الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-52-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٠٤

الآيات

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

التّفسير

آية النور!

تحدث الفلاسفة والمفسّرون والعرفاء الإسلاميون كثيرا عن مقاصد الآيات

١٠١

أعلاه ، وهي مرتبطة بما سبقها من الآيات الشريفة التي عرضت لقضية العفة ومكافحة الفحشاء بمختلف السبل.

وبما أنّ ضمانة تنفيذ الأحكام الإلهية ، وخاصّة السيطرة على الغرائز الثائرة ، ولا سيّما الغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز ، لا تتمّ دون الاستناد إلى الإيمان ، ومن هنا امتد البحث إلى الإيمان وأثره القويّ ، فقالت الآية أوّلا : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ما أحلى هذه الجملة! وما أثمنها من كلمات! أجل إنّ الله نور السموات والأرض ... النور الذي يغمر كلّ شيء ويضيئه.

ويرى بعض المفسّرين أنّ كلمة «النّور» تعني هنا «الهادي» ، وذهب البعض الآخر أنّ المراد هو «المنير». وفسّرها آخرون بـ «زينة السماوات والأرض».

وكلّ هذه المعاني صحيحة ، سوى أنّ مفهوم هذه الآية أوسع بكثير ممّا ذكر ، فالقرآن المجيد والأحاديث الإسلامية فسّرت النور بأشياء عدّة منها :

١ ـ «القرآن المجيد» : ـ ذكرت الآية (١٥) من سورة المائدة : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) وجاء في الآية (١٥٧) من سورة الأعراف (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

٢ ـ «الإيمان» ذكرت الآية (٢٥٧) من سورة البقرة. (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

٣ ـ «الهداية الإلهية» مثلما جاء في الآية (١٢٢) من سورة الأنعام (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)؟!

٤ ـ «الدين الإسلامي» كما نقرأ في الآية (٣٢) من سورة التوبة : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

٥ ـ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نقرأ عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية (٤٦) من سورة

١٠٢

الأحزاب : (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً).

٦ ـ الأئمة الأطهار : كما جاء في الزيارة الجامعة لهم : «خلقكم الله أنوارا فجعلكم بعرشه محدّقين». وكذلك في نفس هذه الزيارة «وأنتم نور الأخيار وهداة الأبرار».

٧ ـ «العلم والمعرفة» حيث عرّف بالنور كما جاء في الحديث المشهور «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء».

كلّ هذه من جهة ، ومن الجهة الأخرى علينا التدقيق في خصائص النور وميزانه ، ليتّضح أنّه يمتاز بما يلي :

١ ـ النور أجمل وألطف ما في العالم ، وهو مصدر لكلّ جمال ولطف!

٢ ـ النور أسرع الأشياء ، كما ثبت لمشهوري العلماء الكبار في العالم ، إذ تبلغ سرعته ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثّانية. وبإمكانه الدوران حول الكرة الأرضية سبع مرات في طرفة عين (أقلّ من ثانية واحدة).

ولهذا السبب تقاس المسافات الهائلة بين النجوم فقط بسرعة الضوء ، والوحدة المستعملة في هذا المجال هي السنة الضوئية ، أي : المسافة التي يقطعها الضوء وهو بتلك السرعة الهائلة ـ في سنة واحدة.

٣ ـ بالنور يمكن مشاهدة الأشياء في العالم ، ومن دونه يستحيل رؤية أيّ شيء ، فالنور ظاهر بنفسه ومظهر لغيره.

٤ ـ إنّ ضوء الشمس يعدّ من أهم أنواع النور في عالمنا ، فهو ينمي الأزهار والنباتات وبه تستمرّ الحياة ، بل هو رمز بقاء المخلوقات الحيّة ، ولا يمكن لموجود حيّ أن يستمرّ في الحياة دون أن يستفيد من نور الشمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

٥ ـ ثبت اليوم أن جميع الألوان يمكن مشاهدتها بنور الشمس أو الأنوار الأخرى ، ولولاها لعاشت المخلوقات في عتمة قاتمة.

١٠٣

٦ ـ إنّ جميع أنواع الطاقة الموجودة في محيطنا (باستثناء الطاقة النووية) مصدرها الشمس من قبيل حركة الرياح ، سقوط المطر ، وحركة الأنهر والوسائط فيها والشلالات ولو دققنا في حركة جميع المخلوقات الحية لوجدناها ترتبط بنور الشمس.

