الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-44-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٥٠

المعين هو الماء الجاري. ويرى البعض أنّ «المعين» مشتق من «العين» أي نبع الماء الظاهر الذي يمكن مشاهدته بالعين المجرّدة (١).

وفي هذا إشارة مجملة إلى المكان الآمن الوارف البركات والخيرات ، الذي منّ الله عزوجل به على هذه الامّ وابنها وجعلهما في أمان من شرّ الأعداء ، يؤدّيان واجباتهما باطمئنان.

واختلف المفسّرون في هذا المكان ، فبعض يرى أنّ مولد السيّد المسيح عليه‌السلام كان في «الناصرة» (من مدن الشام). وقد جعله الله وأمّه في مكان آمن ذي خيرات ، وحافظ عليه من شرّ الأعداء الذين أرادوا أن يكيدوا بعد علمهم بولادته ومستقبله.

ويرى آخرون أنّ هذا المكان الآمن هو «مصر» ، لأنّ مريم عليها‌السلام وابنها السيّد المسيح عليه‌السلام عاشا فترة من حياتهما في مصر طلبا للنجاة من شرّ الأعداء.

وقال غيرهم : إنّ المسيح عليه‌السلام ولد في «دمشق» ، وذهب سواهم إلى أنّه في «الرملة» في الشمال الشرقي من القدس ، حيث عاش المسيح وامّه عليهما‌السلام في كلّ من هذه المناطق فترة من حياتهما. ويحتمل أن يكون مولد السيّد المسيح عليه‌السلام في صحراء القدس ، وقد جعله الله أمنا لهذه الامّ والوليد ، وفجرّ لهما ماء معينا ورزقهم من النخل الجافّ رطبا جليّا.

وعلى كلّ حال ، فقد كانت الآية دليلا على حماية الله تعالى الدائمة لرسله ولمن يدافع عنهم. وتأكيدا على أنّ إرادة الله هي الأقوى ، فلو أراد الملأ كلّهم قتل رسوله دون إذنه لما تمكّنوا. فالوحدة وقلّة الأنصار والأتباع لا تكون سببا لهزيمتهم إطلاقا.

* * *

__________________

(١) في الحالة الأولى تكون الميم جزءا من الكلمة ، وهي على وزن «فعيل» ، وفي الثّانية الميم زائدة وهي على وزن مفعول «مثل مبيع».

٤٦١

الآيات

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤))

التّفسير

جميع الامّة يد واحدة :

تحدّثت الآيات السابقة عن ماضي الأنبياء وأممهم ، أمّا هذه الآيات فخاطبت الجميع فقالت : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

الفرق بينكم أيّها الأنبياء وبين سواكم من البشر ، ليس في أنّكم لا تتّصفون بصفاتهم كالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والراحة ، وإنّما بسموّكم ، ففيما يتهافت الناس على إشباع شهواتهم بما طاب وخبث وقد جعلوا من الأكل هدفهم النهائي ، زكت أنفسكم ، واختارت الطّيبات وصالح الأعمال.

بين عبارتي (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) و (اعْمَلُوا صالِحاً) ارتباط واضح ، فلنوع

٤٦٢

الغذاء أثر في نفس الإنسان وعقله وسلوكه. وقد ذكرت الأحاديث الإسلامية أنّ تناول الغذاء الحرام يمنع استجابة الدعاء.

وروي عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله لرجل سأله عن استجابة دعائه «طهّر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام» (١) و (٢).

وقوله تعالى : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) بنفسه دليل مستقبل على وجوب القيام بالعمل الصالح ، لأنّ الإنسان عند ما يعلم بأنّ الله يراقب أعماله ، ولا يخفى عليه شيء وسوف نحاسبه بدقّة على ذلك ، فلا شكّ في أنّ الالتفات إلى هذا الأمر يساعد في إصلاح عمله.

مضافا إلى أنّ تعابير الآية هذه تبعث في الإنسان الشعور بضرورة تقديم الشكر لله على ما أنعم عليه من الطيّبات ، وبذلك تؤثّر في عمله أيضا.

وبهذا بيّنت الآية ثلاثة مؤثّرات في العمل الصالح :

الأوّل : طيب الغذاء الذي يورث صفاء القلب ونقاوته.

