الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-52-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٠٤

الآيتان

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢))

التّفسير

الجميع يسبّح لله :

تحدثت الآيات السابقة عن نور الله ، نور الهداية والإيمان ، وعن الظلمات المضاعفة للكفر والضلال.

أمّا الآيات موضع البحث ، فإنّها تتحدّث عن دلائل الأنوار الإلهية وأسباب الهداية ، وتخاطب الآية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وكذلك الطير يسبّحن لله في حال أنها باسطات أجنحتهن في السماء (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ). (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ).

وبما أنّ هذا التسبيح العام دليل على خلقه تعالى لجميع المخلوقات ، وخالقيته دليل على مالكيته للوجود كله ، وكذلك دليل على أنّ كل ما في الوجود يرجع إليه سبحانه ، فتضيف الآية (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

١٢١

كما يحتمل وجود رابطة بين هذه الآية وسابقتها ، حيث تحدّثت الآية الأولى في آخر جملة لها ، عن علم الله بأعمال البشر جميعا وعلمه بالمسبحين له.

أمّا هذه الآية فقد أشارت إلى محكمة العدل الإلهي في الآخرة ، وأنّ لله ما في السموات والأرض ، وهو الحاكم والقدير العادل في مصير الناس وما في الوجود.

* * *

مسائل مهمة :

١ ـ ماذا تعني عبارة (أَلَمْ تَرَ)

حسبما يراها الكثير من المفسّرين ، تعني : ألم تعلم ، حيث التسبيح العام من قبل جميع المخلوقات في العالم لا يمكن إدراكه بالعين ، بل بالقلب والعقل.

ولكون هذه القضية واضحة جدا وكأنّها ترى بالعين المجرّدة ، استخدمت الآية عبارة (أَلَمْ تَرَ).

كما يجب الانتباه إلى أنّه على الرغم من كون المخاطب في هذه الآية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالذات ، فإنّ عددا من المفسّرين يرى أنّها تشمل الناس جميعا ، لأنّ ذلك من أساليب القرآن المجيد اتبعها في كثير من آياته.

وقال البعض : إنّ هذا الخطاب خاصّ بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرحلة الرؤيا والمشاهدة ، حيث منحه الله القدرة على مشاهدة تسبيح جميع المخلوقات ، وكذلك منح سبحانه وتعالى هذه القدرة لجميع عباده المخلصين له المتمسّكين بهداه.

أمّا بالنسبة لعامّة الناس ، فالمسألة تخصّ إدراكهم لتسبيح الموجودات عن طريق العقل ، وليس بالمشاهدة البصريّة (١).

__________________

(١) تفسير الصافي للآية موضع البحث.

١٢٢

٢ ـ التسبيح العامّ لجميع المخلوقات

تحدّثت الآيات المختلفة في القرآن المجيد عن أربع عبادات تمارسها مخلوقات هذا الكون العظيم ، هي : التسبيح ، والحمد ، والسجود ، والصلاة ، أمّا الآية موضع البحث ، فقد تناولت الصلاة والتسبيح.

وتحدثت الآية الخامسة عشرة من سورة الرعد عن السجود العام : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

أمّا الآية الرّابعة والأربعون من سورة الإسراء ، فقد تحدثت عن التسبيح والحمد من قبل جميع المخلوقات في الوجود كله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) وقد تناولنا حقيقة الحمد والتسبيح العامّين من قبل المخلوقات والتفاسير المختلفة الواردة بهذا الصدد ، في تفسيرنا الآية الرّابعة والأربعين من سورة الإسراء ، ونذكر هنا ملخصه :

هناك تفسيران جديران بالاهتمام ، وهما : ـ

١ ـ إنّ ذرات هذا العالم كلها ـ عاقلة أو غير عاقلة ـ لها نوع من الإدراك والشعور ، وهي تسبح في عالمها لله وتحمده على الرغم من عدم إدراكنا لها. ولهذا التّفسير أدلّة قرآنية.

