، وترتفع الموانع والحواجز التي قد تحدد من حرية ألسنتهم بسبب العلاقة المادية.

أمّا الملفت للانتباه فإنّه تلاحظ ثلاثة تعابير مختلفة فيما يخص الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١ ـ التعبير الذي ورد في الآيات أعلاه (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) هذا التعبير الفذ البليغ الرائع.

٢ ـ التعبير الوارد في الآية (٢٣) من سورة الشورى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).

٣ ـ التعبير الوارد في الآية (٤٧) من سورة سبأ (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ).

من انضمام هذه التعابير الثلاثة إلى بعضها ، تتحصل النتيجة التالية : فيما يخص

__________________

(١) طبقا لهذا التّفسير فـ «الباء» في «به» زائدة ، أمّا طبقا للتفاسير الأخرى ، فإن «الباء» بمعنى «عن».

٢٩٤

الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا عدّت المودة في القربى أجر رسالته ، فهذه المودة ـ من جانب ـ في نفع المؤمنين أنفسهم لا بنفع النّبي. ومن جانب آخر فإن هذه المودة وسيلة حصول الهداية على طريق الله تبارك وتعالى.

بناء على هذا ، فإنّ مجموع هذه الآيات يشير إلى أن المودة في قربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي استمرار منهج رسالة وقيادة ذلك النّبي ، وبعبارة أخرى : لمواصلة طريق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدايته وقيادته يجب الارتباط بذوي قرباه ، والاعتماد على قيادتهم ، هذا هو الأمر الذي يدافع عنه اتباع أهل البيت في مسألة الإمامة ، فإنّهم يعتقدون أن امتداد القيادة بعد النّبي سيستمر إلى الأبد ، لا في شكل النبوّة ، بل في شكل الإمامة.

ومن اللازم الالتفات إلى هذه النكتة أيضا ، وهي أن المحبة عامل مؤثر في الأتباع ، كما نقرأ في الآية (٣١) من سورة آل عمران : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي ...) ذلك لأنّي المبلغ بأمره.

ورابطة الحب من حيث الأصل ، تأخذ الإنسان باتجاه المحبوب وإراداته ، وكلما كانت رابطة الحب أكثر قوّة ، كانت هذه الجاذبية قوية أكثر. خصوصا المحبّة التي يكون دافعها كمال «المحبوب» ، ويكون الإحساس بهذا الكمال سببا في أن يسعى الإنسان ليتقرب إلى مبدأ الكمال وإلى تنفيذ إراداته. (١)

٢ ـ على من يجب التوكل؟

في الآيات أعلاه ، يأمر الله تبارك وتعالى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتوكل ، وأن يصرف النظر عن جميع المخلوقات ، وينظر إلى الله عزوجل فقط.

ولذلك يعدد صفات لهذه الذات المقدسة ، هي في الحقيقة شرائط أساسية

__________________

(١) من أجل توضيح أكثر في هذا الصدد ، راجع التّفسير الأمثل (ذيل الآية ٣١ سورة آل عمران).

٢٩٥

فيمن يستطيع أن يكون ملاذا واقعيا وآمنا للناس.

الأولى : هي أن يكون حيا ، وذلك أنّ موجودا ميتا فاقدا لخصائص الحياة ـ مثل الأصنام ـ لا يمكنه أبدا أن يكون معتمدا.

الثّانية : هي أن تكون حياته خالدة ، بالشكل الذي لا يحدث احتمال موته تزلزلا في فكر المتوكلين.

الثّالثة : هي أن يحيط بكل شيء علما ، فيكون مطلعا على احتياجات المتوكلين ، وعلى خطط ومؤامرات الأعداء أيضا.

الرّابعة : هي أن يكون على كل شيء قديرا ، حيث لا وجود فيه لأي شكل من العجز وعدم الاستطاعة الموجبين لضعف هذا الملجأ.

الخامسة : هي أن تكون الحاكمية له على جميع الأمور ، وإدارتها بيده المقتدرة.