والثّاني : شكر الله تعالى على ما أنعم به من رحمته.

الثّالث : الشعور اليقظ بمراقبة الله سبحانه للأعمال كلّها.

أمّا كلمة «الطيب» فهي كما قلنا تعني كلّ شيء نظيف وطاهر. وهي نقيض كلمة «الخبيث» قال الراغب الاصفهاني في مفرداته : الطيب يعني : كلّ ما يسرّ الإنسان حسيّا وروحيا ، أمّا من الناحية الشرعية فهو الحلال الطاهر.

والقرآن المجيد ذكر الطيب والطيبات في كثير من الموارد :

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) (٣). ثمّ لا يقصر الأمر على الرسل ، بل :

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلّد الرّابع ، الدعاء الباب (٦٧) الحديث (٤).

(٢) تناولنا شرح ذلك في تفسير الآية (١٨٦) من سورة البقرة.

(٣) المؤمنون ، ٥١.

٤٦٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) (١) بل إنّ ما يصل إلى مقام القرب هو الطيّب من الأعمال والأقوال :

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (٢).

وأحد امتيازات الإنسان الكبيرة على سائر الموجودات أنّ الله تعالى رزقه من الطيّبات: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٣).

كما جاء في حديث موجز ثر المعنى عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرض لهذه الحقيقة «يا أيّها الناس ، إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا» (٤).

ثمّ دعت الآية جميع الأنبياء وأتباعهم إلى توحيد الله والتزام تقواه (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) فالاختلافات الموجودة بينكم ، وكذلك بين أنبيائكم ليست دليلا على التعدّدية إطلاقا. (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).

فنحن بين يدي دعوة واعية إلى وحدة الجماعة والقضاء على ما يثير التفرقة ، ليعيش الناس أمّة واحدة ، كما أنّ الله ربّهم واحد أحد.

ولهذا يجب أن ينتهج الناس ما نهجه الأنبياء عليهم‌السلام إذ دعوا إلى اتّباع تعاليم موحدّة ، ذات أساس واحد في كلّ مكان «توحيد الله ومعرفة الحقّ ، الاهتمام بالمعاد والتكامل في الحياة ، والاستفادة من الطيّبات والقيام بالأعمال الصالحة.

والدفاع عن العدل والمبادئ الإنسانيّة».

ويرى بعض المفسّرين أنّ كلمة «أمّة» تعني هنا الدين والعقيدة. وليس المجتمع. إلّا أنّ ضمير الجمع في جملة (أَنَا رَبُّكُمْ) دليل على أنّ (الامّة) تعني

__________________

(١) البقرة ، ١٧٢.

(٢) فاطر ، ١٠.

(٣) الإسراء ، ٧٠.

(٤) تفسير القرطبي ، المجلّد السابع ، صفحة ٤٥١٩ (حول الآية موضع البحث).

٤٦٤

الناس جميعا.

وقد وردت كلمة «الامّة» في القرآن المجيد بمعنى «الجماعة» غالبا ، وندر ورودها بمعنى «الدين» مثل (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (١).

وممّا يلفت النظر أنّ هذا المعنى تضمّنته الآية ٩٢ من سورة الأنبياء مع فارق بسيط (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ). في وقت شرحت الآيات السابقة لهذه الآية حياة كثير من الأنبياء ، و «هذه» في الحقيقة إشارة إلى أمم الأنبياء السابقين ، الذين كانوا يشكّلون أمّة واحدة بحسب التعاليم الإلهيّة ، حيث تحرّكوا جميعا لتحقيق هدف واحد.

وقد حذّرت الآية التالية البشر من الفرقة والاختلاف ، بعد أن تمّت في الآية السابقة دعوتهم إلى التمسّك بالواحدة فقالت : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) وممّا يثير الدهشة أنّ (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).

«الزبر» جمع «زبرة» على وزن «لقمة» تعني بعض شعر الحيوان خلف رأسه.

يجمعه الراعي ليفصله عن باقي الشعر. ثمّ أطلقت هذه الكلمة على كلّ شيء ينفصل عن أصله ، فتقول الآية : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً). إشارة منها إلى تفرّق الامّة إلى مجموعات وفئات مختلفة.