٢ ـ إن القصد من التسبيح والحمد هما ما نعبر عنه بعبارة «لسان حاله» أي نظام الوجود وأسراره المدهشة الكامنة في كلّ مخلوق تتحدّث بصراحة عن عظمة الخالق وعلمه وحكمته التي لا حدود لها ، إذ كلّ مخلوق جميل ، وكلّ أثر فنيّ بديع يثير الدهشة والإعجاب ، حتّى أنّ لوحة فنية وقطعة شعرية جميلة ، تحمد وتسبّح لمبدعها. فمن جهة تكشف عن صفاته (بحمدها له) ومن جهة أخرى تنفي عنه أي عيب أو نقص (فتسبحه). فكيف وهذا الكون العظيم بما فيه من عجائب وغرائب لا تنتهي! (للاطلاع أكثر على ذلك يراجع تفسير الآية ٤٤ من سورة الإسراء في تفسيرنا هذا).

١٢٣

وإذا قلنا : إنّ عبارة (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تعني تسبيح كلّ من في السماوات والأرض ، ونحدد كلمة «من» بذوي العقول ، فإنّ التسبيح يخصّ هنا المعنى الأوّل ، فهو تسبيح بوعي وإرادة ولازم هذا القول أن الطيور أيضا لها شعور ، لأنّ كلمة الطيور جاءت بعد حرف «من». ولا عجب في ذلك ، لأنّ آيات قرآنية أخرى قالت بوجود مثل هذا الشعور لدى بعض الطيور (يراجع تفسير الآية ٣٨ من سورة الأنعام).

٣ ـ التسبيح الخاصّ بالطيور :

ما السبب في ذكر تسبيح الطيور من بين جميع المخلوقات ، وخاصّة في حالة بسط جناحيها في السماء؟

المسألة تكمن في أنّ الطيور إضافة إلى تنوّعها الكبير ، تمتاز بصفات خاصّة تجلب نظر كل عاقل إليها ، حيث تحلّق هذه الأجسام ـ وبعضها ثقيل ـ في السماء خلافا لقانون الجاذبية ، وتطير بسرعة من نقطة إلى أخرى في الجو ، وتركب أمواج الرياح وهي باسطة جناحيها دون أي تعب أو جهد. بشكل يثير الإعجاب.

والمثير فيها هو إدراكها لقضايا الأنواء الجوية ، ومعلوماتها الدقيقة لوضع الأرض الجغرافي ـ خلال سفرها وهجرتها من قارة إلى أخرى ، حتى أنّ بعضها يهاجر من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي.

فهي تمتلك جهاز توجيه خفي عجيب يرشدها إلى الهدف إيّان سفرها الطويل ، حتى لو تلبّدت السماء بالغيوم. وهذه من أكثر الأمور إثارة للدهشة والعجب ، ومن أوضح أدلة التوحيد.

طيور الليل بدورها تملك رادارا مدهشا يخبرها حين الطيران في ظلمة الليل عن كلّ حاجز أمامها ، حتى أن بعضها يرى سمكّة تحت الماء ، فيخطفها بسرعة البرق ، وهذه ميزة مدهشة في هذه الطيور!!

١٢٤

وعلى كل حال فإنّ هناك أمورا عجيبة في الطيور جعلت القرآن المجيد يخصّها بالذكر.

٤ ـ عبارة (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) :

نسب عدد من المفسّرين ضمير «علم» إلى كلمة «كلّ» ، وبهذا يصبح معنى العبارة السابقة : كلّ من في الأرض والسماء ، وكذلك الطيور علم صلاته وتسبيحه.

وقال بعض المفسّرين : إنّ ضمير (علم) يعود إلى الله تعالى ، أي أنّ الله علم صلاة وتسبيح كلّ منهم.

والتّفسير الأوّل يلائم الآية بشكل أفضل.

وبهذا الترتيب يعلم كلّ مسبّح لله أسلوب تسبيحه وطريقته وشروطه وخصائص صلاته.

فإذا كان التسبيح بوعي من هذه الكائنات يتّضح جيدا مفهوم هذا الكلام ، أمّا إذا كان بلسان حالها فيكون مفهومه أنّ كلّ واحد منها له نظام خاصّ يعبّر بشكل من الأشكال عن عظمة الله ، وكلّ واحد منها يعكس قدرة الله وحكمته.

٥ ـ ما المقصود بالصلاة؟

قال بعض المفسّرين كالمرحوم «الطبرسي» في مجمع البيان ، و «الآلوسي» في روح البيان : إنّ الصلاة هي الدعاء.

وهذا هو مفهومها اللغوي ، وبهذا تمارس جميع المخلوقات في الأرض والسماء الدعاء إلى الله بلسان حالها أو مقالها وتسأله الرحمة ، لأنّه أرحم الراحمين ، وأنّه سبحانه وتعالى يمنّ عليها برحمته كلا بحسب قابليته.

