الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-52-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٠٤

الآية حكمين آخرين : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ، وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

فهنا لا يقع مثل هؤلاء الأشخاص تحت طائلة العقاب الفيزيقي الشديد فحسب ، بل إنّ كلامهم وشهادتهم يسقطان عن الإعتبار أيضا ، لكيلا يتمكنوا من التلاعب بسمعة الآخرين وتلويث شرفهم في المستقبل ، مضافا إلى أن وصمة الفسق تكتب على جبينهم فيفتضح أمرهم في المجتمع. وذلك لمنعهم من تلويث سمعة الطاهرين.

وهذا التشديد في الحكم المشرّع لحفظ الشرف والطهارة ، ليس خاصا بهذه المسألة ، ففي كثير من التعاليم الإسلامية نراه ماثلا أمامنا للأهمية البالغة التي يمنحها الإسلام لشرف المرأة والرجل المؤمن الطاهر.

وجاء في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء» (١).

ولكنّ المولى العزيز الحكيم سبحانه وتعالى لا يسدّ باب رحمته في وجه التائبين ، الذين تابوا من ذنوبهم وطهّروا أنفسهم ، وندموا على ما فرّطوا ، وسعوا في تعويض ما فاتهم من البرّ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقد اختلف المفسّرون في كون هذا الاستثناء يعود إلى جملة (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أو إلى جملة (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) ، فإذا كان الاستثناء عائدا إلى الجملتين معا ، فمعنى ذلك قبول شهادتهم بعد التوبة وإزالته الحكم بفسقهم. أمّا إذا كان عائدا إلى الجملة الأخيرة ، فإن الحكم عليهم بالفسق سيزول عنهم في جميع الأحكام الإسلامية ، إلّا أن شهادتهم تظل باطلة لا تقبل منهم حتى آخر أعمارهم.

إلّا أن المبادئ المعمول بها في «أصول الفقه» تقول : «إن الاستثناء الوارد

__________________

(١) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، صفحة ٢٦٩ ، باب التهمة وسوء الظن.

٢١

بعد عدّة جمل يعود إلى الأخيرة منها ، إلّا في حالة وجود قرائن تنص على شمول هذه الجمل بهذا الاستثناء. وهنا يوجد مثل هذه القرينة ، لأنّه عند ما يزول الحكم بالفسق عن الشخص بتوبته إلى الله ، فلا يبقى دليل على ردّ شهادته لأنّ عدم قبول الشهادة كان من أجل فسقه. فإذا تاب ورجعت إليه ملكة العدالة فلا يسمى فاسقا.

وجاءت أحاديث عن أهل البيت عليهم‌السلام مؤكّدة هذا المعنى ، فقد روى أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد وحماد عن القاسم بن سليمان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدا ، ثمّ يتوب ولا نعلم منه إلّا خيرا أتجوز شهادته؟ قال : «نعم. ما يقال عندكم؟».

قلت : يقولون : توبته فيما بينه وبين الله ، ولا تقبل شهادته أبدا.

فقال : «بئس ما قالوا : كان أبي يقول : إذا تاب ولم نعلم منه إلّا خيرا جازت شهادته» (١).

كما رويت أحاديث أخرى في هذا الباب بهذا المعنى ، ولكن يوجد حديث واحد يحمل على التقية.

ومن الضروري أن نذكّر بأن كلمة «أبدا» في جملة (لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) دليل على عمومية الحكم. وكما نعلم فإنّ كل عام يقبل الاستثناء (خاصّة الاستثناء المتصل به) ، فالرأي القائل أن لفظة (أبدا) تمنع تأثير التوبة خطأ مؤكّد.

* * *

بحوث

١ ـ المراد من كلمة «رمى»

«الرّمي» في الأصل هو اطلاق السهم أو قذف الحجر وأمثالهما ، وطبيعي أنه

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد ١٨ كتاب الشهادات ، الباب ٣٦ صفحة ٢٨٢.

٢٢

يؤذي في معظم الأوقات ، وقد استخدمت الكلمة هنا كناية عن اتهام الأشخاص وسبابهم ووصفهم بما لا يليق ، لأن هذه الكلمات كالسهم يصيب الشخص ويجرحه.