واحتمل البعض الآخر أنّ الزبر جمع «زبور» بمعنى كتاب ، وتعني أنّ كلّ فئة منهم كانت تمسك بكتاب منزل وتنفي ما عداه من الكتب السماوية ، مع أنّ مصدرها واحد. ولكن عبارة (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) تدعم التّفسير الأوّل ، فكلّ حزب يتحدّث بما تشتهي نفسه ، ويصرّ على رأيه.

تستعرض الآية حقيقة نفسيّة واجتماعية هي أنّ التعصّب الجاهلي للأحزاب

__________________

(١) الزخرف ، ٢٣.

٤٦٥

والفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة! لأنّ كلّا منها قد اتّخذ سبيلا خاصّا به ، وأصبح في قوقعة لا تسمح لنور جديد بالدخول إلى قلبه ، ولا بنسيم معنوي يهبّ على روحه ليكشف لها حقيقة من الحقائق.

وهذه الحالة نتجت عن حبّ الذات المفرط والعناد ، وهما أكبر عدوّ للحقيقة ، ولوحدة الامّة. إنّ الاعتزاز بالنمط الذي تعيشه كلّ فئة واحتقار سواه يجعل الإنسان يصمّ أذنيه عن كلّ صوت يخالف ما اعتقده. ويغطّي رأسه بثوبه ، أو يلجأ إلى الفرار خوفا من تجلّي حقيقة على خلاف ما اعتاد عليه كما يذكر القرآن المجيد عن حال المشركون زمن نوح عليه‌السلام وعلى لسان هذا النّبي المرسل : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) (١).

ولا يمكن للإنسان النجاة بنفسه والوصول إلى الحقّ إلّا بالتخلّص من هذه الحالة وإنهاء عناده.

ولهذا تقول الآية الأخيرة هنا : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) أي اتركهم على حالهم حتّى يأتي أجلهم ، أو يأتيهم الله بعذاب منه ، فليس لهم سوى هذا ، لأنّهم أصرّوا على البقاء في جهلهم ومتاهتهم.

وكلمة «حين» قد تكون إشارة إلى وقت الموت ، أو نزول العذاب ، أو كليهما.

وأمّا «الغمرة» على وزن «ضربة» فهي بالأصل من «غمر» أي إتلاف كلّ شيء. ثمّ أطلق غمر وغامر على الماء الكثير الذي يزيل كلّ شيء يواجهه ويواصل جريانه ، ثمّ أطلق على الجهل والبلايا التي يغرق فيها الإنسان. كما استعملته الآية السابقة بمعنى الغفلة والضياع والجهل والضلال.

* * *

__________________

(١) سورة نوح ، ٧.

٤٦٦

الآيات

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١))

التّفسير

المسارعون في الخيرات :

تعرّض ما سبق من الآيات المباركة للأحزاب والمجموعات المعاندة التي غلب عليها التعصّب وحبّ الذات ، وتمسّكوا بأفكارهم الضالّة وفرحوا بما لديهم.

بينما أشارت الآيات موضع البحث إلى بعض تصوراتهم الأنانيّة : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) هو من أجل أنّنا : (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ).

فهل يتصوّرون أنّ أموالهم الوافرة وكثرة أولادهم دليل على أنّهم على حقّ ،

٤٦٧

ودليل على قرب منزلتهم من الله؟ (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنّ كثرة أموالهم وأولادهم نوع من العذاب ، أو مقدّمة للعذاب ولعقاب الله ، إنّهم لا يدركون أنّ ما أغدق عليهم ربّهم من نعم إنّما هو من أجل أن يتورّطوا في العقاب الإلهي. ويمسي عقابهم أشدّ ألما ، لأنّ الإنسان إذا أغلقت دونه أبواب النعمة ثمّ حلّ به العذاب ، فقد لا يكون بتلك الدرجة موجعا ومؤلما أمّا الذين يعيشون في أوساط مرفّهة ثمّ يلقى بهم في دهاليز السجون والزنزانات المرعبة ، فسيكون ألم ذلك شديدا عليهم جدّا.

كما أنّ زيادة النعمة من شأنها أن تزيد حجب الغفلة والغرور عليهم فتمنعهم من العودة إلى طريق الصواب.