غاية الأمر إنّهم جميعا يعلمون حاجتهم ومطلبهم وما ينبغي أن يدعون ،

١٢٥

وإضافة إلى ذلك ـ وفق الآيات التي أشرنا إليها سابقا ـ فهم خاضعون لعظمة الله ، وقد سلّموا بقوانين الخلق ، ويردّدون من الأعماق الثناء على صفاته الكاملة سبحانه وتعالى ، ونفي كلّ نقص عنه جلّ اسمه المقدّس.

وبهذا الشكل تتمّ العبادات الأربع «الحمد» و «التسبيح» و «الدعاء» و «السّجود».

* * *

١٢٦

الآيات

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥))

التّفسير

جانب آخر من الخلق العجيب :

نواجه ثانية ـ في هذه الآيات ـ جانبا آخر من مسألة الخلق المدهشة ، وما احتوته من آيات العلم والحكمة والعظمة ، وكلّ ذلك من أدلّة توحيد ذات الله الطاهرة.

يخاطب القرآن المجيد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانية ويقول (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً

١٢٧

ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) وبعد أن تتراكم السحب ترى قطرات المطر تخرج من بين السحاب وتهبط على الجبال والسهول والصحاري (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ).

وكلمة «يزجي» مشتقّة من «الإزجاء» ، أي سوقه بأسلوب لين لترتيب المخلوقات المتبعثرة هنا وهناك بقصد جمعها.

وهذا التعبير يصدق بالنسبة للسحب ، حيث ترتفع كلّ قطعة منه من جانب من البحر. ثمّ تسوقها يد القدرة الإلهية. وتجمعها ، فتراكم بعضها على بعض.

وكلمة «ركام» على وزن «غلام» ، بمعنى الأشياء المتراكمة بعضها فوق بعض.

وأمّا «الودق» على وزن «شرق» ، فيرى الكثيرون أنّها حبّات المطر ، إلّا أنّ الراغب الأصفهاني يرى في مفرداته أنّها ذرات دقيقة من الماء ، أي : الرذاذ الذي يتناثر في الفضاء حين هطول المطر.

والمعنى الأوّل أكثر ملاءمة هنا ، فما يدلّ بشكل أكبر على عظمة الله هو ذرات المطر نفسها وليس رذاذه ، إضافة إلى أنّ القرآن كلّما ذكر السحاب ونزول بركات الله من السماء ، أشار فيها إلى المطر. فهو الذي يحيي الأرض بعد موتها ويبعث الحياة في الأشجار والنباتات ، ويروي عطش البشر والحيوان.

وأشار القرآن إلى ظاهرة أخرى من ظواهر السماء المدهشة ، وهي السحاب ، حيث قال : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) أي من جبال السحب في السماء تنزل قطرات المطر على شكل ثلج وبرد ، فتكون بلاء لمن يريد الله عذابه فتصيب هذه الثلوج المزارع والثمار وتتلفها وقد تصيب الناس والحيوانات فتؤذيهم (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) ومن لم يرد تعذيبه دفع عنه هذا البلاء (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ).

أجل ، إنّه هو الذي ينزّل الغيث المخصب من سحابة تارة ... وهو الذي يصيّره بردا بأدنى تغيير بأمره فيصيب به (بالأذى) من يشاء ، وربما يكون مهلكا أحيانا.

١٢٨

وهذا يدلّ على منتهى قدرته وعظمته ـ إذ جعل نفع الإنسان وضرره وموته وحياته متقارنة ، بل مزج بعضها ببعض!

وفي نهاية الآية يشير إلى ظاهرة أخرى من الظواهر السماوية الّتي هي من آيات التوحيد فيقول سبحانه (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ).

فالسحب المؤلفة في الحقيقة من ذرات الماء تحمل في طيّاتها الشحنات «الكهربائية» ، وتومض إيماضا يذهل برقها (العيون) والأبصار ويصكّ رعدها السمع من صوته ، وربّما اهتزت له جميع الأجواء.

إن هذه الطاقة الهائلة بين هذا البخار اللطيف لمثيرة للدهشة حقّا! ...