مصدر الحرارة وتدفئة الأحياء كلها هو الشمس ، حتى أن حرارة النار المتولدة من الخشب أو الفحم أو الفحم الحجري أو النفط ومشتقاته مصدرها حرارة الشمس. لأنّ هذه الأشياء بحسب الدراسات العلمية تعود إلى النباتات أو الحيوانات ، وهذه بدورها قد استفادت من نور الشمس وحرارتها ، فخزنت الفائض منها في جسمها ، لهذا فإنّ حركة المحركات والمكائن أيضا من بركات الشمس.

٧ ـ نور الشمس قاتل الميكروبات والمخلوقات المضرّة ، وبفقدان هذا النور تتبدّل الأرض إلى مستشفى كبير قد ابتلي سكانها بأنواع الأمراض ويصارعون الموت بين لحظة وأخرى!

وكلما دققنا في عالم النور الذي يشكل ظاهرة فريدة ، يتّضح لنا أثره البالغ الأهمية وبركاته العظيمة.

وبملاحظة هاتين المقدمتين إذا أردنا تشبيه الذات المقدسة لربّ العالمين (رغم منزلته العظيمة التي لا نظير لها ولا شبيه) فلا نجد خيرا من النور؟! الله الذي خلق كل شيء في عالم الوجود ونوّره ، فأحيا المخلوقات الحية ببركته ، ورزقها من فضل ، ولو انقطعت رحمته عنها لحظة ، لأصبح الجميع في ظلمات الفناء والعدم.

وممّا يلفت النظر أنّ كل مخلوق يرتبط بالله بمقدار معين يكتسب من النور بنفس ذلك المقدار :

القرآن نور لأنّه كلام الله.

والدين الإسلامي نور لأنّه دينه.

١٠٤

الأنبياء أنوار لأنّهم رسله.

والأئمّة المعصومون عليهم‌السلام أنوار إلهية ، لأنّهم حفظة دينه بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والإيمان نور ، لأنّه رمز الالتحام به سبحانه وتعالى.

والعلم نور ، لأنّه السبيل إلى معرفته ـ عزوجل ـ.

ولهذا : الله نور السموات والأرض.

وإذا استعملنا كلمة «النور» بمعناها الواسع ، أي الظاهر في ذاته والمظهر لغيره في هذه الحالة يصبح استعمال كلمة النور الذات الله المقدسة حقيقة ولا تشبيه فيها ، لأنّه لا يوجد أظهر من الله تعالى في العالم ، وكلّ الأشياء تظهر من بركات وجوده.

وجاء في كتاب التوحيد ، عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام حين سئل عن معنى قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال «هاد لأهل السموات ، وهاد لأهل الأرض».

وهذه في الواقع واحدة من خصائص النور الإلهي ، ولا يمكن حصره بهذه الخصيصة ، ولهذا يمكن جمع كلّ ما قيل في تفسير هذه الآية ، وكلّ تفسير هو إشارة إلى أحد أبعاد هذا النور الذي لا مثيل له.

والجدير بالذكر ما جاء في الفقرة السابعة والأربعين من دعاء الجوشن الكبير الذي يحتوي على صفات الله تعالى : «يا نور النور ، يا منور النور ، يا خالق النور ، يا مدبر النور ، يا مقدر النور ، يا نور كلّ نور ، يا نورا قبل كلّ نور ، يا نورا بعد كلّ نور ، يا نورا فوق كلّ نور ، يا نورا ليس كمثله نور» وبهذا تأخذ أنوار الوجود نورها من نوره وتنتهي بنوره الطاهر.

وقد أوضح القرآن بعد بيانه الحقائق السالفة ذلك ، إذ ذكر مثالا رائعا دقيقا لكيفية النور الإلهي : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ

١٠٥

الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

ولشرح هذا المثال يجب الإلمام بعدة أمور :

«المشكاة» في الأصل تعني الكوّة التي تخصص في الجدار لوضع المصابيح الزيتية فيها لحفظها من الرياح ، وأحيانا تبنى في الجدار فتحة صغيرة ، يغطى جانبها المشرف على ساحة الدار بالزجاج ، لإضاءة داخل وخارج الغرفة كما تحفظ المصباح من الرياح. كما تطلق هذه الكلمة على وعاء (الفانوس القديم) يصنع من زجاج على شكل متوازي المستطيلات له باب وفتحة في أعلاه لخروج الهواء الساخن. وكانوا يضعون المصباح فيه.

وباختصار نقول : إنّ المشكاة محفظة للمصباح من الرياح الشديدة ، وغالبا ما يثبت في الجدار لتركيز الضوء وسهولة انعكاسه.

