الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-44-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٥٠

بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١) فهو يعلم ما قدّم المجرمون وما فعلوه في الدنيا ، وهو مطّلع على كلّ أفعالهم وأقوالهم ونيّاتهم في الماضي وما سيلاقونه من الجزء في المستقبل ، إلّا أنّهم لا يحيطون بعلم الله. وبهذا فإنّ إحاطة علم الله سبحانه تشمل العلم بأعمال هؤلاء وبجزائهم ، وهذان الركنان في الحقيقة هما دعامة القضاء التامّ العادل ، وهو أن يكون القاضي عالما ومطّلعا تماما على الحوادث التي وقعت ، وكذلك يعلم بحكمها وجزائها.

في ذلك اليوم : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ).

«العنت» من مادة العنوة ، وقد وردت بمعنى الخضوع والذلّة ، ولذلك يقال للأسير: «عاني» ، لأنّه خاضع وذليل في يد الأسر. وإذا رأينا الخضوع قد نسب إلى الوجوه هنا ، فلأنّ كلّ الإحساسات النفسية ، ومن جملتها الخضوع ، تظهر آثارها أوّلا على وجه الإنسان.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ الوجوه هنا تعني الرؤساء والزعماء وأولياء الأمور الذين يقفون في ذلك اليوم أذلّاء خاضعين لله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أقرب وأنسب.

إنّ انتخاب صفتي «الحي والقيّوم» هنا من بين صفات الله سبحانه ، لأنّهما يناسبان النشور أو الحياة وقيام الناس جميعا من قبورهم «يوم القيامة».

وتختتم الآية بالقول : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) فالظلم والجور كالحمل العظيم الذي يثقل كاهل الإنسان ، ويمنعه من السير والرقي إلى نعم الله الخالدة ، وإنّ الظالمين ـ سواء منهم من ظلم نفسه أو ظلم الآخرين ـ لما يرون بأعينهم في ذلك اليوم خفيفي الأحمال يهرعون إلى الجنّة ، وهم قد جثوا حول جهنّم ينظرون

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين أنّ ضمائر الجمع في الجملة الأولى تعود إلى الشافعين ، واحتمل البعض أيضا أنّ الضمير في (به) يعود إلى أعمال المجرمين ونتائجها ، ولكن ما ذكرناه أعلاه هو الأصحّ كما يبدو. دقّقوا ذلك.

٨١

إلى أهل الجنّة يتملّكهم اليأس والخيبة والحسرة.

ولمّا كانت طريقة القرآن غالبا هي بيان تطبيقي للمسائل ، فإنّه بعد أن بيّن مصير الظالمين في ذلك اليوم ، تطرّق إلى بيان حال المؤمنين فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (١).

التعبير بـ (مِنَ الصَّالِحاتِ) إشارة إلى أنّهم إن لم يستطيعوا أن يعملوا كلّ الصالحات فليقوموا ببعضها ، لأنّ الإيمان بدون العمل الصالح كالشجرة بلا ثمرة ، كما أنّ العمل الصالح بدون إيمان كالشجرة من دون جذر ، إذ قد تبقى عدّة أيّام لكنّها تجفّ آخر الأمر ، ولذلك ورد قيد (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بعد ذكر العمل الصالح في الآية.

قاعدة : لا يمكن أن يوجد العمل الصالح بدون إيمان ، ولو قام بعض الأفراد غير المؤمنين ـ أحيانا ـ بأعمال صالحة ، فلا شكّ أنّها ستكون ضئيلة ومحدودة واستثنائية ، وبتعبير آخر : فإنّ العمل الصالح من أجل أن يستمر ويتأصّل ويتعمّق يجب أن يروى من عقيدة سالمة وإعتقاد صحيح.

* * *

بحثان

١ ـ الفرق بين الظلم والهضم

قرأنا في الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث أنّ المؤمنين الصالحين لا يخافون ظلما ولا هضما ، وقال بعض المفسّرين : إنّ «الظلم» إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يخافون مطلقا من أن يظلموا في تلك المحكمة العادلة ويؤاخذوا على ذنوب لم

__________________

(١) «الهضم» في اللغة بمعنى النقص ، وإذا قيل لجذب الغذاء إلى البدن : هضم ، فلأنّ الغذاء يقلّ ظاهرا وتبقى فضلاته.