ردّ على استفسار :

السؤال الذي بقي هنا هو : ما هذا الجبل الذي في السماء ينزل منه البرد؟

أجاب المفسّرون عن هذا الاستفسار بأجوبه مختلفة ، هي :

١ ـ قال البعض : إنّ كلمة الجبال هنا كناية ، مثلما نقول جبل من غذاء أو جبل من علم. وعلى هذا فإنّ مفهوم الآية السابقة ، هو أنّ هناك بردا متراكما كالجبل في قلب السماء أوجد السحاب ، وينزل قسم منه في المدن ، وقسم آخر في الصحراء ، ويصيب به من يشاء.

٢ ـ وقال آخرون : المقصود من الجبال السحب المتراكمة بحيث تشبه الجبل.

٣ ـ وذكر صاحب تفسير «في ظلال القرآن» ، بيانا آخر هو الأوفق حسب الظاهر ، وهو : «إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان ، ثمّ تؤلف بينه وتجمعه فإذا هو ركام بعضه فوق بعض ، فإذا ثقل خرج منه الماء والويل الهاطل ، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة ، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة ، ومشهد السحاب كالجبال لا يبدو لنا كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو

١٢٩

تسير بينها ، فإذا المشهد مشهد جبال حقا ، بضخامتها ومساقطها وارتفاعها وانخفاضها ، وإنّه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس إلّا بعد ما ركبوا الطائرات» (١).

ويمكن أن يضاف إلى ذلك أنّ العلماء يرون في كيفية تكون البرد في السماء أنّ قطرات المطر تنفصل من السحاب ، وإذا مرت بطبقة باردة من الهواء أصبحت ثلجا ، ثمّ تدفعها أحيانا العواصف الموجودة هناك إلى الأعلى ، فتدخل قطع الثلج هذه إلى داخل السحب ، ويكتسب بعضها مياها جديدة ثمّ تهبط ، فتجمد ثانية عند مرورها بطبقة من الهواء البارد جدّا.

وكلما تكرر وقوع هذا العمل نمت هذه القطع من الثلج وازداد وزنها ، إلى أن تقع على الأرض بعد أن تعجز الأعاصير عن دفعها إلى الأعلى مرّة أخرى. أو أنّ الإعصار يهدأ فيسقط البرد على الأرض.

وبهذا الشرح العلمي يتّضح لنا المراد من كلمة «الجبال» التي وردت في هذه الآية ، لأن تكوّن البرد بقطع كبيرة وثقيلة ممكن في حال تراكم السحب ، حتى يقذف الإعصار حبّات البرد وسطها ، لتكسب هذه الحبّات قدرا أكبر من مياه السحب.

وذلك ممكن في حالة وجود جبال مرتفعة من السحب ، لتكون مصدرا جيدا لتكون البرد. (٢)

ونقرأ هنا تحليلا آخر ذكره بعض الكتّاب ، وخلاصته كالآتي : «أشارت

__________________

(١) تفسير من ظلال القرآن المجلد (١٩ ـ ٢٠) صفحة ١٠٩ ـ ١١٠ ـ دار إحياء الكتب العربية ـ الطبعة الأولى.

(٢) تكرر حرف (من) ثلاث مرات في عبارة (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) أولاها ابتدائية ، وثانيتها لها نسبة مع ابتدائية ، وأمّا الثّالثة فقد اختلف في تفسيرها كما ذكرنا أعلاه ، فهي بحسب التّفسير الأوّل بيانية ، ويكون مفهوم الجملة هو ينزل من السماء من جبال من برد. وقد حذف مفعول الفعل (ينزل) وهو البرد ، ويفهم ذلك من قرينة في الكلام ، وعلى حسب التفسيرين الثّاني والثّالث اللذين اخترناهما تكون «من» إمّا زائدة (حسبما نقله تفسير روح المعاني عن الأخفش) أو هي للتبعيض.

١٣٠

الآيات موضع البحث بصراحة إلى الجبال الثلج ، أي الجبال التي فيها نوع من الثلوج.

وهذا يثير الانتباه كثيرا ، لأنّ اختراع الطائرات والتمكن من التحليق بها في مستوى مرتفع زاد من آفاق علم البشر ، فقد تمكّن العلماء من الوصول إلى سحب مستورة ومتكونة من تراكمات ثلجية ، وحقّا ممكن أن تسمى بجبال الثلج.

وممّا يثير الدهشة أنّ أحد علماء السوفيت استخدم ـ لعدة مرات ـ اسم «جبال السحب» و «جبال الثلج» خلال شرحه موضوع سحب العواصف الثلجية ، وبهذا يتّضح لنا وجود جبال من الثلج في السماء.