وهذا هو ما أشارت إليه معظم آيات القرآن في قضيّة (الاستدراج في النعم) (١).

وكلمة «نمدّ» مشتقة من «الإمداد» وهو إتمام النقص والحيلولة دون القطع ، وإيصال الشيء إلى نهايته.

وبعد نفي تصورات هؤلاء الغافلين ، تستعرض هذه الآيات وضع المؤمنين والمسارعين في الخيرات ، وتبيّن صفاتهم الرئيسيّة ، فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ). والخشية لا تعني مطلقا الخوف ، بل تعني الخوف المقترن بالتعظيم والتقديس.

وكلمة «المشفق» مشتقّة من «الإشفاق» ومن أصل : الشفق ، أي : الضياء المخالط للظلمة ، وتعني الخوف الممزوج بالمحبّة والإجلال.

ولكون الخشية ذات جانب عاطفي ، والإشفاق ذا جانب عملي ، ذكرا معا إيضاحا للعلّة والمعلول في الآية. فهي تعني أنّ الخوف المخلوط بتعظيم الله قد استقرّ في قلوبهم ، وقد بدت علائمه في أعمالهم والتزامهم بالتعاليم الإلهيّة. أي أنّ

__________________

(١) للاطلاع بشكل أوسع على موضوع الاستدراج يراجع تفسير الآية ١٨٢ من سورة الأعراف.

٤٦٨

الإشفاق مرحلة تكاملية للخشية ، وهوما يؤثّر في عمل الإنسان فيجنّبه ارتكاب الذنوب ، ويدفعه إلى القيام بمسؤولياته.

ثمّ تضيف الآية (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ).

وتأتي بعد مرحلة الإيمان بآيات الله ، مرحلة تنزيهه عن كلّ شبهة وشريك ، فتقول الآية : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ).

ونفي الشرك جاء نتيجة للإيمان بآيات الله تعالى ، وهو معلول الإيمان ، أي أنّ الإيمان بالله يشير إلى صفاته تعالى الثبوتية ، ونفي الشرك يشير إلى صفاته تعالى السلبية. وعلى كلّ حال فقد تضمّنت هذه العبارة نفي أنواع الشرك ، سواء كانت جليّة أم خفيّة.

بعد هذا تأتي مرحلة الإيمان بالمعاد والبعث ، والاهتمام الخاص الذي يوليه المؤمنون الحقيقيّون لهذه القضيّة ، التي تساعدهم عمليّا في السيطرة على أعمالهم وأقوالهم ، فتقول الآية : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ).

إنّهم ليسوا كالشخص الكسول الدنيء الهمّة الذي يأتي بأقلّ الأعمال ثمّ يتصوّر انّه من المقرّبين عند الله. ويتملّكه العجب والغرور بحيث يرى الآخرين صغار وحقراء ، بل إنّ هؤلاء لا يطمئنّون ولا يبتهجون بأكبر عمل مهما زكا وسما ، بل وينجزون الأعمال الصالحة التي تعادل عبادة الثقلين. ومع كلّ هذا يقولون : آه من قلّة الزاد وبعد السفر!

وبعد شرح الآيات السابقة لهذه الصفات الأربعة تقول الآية : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) والأعمال الحسنة ، والسعادة الحقيقيّة ليست كما يتصوّرها المترفون الغافلون المغرورون بالحياة الدنيا. إنّما هي في إنجاز الأعمال الصالحة قربة إلى الله كما يفعل المؤمنون الصادقون ، المتّصفون بالخصائص الإيمانيّة والأخلاقية السالفة الذكر الذين يسارعون في الخيرات.

٤٦٩

وقد رسمت الآيات السابقة صورة واضحة لصفات هذه القدوة من المؤمنين ، فبدأت أوّلا بالخوف الممتزج بتعظيم الله ، وهو الدافع إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه. وانتهت بالإيمان بالمعاد حيث محكمة العدل الإلهي ، الذي يشكّل الشعور بالمسؤولية. ويدفع الإنسان إلى كلّ عمل طيّب. فهي تبيّن أربع خصال للمؤمنين ونتيجة واحدة. (فتأمّلوا جيدا).