٨٢

يرتكبوها و «الهضم» إشارة إلى أنّهم لا يخافون ـ أيضا ـ نقصان ثوابهم ، لأنّهم يعلمون أنّ ما يستحقّونه من الثواب يصل إليهم دون زيادة أو نقصان.

واحتمل بعضهم أنّ الأوّل يعني أنّهم لا يخافون من محو حسناتهم ، والثّاني إشارة إلى أنّهم لا يخافون نقصان حتّى مقدار قليل منها ، لأنّ الحساب الإلهي دقيق جدّا.

ويحتمل أيضا أنّ للمؤمنين الصالحين زلّات وهفوات أيضا ، وأنّ الكاتبين لا يكتبون أكثر ممّا صدر منهم ، ولا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم الصالحة.

إنّ التفاسير المتقدّمة لا تتقاط فيما بينها ، ويمكن أن تكون الجملة آنفة الذكر إشارة إلى كلّ هذه المعاني أيضا.

٢ ـ مراحل القيامة

وردت الإشارة في الآيات ـ محلّ البحث ـ إلى سلسلة من الحوادث التي تقع عند حلول القيامة وبعدها :

١ ـ رجوع الأموات إلى الحياة : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ).

٢ ـ جميع المجرمين وحشرهم : (نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ).

٣ ـ تلاشي جبال الأرض ، ثمّ تبعثرها في كلّ مكان ، واستواء سطح الأرض تماما : (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً).

٤ ـ استماع الجميع لدعوة داعي الله ، وانقطاع جميع الأصوات : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ ...).

٥ ـ عدم تأثير الشفاعة في ذلك اليوم بدون إذن الله : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ ...).

٦ ـ إعداد الله تعالى جميع خلقه للحساب بعلمه المطلق غير المتناهي (يَعْلَمُ

٨٣

ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ...).

٧ ـ خضوع الجميع في مقابل حكمه : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ...).

٨ ـ يأس الظالمين : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً).

٩ ـ رجاء المؤمنين لطف الله ورحمته : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...).

* * *

٨٤

الآيتان

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))

التّفسير

قل : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)

الآيات محلّ البحث ـ في الواقع ـ إشارة إلى مجموع ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل التربوية المرتبطة بالقيامة والوعد والوعيد ، فتقول : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً).

التعبير بـ (كذلك) إشارة إلى المطالب التي بيّنت قبل هذه الآية ، وهذا يشبه تماما أن يذكر إنسان لآخر أمورا من شأنها التوعية والعبرة ، ثمّ يضيف : هكذا ينبغي التذكير والوعظ ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التفاسير التي ذكرت والبعيدة هنا عن معنى الآية).

٨٥

كلمة «عربي» وإن كانت بمعنى اللغة العربية ، إلّا أنّها هنا إشارة إلى فصاحة القرآن وبلاغته وسرعة إيصاله للمفهوم والمراد من جهتين :

الأولى : إنّ اللغة العربية ـ بشهادة علماء اللغة في العالم ـ واحدة من أبلغ لغات العالم ، وأدبها من أقوى الآداب.

والثّانية : إنّ جملة (صرفنا) أحيانا تشير إلى التعبيرات القرآنية المختلفة حول حادثة واحدة ، فمثلا نراه يبيّن مسألة الوعيد وعقاب المجرمين من خلال ذكر قصص الأمم السابقة وحوادثها تارة ، وتارة أخرى على هيئة خطاب موجّه للحاضرين ، وثالثة بتجسيد حالهم في مشهد القيامة ، وهكذا.

إنّ اختلاف جملة (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) مع جملة (يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) قد يكون من جهة أنّ الجملة الأولى تقول : إنّ الهدف هو إيجاد وغرس التقوى بصورة كاملة.

وفي الجملة الثّانية : إنّ الهدف هو أنّ التقوى وإن لم تحصل كاملة ، فليحصل على الأقل الوعي والعلم فعلا ، ثمّ تكون في المستقبل مصدرا وينبوعا للحركة نحو الكمال.

ويحتمل أيضا أن تكون الجملة الأولى إشارة إلى إيجاد وتحقيق التقوى بالنسبة لغير المتّقين ، والثّانية إلى التذكّر والتذكير بالنسبة للمتقين ، كما نقرأ في الآية (٢) من سورة الأنفال : (إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً).