ولعل ذلك هو السبب في استخدام هذه الآيات ـ والآيات المقبلة ـ لهذه الكلمة بشكل مطلق ، فلم ترد الآية على هذا النحو (والذين يرمون المحصنات بالزنا) وإنّما جاءت (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) لأنّ مفهوم «يرمون» وخاصّة مع ملاحظة القرائن الكلامية يستبطن معنى (الزنا) ، وعدم التصريح به ولا سيما عند الحديث عن النساء العفيفات نوع من الاحترام لهن. وهذا التعبير مثال بارز لإكرام المتطهرين ، ونموذج لاحترام الآداب والعفة في الكلام.

٢ ـ لماذا أربعة شهود؟

من المعلوم أن شاهدين عادلين يكفيان ـ في الشريعة الإسلامية ـ لإثبات حق ، أو ذنب اقترفه شخص ما ، حتى وإن كان قتل النفس. أمّا في إثبات الزنا فقد اشترط الله تعالى أربعة شهود. وقد يكون ذلك لأن الناس يتعجلون الحكم في هذه المسألة ، ويتطاولون بإلصاق تهمة الزنا بمجرّد الشك ، ولهذا شدّد الإسلام في هذا المجال ليحفظ حرمات الناس وشرفهم. أمّا في القضايا الأخرى ـ حتى قتل النفس ـ فإن موقف الناس يختلف.

إضافة إلى أن قتل النفس ذو طرف واحد في الدعوى ، أي إنّ المجرم واحد ، أمّا الزنا فذو طرفين ، حيث يثبت الذنب على شخصين أو ينفى عنهما ، فإذ كان المخصص لكل طرف شاهدين ، فيكون المجموع أربعة شهود.

وهذا الكلام تضمنه الحديث التالي :

عن أبي حنيفة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أيّهما أشدّ الزنا أم القتل؟ قال : فقال عليه‌السلام : القتل : قال : فقلت : فما بال القتل جاز فيه شاهدان ، ولا يجوز في الزنا إلّا أربعة؟ فقال لي : ما عندكم فيه يا أبا حنيفة ، قال :

٢٣

قلت : ما عندنا فيه إلّا حديث عمر ، إنّ الله أجرى في الشهادة كلمتين على العباد ، قال : ليس كذلك يا أبا حنيفة ولكنّ الزنا فيه حدّان ، ولا يجوز أن يشهد كلّ اثنين على واحد ، لأنّ الرجل والمرأة جميعا عليهما الحدّ ، والقتل إنّما يقام الحدّ على القاتل ويدفع عن المقتول (١).

وهناك حالات معينة في الزنا ، ينفذ الحد فيها على طرف واحد (كالزنا بالإكراه وأمثاله) إلّا أنها حالات مستثناة والمتعارف فيه اتفاق الطرفين ، ومن المعلوم أن غايات الأحكام تتبع الغالب في الأفراد.

٣ ـ الشّرط المهم في قبول التوبة

قلنا مرارا : إنّ التوبة ليست فقط بالندامة على ما اقترفه الإنسان وتصميمه على تركه في المستقبل ، بل تقتضي ـ إضافة إلى هذا ـ أن يقوم الشخص بالتعويض عن ذنوبه اقترفها ، فإذا وجّه المرء تهمة لامرأة أو رجل طاهر ثمّ تاب ، فيجب عليه أن يعيد الاعتبار إلى من تضرّر باتّهامه ، وذلك بأن يكذب هذه التهمة بين كل الذين سمعوها عنه.

فعبارة (وَأَصْلَحُوا) التي أعقبت عبارة (تابُوا) هي إشارة إلى هذه الحقيقة ، حيث أوجبت التوبة ـ كما قلنا ـ أولا ، ثمّ إصلاح ما أفسده وإعادة ماء وجه الذي أساء إليه ، وليس صحيحا أن يتّهم إنسان أخاه ظلما في ملأ عام ، أو يعلن عن ذلك في الصحّف وأجهزة الإعلام ، ثمّ يستغفر في خلوة داره ـ مثلا ـ ويطلب من الله الصفح عنه ، وبالطبع لن يقبل الله مثل هذه التوبة.

لذلك روي عن أئمّة المسلمين قال الرّاوي : سألته عن الذي يقذف المحصنات ، تقبل شهادته بعد الحدّ إذا مات؟ قال : نعم ، قلت ، وما توبته؟ قال :

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الثالث ، ص ٥٧٤.