قوله «يسارعون» من باب «مفاعلة» وتعني «التسابق» ، وهو تعبير جميل يصوّر حال المؤمنين وهم يتسابقون إلى هدف كبير سام. كما يبيّن تنافسهم في إنجاز الأعمال الصالحة دون ملل وكلل.

* * *

٤٧٠

الآيات

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦))

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧))

التّفسير

قلوب في الجهل مغمورة! :

بما أنّ خصال المؤمنين هي سبب القيام بالأعمال الخيّرة التي أشارت إليها الآيات السابقة ، فهنا يثار هذا التساؤل بأنّ هذه الخصال والقيام بهذه الأعمال لا تتيسّر لكلّ أحد.

فتجيب أوّل آية ـ من الآيات موضع البحث ـ عن ذلك فتقول : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وكلّ إنسان يكلّف حسب عقله وطاقته.

٤٧١

وهذه إشارة إلى أنّ الواجبات الشرعيّة هي في حدود طاقة الإنسان. وأنّها تسقط عنه إذا تجاوزت هذه الحدود ، وكما يقول علماء أصول الفقه : إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع الواجبات الشرعيّة ومقدّمة عليها.

وقد يسأل : كيف يحاسب كلّ البشر على أعمالهم كلّها صغيرها وكبيرها؟

فتجيب الآية (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فهناك صحيفة أعمال الإنسان المحفوظة لدى الله العلي القدير. وهي تنطق بالحقّ عمّا اقترفه الإنسان من ذنوب ، فلا يمكنه إنكارها (١).

وربّما كان القصد من الكتاب الذي لدى الله هو اللوح المحفوظ. ولفظ «لدينا» يؤكّد هذا التّفسير.

والخلاصة أنّ الآية المذكورة آنفا تؤكّد حفظ الأعمال على أهلها من خير أو شرّ ، فهي مسجّلة بدقّة ، والإيمان بهذه الحقيقة يشجّع الصالحين على القيام بأعمال الخير ، واجتناب الأعمال السيّئة.

وتعبير (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) الذي وصف صحيفة أعمال البشر تشبه القول : إنّ الرسالة الفلانية ذات تعبير واضح ، أي : لا يحتاج إلى شرح. وكأنّها ناطقة بذاتها ، فهي تجلّي الحقيقة.

وعبارة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) تبيّن أنّه لا ظلم ولا جور ولا غفلة يوم الحساب ، فكلّ شيء في سجلّ معلوم.

ولكون هذه الحقائق مؤثّرة في الواعين من الناس فحسب ، أضافت الآية التالية بأنّ هؤلاء الكفّار المعاندين غارقون في دوّامة الجهل والغفلة لدرجة أنّهم غافلون عمّا ينتظرهم من الوعيد : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) (٢).

__________________

(١) لقد شرحنا بإسهاب صحيفة أعمال الإنسان وحقيقتها في التّفسير الأمثل حين تفسير الآية (١٣) من سورة الإسراء وكذلك حين تفسير الآية (٤٩) من سورة الكهف.

(٢) يمكن أن تكون كلمة «هذا» إشارة إلى صحيفة الأعمال ويوم الحساب ، أو القرآن المجيد ، أو أعمال الصالحين التي أشارت

٤٧٢

وهذا الانغمار في الجهل لا يسمح بمعرفة هذه الحقائق ، ويمنع الضالّين من العودة إلى أنفسهم وإلى الله تعالى.

وتضيف هذه الآية (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) ، وقد أورد المفسّرون تفاسير لقوله سبحانه : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) فبعضهم قال : إنّها تعني الأعمال السيّئة التي يقترفها الناس عن جهالة (فعلى هذا تكون «ذلك» إشارة إلى جهلهم) ، والأعمال هي الذنوب التي يرتكبها الإنسان عن غير علم ووعي وقال آخرون : إنّ المراد هو أنّهم إضافة إلى كفرهم ارتكبوا أنواعا من الأعمال السيّئة.

واحتمل آخرون اختلاف برنامج الكفرة عن برنامج المؤمنين اختلافا كبيرا.