في الآية آنفة الذكر إشارة إلى أصلين مهمّين من أصول التعليم والتربية المؤثّرة :

أحدهما : مسألة الصراحة في البيان ، وكون العبارات بليغة واضحة تستقرّ في القلب.

والآخر : بيان المطالب بأساليب متنوعة ، لئلّا تكون سببا للتكرار والملل ، ولتنفذ إلى القلوب.

أمّا الآية التّالية فتضيف قائلة : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) ومن المحتمل أن

٨٦

يكون ذكر كلمة «الحقّ» بعد كلمة «الملك» ، هو أنّ الناس ينظرون إلى الملك بمنظار سيء وتتداعى في أذهانهم صور الظلم والطغيان والجور والاستعلاء والتجبّر التي تكون في الملوك غالبا ، ولذا فإنّ الآية تصف الله الملك سبحانه مباشرة بـ «الحقّ».

وبما أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعجّل في إبلاغ الوحي وما ينزل به من القرآن لاهتمامه به وتعشّقه أن يحفظه المسلمون ويستظهروه ، ولم يتمهّل أن يتمّ جبرئيل ما يلقيه عليه من الوحي فيبلغه عنه ، فإنّ الآية محلّ البحث تذكّره بأنّ يتمهّل فتقول : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).

ويستشفّ من بعض آيات القرآن الأخرى أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تنتابه حالة نفسيّة خاصّة من الشوق عند نزول الوحي ، فكانت سببا في تعجّله كما في قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (١).

بحثان

١ ـ لا تعجل حتّى في تلقّي الوحي!

لقد تضمّنت الآيات الأخيرة دروسا تعليميّة ، ومن جملتها النهي عن العجلة عند تلقّي الوحي ، وكثيرا ما لوحظ بعض المستمعين يقفون كلام المتحدّث أو يكملونه قبل أن يتمّه هو ، وهذا الأمر ناشئ عن قلّة الصبر أحيانا ، أو ناشئ عن الغرور وإثبات وجود أيضا ، وقد يكون العشق والتعلّق الشديدة بشيء يدفع الإنسان ـ أحيانا ـ إلى هذا العمل ، وفي هذه الحالة ينبعث عن حافر مقدّس ، غير أنّ هذا الفعل نفسه ـ أي العجلة ـ قد يحدث مشاكل أحيانا ، ولذلك فقد نهت الآيات

__________________

(١) سورة القيامة ، الآية ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

٨٧

آنفة الذكر عن العجلة حتّى ولو كان المراد أو الهدف من هذا الفعل صحيحا ، وأساسا لا تخلو الأعمال التي تنجز باستعجال من العيب والنقص غالبا. ومن المسلّم به أنّ فعل النّبي لمّا كان عليه من مقام العصمة ـ كان مصونا من الخطأ ، إلّا أنّه ينبغي عليه أن يكون في كلّ شيء مثلا وقدوة للناس ، ليفهم الناس أنّه إذا كان الاستعجال في تلقّي الوحي غير محبّذ ، فلا ينبغي الاستعجال في الأمور الأخرى من باب أولى أيضا.

ولا ينبغي أن نخلط بين السرعة والعجلة طبعا ـ فالسرعة تعني أنّ الخطّة قد نظمت بدقّة كاملة ، وحسبت جميع مسائلها ، ثمّ تجري بنودها بدون فوات وقت.

أمّا العجلة فتعني أنّ الخطّة لم تنضج تماما بعد ، وتحتاج إلى تحقيق وتدقيق ، وعلى هذا فإنّ السرعة مطلوبة ، والعجلة أمر غير مطلوب.

وقد ذكرت احتمالات أخرى في تفسير هذه الجملة ، ومنها أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يطيق تأخّر الوحي ، فعلّمته الآية أن يتمهّل فإنّ الله ينزل عليه وحيه عند الاقتضاء والحاجة إليه.

وقال بعض المفسّرين : إنّ آيات القرآن نزلت على قلب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة القدر دفعة واحدة ، ونزلت مرّة أخرى بصورة تدريجيّة على مدى (٢٣) سنة ، ولذلك فإنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسبق جبرئيل عند النّزول التدريجي للآيات ، فأمره القرآن أن لا تعجل في هذا الأمر ، ودع الآيات تنزل نزولا تدريجيّا كلّ في موقعها وزمانها.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصواب.