«الزجاجة» تطلق في الأساس على الأحجار الشفّافة ، وسمّيت الصفائح الشفافة بالزجاج لأنّها تصنع من مواد معدنية ، والزجاجة هنا تعني الزجاجة التي توضع فوق المصباح لتحفظ شعلته ، وتنظّم جريان الهواء ، لتزيد من نور الشعلة.

«المصباح» يتألف من وعاء للزيت وفتيل.

عبارة (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) تشير إلى الطاقة التي تجهّز هذا المصباح بوقود لا ينضب معينه. وزيت الزيتون من أجود الوقود المستعمل للمصابيح ، ثمّ أن هذا الزيت يحصل عليه من زيتون شجر يتعرّض للشمس من جميع جوانبه بشكل متساو ، لا أن تكون الشجرة في الجانب الشرقي من البستان وبجانب حائط يمنع وصول أشعة الشمس إليها ، كما لا تكون في جهة الغرب ليتعرض جانب واحد منها على أشعة الشمس ، فلا تنضج ثمرتها بصورة جيدة ولا يكون زيتها نقيا وصافيا.

وبعد هذا الإيضاح يتبيّن أنّنا للاستفادة من نور المصباح بإشعاع قويّ نحتاج إلى توفر أربعة أشياء.

١٠٦

«محفظة للمصباح» لا تقلل من نوره ، بل تركز هذا النور وتعكسه و «زجاجة» تنظم جريان الهواء حول الشعلة ، ويجب أن تكون شفّافة بدرجة لا تمنع تشعشع النور ، و «مصباح» هو مصدر النور ، وهو عبارة عن إناء فيه زيت وفي أعلاه الفتيل.

وأخيرا «مادة الاحتراق» صافية خالصة شفّافة مستعدة للاشتعال بدرجة يتصوّر فيها الإنسان إنّها سوف تشعل لوحدها دون أن يمسّها قبس من النار.

كلّ هذه العبارات تكشف في الحقيقة عن ظاهر القضية.

ومن جهة أخرى أورد كبار المفسّرين تفاسير عديدة بشأن هذا التشبيه وأنّه ما هو «المشبّه» ومن أيّ نور إلهي يكون :

قال البعض : المقصود هنا نور الهداية التي يجعله الله في قلوب المؤمنين ، وبعبارة أخرى : المقصود الإيمان الذي استقرّ في قلوب المؤمنين.

وقال آخرون : إنّ المشبّه يعني هنا القرآن الذي ينير قلوب الناس.

وآخرون : إنّه إشارة إلى شخص النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وآخرون : إنّه إشارة إلى أدلة التوحيد والعدل الإلهي.

وآخرون : إنّه روح الطاعة والتقوى التي هي أساس كلّ خير وسعادة.

وفي الحقيقة فإنّ هذه التفاسير قد أوردت كلّ ما جاء في القرآن والأحاديث الإسلامية بعنوان مصاديق للنور ، وجوهرها واحد ، وهو نور الهداية بذاته ، ومصدره القرآن والوحي ووجود الأنبياء ، وينهل من أدلة التوحيد ، ونتيجته التسليم بحكم الله والتمسك بالتقوى.

وتوضيح ذلك : إنّ نور الإيمان الموجود في قلوب المؤمنين يحتوي على العناصر الأربعة المتوفرة في المصباح المضيء ، هي :

«المصباح» وهو شعلة الإيمان في قلب المؤمن يضيء طريق الهداية.

و «الزجاجة» هي قلب المؤمن ينظم الإيمان في ذاته ويحفظه من كل سوء.

و «المشكاة» صدر المؤمن ، أو بعبارة أخرى : شخصيته بما فيها وعيه وعلمه

١٠٧

وفكره الذي يصون إيمانه من الأعاصير والأخطار.

«شجرة مباركة زيتونة» هي الوحي الإلهي الذي يكون بمنتهى الصفاء والطهارة وتوقد شعلة إيمان المؤمنين ـ في الحقيقة ـ من نور الله الذي ينير السموات والأرض وقد. شرق من قلوب المؤمنين ، فأضاء وجودهم ونور وجوههم.

فتراهم يمزجون الأدلّة العقلائية بنور الوحي ، فيكون مصداق «نور على نور».

ولهذا ترى القلوب المستعدة لاستقبال النور الإلهي تهتدي ، وهي المقصودة بعبارة (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) وعلى هذا فإنّ المحافظة على النور الإلهي (نور الهداية والإيمان) يستوجب توفر مجموعة من المعارف والعلوم والوعي والأخلاق وبناء الذات ، من أجل أن تكون كالمشكاة تحفظ هذا المصباح.