٢٤

لا يجيء فيكذب نفسه عند الإمام ويقول : «قد افتريت على فلانة ويتوب ممّا قال» (١).

٤ ـ أحكام القذف :

يوجد باب تحت عنوان «حد القذف» في كتاب الحدود.

و «القذف» على وزن «فعل» يعني لغة رمي الشيء نحو هدف بعيد ، إلّا أنّه استخدمت كلمة «رمى» كناية عن اتهام شخص ما في عرضه ، أو بتعبير آخر : هو سباب يرتبط بهذه الأمور.

و «القذف» إذا جرى بلفظ صريح ، وبأي لغة وأية صورة فحدّة ـ كما قلنا سابقا ـ هو ثمانون جلدة. وإذا لم يكن صريحا فيعزّر القاذف. (ولم ترد في الشريعة الإسلامية حدود للتعزير ، بل وكل التعزير إلى تقدير القاضي ، ليقرر حدودها وفق خصائص المذنب وكيفية وقوع الذنب والشروط الأخرى).

وإذا وجه شخص اتهاما لمجموعة من الناس ، وكرره بالنسبة لكل واحد منهم ، فإنه يواجه حدّ القذف لكل تهمة تفوّه بها ، أمّا إذا اتهمهم مرّة واحدة ، فينفّذ بحقه حدّ واحد إن طالبوا القاضي جميعا مرة واحدة. وأمّا إذا أقام كلّ واحد منهم الدعوى بصورة مستقلة ، فإنه يعاقب المذنب بعدد هذه الدعاوي.

وهذا الموضوع من الأهمية إلى درجة أنّه إذا اتهم شخصا ومات المتهم ، فلورثته الحق في المطالبة باقامة الحدّ على الذي اتهم مورثّهم بشيء. وبما أن هذا الحكم مرتبط بحق الشخص ، فلصاحب الحق العفو عن الذنب وإسقاط الحدّ عنه ، باستثناء حالة تكرر هذا الذنب من شخص معين بحيث يعرض وجود وشرف المجتمع إلى الخطر ، فيكون حسابه عسيرا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد الثامن عشر ، صفحة (٢٨٣) (أبواب الشهادات باب ٣٦ الحديث ٤).

٢٥

وإذا تسابّ شخصان سقط الحد عنهما ، إلّا أنّ حاكم الشرع يعزرهما ، ولهذا لا يجوز للشخص ردّ السّباب بالمثل ، بل له أن يطلب من حاكم الشرع معاقبة المذنب.

وعلى كل حال فإنّ هذا الحكم الإسلامي يرمي إلى المحافظة على سمعة الناس وشرفهم ، وإلى الحيلولة دون انتشار المفاسد الاجتماعية والأخلاقية التي يبتلي المجتمع بها عن هذا الطريق. ولو ترك المفسدون يعملون ما يحلو لهم يسبّون ويتهمون الأشخاص والمجتمع متى شاؤوا دون رادع ، لتعرض شرف الناس وكرامتهم إلى الهتك ، ولوصل الأمر بسبب هذه التهم الباطلة إلى وقوع الريبة بين الزوج وزوجته ، وسوء ظن الأب بشرعية ولده إلى الخطر. ويسيطر الشك وسوء الظن على المجتمع كله. وتروّج الشائعات فتصيب الطاهرين أيضا. وهنا يستوجب العمل بحزم كبير مثلما عامل الإسلام هؤلاء المسيئين مروّجي التهم والشائعات.

أجل ، يجب أن يضربوا ثمانين جلدة إزاء كل تهمة بالزنا ليقفوا عند حدّهم ، ولتتم المحافظة على كرامة الناس وشرفهم.

* * *

٢٦

الآيات

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

سبب النّزول

روى ابن عباس أن سعد بن عبادة (سيد الأنصار) من الخزرج ، قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحضور جمع من الأصحاب : «يا رسول الله! لو أتيت لكاع (زوجته) وقد يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فو الله ما كنت لآتي باربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٧

يا معشر الأنصار ما تسمعون إلى ما قال سيدكم؟

فقالوا : لا تلمه فإنّه رجل غيور. ما تزوج امرأة إلّا بكرا ، ولا طلّق امرأة له فاجترى رجل منّا أن يتزوجها.

فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمّي ، والله إنّي لأعرف أنّها من الله ، وأنّها حق ، ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فإنّ الله يأبى إلّا ذاك.

فقال : صدق الله ورسوله.

فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتى جاء ابن عم له ، يقال له : هلال بن أمية قد رأى رجلا مع امرأته ليلا ، فجاء شاكيا إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت معها رجلا رأيته بعيني وسمعته بأذني.

فكره ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى رؤيت الكراهة في وجهه ، فقال هلال : إنّي لأرى الكراهة في وجهك ، والله يعلم إنّي لصادق ، وإنّي لأرجو أن يجعل الله لي فرجا.

فهمّ رسول الله بضربه ، واجتمعت الأنصار وقالوا : ابتلينا بما قال سعد ، أيجلد هلال وتبطل شهادته؟ فنزل الوحي وأمسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل ، فأنزل الله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) الآيات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبشر يا هلال ، فإنّ الله تعالى قد جعل فرجا.

فقال : قد كنت أرجوا ذاك من الله تعالى. (١)

وبنزول الآيات السابقة علم المسلمون الحل السليم لهذه المشكلة ، وشرحها كما يأتي.

* * *

__________________

(١) تفاسير مجمع البيان ، وفي ظلال القرآن ، ونور الثقلين ، والميزان ، في تفسير الآيات موضع البحث (مع بعض الاختلاف).

٢٨

التّفسير

عقاب توجيه التهمة إلى الزوجة!

يستنتج من سبب النّزول أنّ هذه الآيات في حكم الاستثناء الوارد على حد القذف ، فلا يطبق حدّ القذف (ثمانين جلدة) على زوج يتّهم زوجته بممارسة الزنا مع رجل آخر ، وتقبل شهادته لوحدها. ويمكن في هذه الحالة أن يكون صادقا كما يمكن أن يكون كاذبا في شهادته. وهنا يقدم القرآن المجيد حلا أمثل هو :

على الزوج أن يشهد أربع مرات على صدق ادعائه (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) وبهذا على الرجل أن يعيد هذه العبارة «اشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها من الزنا» أربع مرات لإثبات ادعائه من جهة ، وليدفع عن نفسه حد القذف من جهة أخرى.

ويقول في الخامسة : «لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين».

وهنا تقف المرأة على مفترق طريقين ، فإمّا أن تقر بالتهمة التي وجهها إليها زوجها ، أو تنكرها على وفق ما ذكرته الآيات التالية.

ففي الحالة الأولى تثبت التهمة.

وفي الثّانية (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ). وبهذا الترتيب تشهد المرأة خمس مرات مقابل شهادات الرجل الخمس ـ أيضا ـ لتنفي التهمة عنها. بأن تكرر أربع شهادات «أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين فيما رماني من الزنا» وفي الخامسة تقول «أن غضب الله عليّ إن كان من الصادقين».

وهذه الشهادات منهما هي ما يسمّى بـ «اللعان» ، لاستخدام عبارة اللعن في الشهادة.

وليترتب على هذين الزوجين أربعة أحكام نهائية.

٢٩

أوّلها : انفصالهما دون طلاق.

وثانيها : تحرم الزوج على الزوجة إلى الأبد ، أي لا يمكنهما العودة إلى الحياة الزوجية معا بعقد جديد.

وثالثها : سقوط حد القذف عن الرجل ، وحد الزنا عن المرأة (وإذا رفض أحدهما تنفيذ هذه الشهادات يقام عليه حدّ القذف إن كان الرافض الرجل ، وإن كانت المرأة يقام عليها حد الزنا.

ورابعها : الطفل الذي يولد بعد هذه القضية لا ينسب إلى الرجل ، وتحفظ نسبته للمرأة فقط.

ولم ترد تفاصيل الحكم السابق في الآيات المذكورة أعلاه ، وإنّما جاء في آخر الآية موضع البحث (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ).

فهذه الآية إشارة إجمالية إلى تأكيد الأحكام السابقة ، لأنّها تدل على أن اللعان فضل من الله ، إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان ، بشكل صحيح.

فمن جهة لا يجبر الرجل على التزام الصمت إزاء سوء تصرف زوجته ويمتنع من مراجعة الحاكم الشرعي.