٢ ـ أطلب المزيد من العلم

لمّا كان النهي عن العجلة عند تلقّي الوحي موهما النهي عن الاستزادة في طلب العلم ، فقد عقّبت الآية بعد ذلك بالقول مباشرة : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) لتقف

٨٨

أما هذا التصوّر الخاطئ ، أي أنّ العجلة ليست صحيحة ، لكن من الضروري الجدّ والسعي من أجل الارتواء من منهل العلم!

وقال بعض المفسّرين : إنّ الجملة الأولى أمرت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألّا يعجل في فهم كلّ جوانب الآيات قبل تبيينها في الآيات الاخرى ، وفي الجملة الثّانية صدر الأمر بأن يطلب من الله سبحانه علما أكثر فيما يتعلّق بأبعاد آيات القرآن المختلفة.

وعلى كلّ حال ، فإذا كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمورا أن يطلب زيادة العلم من ربّه إلى آخر عمره مع غزارة علمه ، وروحه المليئة وعيا وعلما ، فإنّ واجب الآخرين واضح جدّا ، وفي الحقيقة ، فإنّ العلم من وجهة نظر الإسلام لا يعرف حدّا ، وزيادة الطلب في كثير من الأمور مذمومة إلّا في طلب العلم فانّها ممدوحة ، والإفراط قبيح في كلّ شيء إلّا في طلب العلم.

فالعلم ليس له حدّ مكاني ، فيجب الاجتهاد لتحصيله ولو كان في الصين أو الثريا ، وليس له حدّ زماني فهو يستمرّ من المهد إلى اللحد.

ولا يعرف حدّا من جهة المعلّم ، فإنّ الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها أخذها ، وإذا ما سقطت جوهرة من فم ملوّث فاسق فإنّه يلتقطها.

ولا حدّ في الإسلام لمقدار السعي والاجتهاد ، فهو يغوص في أعماق البحر ليكتسب العلم ، وقد يضحّي بروحه في طريق تحصيل العلم. وعلى هذا فإنّ كلمة (خرّيج) أو (أنهى دراسته) لا معنى لها في منطق الإسلام ، فإنّ المسلم الحقيقي لا يعرف نهاية في تحصيله للعلوم ، فهو دائما طالب جامعي ، وطالب علم ، حتّى لو أصبح أكثر الأساتذة تفوّقا وأفضلهم.

الطريف أنّنا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه : «إنّ لنا في كلّ جمعة سرورا» قال : قلت : وما ذاك؟ قال : «إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العرش ، ووافى الأئمّة عليهم‌السلام ووافينا معهم ، فلا ترد أرواحنا بأبداننا

٨٩

إلّا بعلم مستفاد ، ولو لا ذلك لأنفذنا» (١).

وقد ورد هذا المضمون في روايات عديدة بعبارات ، مختلفة ، وهو يوضّح أنّ النّبي والأئمّة يضاف ويزاد على علمهم إلى نهاية العالم : ونقرأ في رواية أخرى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه» (٢).

وكذلك نقرأ في حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه ، وأكثر الناس قيمة أكثرهم علما ، وأقلّ الناس قيمة أقلّهم علما» (٣). وهذا هو قدر العلم وقيمته في منظار التعليمات الإسلامية.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٩٧.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ونور الثقلين ، والصافي في ذيل الآيات مورد البحث.

(٣) سفينة البحار ، الجزء ٢ ، ص ٢١٩ (مادّة علم).

٩٠

الآيات

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢))

التّفسير

آدم ومكر الشّيطان :

كان القسم الأهمّ من هذه السورة في بيان قصّة موسى عليه‌السلام وبني إسرائيل ، والمواجهة بينهم وبين فرعون وأنصاره ، إلّا أنّ هذه الآيات وما بعدها تتحدّث عن

٩١

قصّة آدم وحواء ، وعداء ومحاربة إبليس لهما. وربّما كانت إشارة إلى أنّ الصراع بين الحقّ والباطل لا ينحصر بأمس واليوم ، وموسى عليه‌السلام وفرعون ، بل كان منذ بداية خلق آدم وسيستمر كذلك.

وبالرغم من أنّ قصّة آدم وإبليس قد وردت مرارا في القرآن ، إلّا أنّها تمتزج في كلّ مورد بملاحظات ومسائل جديدة ، وهنا تتحدّث أوّلا عن عهد الله إلى آدم فتقول : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).