ونحن نرى عدم اختلاف هذه التفاسير فيما بينها في نهاية الأمر ، ويمكن الجمع بينها ، المهمّ هو الانتباه إلى أنّ مصدر الأعمال الشريرة يكمن في انغمار القلوب في الجهالة.

ولكن هؤلاء المترفين يبقون في هذه الغفلة ما داموا في نعيمهم ، فإذا جاءهم العذاب فهم يصرخون كالوحوش من شدّة العذاب الإلهي ، كما تقول الآية : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ).

فيخاطبون (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ).

أمّا لماذا ورد ذكر «المترفين» هنا فحسب مع أنّ المذنبين لا يختصّون بهم؟

السبب هو إمّا لكونهم قادة للضالّين ، أو لأنّ عذابهم شديد جدّا.

ثمّ إنّ هذا العذاب يحتمل أن يكون دنيويّا أو اخرويّا أو كليهما. حيث يصيبهم العذاب في هذه الدنيا أو في الآخرة فيرتفع صراخهم ، ويستغيثون فلا يغاثون.

وتكشف الآية التالية عن سبب هذا المصير المشؤوم (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى

__________________

الآيات السابقة إليها.

٤٧٣

عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) بدلا من الاستفادة منها والانتباه للواقع.

كلمة «تنكصون» مشتقّة من النكوص ، بمعنى السير بشكل معاكس.

و «أعقاب» جمع «عقب» على وزن «فعل» وتعني عقب القدم.

وهذه الجملة كناية عن شخص يسمع كلاما غير مرغوب فيه ، فيرتعب لدرجة يسير فيها القهقرى على عقبي قدميه.

ثمّ إنّه لا يرجع إلى الوراء لمجرد سماعه آيات الله ، وإنّما يصبح ممّن وصفتهم الآية (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) (١).

وإضافة إلى ذلك (سامِراً تَهْجُرُونَ) أي يتسامرون في لياليهم ويتحدّثون عن النّبي والقرآن بالباطل.

وكلمة «سامرا» مشتقّة من «سمر» على وزن «نصر» بمعنى التحدّث ليلا.

وقال البعض : إنّها تعني ظلّ القمر في الليل حيث يختلط السواد مع البياض فيه ، وبما أنّ المشركين من العرب كانوا يتسامرون حول الكعبة في الليالي المقمرة ، وجلّ حديثهم يتناول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالباطل ، فوردت هذه الكلمة لهذا الغرض. ويقال «سمراء» لمن اختلط بياضها بشيء من السواد.

و (تَهْجُرُونَ) مشتقة من «هجر» وتعني بالأصل الابتعاد والانفصال ، وقد وردت بمعنى الهذيان الصادر من المريض. لأنّ كلامه في تلك الحالة غير سليم.

ويبعث على النفور. كما أنّ الهجر (على وزن كفر) يعني السباب ، وهو أيضا يبعث على الابتعاد والقطيعة.

وقد جاءت كلمة «تهجرون» في الآية بالمعنى الأخير. فتقول : إنّ المشركين

__________________

(١) هناك اختلاف بين المفسّرين في من يعود إليه الضمير في (به). فذهب بعض أنّه يعود إلى المسجد الحرام والحرم المكّي ، لأنّ سدنة الكعبة استكبروا لاعتبارهم أنفسهم أصحاب الحرم المكّي ، وهذا الاحتمال ضعيف لأنّ الآيات السابقة لم تتناول الكعبة والحرم. ويبدو أنّ هذا الضمير يعود إلى القرآن المجيد والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيكون معنى الآية : إنّكم استكبرتم إزاء القرآن ونبي الإسلام. أو أنّها تشير إلى سيرهم المعاكس ، فهم استكبروا ولم يهتموا به.

٤٧٤

من العرب كانوا يتسامرون حتّى ساعات متأخّرة من الليل ، وهم يهذون ويكيلون السباب والشتائم كالمرضى.