ومن جهة أخرى لا تتعرض المرأة إلى حدّ الزنا الخاص بالمحصنة بمجرّد توجيه التهمة إليها ، بل يمنحها الإسلام حق الدفاع عن نفسها.

ومن جهة ثالثة لا يلزم الرجل البحث عن شهود أربعة إن واجه هذه المشكلة ، لاثبات هذه التهمة النكراء والكشف عن هذه الفضيحة المخزية.

ومن جهة رابعة يفصل بين هذين الزوجين ولا يسمح لهما بالعودة إلى الحياة الزوجية بعقد جديد في المستقبل أبدا ، لتعذّر الاستمرار في الحياة الزوجية إن كانت التهمة صادقة ، كما أن المرأة تصاب بصدمة نفسية إن كانت التهمة كاذبة.

وتجعل الحياة المشتركة ثانية صعبة للغاية ولا تقتصر على حياة باردة وخاملة ، بل ينتج عن هذه التهمة عداء مستفحل بينهما.

٣٠

ومن جهة خامسة توضح الآية مستقبل الوليد الذي يولد بعد توجيه هذه التهمة.

هذا كله فضل من الله ورحمة منّ بها على عباده. وحل هذه المشكلة بشكل عادل يعبّر عن لطف الله بعباده ورحمته لهم. ولو دققنا النظر في الحكم لرأينا أنّه لا يتقاطع مع ضرورة وجود شهود أربعة في هذه القضية. إذ أن تكرار كل من الرجل والمرأة شهادتهما أربع مرات يعوض عن ذلك.

* * *

ملاحظات

١ ـ لماذا استثني الزوجان من حكم القذف؟

السّؤال الأوّل الذي يطرح نفسه هنا : ما هي خاصية الزوجين ، ليصدر هذا الحكم المستثنى بحقّهما؟

ونجد جواب هذا السؤال من جهة في سبب نزول الآية ، وهو عدم تمكن الرجل من التزام الصمت إزاء مشاهدته لزوجته وهي تخونه مع رجل آخر.

كيف له أن يمتنع عن رد الفعل إزاء الاعتداء على شرفه؟ وإذا توجّه إلى القاضي وهو يصرخ ويستنجد ، فقد يواجه حدّ القذف ، لعدم تيقن القاضي من صدق دعواه. وإذا حاول إحضار أربعة شهود ، فإن ذلك صعب عليه لمساسه بشرفه ، وقد تنتهي الحادثة ولا يمكنه إحضار شهوده في الوقت المناسب.

ومن جهة أخرى ، فإنّ الغرباء يتّهمون بعضهم بعضا بسهولة ، ولكن الرجل والمرأة نادرا ما يتّهم أحدهما الآخر.

ولهذا السبب حكم الشارع في هذه القضية بوجوب إحضار أربعة شهود في غير الزوجين ، وإلّا نفّذ حدّ القذف على الذي يوجه تهمة الزنا ، وليس الأمر كذلك بالنسبة للزوجين ، ولهذا خصّهما الحكم المذكور لما فيهما من ميزات خاصّة في هذه الحالة.

٣١

٢ ـ كيفية اللعان

توصلنا بعد الإيضاحات التي ذكرناها خلال تفسير هذه الآيات ، إلى وجوب تكرار الرجل شهادته أربع مرات ليثبت صحة دعواه في اتهامه لزوجته بالزنا ، ولينجو من حدّ القذف. وبهذا فإن هذه الشهادات الأربع من الزوج بمثابة أربعة شهود ، وفي الخامسة يتقبل لعنة الله عليه إن كان كاذبا.

ومع الالتفات إلى أن تنفيذ هذه الأحكام يتم عادة في محيط اسلامي ملتزم وبيئة متديّنة ، ويرى الزوج نفسه مضطرا للوقوف بين يدي الحاكم الشرعي ، ليدلي بشهادته أربع مرات بشكل حاسم لا يقبل الشك والترديد ، وفي الخامسة يطلب من الله أن يلعنه إن كان كاذبا ، فهذا كله يمنع الرجل من التهوّر وتوجيه اتهام باطل إلى زوجته.