هناك عدّة آراء في ماهيّة العهد المذكور ، فقال البعض : إنّه أمر الله بعدم الاقتراب من الشجرة الممنوعة ، وهناك روايات متعدّدة تؤيّد هذا المعنى. في حين أنّ بعض المفسّرين احتملوا احتمالات أخرى يمكن اعتبارها بمثابة الأغصان والأوراق لهذا المعنى ، كإخطار الله لآدم بأنّ الشيطان عدوّ مبين له ، ويجب أن لا يتبعه.

وأمّا «النسيان» هنا فمن المسلم أنّه ليس بالمعنى المطلق ، لأنّه لا معنى للعتاب والملامة في النسيان المطلق ، بل إنّه إمّا بمعنى الترك كما نستعمل ذلك في مكالماتنا اليوميّة ، فقد نقول لمن لم يف بعهده : أنسيت عهدك؟ أي إنّك كالناسي. أو أنّه بمعنى النسيان الذي يطرأ نتيجة قلّة الانتباه وشرود الذهن.

والمراد من «العزم» هنا هو التصميم والإرادة القويّة الصلبة التي تحفظ الإنسان من الوقوع تحت تأثير وساوس الشيطان القويّة.

وعلى كلّ حال ، فلا شكّ أنّ آدم لم يرتكب معصية ، بل بدر منه ترك الأولى ، أو بتعبير آخر ، فإنّ مرحلة وجود آدم في الجنّة لم تكن مرحلة تكليف ، بل كانت مرحلة تجريبيّة للاستعداد للحياة في هذه الدنيا وتقبل المسؤولية ، خاصة وإن نهي الله هنا كان نهيا إرشاديا ، لأنّه قد أخبره بأنّه إن أكل من الشجرة الممنوعة فسيبتلى بالشقاء. وقد أوردنا تفصيل كلّ ذلك ، وكذلك المراد من الشجرة الممنوعة وأمثال ذلك في ذيل الآيات ١٩ ـ ٢٢ من سورة الأعراف.

٩٢

ثمّ أشارت إلى جانب آخر من هذه القصّة ، فقالت : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) ومن هنا يتّضح مقام آدم العظيم ، آدم الذي سجدت له الملائكة ، وأبدت هذه المخلوقات العظيمة احترامها إيّاه. كما أنّ عداوة إبليس تجلّت له ضمنا من أوّل الأمر إذ لم يخضع لآدم ولم يعظمه.

لا شكّ أنّ السجدة لا تعني السجدة الخاصّة بعبادة الله ، ولا أحد أو موجود يستحقّ أن يكون معبودا من دون الله سبحانه ، وبناء على هذا فإنّ هذه السجدة كانت لله ، غاية ما هناك أنّها كانت من أجل خلق هذا الموجود العظيم. أو أنّ السجدة هنا تعني الخضوع والتواضع.

على كلّ حال ، فإنّ الله سبحانه تعالى أنذر آدم بقوله (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى).

من الواضح أنّ الجنّة هنا لا يراد منها جنّة الخلود في العالم الآخر ، والتي هي نقطة تكامل لا يمكن الخروج منها أو التراجع عن نعيمها ، بل كانت بستانا فيه كلّ شيء ممّا في بساتين هذه الدنيا ، ولم يكن فيها نصب ولا غصّة بلطف الله ، ولذلك فإنّ الله سبحانه قد أنذر آدم بأنّك إن خرجت من هذا النعيم فإنّك ستشقى. وكلمة «تشقى» من مادّة الشقاء ، وأحد معانيها الألم والمشقّة.

سؤال : لماذا خاطب الله الإثنين معا ـ أي آدم وحواء ـ في بداية الأمر فقال : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما) إلّا أنّه ذكر نتيجة الخروج بصيغة المفرد في شأن آدم فقط فقال : (فَتَشْقى)؟

والجواب هو : إنّ هذا الاختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ الآلام والأتعاب كانت تصيب آدم في الدرجة الأولى ، فإنّه كان مأمورا بتحمّل مسئوليات زوجته أيضا ، وهكذا كانت مسئولية الرجال من بداية الأمر. أو أنّ العهد لما كان من البداية على عاتق آدم ، فإنّ النهاية أيضا ترتبط به.

ثمّ يبيّن الله لآدم راحة الجنّة وهدوأها ، وألم ومشقّة الخروج منها ، فيقول :

٩٣

(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى).