وأشارت الآية التالية إلى إحدى معاجز الخلق ودلائل عظمة الله ، وهو خلق الليل والنهار بما فيهما من خصائص ، حيث تقول (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ).

وذكرت لمعنى «يقلّب» عدّة تفاسير ، فقال البعض : إنّ تقلب الليل والنهار هو أنّه إذا حلّ أحدهما محا الآخر.

وقال البعض : إنّه قصر أحدهما وطول الآخر ، ويحدث ذلك بصورة تدريجية وله ارتباط بالفصول الأربعة.

واعتبر آخرون تقلبات الحرّ والبرد ، وحوادث أخرى تقع في الليل والنهار (١).

وليس بين هذا التفاسير أي تناقض ، بل يمكن جمعها في مفهوم عبارة «يقلب» ، ولا ريب ـ وقد برهن العلم على ذلك ـ أنّ لتعاقب الليل والنهار والتغييرات التدريجية الحاصلة منه أثر فعّال في استدامة الحياة وبقاء الإنسان ، وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار.

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، وتفسير مجمع البيان ، وتفسير روح المعاني.

١٣١

وإذا كانت حرارة الشمس على نسق واحد ، فإنّها ترفع درجة حرارة الهواء ، وتقتل الأحياء وتتعب الأعصاب ، لكنّ وقوع الليل بين نهارين يعدّل من أثر الشمس القوي ويلائمه.

كما إنّ التغييرات التدريجية في ساعات الليل والنهار هي السبب في ظهور الفصول الأربعة ، وعامل مؤثّر جدّا في نمو النباتات وحياة جميع الأحياء وهطول المطر وتكوين المياه الجوفية التي هي من كنوز الأرض (١).

وأشارت آخر الآيات ـ موضع البحث ـ إلى أبرز صورة وأوضح دليل على التوحيد ، وهي مسألة الحياة بصورها المختلفة ، فقالت : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) أي أنّ أصلها جميعا من ماء ، ومع هذا فلها صور مختلفة (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالزواحف. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطيور (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالدواب.

وليس الخلق محددا بهذه المخلوقات ، فالحياة لها صور أخرى متعددة بشكل كبير ، سواء كانت أحياء بحرية أو حشرات بأنواعها المتعددة التي تبلغ آلاف الأنواع ، لهذا قالت الآية في الختام (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

* * *

بحوث

١ ـ ماذا يعني الماء هنا؟

وإلى أي نوع من الماء أشارت الآية موضع البحث؟

للمفسّرين بهذا الصدد ثلاثة آراء :

١ ـ يقصد بالماء النطفة ، وقد اختار الكثير من المفسّرين هذا المعنى ، وقد

__________________

(١) بحثنا في هذا المجال في التّفسير الأمثل عند تفسير الآية (٦) من سورة يونس.

١٣٢

أشارت إليه بعض الأحاديث.

وهناك مشكلة تواجه هذا التّفسير ، إذ أنّ الاحياء جميعا لم تخلق من ماء النطفة ، فمنها أحياء مجهرية ذات خلّية واحدة ، وأخرى تخلق من انقسام الخلايا وليس من النطفة إلّا أن يقال بالنسبة للحكم أعلاه : إنّ المراد هو الجانب النوعي وليس عاما.

٢ ـ والتّفسير الثّاني يقول : إنّ المقصود هنا ظهور أوّل مخلوق ، فقد ذكرت بعض الأحاديث أنّ أوّل ما خلق الله الماء ، ثمّ خلق الإنسان من الماء.

وينسجم هذا مع النظريات الجديدة القائلة : إنّ أوّل عنصر حي ظهر في البحار. وهذه ظاهرة سادت أعماق البحار وسواحلها. (وطبيعي فإنّ القدرة التي خلقت هذا الموجود الحيّ بجميع تعقيداته ورعته في المراحل البعدية ، هي قدرة أسمى من الطبيعة ، أي إرادة الله تعالى).

٣ ـ آخر تفسير لخلق الأحياء من الماء ، هو أنّ الماء يشكّل حاليا أساس تكوينها ، وأكبر نسبة من بنائها ، ولا يمكن للأحياء أن تواصل حياتها دون الماء.

وطبيعي أن لا نجد تناقضا بين هذه التفاسير ، لكنّ التّفسيرين الأوّل والثّاني أقرب إلى الصواب على ما يبدو (١).