أمّا المرأة التي تريد الدفاع عن نفسها وترى نفسها بريئة من هذه التهمة ، فعليها تكرار شهادتها أربع مرات وتشهد أن التهمة باطلة ، لإيجاد موازنة بين شهادتي الرجل والمرأة ، وبما أن التّهمة موجهة للمرأة ، فإنّها تدافع عن نفسها بعبارة أقوى في المرحلة الخامسة ، حيث تدعو الله أن ينزل غضبه عليها إن كانت كاذبة.

وكما نعلم فإنّ «اللعنة» ابتعاد عن الرحمة.

وأمّا «الغضب» فإنّه أمر أشد من اللعنة ، لأنّ الغضب يستلزم العقاب ، فهو أكثر من الابتعاد عن الرحمة.

ولهذا قلنا في تفسير سورة الحمد : إنّ (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هم أسوأ من (الضَّالِّينَ) على الرغم من أنّ الضالّين هم بالتأكيد بعيدون عن رحمة الله تعالى.

٣ ـ العقاب المحذوف في الآية :

جاءت الآية الأخيرة ـ ممّا نحن بصدده ـ جملة شرطية لم يذكر جزاءها

٣٢

حيث تقول : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ). لكنّها لم تذكر نتيجة ذلك. وبملاحظة القرائن فيها يتّضح لنا جواب الشرط. والصمت إزاء مسألة ما يكشف عن أهميتها البالغة ، ويثير في مخيلة المرء تصورات عديدة لها. وكل تصور منها له مفهوم جديد. فهنا قد يكون جواب الشرط : لولا فضل الله ورحمته عليكم ، لكشف عن أعمالكم وفضحكم.

أو : لولا فضل الله ورحمته عليكم ، لعاقبكم فورا وأهلككم.

أو : لولا هذا الفضل ، لما وضع الله سبحانه وتعالى مثل هذه الأحكام الدقيقة من أجل تربيتكم.

وفي الواقع فإن حذف جواب الشرط يثير في فكر القارئ كل هذه الأمور (١).

* * *

__________________

(١) ذكر تفسير «الميزان» جواب الشرط بشكل يشمل التفاسير الأخرى قال : «لولا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين وتوبته لمذنبيكم وتشريع الشرائع لنظم أمور حياتكم ، لزمتكم الشقوة ، وأهلكتكم المعصية والخطيئة ، واختل نظام حياتكم بالجهالة».

٣٣

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦))

سبب النّزول

ذكر سببين لنزول الآيات السابقة :

أوّلهما : ما روته عائشة زوجة الرّسول قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد أن

٣٤

يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه. قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة (١) غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما نزل الحجاب وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوته تلك وقفل.

فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار (٢). قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه ، وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنّما تأكل المرأة العلقة (٣) من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنّهم سيفقدوني فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت.

وكان صفوان بن المعطل السلمي ثمّ الذكر إنّي من وراء الجيش فأدلج (٤) فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة واحدة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطّى على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك.

__________________

(١) هي غزوة بني المصطلق في العام الخامس للهجرة.

(٢) ظفار كقطام بلد باليمين قرب صنعاء ، وجزع ظفاري منسوب إليها والجزع الخرز وهو الذي فيه سواد وبياض.

(٣) العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق.

(٤) أدلج القوم : ساروا الليل كله أو في آخره.

٣٥

وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبيّ بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنّما عليّ فيسلم ثمّ يقول : كيف تيكم؟ ثمّ ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع (١) وهي متبرزنا وكنّا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأوّل في التبرّز قبل الغائط فكنّا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.

فانطلقت أنا وأم مسطح فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا (٢) من ثيابنا فعثرت أم مسطح في مرطها (٣) فقالت : تعس مسطح فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت : إي هنتاه (٤) أو لم تسمعي ما قال؟ قلت : وما قال : فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي.

فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلم ثمّ قال : كيف تيكم؟

فقلت : أتأذن لي أن آتي أبوي؟ ـ قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ـ قالت : فأذن لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجئت لأبوي فقلت لأمي : يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلّا أكثرن عليها فقلت : سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقا لي دمع ولا أكتحل بنوم ثمّ أصبحت أبكي.

__________________

(١) المناصع : المواضع يتخلى فيها لبول أو حاجة.