كما تحتاج إلى قلب مستعد لينظّم هذا النور الإلهي كما تنظم الزجاجة شعلة المصباح.

وتحتاج إلى مدد من الوحي ، ليمنحها طاقة مثلما تمنحها الشجرة التي سمّاها القرآن بعبارة (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ).

وتجب المحافظة على نور الوحي من التلوث والميول المادية والانحراف إلى الشرق أو الغرب الذي يؤدّي إلى التفسخ والاندثار.

ولتعبئ قوى الإنسان بشكل سليم بعيدا عن كلّ فكر مستورد وانحراف ، لتكون مصداقا لـ (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ).

وكلّ تفسير يتضمّن حكما مسبقا ويتضمّن ذوق المفسّر وعقيدته الخاصّة به ، أو رغبة يسارية أو يمنية ، أو خرافة يؤدي إلى تلويث سمعة هذه الشجرة المباركة ، ويقلل من تشعشع مصباحها. وأحيانا يطفئه.

هذا هو المثال الذي ذكره الله لنوره في هذه الآية ، وهو الذي أحاط بكلّ شيء

١٠٨

علما.

وممّا سلف يتّضح لنا أن ما ذكرته الرّوايات عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام بخصوص تفسير هذه الآية أنّ المشكاة هي قلب نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمصباح نور العلم ، والزجاجة وصية علي عليه‌السلام ، والشجرة المباركة إبراهيم الخليل عليه‌السلام الذي يرجع نسب بيت النبوّة إليه ، وعبارة (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) تعني نفي أيّ ميل إلى اليهودية والنصرانية فهو وجه آخر لنور الهداية والإيمان ، ومصداق واضح لها ، ولا يعني أنّ هذه الآية مختصة بهذا المصداق.

كما أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ النور الإلهي هو القرآن ، أو الأدلة العقلائية ، أو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذاته ، له جذور مشتركة بالتّفسير أعلاه.

وقد شاهدنا حتى الآن خصائص هذا النور الإلهي ، نور الهداية والإيمان من خلال تشبيهه بمصباح قويّ الإضاءة.

ويجب أن نعرف الآن أين موضع هذا المصباح ، وشكل موضعه؟ ليتّضح لنا ما كان ضروريا إيضاحه في هذا المجال. لهذا تقول الآية التالية : إنّ هذه المشكاة تقع (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) لكي تكون في مأمن من الشياطين والأعداء والانتهازيين (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ويتلى فيها القرآن والحقائق الإلهية.

وقد اعتبر العديد من المفسّرين هذه الآية مرتبطة كما قلنا بالآية التي سبقتها (١). غير أن البعض من المفسّرين يرى أنّ هذه الجملة ترتبط بالجملة التي تليها ، إلّا أنّ ذلك بعيد عن الصواب.

أمّا ما أورده البعض وتساءل عن مدى تأثير هذا النور الباهر في البيوت

__________________

(١) هكذا يكون تقدير الآية «هذه المشكاة في بيوت ... أو هذا المصباح في بيوت ... هذه الشجرة في بيوت ... نور الله في بيوت» في الوقت الذي يرى أصحاب التّفسير الثّاني أنّ عبارة «في بيوت» تعود إلى كلمة «يسبّح» ليكون معنى الآية (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي في الصباح والمساء. إلّا أن هذا التّفسير لا ينسجم مع وجود كلمة «فيها» لأنّه يعد تكرارا لا داعي له ، إضافة إلى عدم انسجامها مع الأحاديث الواردة بهذا الصدد (فتأملوا جيدا).

١٠٩

المذكورة بتلك الخصوصيات ، فجوابه واضح ، لأنّ البيوت التي ورد ذكرها في هذه الآية والتي يحرسها رجال أشداء ييقظون ، هم الذين يحفظون هذه المصابيح المنيرة ، إضافة إلى أن هؤلاء الرجال يبحثون عن مصدر نور ، فيهرعون إليه بعد أن يتعرّفون على موضع هذا النور.

ولكن ما المقصود من هذه البيوت؟

الجواب يتّضح بما ذكرته آخر الآية من خصائص حيث تقول : أنّه في هذه البيوت يسبّح أهلها صباحا ومساء : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١).

(رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) إنّ هذه الخصائص تكشف عن أنّ هذه البيوت هي المراكز التي حصّنت بأمر من الله ، وأنّها مركز لذكر الله ولبيان حقيقة الإسلام وتعاليم الله ، ويضم هذا المعني الواسع المساجد وبيوت الأنبياء والأولياء خاصّة بيت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيت عليّ عليه‌السلام. ولا دليل يؤيّد حصرها من قبل بعض المفسّرين ـ بالمساجد أو بيوت الأنبياء وأمثالها.