٢ ـ جواب على استفسار

يطرح هنا سؤال يقول : إنّ الحيوانات لا تحدد بهذه الأنواع الثلاثة (الزواحف وثنائية الأرجل ورباعيتها) إذ أنّ هناك دوابّا لها أكثر من أربع أرجل؟

والجواب عنه يكمن في الآية ذاتها ، أي في قوله تعالى (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ)

__________________

(١) استند البعض عن دعاة نظرية التطور إلى هذه الآية لإثبات نظريتهم ، إلّا أننا ذكرنا عدم ثبوت هذه النظرية في تفسيرنا للآية (٢٦) من سورة الحجر. والجدير بالاهتمام هو أنّه يجب أن لا نطبق الآيات مع النظريات. فالآيات القرآنية تحكي عن حقائق لا تتغير ، أمّا النظريات العلمية فتتغير.

١٣٣

فهي تتناول الحيوانات كافّة ، مضافا إلى أن أهم الحيوانات التي يستخدمها الإنسان ، هي هذه الأنواع الثلاثة.

ويرى البعض أنّ الأحياء التي لها أكثر من أربع أرجل ، تعتمد على أربع منها ، والباقي منها سواعد مساعدة لها (١) (٢).

٣ ـ صورة الحياة المختلفة :

لا شك أنّ الحياة تعتبر أعجب ظاهرة في العالم ، ذلك السرّ الذي لم يقدر العلماء على فكّ رموزه حتّى الآن ، فالجميع يقول : إنّ الأحياء خلقت من مادّة لا حياة فيها ، إلّا أنّه لا أحد يعلم كيف حدثت هذه الطفرة وفي أيّ ظرف ، إذ لم يشهد أيّ مختبر تبدّل موجود عديم الحياة إلى آخر حي ، على الرغم من انشغال الآلاف من العلماء طوال سنين عديدة في التفكير بذلك ، وإجراء تجارب مختبرية يخطئها الحصر.

وهناك خيال من بعيد يتراءى للعلماء في هذا المجال ، ولكنّه مجرّد خيال وشبح ، فانّ العلم البشري عاجز عن كشف أسرار الحياة مع تقدّمه الهائل ، وذلك لتعقد هذه الأسرار بدرجة كبيرة.

وفي الظروف السائدة تولّد الأحياء من أحياء أخرى ، ولا يولد أيّ حيّ من غير حيّ. ولكن المؤكّد أن هذا الحال لم يكن كذلك في الماضي البعيد. أو بعبارة أخرى : أنّ الحياة تملك تاريخا لظهورها.

ولكن كيف وتحت أية شروط؟

إنّ ذلك لغز لم تتضح حقيقته بعد ، والأعجب من ذلك تنوع الحياة في هذه

__________________

(١) تفسير القرطبي ، وتفسير الفخر الرازي للآية موضع البحث.

(٢) لا بدّ من الاهتمام بهذه المسألة لغويا ، وهي أنّ الضمير «هم» في «منهم» رغم أنّه للجمع العاقل ، فقد استخدمتها الآية لغير العاقل أيضا. وكذلك حرف «من» وذلك بسبب استخدام هذه الكلمات أحيانا لغير العاقل أيضا.

١٣٤

الصور الكاملة ، تبدأ من الأحياء المجهرية وحيدة الخلية حتى تصل إلى الحيتان العظيمة التي يتجاوز طول الواحدة منها الثلاثين مترا ، وتبدو إحداها كأنّها جبل من لحم طائف في المحيط.

ومن مئات الآلاف من الحشرات المختلفة إلى آلاف من الطيور الجميلة ، كلّ له عالمه الخاصّ به وأسراره الذاتية.

وتشغل كتب علم الحيوان اليوم حيّزا كبيرا من مكتبات العالم ، ويستعرض مؤلفوها جوانب من أسرار هذه الأحياء ، خاصّة الأحياء البحرية.

والبحر دوما تكمن فيه الأسرار التي ما تزال معلوماتنا قاصرة عن استكناهها ، على الرغم من سعة تطوّرنا العلميّ وعمقه ، حقّا الله أكبر ، خلق كلّ هذه الأحياء ، ومنحها ما تحتاج إليه ، فما أعظم قدرته وعلمه!