وهذا الأسلوب أسلوب الجبناء وضعاف النفوس ، الذين يلجأون إلى ظلمة الليل ، ليكيلوا السباب ، حيث يفتقدون المنطق السليم الذي يمكنهم من التحدّث برجولة في وضح النهار. إنّهم اختاروا ظلام الليل بعيدين عن أنظار الناس ، ليصلوا إلى أهدافهم المشئومة ، فلجأوا إلى السباب والباطل من أجل التنفيس عن أحقادهم الجاهلية. يقول القرآن الكريم : إنّ سبب تعاستكم وما ستنالون من عذاب الله الأليم هو أنّكم استكبرتم عن قبول الحقّ. ولم ترضخوا بتواضع لآيات الله. كما لم يكن تعاملكم مع النّبي بشكل منطقي صحيح. ولولا ذلك لاهتديتم إلى طريق الحقّ والسعادة.

* * *

٤٧٥

الآيات

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤))

التّفسير

أعذار المنكرين المختلفة :

تحدّثت الآيات السابقة عن إعراض الكفّار واستكبارهم إزاء الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وتناولت هذه الآيات أعذارهم في هذا المجال والرّد عليهم ، وشرحت الدوافع الحقيقيّة لإعراض المشركين عن القرآن والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

٤٧٦

ويمكن تلخيصها في خمس مراحل :

الأول : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ).

فأوّل سبب لتعاستهم هو تعطيل التفكّر في مضمون دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو تفكّروا مليّا لما بقيت مشكلة لديهم.

وفي المرحلة الثّانية تقول الآية : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ). سألت الآية مستنكرة : أكانت الدعوة إلى التوحيد والمعاد ، والهدى إلى الأعمال الصالحة مختصّة بهم دون آبائهم الأوّلين ، ليحتجّوا بأنّها بدعوة ، ويقولوا : لماذا لم يبعثه الله للأوّلين ، وهو لطيف بعباده؟

ليس لهم ذلك ، لأنّ الإسلام من حيث المبادئ له مضمون سائر الرسالات التي حملها الأنبياء عليهم‌السلام فهذا التبرير غير منطقي ولا معنى له!

وفي المرحلة الثّالثة تقول الآية : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).

أي إذا كانت هذه الدعوة صادرة من شخص مجهول ومشكوك ، فيحتمل أن يقولوا بأنّ كلامه حقّ ، إلّا أنّ هذا الرجل مشكوك وغير معروف لدينا ، نخدع بكلامه. ولكنّهم يعرفون ماضيك جيدا ، وكانوا يدعونك محمّدا الأمين ، ويعترفون بعقلك وعلمك وأمانك ، ويعرفون جيدا والديك وقبيلتك ، فلا حجّة لهم!

وفي المرحلة الرّابعة تقول الآية : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي انّه مجنون ، فبعد اعترافهم بأنّك لست مجهولا بالنسبة لهم ، إلّا أنّهم يشكّكون في سلامة عقلك وينسبونك إلى الجنون ، لأنّ ما تدعو إليه لا ينسجم مع عقائدهم ، فلذلك اتّخذوا هذا دليلا على جنونك.

يقول القرآن المجيد لنفي هذه الحجّة : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) وكلامه شاهد على هذه الحقيقة ، ويضيف (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ).

أجل ، إنّ كلمات الرّسول راشدة حكيمة ، إلّا أنّهم ينكرونها لعدم انسجامها مع أهوائهم النفسيّة. فألصقوا به تهمة الجنون! في الوقت الذي لا ضرورة في توافق

٤٧٧

الحقّ مع رغبات الناس (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ).

لأنّه لا يوجد مقياس يحدّد أهواء الناس ، مضافا إلى أنّها تميل إلى الشرّ والفساد غالبا ، ولو اتّبعتها قوانين الوجود لعمّت الفوضى في الكون ولفسد العالم.

وتأكيدا لذلك تقول الآية : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (١) أي منحناهم القرآن الذي هو أساس للذكر والتوجّه إلى الله ، وسبب لرفعتهم وشرفهم ، إلّا أنّهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يضيء لهم درب السعادة والشرف.

وفي المرحلة الخامسة تقول الآية : هل أنّ عذرهم في فرارهم من الحقّ هو أنّك تريد منهم أجرا على دعوتك : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٢).

فلو طلب قائد ديني أجرا من الناس مقابل وعظهم ودعوتهم إلى الحقّ لأعطى المتعذّرين ذريعة للإعراض عنه والطعن عليه ، فيعرضون عنه بحجّة عدم قدرتهم المالية ، ويتّهمونه بأنّه ما دعاهم إلّا ابتغاء منافع خاصّة به.