وفي الحديث المروي عن الإمام الباقر عليه‌السلام «هي بيوت الأنبياء وبيت عليّ منها» (٢).

وفي حديث آخر حيث سئل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قرأ الآية ، أي بيوت هذه؟ فقال : «بيوت الأنبياء» فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله ، هذا البيت منها ، يعني بيت عليّ وفاطمة. قال : «نعم ، من أفاضلها» (٣).

__________________

(١) «الغدو» على وزن «علو» بمعنى الصبح ، ويقول الراغب الأصفهاني : الغدوة والغداة من أوّل النهار ، وقوبل في القرآن بالآصال ، نحو قوله (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) وقوبل الغداة بالعشيّ. و «الآصال» جمع «الأصل» على وزن «رسل» وهو بدوره جمع للأصيل بمعنى العصر ، والسبب في ذكر الغدو مفردة والآصال جمعا؟ يقول فخر الرازي ، لأنّ الغدو ذات بعد مصدري ولا يجمع المصدر.

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثالث ، ص ٦٠٧.

(٣) تفسير مجمع البيان للآية موضع البحث.

١١٠

وكل ذلك إشارة إلى مصاديق واضحة تذكرها الأحاديث كعادتها حين تفسير القرآن.

أجل ، إنّ كلّ مركز يقام بأمر من الله ، ويذكر فيه اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال ، وفيه رجال لا تلهيهم تجارة عن ذكر الله ، فهي مواضع لمشكاة الأنوار الإلهية والإيمان والهداية.

ولهذه البيوت عدّة خصائص.

أوّلها : أنّها شيّدت بأمر من الله.

والأخرى : إن جدرانها رفعت وأحكم بناؤها لتمنع تسلل الشياطين.

وثالثها : أنها مركز لذكر الله.

وأخيرا : فإنّ فيها رجالا يحرسونها ليل نهار ، وهم يسبحون الله ، ولا تلهيهم الجواذب الدنيوية عن ذكر الله.

هذه البيوت بهذه الخصائص ، مصادر للهداية والإيمان.

ولا بدّ من التنبيه إلى ورود كلمتين في هذه الآية هما «التجارة» و «البيع» وهما كلمتان تبدوان وكأنّ لهما معنى واحدا ، إلّا أنّ الفرق بينهما هو أنّ التجارة عمل مستمر ، والبيع ينجز مرة واحدة ، وقد تكون عابرة.

ويجب الالتفات إلى أنّ الآية لم تقل : أنّ هؤلاء لا يمارسون أبدا التجارة والبيع بل قالت : إنّهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.

إنّهم يخافون يوم القيامة والعدل الإلهي الذي تتقلّب فيه القلوب والأبصار من الخوف والوحشة (ويجب الانتباه إلى أنّ الفعل المضارع ، «يخافون» يدلّ على الاستمرار في الخوف ، وهذا الخوف هو الذي دفعهم إلى تحمل مسئولياتهم ، ولبلوغ رسالتهم في الحياة).

وأشارت آخر هذه الآيات إلى الجزاء الوافي لحراس نور الهداية وعشّاق الحقّ والحقيقة ، فقالت : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ،

١١١

ولا عجب في ذلك ، لأنّ الفضل الإلهي لمن كان جديرا به غير محدود : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

وقال بعض المفسّرين عما تعنيه عبارة (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) في هذه الآية ، أنّها إشارة إلى جميع الأعمال الطيبة ، سواء كانت واجبة أم مستحبة ، صغيرة أم كبيرة.

ويرى آخرون أنّها إشارة إلى أنّ الله يكافئ الحسنة بعشر أمثالها ، وأحيانا بسبعمائة مثلها ، حيث نقرأ في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها). كما جاء في الآية (٢٦١) من سورة البقرة حول جزاء المنفقين في سبيل الله أنّ المكافأة تعادل سبعمائة مرة أو ضعفها.

كما يمكن أن تفسّر العبارة السابقة بأنّ المقصود هو أنّ الله يكافئ جميع أعمالهم بموجب أفضلها ، ويشمل ذلك أبسط أعمالهم وأوسطها ، حيث يجعلها الله بمستوى أفضل الأعمال حين منحه المكافأة.