سبحانه! كيف وضع كلّ واحد منها في ظروف مناسبة له ، ووفّر غذاءه وما يحتاج إليه ، والأعجب من ذلك خلقه سبحانه وتعالى جميع هذه الكائنات ، من ماء وقليل من تراب.

* * *

١٣٥

الآيات

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠))

سبب النّزول

ذكر المفسّرون سببين لنزول بعض هذه الآيات :

قيل نزلت الآيات في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة ، فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشراف (اليهودي) (حتّى أنّ بعض الرّوايات ذكرت أنّ المنافق قال صراحة : يحتمل أنّ لا يعدل محمدا فينا) :

١٣٦

وحكي أنّه كان بين علي عليه‌السلام وعثمان (وحسب رواية بين علي عليه‌السلام والمغيرة بن وائل) منازعة في أرض اشتراها من علي عليه‌السلام فخرجت فيها أحجار ، وأراد ردّها بالعيب ، فلم يأخذها فقال : بيني وبينك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال الحكم بن أبي العاص (وهو من المنافقين) : إن حاكمته إلى ابن عمّه يحكم له ، فلا تحاكمه إليه ، فنزلت الآيات واستنكرت عليه ذلك بشدّة ، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أو قريب منه (١).

التّفسير

الإيمان وقبول حكم الله :

تحدثت الآيات السابقة عن الإيمان بالله وعن دلائل توحيده وعلائمه في عالم التكوين ، بينما تناولت الآيات ـ موضع البحث ـ أثر الإيمان وانعكاس التوحيد في حياة الإنسان ، وإذعانه للحقّ والحقيقة.

تقول أوّلا : (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) آيات تنور القلوب بنور الإيمان والتوحيد ، وتزيد في فكر الإنسان نورا وبهجة ، وتبدّل ظلمات حياته إلى نور على نور. وطبيعي أنّ هذه الآيات المبينات تمهد للإيمان ، إلّا أنّ الهداية الإلهية هي صاحبة الدور الأساسي (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وكما نعلم فإنّ إرادة الله ومشيئته ليست دون حساب ، فهو سبحانه وتعالى يدخل نور الهداية إلى القلوب المستعدة لتقبله ، أي التي أبدت المجاهدة في سبيل الله وقطعت خطوات للتقرب إليه ، فأعانها على قدر سعيها في الوصول إلى لطفه سبحانه.

ثمّ استنكرت الآية الثّانية وذمّت مجموعة من المنافقين الذين يدّعون

__________________

(١) «مجمع البيان» وتفسير «روح المعاني» وتفسير «التبيان» وتفسير «القرطبي» وتفسير «الفخر الرازي» وتفسير «الصافي» وتفسير «نور الثقلين» (مع بعض التصرف).

١٣٧

الإيمان في الوقت الذي خلت فيه قلوبهم من نور الله ، فتقول الآية عن هذه المجموعة (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ).

ما هذا الإيمان الذي لا يتجاوز حدود ألسنتهم ، ولا أثر له في أعمالهم؟

ثمّ تذكر الآية التي بعدها دليلا واضحا على عدم إيمانهم (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ).

ولتأكيد عبادة هذه المجموعة للدنيا وفضح شركهم ، تضيف الآية (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) وبكامل التسليم والخضوع.

والجدير بالذكر أن العبارة الأولى تحدثت عن الدعوة إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا العبارة التالية أي كلمة «ليحكم» فإنّها جاءت مفردة ، وهي تشير إلى تحكيم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوحده ، وذلك لأنّ تحكيم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس منفصلا عن تحكيم الله تعالى ، حيث أنّ كلا الحكمين في الحقيقة واحد.

كما يجب الانتباه إلى أنّ ضمير الهاء المتّصلة في «إليه» يعود إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، أو إلى تحكيمه. وكذلك لا بدّ من الالتفات إلى أن الآية نسبت التخلف عن هذا الحكم والإعراض عن تحكيم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مجموعة من المنافقين فقط.

ولعل ذلك لأن الفئات الأخرى لم تكن بهذه الدرجة من الجرأة وعدم الحياء ، لأنّ للنفاق مراتب أيضا كمراتب الأيمان المختلفة.