(٢) أي رفعنا ثيابنا.

(٣) المرط ـ بالكسر ـ كساء واسع يؤتزر به وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به.

(٤) خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه.

٣٦

ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله ، فأمّا اسامة فأشار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهلك ولا نعلم إلّا خيرا ، وأمّا علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيّق الله عليك ، والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريرة فقال : أي بريرة هل رأيت شيئا يريبك؟ قال بريرة : لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمضه أكثر من أنّها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فو الله ما علمت على أهلي إلّا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلّا معي.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ما تقتله ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن خضير وهو ابن عم سعد بن عبادة ، قال : كذبت لنقتلنه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين ، فتثاورا الحيّان : الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخفضهم حتى سكنوا وسكت.

فبكيت يومي ذلك فلا يرقا لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقا لي دمع وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي.

٣٧

فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأبصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ جلس ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد حين جلس ثمّ قال : أمّا بعد يا عائشة إنّه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثمّ تاب تاب الله عليه.

فلمّا قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقالته قلص (١) دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عنّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت لامي : أجيبي عني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إنّي والله لقد علمت أنّكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدّقتم به فلئن قلت لكم : إنّي بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدّقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أنّي منه بريئة لتصدّقنّي ، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلّا قول أبي يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.

ثمّ تحوّلت فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرّئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤيا يبرّئني الله بها.

قالت : فو الله ما رام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدّر منه

__________________

(١) قلص : اجتمع وانقبض.

٣٨

مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه فلمّا سري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سري عنه وهو يضحك فكان أوّل كلمة تكلم بها أن قال : أبشري يا عائشة أمّا الله فقد برّأك ، فقالت أمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم اليه ولا أحمد إلّا الله الذي أنزل براءتي ، وأنزل الله : «إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم» العشر الآيات كلها.

فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر ، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله : «ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين ـ إلى قوله ـ رحيم» قال أبو بكر : والله إنّي أحبّ أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا.

قالت عائشة : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال : يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلّا خيرا ، قالت : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. (١)

إمام باقر عليه‌السلام يقول : لما هلك إبراهيم بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزن عليه حزنا شديدا فقالت عائشة : ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلّا ابن جريح ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام وأمره بقتله.

فذهب علي عليه‌السلام ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط فضرب علي عليه‌السلام باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليّا عليه‌السلام عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا ولم يفتح باب البستان فوثب علي عليه‌السلام على الحائط ونزل إلى البستان واتبعه وولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه (٢) صعد في نخلة وصعد

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٥ ، ص ٩٦ ـ ١٠٠.

(٢) أرهقه : أدركه.

٣٩

علي عليه‌السلام في أثره فلما دنا منه رمي بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء.

فانصرف علي عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون كالسمار المحميّ في الوبر أم أثبّت؟ قال : لا بل تثبّت. قال : والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء ، فقال : الحمد لله الذي صرف عنّا السوء أهل البيت. (١)

* * *

تحقيق المسألة :

على رغم ممّا ذكرته معظم المصادر الإسلامية لهذين السببين فإن هناك أمورا غامضة في السبب الأوّل تثير النقاش ، منها :

١ ـ يستفاد من تعابير هذا الحديث ـ رغم تناقضاته ـ أنّ الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقع تحت تأثير الشائعة ، وأدى ذلك إلى مشاورته أصحابه وتغيير سلوكه مع عائشة حتى ابتعد عنها لمدّة طويلة.

وهذا الموضوع لا ينسجم مع عصمة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب ، بل كل مسلم ثابت الإيمان لا ينبغي أن يقع تحت تأثير الشائعات دون مبرر ، وإذا تأثّر بالشائعة فعليه ألا يغيّر سلوكه عمليا ، ولا يستسلم للشائعة وأثرها فكيف بالمعصوم.

فهل يمكن التصديق أنّ العتاب الشديد الذي ذكرته الآيات التالية وتساءلت : لماذا وقع بعض المؤمنين تحت تأثير هذه الشائعة ، ولماذا لم يطلبوا شهودا أربعة ، يشمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ هذه تساؤلات تدفعنا في أقل تقدير إلى الشك في صحة سبب النّزول الأول.

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١٠٣.

٤٠