وهنا سؤال يوجّه للمفسّرين ، وهو : لماذا اقترن ذكر الظمأ بضحى الشمس ، والجوع بالعري ، في حين أنّ المعتاد ذكر العطش مع الجوع؟

قيل في الجواب : إنّ بين العطش وأشعّة الشمس علاقة لا يمكن إنكارها.

(«تضحى» من مادّة «ضحى» أي إشراق الشمس من دون أن يحجبها حاجب من سحاب وأمثاله).

وأمّا الجمع بين الجوع والعري فقد يكون بسبب أنّ الجوع نوع من عراء الجوف وخلوّه من الغذاء! والأفضل أن يقال : إنّ هذين الوصفين ـ الجوع والعري ـ علامتان واضحتان للفقر تأتيان معا عادة.

وعلى كلّ حال ، فقد أشير في هاتين الآيتين إلى أربع احتياجات أصلية وابتدائية للإنسان ، أي : الحاجة إلى الغذاء ، والماء ، واللباس ـ للحماية من حرارة الشمس ـ والمسكن ، وكان تأمين هذه الحاجات نتيجة توفّر النعمة ، وذكر هذه الأمور في الواقع توضيح لما جاء في جملة «فتشقى».

لكن ، ومع كلّ ذلك ، فإنّ الشيطان قد ربط رباط العداوة حول آدم ، ولهذا لم يهدأ له بال : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى).

«الوسوسة» في الأصل تعني الصوت المنخفض جدّا ، ثمّ قيلت لخطور الأفكار السافلة والخواطر السيّئة سواء كانت تنبع من داخل الإنسان ، أو من خارجة.

إنّ الشيطان تتبّع رغبة آدم وأنّها في أي شيء ، فوجد أنّ رغبته في الحياة الخالدة والوصول إلى القدرة الأزليّة ، ولذلك جاء إليه عن هذين العاملين واستغلّهما في سبيل جرّه إلى مخالفة أمر الله. وبتعبير آخر : فكما أنّ الله قد وعد آدم بأنّك إن تجنّبت الشيطان وخالفته فستحظى بالتنّعم في الجنّة دائما ، فإنّ

٩٤

الشيطان قد وسوس إليه عن هذا الطريق «أي أنّه سيخلد في الجنّة أيضا».

أجل ... إنّ الشياطين يبدؤون دائما في بادية خططهم من نفس النقاط والطرق التي يبدأ منها المرشدون إلى طريق الحقّ ، لكن لا تمرّ الأيّام حتّى يجروهم إلى هاوية الانحراف ، ويجعلون جاذبية طريق الحقّ وسيلة للوصول إلى المتاهات.

وأخيرا وقع المحذور ، وأكل آدم وحواء من الشجرة الممنوعة ، فتساقط عنهما لباس الجنّة ، فبدت أعضاؤهما : (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) (١) فلمّا رأى آدم وحواء ذلك استحييا (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (٢). نعم ، لقد كانت العاقبة المؤسفة (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى).

«غوى» أخذت من مادّة الغي ، أي العمل الصبياني الناشئ من إعتقاد خاطئ ، ولمّا كان آدم هنا قد أكل ـ جهلا واشتباها ـ من الشجرة المحرّمة ، نتيجة للظنّ الذي حصل له من قول الشيطان ، فقد عبّر عن عمله بـ (غوى).

وفسّره بعض المفسّرين بأنّه الجهل الناشئ عن الغفلة ، والبعض فسّرها بالمحرومين ، والبعض الآخر بالفساد في الحياة.

وعلى كلّ حال فإنّ «الغي» يقابل «الرشد» ، والرشد هو أن يسلك الإنسان طريقا يوصله إلى هدفه ومقصده ، أمّا الغي فهو عدم الوصول إلى المقصود.

ولكن لمّا كان آدم نقيّا ومؤمنا في ذاته ، وكان يسير في طريق رضى الله سبحانه ، وكان لهذا الخطأ الذي أحاط به نتيجة وسوسة الشيطان صفة استثنائية ، فإنّ الله سبحانه لم يبعده عن رحمته إلى الأبد ، بل (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى).

__________________

(١) «سوءات» جمع سوءة ، وهي في الأصل كلّ شيء غير سار ويسيء الإنسان ، ولذلك تطلق أحيانا على جسد الميّت ، وأحيانا على العورة ، والمراد هنا هو المعنى الأخير.