وبيّنت الآية الأخيرة في ثلاث جمل ، الجذور الأساسية ودوافع عدم التسليم إزاء تحكيم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت أوّلا (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

هذه صفة من صفات المنافقين يتظاهرون بالإيمان ، ولكنّهم لا يسلّمون بحكم الله ورسوله ، ولا يستجيبون له ، إمّا بسبب انحرافهم قلبيا عن التوحيد أو الشك والتردد (أَمِ ارْتابُوا) وطبيعي أنّ الذي يتردّد في عقيدته ، لن يستسلم لها أبدا.

وثالثها فيما لو لم يلحدوا ولم يشكوا ، أي كانوا من المؤمنين : (أَمْ يَخافُونَ أَنْ

١٣٨

يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ).

في الوقت الذي يعتبر هذا تناقضا صريحا ، إذ كيف للذي يؤمن برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعتبر حكمه حكم الله تعالى أن ينسب الظلم إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! وهل يمكن أن يظلم الله أحدا؟

أليس الظلم وليد الجهل أو الحاجة أو الكبر؟

إنّ الله تعالى مقدّس عن كلّ هذه الصفات (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) إنّهم لا يقتنعون بحقّهم ، وهم يعلمون أنّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجحف بحق أحد ، ولهذا لا يستسلمون لحكمه.

ويرى مفسّر «في ظلال القرآن» : في الآية : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؟ أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟) أنّ السؤال الأوّل للإثبات ، أي لاثبات وجود مرض النفاق في قلوبهم فمرض القلب جدير بأن ينشئ مثل هذا الأثر.

والسؤال الثّاني للتعجب ، فهل هم يشكّون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان؟ هل هم يشكّون في مجيئه من عند الله؟ أو هم يشكّون في صلاحيته لإقامة العدل؟

والسؤال الثّالث لاستنكار أمرهم الغريب ، والتناقض الفاضح بين ادعائهم وعملهم.

وإنّه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان ، فالله خالق الجميع وربّ العالمين ، فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب مخلوق آخر (١).

وما يورده هذا المفسّر هو أنّ عبارة «أم ارتابوا» تعني الشك في عدالة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي صحة تحكيمه في الوقت الذي يرى كثير من المفسّرين أنّه الشك في أصل النّبوة كما هو الظاهر.

* * *

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، المجلد (١٧ ـ ٢٠) ، صفحة ١١٥ ـ طبعة دار إحياء الكتب العربية ـ الطبعة الأولى.

١٣٩

بحثان

١ ـ مرض النفاق

ليست هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها القرآن عبارة «المرض» للنفاق ، فقد استخدمها في مطلع سورة البقرة عند بيانه لصفات المنافقين (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) وكما قلنا في المجلد الأوّل في أثناء تفسير الآية المذكورة ، فإنّ النفاق في حقيقته مرض وانحراف عن الطريق السوي ، فالإنسان السليم له صورة واحدة هي انسجام روحه مع بدنه.

فإذا كان مؤمنا فكلّ أجزاء بدنه تعبر عن إيمانها ، وإذا كان عديم الإيمان فإنّ ظاهره وباطنه يكشفان عن كفره وانحرافه.

أمّا إذا كان متظاهرا بالإيمان ومبطنا للكفر ، فإنّ ذلك يعتبر نوعا من المرض.

وبما أن هؤلاء الأشخاص (المنافقين) لا يستحقون لطف الله ورحمته ، بسبب عنادهم وإصرارهم على المضي بمناهجهم المنحرفة ، فقد تركهم الله على حالهم ، ليزدادوا مرضا.

والمنافقون في الواقع أخطر مجموعة في المجتمع ، لأنّه لا يتّضح للمؤمن بأيّ أسلوب يجب أن يعاملهم ، فهم ليسوا أصدقاء ولا يبدون أنّهم أعداء ، فيستفيدون من إمكانات المؤمنين ويصونون أنفسهم عن العقاب المفروض على الكفار بالتظاهر وإخفاء حقائقهم المشؤومة ، فأعمالهم أتعس من أعمال الكفّار.

ولكن هؤلاء لا يمكنهم أن يواصلوا هذا المنهج لمدّة طويلة ، فلا بدّ أن يفتضح أمرهم وينكشف باطنهم. وكما ذكرت الآيات ـ موضع البحث ـ وسبب نزولها.

افتضاحهم في عملية تحكيم واحدة وانكشاف باطنهم الخبيث (١).

__________________

(١) لإيضاح أكثر حول صفات المنافقين يراجع التّفسير الأمثل من بداية سورة البقرة آخر الآية العاشرة وما يليها.

١٤٠