ونحن نعلم أن هذه الصفات ليست إلّا لله تبارك وتعالى ، ولهذا فهو وحده الملجأ الباعث على الاطمئنان الذي لا يتزلزل أمام كل الحوادث.

* * *

٢٩٦

الآيات

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))

التّفسير

البروج السماوية :

كان الكلام في الآيات الماضية عن عظمة وقدرة الله ، وعن رحمته أيضا ، ويضيف الله تعالى في الآية الأولى هنا : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ).

نحن لا نعرف «الرحمن» أصلا ، وهذه الكلمة ليس لها مفهوم واضح عندنا ، (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) نحن لا نخضع لأي أحد ، وسوف لن نكون أتباع أمر هذا أو ذاك (وَزادَهُمْ نُفُوراً) اي أنّهم يتكلمون بهذا الكلام ويزدادون ابتعادا ونفورا عن الحقّ.

لا شكّ أنّ أنسب اسم من أسماء الله للدعوة إلى الخضوع والسجود بين يديه ،

٢٩٧

هو ذلك الاسم الممتلئ جاذبية «الرحمن» مع مفهوم رحمته العامّة الواسعة ، لكن أولئك بسبب عمى قلوبهم ولجاجتهم ، لم يظهروا تأثرا حيال هذه الدعوة ، بل تلقوها بالسخرية والاستهزاء ، وقالوا على سبيل التحقير : (وَمَا الرَّحْمنُ) كما قال فرعون حيال دعوة موسى عليه‌السلام : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ). (١) فهؤلاء لم يكونوا على استعداد حتى ليقولوا : «ومن الرحمن» أو «من ربّ العالمين».

ورغم أن بعض المفسّرين يرى أن اسم «الرحمن» لم يكن مأنوسا بين عرب الجاهلية ، وحينما سمعوا هذا الوصف من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرحوا هذا السؤال على سبيل التعجب واقعا ، حتى كان يقول البعض منهم : «ما نعرف الرحمن إلّا رجلا باليمامة» (يعنون به مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوّة كذبا ، وعرفه وقومه بهذا الاسم «الرحمن»).

لكن هذا القول بعيد جدّا ، لأنّ مادة هذا الاسم وصيغته كلاهما عربيان ، وكان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلو ـ دائما ـ في بداية السور القرآنية ، الآية (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وعلى هذا فلم يكن هدف أولئك إلّا التحجج والسخرية ، والعبارة التالية شاهد على هذه الحقيقة أيضا لأنهم يقولون : (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا).

وبما أن تعاليم القادة الإلهيين تؤثر في القلوب المؤهلة فقط ، فإنّ عمي القلوب من المعاندين مضافا الى عدم انتفاعهم بها ، فإنّها تزيدهم نفورا لأنّ آيات القرآن كقطرات المطر الباعثة على الحياة تنمي الورد والخضرة في البستان ، والشوك في الأرض السبخة ، ولذا لا مجال للتعجب حيث يقول : (وَزادَهُمْ نُفُوراً). (٢)

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ٢٣.

(٢) على هذا فإنّ فاعل (زاد) هو ذلك الأمر بالسجود الذي ترك أثرا معكوسا في أولئك المرضى قلوبهم ، وإن نقل بعض المفسّرين أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سجد بعد هذا الكلام وسجد المؤمنون أيضا ، فسبّب هذا ابتعاد أولئك أكثر ، بناء على هذا ففاعل (زاد) السجدة ، لكن المعنى الأوّل أكثر صحّة.

٢٩٨

الآية التالية إجابة على سؤالهم حيث كانوا يقولون : «وما الرحمن» ، وإن كانوا يقولون هذا على سبيل السخرية ، لكن القرآن يجيبهم إجابة جادة ، يقول تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً).

«البروج» جمع «برج» في الأصل بمعنى «الظهور» ولذا يسمون ذلك القسم الأعلى والأظهر من جدار أطراف المدينة أو محل تجمع الفرقة العسكرية «برج» ، ولهذا أيضا يقال حينما تظهر المرأة زينتها «تبرجت المرأة» ، وهذه الكلمة تطلق أيضا على القصور العالية.