(٢) «يخصفان» من مادّة خصف ، وهي هنا تعني خياطة اللباس.

٩٥

هل ارتكب آدم معصية؟

مع أنّ العصيان يأتي في عرف اليوم ـ عادة ـ بمعنى الذنب والمعصية ، إلّا أنّه في اللغة يعني الخروج عن الطاعة وعدم تنفيذ الأمر سواء كان الأمر واجبا أو مستحبّا ، وبناء على هذا فإنّ استعمال كلمة العصيان لا يعني بالضرورة ترك واجب أو ارتكاب محرّم ، بل يمكن أن يكون ترك أمر مستحبّ أو ارتكاب مكروه.

إضافة لما مرّ ، فإنّ الأمر والنهي يكون إرشاديا ، كأمر ونهي الطبيب حيث يأمر المريض أن يتناول الدواء الفلاني ، وأن يجتنب الغذاء الفلاني غير المناسب ، ولا شكّ أنّ المريض إذا خالف أمر الطبيب فإنّه لا يضرّ إلّا نفسه ، لأنّه لم يعبأ بإرشاد الطبيب ونصيحته. وكذلك كان الله قد أمر آدم أن لا تأكل من ثمرة الشجرة الممنوعة ، فإنّك إن أكلت ستخرج من الجنّة ، وستبتلى بالألم والمشقّة الكبيرة في الأرض ، فخالف هذا الأمر الإرشادي ، ورأى نتيجة مخالفته أيضا. وإذا لا حظنا أنّ هذا الكلام كان في مرحلة وجود آدم في الجنّة ، وهي مرحلة اختبار لا تكليف ، فسيتّضح معناه بصورة أجلى.

وإضافة لما مرّ ، فإنّ العصيان أو الذنب يكون أحيانا متّصفا بالإطلاق ، أي إنّه يعدّ ذنبا من قبل مرتكبيه جميعا وبدون استثناء كالكذب والظلم وأكل المال الحرام ، ويكون أحيانا نسبيّا ، أي العمل الذي إن بدر من شخص ما فقد لا يكون ذنبا ، بل قد يعتبر أحيانا عملا مطلوبا ولائقا لصدوره من مثله ، أمّا إذا صدر من آخر فإنّه لا يناسبه نظرا إلى مكانته ومنزلته.

فمثلا : تطلب المساعدة من قبل بعض الناس لبناء مستشفى ، فيعطى العامل أجرة يوم من عمله والتي لا تتجاوز أحيانا أكثر من عدّة دراهم. إنّ هذا الفعل الصادر من مثل هذا الشخص يعدّ إيثارا وحسنة وهو مطلوب تماما ، أمّا إذا أعطى رجل ثري هذا المقدار من المال مثلا فإنّه لا يناسبه ولا يليق به فحسب ، بل سيكون موضع ملامة ومذمّة وتعنيف مع أنّه أساسا لم يرتكب حراما ، بل ساهم ولو

٩٦

بمقدار يسير في عمل الخير والبرّ.

إنّ هذا هو ما نعبّر عنه بـ (حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين) وهو المعروف بترك الأولى ، ونحن نعبر عنه بالذنب النسبي الذي لا يعدّ ذنبا ، ولا يخالف مقام العصمة.

وفي الأحاديث الإسلامية أيضا أطلقت المعصية على مخالفة المستحبّات ، فنرى

في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال في النوافل اليوميّة : «وإنّما هذا كلّه تطوّع وليس بمفروض ... ولكنّها معصية ، لأنّه يستحبّ إذا عمل الرجل عملا من الخير أن يدوم عليه» (١).

وقد بحثنا هذا الموضوع وسائر المسائل المرتبطة بآدم وخروجه من الجنّة في سورة الأعراف ذيل الآية ١٩ وما بعدها ، وفي سورة البقرة ذيل الآية ٣٠ ـ ٣٨ ، ولا حاجة إلى التكرار.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٤٠٤.

٩٧

الآيات

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

التّفسير

المعيشة الضنكا :

مع أنّ توبة آدم قد قبلت ، إلّا أنّ عمله أدّى إلى عدم استطاعته الرجوع إلى الحالة الأولى ، ولذا فإنّ الله سبحانه أصدر أمره لآدم وحواء كليهما وكذلك الشيطان أن يهبطوا جميعا من الجنّة : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).

إلّا أنّي أعلمكم بأنّ طريق النجاة والسعادة مفتوح أمامكم (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً

٩٨

فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى).