وليس هذا بعيدا عن رحمة الله وفضله ، والعدالة تقضي بمساواة المكافأة مع العمل في سبيل الله ، إلّا أنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء ، فهو يهب دون حساب ولا حدود ، فذاته المقدسة غير محدودة ، وأنعمه لا تنتهي ، وكرمه عظيم لا حدود له.

* * *

ملاحظات

بيّنا كثيرا من مسائل هذه الآيات خلال تفسيرنا لها ، وبقيت عدّة أحاديث يقتضي الأمر ذكرها بغية إتمام هذا البحث.

١ ـ نقرأ في كتاب روضة الكافي حديثا عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير آية النور : «إن المشكاة قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمصباح النور الذي فيه العلم ،

١١٢

والزجاجة قلب علي عليه‌السلام أو نفسه» (١).

٢ ـ وجاء حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام في توحيد الصدوق «إن المشكاة نور العلم في صدر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والزجاجة صدر علي ... ونور علي نور إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في أثر الإمام من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة ، فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله عزوجل ـ خلفاء في أرضه وحجج على خلقه ، لا تخلو الأرض في كلّ عصر من واحد منهم» (٢).

٣ ـ وفسّر حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام المشكاة بفاطمة عليها‌السلام والمصباح بالحسن عليه‌السلام والزجاجة بالحسين عليه‌السلام. (٣)

وكما أشرنا سابقا فإنّ للآيات مفهوما واسعا ، وكلّ حديث من هذه الأحاديث بيان لمصداق بارز من مصاديقها دون الإخلال بعموميتها.

وبهذا لا نجد تناقضا في الأحاديث السابقة.

٤ ـ نقرأ في حديث عن أبي جعفر الثمالي قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام الباقر لقتادة : من أنت؟ قال : أنا قتادة ابن دعامّة البصري فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : أنت فقيه أهل البصرة؟ قال : نعم ، فقال له الامام الباقر عليه‌السلام : ويحك يا قتادة إن الله خلق خلقا من خلقه فجعلهم حججا على خلقه ، فهم أوتاد في أرضه قوّام بأمره نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه ، أظلة عن يمين عرشه قال : فسكت قتادة طويلا ثمّ قال : أصلحك الله والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدّامهم ، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك.

فقال له الإمام الباقر عليه‌السلام : أتدري أين أنت؟ بين يدي : (بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ

__________________

(١) نور الثقلين في تفسير الآيات موضع البحث (مع بعض التلخيص المجلد الثالث ، صفحة ٦٠٢ و ٦٠٣).

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

١١٣

ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) فأنت ثمّ ونحن أولئك.

فقال له قتادة : «صدقت والله جعلني الله فداك والله ما هي بيوت حجارة ولا طين ...» (١).

٥ ـ وذكر حديث آخر حول رجال الله حماة الوحي والهداية : «هم التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، إذا دخل مواقيت الصلاة أدوا إلى الله حقّه فيها» (٢)

إشارة إلى أنّ هؤلاء الرجال همّهم ذكر الله ولا يقدمون عليه شيئا ، رغم أنّهم يمارسون نشاطا اقتصاديا في الحياة.

٦ ـ وصفت شجرة الزيتون في الآيات السابقة بأنّها شجرة مباركة.

وكان لهذه الشجرة أهمية بالغة حين نزول القرآن ، وقد اتّضح ذلك اليوم ، لأنّ كبار العلماء أخبرونا بخلاصة تجاربهم ودراساتهم عن خواصّ أنواع النباتات ، وحول شجرة الزيتون يقولون : إنّها مباركة حقّا ، وثمرها مفيد جدّا ، ويمنحنا أجود الزيوت ، ولها دور حيوي في سلامة الجسم.

يقول ابن عباس : إنّ أجزاء هذه الشجرة مفيدة ومريحة ، وحتى رماد خشبها فيه منفعة ، وهي أول شجرة نبتت بعد طوفان نوح عليه‌السلام ، وقد دعا لها الأنبياء وباركوها.

٧ ـ ذكر المفسّرون الكبار عدّة تفاسير لعبارة «نور على نور» فقال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : إنّها إشارة إلى أنبياء من نسل واحد يتعاقبون على النبوة ويواصلون طريق الهداية.

ويقول الفخر الرازي في تفسيره : إنّها إشارة إلى تجمع شعاع النور وتراكمه ، حيث ذكر حول المؤمن : «يقف المؤمن بين أربعة مواقف ، فإذا وهبه الله شكره ،

__________________

(١) المصدر السابق ، ٦٠٩.

(٢) المصدر السابق.