على أية حال ، فالبروج السماوية ، إشارة إلى الصور الفلكية الخاصّة حيث تستقر الشمس والقمر في كل فصل وكل موضع من السنة إزاء واحد منها ، يقولون مثلا : استقرت الشمس في برج «الحمل» يعني أنّها تكون بمحاذاة «الصورة الفلكية» ، «الحمل» ، أو القمر في «العقرب» يعني وقفت كرة القمر أمام الصورة الفلكية «العقرب» (تطلق الصورة الفلكية على مجموعة من النجوم لها شكل خاص في نظر المشاهد).

بهذا الترتيب ، أشارت الآية إلى منازل الشمس والقمر السماوية ، وتضيف على أثر ذلك : (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (١).

تبيّن هذه الآية النظم الدقيق لسير الشمس والقمر في السماء (وبديهي أن هذه التغييرات في الحقيقة ترتبط بدوران الأرض حول الشمس دائما). والنظام الفذ الدقيق الذي يحكمهما ملايين السنين بلا زيادة أو نقصان ، بالشكل الذي يستطيع الفلكيون ـ أحيانا ـ أن يتنبئوا. قبل مئات السنين بوضع حركة الشمس والقمر في يوم معين وساعة معينة بالنسبة إلى مئات السنين الآتية ، هذا النظام الحاكم على هذه الأفلاك السماوية العظيمة شاهد ناطق على وجود الخالق المدبر

__________________

(١) طبقا للتفسير أعلاه ، فإنّ ضمير «فيها» يرجع إلى البروج ، وينبغي أن يكون هكذا ، ذلك لأنّ الموضوع المهم هو دوران الشمس والقمر ضمن نظام خاص في البروج : وليس وجود البروج في السماء فقط.

٢٩٩

والمدير لعالم الوجود الكبير.

مع هذه الدلائل الواضحة ، ومع هذه المنازل البديعة والدقيقة للشمس والقمر ، فهل ما زلتم تجهلونه وتقولون : «وما الرحمن»!؟

أمّا لماذا سميت الشمس ، «سراجا» ، وقرن القمر بصفة «منير»؟ فمن الممكن أن يكون دليله أن «السراج» بمعنى المنبع الضوئي الذي نوره مستمد من ذاته وهذا ينطبق على حال الشمس ، حيث أنّ من المسلمات العلمية طبقا للتحقيقات أن نورها من نفسها. بخلاف القمر الذي نوره من ضياء الشمس ، ولذا وصفه بـ «المنير» الذي يستمد نوره من غيره دائما ، (في التّفسير الأمثل ، أوردنا القول مفصلا في هذا الصدد ، ذيل الآية ٥ و ٦ سورة يونس).

في الآية الأخيرة ، يواصل القرآن الكريم التعريف بالخالق سبحانه ، ويتحدث مرّة أخرى في قسم آخر من نظام الوجود ، فيقول تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً).

هذا النظام البديع الحاكم على الليل والنهار ، حيث يعقب أحدهما الآخر متناوبين متواصلين على هذا النظم ملايين السنين ... النظم الذي لولاه لانعدمت حياة الإنسان نتيجة لشدة النور والحرارة أو الظلمة والعتمة ، وهذا دليل رائع للذين يريدون أن يعرفوا الله عزوجل.

ومن المعلوم أن نشوء نظام «الليل» و «النهار» نتيجة لدوران الأرض حول الشمس ، وأن تغيراتهما التدريجية والمنظمة ، حيث ينقص من أحدهما ويزاد في الآخر دائما بسبب ميل محور الأرض عن مدارها ممّا يؤدي لوجود الفصول الأربعة.

فإذا دارت كرتنا الأرضية في حركتها الدورانية أسرع أو أبطأ من دورانها الفعلي ففي احدى الصور تطول الليالي الى درجة أنّها تجمد كل شيء ، ويطول النهار الى درجة أنّ الشمس تحرق كل شيء ... وفي صورة اخرى فإنّ الفاصلة

٣٠٠