ومن أجل أن يتّضح أيضا مصير الذين ينسون أمر الحقّ ، فقد أضاف تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى).

هنا (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً)؟ فيسمع الجواب مباشرة : (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) وتعمى عينك عن رؤية نعم الله ومقام قربه.

أمّا الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث فهي بمثابة الاستنتاج والخلاصة إذ تقول : (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى).

* * *

بحوث

١ ـ الغفلة عن ذكر الحقّ وآثارها

قد توصد أحيانا كلّ أبواب الحياة بوجه الإنسان ، فكلّما أقدم على عمل يجد الأبواب المغلقة ، وقد تنعكس الصورة فأينما اتّجه يرى الأبواب مفتّحة في وجهه ، وقد تهيأت له مقدّمات العمل ، ولا يواجه عقبات في طريقه ، فيعبّر عن هذه الحالة بسعة العيش ورغده ، وعن الأولى بضيق المعيشة وشظفها ، والمراد من قوله تعالى : (مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) الوارد في الآيات محلّ البحث هو هذا المعنى أيضا.

وقد يكون ضيق العيش ناتجا أحيانا من قلّة المورد ، وقد يكون المرء كثير المال موفور الثراء. إلّا أنّ البخل والحرص والطمع يضيق عليه معاشه ، فلا يميل إلى فتح باب داره للآخرين لمشاركته نعيمه ، بل ولا يميل إلى الإنفاق على نفسه أيضا ، وعلى قول الإمام علي عليه‌السلام : «يعيش عيش الفقراء ويحاسب حساب

__________________

(١) الضنك : المشقّة والضيق ، وهذه الكلمة تأتي دائما بصيغة المفرد ، وليس لها تثنية ولا جمع ولا تأنيث.

٩٩

الأغنياء».

حقّا ، لماذا يبتلى الإنسان بهذه الضائقات؟

القرآن يقول : إنّ العامل الأساس هو الإعراض عن ذكر الله ، فإنّ ذكر الله يبعث على اطمئنان الروح والتقوى والشهامة ، ونسيانه مبعث الاضطراب والخوف والقلق.

عند ما ينسى الإنسان مسئولياته بعد أن ينسى ذكر الله ، فإنّه سيغرق في خضمّ الشهوات والحرص والطمع ، ومن الوضوح بمكان أنّ نصيبه سيكون المعيشة الضنك ، فلا قناعة تملأ عينه ، ولا اهتمام بالمعنويات تغني روحه ، ولا أخلاق تمنعه أمام طغيان الشهوات.

وأساسا فانّ ضيق الحياة ينشأ في الغالب من النقائص المعنوية وانعدام الغنى الروحي ... ينشأ من عدم الاطمئنان إلى المستقبل ، والخوف من نفاد الإمكانيات الموجودة ، والعلاقة المفرطة بعالم المادّة ، بينما نجد أنّ الإنسان الذي يؤمن بالله ، وتعلّق قلبه بذاته المقدّسة ، يعيش بعيدا عن كلّ هذه الاضطرابات ، وفي مأمن منها.

إلى هنا كان الكلام عن الفرد ، وعند ما نأتي إلى المجتمعات التي أعرضت عن ذكر الله ، فإنّ المسألة ستكون أشدّ رعبا وخطرا ، فإنّ المجتمعات البشرية على رغم تقدّمها الصناعي المذهل ، وبالرغم من توفّر كلّ وسائل الحياة ، فهي تعيش في حالة اضطراب وقلق شديد ، ومبتلاة بضائقات عجيبة وترى نفسها سجينة.

فكلّ فرد يخاف من الآخرين ، ولا يعتمد أحد على الآخر ، والروابط والعلاقات تتمحور حول محور المصالح الشخصيّة ، وسبّاق التسلح ـ نتيجة الخوف من الحرب ـ يلتهم ويستهلك أغلب إمكانياتهم الاقتصادية.

السجون مليئة بالمجرمين ، وتقع في كلّ ساعة ودقيقة ـ وطبقا للإحصاءات الرسميّة ـ حوادث قتل وجرائم مرعبة ... التلوّث بالفحشاء ، والإدمان على المواد المخدّرة قد استعبد هؤلاء ، ولا يوجد في عوائلهم نسمة حبّ ، ولا ارتباط عاطفي

١٠٠