١١٤

وإذا أصابته مصيبة صبر وصمد ، وإذا تكلم صدق ، وإذا حكّم بين اثنين عدل ، وهو إنسان واع بين جهلة ومثله كحيّ بين أموات. إنّه يسير بين خمسة أنوار : كلامه نور ، عمله نور ، إقامته نور ، رحله نور ، هدفه نور الله يوم القيامة».

ويمكن أن يكون النور الأوّل الذي ذكرته الآية إشارة إلى نور الهداية الإلهية عن طريق الوحي ، والنور الثّاني نور الهداية عن طريق العقل.

أو أنّ النور الأوّل هو نور الهداية التشريعة ، والنور الثّاني نور الهداية التكوينية فهو نور على نور.

وبهذا فسّرت هذه العبارة بمختلف مصادر النور ، مرّة فسّرت بالأنبياء وأخرى بأنواع النور ، ومرة ثالثة بمراحل النور المختلفة ، وهي ممكنة جميعا في آن واحد ، لأنّ مفهوم الآية واسع جدا (فتأملوا جيدا).

* * *

١١٥

الآيتان

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))

التّفسير

أعمال سرابية

تحدثت الآيات السابقة عن نور الله ، نور الإيمان والهداية. ولإتمام هذا البحث ولتوضيح المقارنة بين الذين نوّر الله قلوبهم وبين الآخرين تناولت هذه الآيات عالم الكفر والجهل والإلحاد المظلم ، وتحدثت عن الكفار والمنافقين الذين وجودهم (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) خلافا للمؤمنين الذين أصبحت حياتهم وأفكارهم (نُورٌ عَلى نُورٍ).

١١٦

الكلام في الآية الأولى عن الذين يبحثون عن الماء في صحراء جاقّة حارقة ، ولا يجدون غير السراب فيموتون عطشا ، في الوقت الذي عثر فيه المؤمنون على نور الإيمان ، ومنبع الهداية الرائعة ، فاستراحوا بجنبها ، فتقول أوّلا : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) ولكن يجد الله عند أعماله (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ).

«السراب» مشتق من السرب على وزن «حرب» بمعنى الطريق المنحدر ، وتطلق كلمة السراب على لمعان يشاهد في الصحارى والمنحدرات من بعيد وكأنّه ماء ، وما هو إلّا انعكاس لأشعة الشمس (١).

ويرى البعض أنّ «القيعة» جمع «قاعة» ، بمعنى الأرض الواسعة التي لا ماء ولا نبات فيها ، ويطلق ذلك على الصحاري التي يظهر فيها السراب في معظم الأحيان ، إلّا أنّ بعض المفسّرين واللغويين يرون أنّ هذه الكلمة مفردة ، وجمعها «قيعان» أو «قيعات» (٢).

ورغم عدم وجود الفرق من حيث المعنى ، فإنّ الآية توجب أن تكون هده الكلمة مفردة ، لأنّها ذكرت السراب مفردا والسراب الواحد يكون في أرض واحدة طبعا.

ثمّ تناولت الآية الثّانية مثالا آخر لأعمال الكفار وقالت : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) وبهذا المنوال تكون (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها).

أجل ، إنّ النور الحقيقي في حياة البشر هو نور الإيمان فقط ، ومن دونه تسود

__________________

(١) يقول علماء الفيزياء المعاصرون : عند ارتفاع درجات الحرارة فالهواء المجاور للأرض يتمدد ويزداد تخلخله فيختلف مع الطبقة المجاورة له ، وبذلك تنعكس موجة الضوء ويحدث السراب.

(٢) تراجع التفاسير التالية : مجمع البيان ، روح المعاني ، تفسير القرطبي ، تفسير الفخر الرازي ، ومفردات الراغب.

١١٧

الحياة الظلمات ، ونور الإيمان هذا إنّما هو لطف من عند الله (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

ولفهم عمق هذا المثال لا بدّ من الاهتمام بمعنى كلمة «اللجّيّ» وهو البحر الواسع والعميق. وبالأصل مشتقّة من «اللجاج» بمعنى متابعة عمل ما (التي تطلق عادة على الأعمال غير الصحيحة) ثمّ أطلقت على تتابع أمواج البحر واستقرارها الواحدة بعد الأخرى ، ولقد استخدمت هذه الكلمة بهذا المعنى لأنّ البحر كلّما كان عميقا وواسعا تزداد أمواجه.

ولو تصوّرتم بحرا هائجا عميقا ، ومع علمنا أنّ نور الشمس أقوى أنواع النور ، لكنّه لا ينفذ إلّا بمقدار معيّن في البحر ، وآخر حدود نفوذه في العمق لا يتجاوز سبعمائة متر ، حيث يسود الظلام الدائم أعماق البحار والمحيطات.

كما نعلم أنّ الماء إذا كان هادئا يعكس النور بشكل أفضل ، بينما تكسر أمواج البحر أشعة الشمس ، ولا تسمح لها بالنفوذ إلى العمق إلّا بمقدار أقل. وإذا أضفنا إلى ذلك مسألة مرور سحاب داكن اللون فوق هذا البحر الهائج ، فإنّ الظلام يزداد عتمة وسوادا بشكل كبير (١).

إن الظلام في عمق البحر من جهة ، وظلمة الأمواج الهائجة من جهة أخرى ، وظلمة الغيوم السوداء من جهة ثالثة ، ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض.

وفي مثل هذا الظلام لا يمكن رؤية أيّ شيء ، مهما اقترب منّا ، حتّى لو وضع الإنسان الشيء نصب عينيه لما استطاع مشاهدته.

وهكذا حال الكفار الذين حرموا من نور الإيمان فابتلوا بهذه الظلمات ، خلافا للمؤمنين الذين نوّر الله قلوبهم وطريقهم وهم مصداق (نُورٌ عَلى نُورٍ).

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه الظلمات ثلاثة أقسام ، قد ابتلي غير المؤمنين

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أن «السحاب» يعني كما جاء من «لسان العرب» الغيوم الممطرة ، وعادة تكون السحب المتراكمة أكثر عتمة.

١١٨

بها ، وهي : ظلمة العقيدة الباطلة ، وظلمة القول الخاطئ ، وظلمة السلوك السيء ، وبعبارة أخرى : إنّ أعمال غير المؤمنين أساسها الفكري ظلمات. وكذلك أقوالهم التي هي انعكاس لعقائدهم ، ثمّ انسجامها مع أفعالهم الظلمانية.

وقال آخرون : إنّ هذه الظلمات الثلاث عبارة عن مراحل جهل غير المؤمنين ، وأوّلها أنّهم لا يعلمون ، وثانيتها أنّهم لا يعلمون ، بأنّهم لا يعلمون ، وثالثتها أنّهم مع كل هذا يتصوّرون أنّهم يعلمون ، وبهذا يعيشون في جهل مركّب دامس.

وقال البعض الآخر : إنّ أساس المعرفة ـ كما يقول القرآن المجيد ـ في ثلاثة أشياء : القلب والعين والأذن (وبالطبع يعني بالقلب العقل). كما جاء في الآية (٧٨) من سورة النحل : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) (١). ولكن الكفار فقدوا بكفرهم نور العقل والسمع والبصر ، فصاروا في ظلمات متراكمة.

ولا تناقض بين هذه التفاسير الثلاثة ، كما هو واضح ، إذ يمكن أن تشملهم هذه الآية جميعا.

وعلى كلّ حال ، فيمكننا أن نصل إلى استنتاج عام من الآيتين السابقتين. فقد شبّهت الآية أعمال غير المؤمنين بنور كاذب كسراب يراه ظمآن في صحراء جافة ، لا يروي هذا السراب العطاشى أبدا ، وإنّما يزيد في سعيهم للحصول على الماء فيرهقهم دون نتيجة تذكر.

ثمّ ينتقل القرآن من الحديث عن هذا النور الكاذب ، الذي هو عبارة عن أعمال المنافقين إلى باطن هذه الأعمال ، الباطن المظلم والمخيف والموحش حيث تتعطل فيه حواس الإنسان ، وتظلم عليه الدنيا حتى لا يرى نفسه ، فكيف يمكنه رؤية الآخرين.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، للآية موضع البحث.

١١٩

وطبيعي أنّ المرء في هذه الظلمات في وحدة مطلقة وجهل دائم ، لا يجد طريقه ، ولا رفيق سفره ، ولا موقف له ، ولا يملك وسيلة للنجاة ، لأنّه لم يكتسب شيئا من مصدر النور ، أي الله سبحانه وتعالى ، وقد ختم الله على قلبه بالجهل والضلال.

ولعلكم تتذكرون أنّنا قلنا : أنّ النور مصدر أنواع الجمال والحياة والحركة ، عكس الظلام الذي يعتبر مصدر القبائح والموت والعدم والسكون والسكوت.

الظلام مصدر الخوف والكراهية ، وهو توأم الهمّ والغمّ ، هكذا وضع الذين افتقدوا نور الإيمان ، وغرقوا في ظلمات الكفر.

* * *

١٢٠