مضافا إلى أنّ البشر ما يملك من شيء ليمنحه؟ أليس الله سبحانه وتعالى رزّاق العباد؟

والقرآن الكريم بإيضاحه هذه المراحل الخمس برهن على أنّ هؤلاء الحمقى (المشركين) لا يرضخون للحقّ ، وأنّ أعذارهم في إنكار الحقّ أعذار واهية.

وجاءت الآية التالية باستنتاج عام لكلّ ما مضى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) صراط مستقيم دلائله واضحة واستقامته معلومة ، فالطريق

__________________

(١) يمكن أن تفسّر عبارة «ذكرهم» بمعنى تذكّرهم وتوقظهم ، ويمكن أن تفسر بمعنى شرفهم وحيثيّتهم في المجتمع البشري ، وفي الوقت ذاته لا تناقض بين هذين المفهومين ، وقد استفدنا من كليهما في تفسير الآية.

(٢) الخرج والخراج مشتق من الخروج ، ويعني الشيء الذي يستخرج من المال أو من حاصل الأرض الزراعية. إلّا أنّ الخرج ذو معنى أوسع من الخراج. وكما يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته : الخرج أعمّ من الخراج ، وجعل الخرج بإزاء الدخل ، وقال تعالى : (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) والخرج مختّص في الغالب بالضريبة على الأرض أو أجرتها.

٤٧٨

المستقيم أقصر الطرق بين نقطتين ، وهو طريق واحد ، والطريق الملتوية على يساره ويمينه غير متناهية.

ورغم أنّ الرّوايات الإسلامية تفسّر الصراط المستقيم بولاية علي عليه‌السلام (١) إلّا أنّها تكشف ـ كما قلنا مرارا ـ عن المصداق الأكمل لذلك ، ولا تتنافى مع المصاديق الاخرى كالقرآن والإيمان بالمبدأ والمعاد والتقوى والجهاد والعدل.

وتستعرض الآية التالية النتيجة الطبيعيّة لهذا الموضوع ، فتقول : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ).

كلمة «ناكب» مشتقّة من «النكب» و «النكوب» أي الانحراف عن الطريق. و «نكبت الدنيا» تقع في مقابل إقبال الدنيا ، وتعني إدبار الدنيا وإعراضها عن المرء.

ومن الواضح أنّ الصراط يقصد به هنا ما في الآية السابقة ، وبديهي أنّ الذي ينحرف عنه في الآخرة فمكانه النّار وبئس المصير ، لأنّ المرء يثاب في الآخرة على أعماله في هذه الدنيا.

وعدم إيمان المرء بالآخرة مرتبط بانحرافه عن طريق الحقّ الناجم عن عدم شعوره بالمسؤولية ، فقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «إنّ الله جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه ، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا فإنّهم عن الصراط لناكبون» (٢).

* * *

بحوث

١ ـ التمسّك بالحقّ أو بالأهواء النفسيّة

أشارت الآيات السابقة ـ بشكل عابر ـ إلى التناقض بين التمسّك بالحقّ وبين الأهواء النفسيّة ، وهي إشارة ذات مدلول كبير ، حيث تقول : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد الثالث صفحة ٥٤٨.

(٢) أصول الكافي (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلد الثالث ، صفحة ٥٤٩).

٤٧٩

أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ). وتفسير هذه المسألة ليس صعبا للأسباب الآتية :

الف ـ لا شكّ في أنّ أهواء الناس متفاوتة ، وقد ينقض بعضها بعضا ، حتّى بالنسبة لشخص واحد فقد تتناقض أهواؤه.

ولو استسلم الحقّ لهذه الأهواء لنتج عن ذلك الفساد وعمّت الفوضى. لماذا؟

لأنّ كلّ فرد له صنم ومعبود ، فلو حكمت هذه الآلهة الكثيرة والمتضادّة هذا العالم المترامي الأطراف ، لظهر الفساد وتعمّ الفوضى من جرّاء ذلك ، وهذا لا يخفى على أحد.

ب ـ إنّ أهواء الناس مع قطع النظر عن تناقضها ، فهي تميل نحو الفساد والشرّ ولو سادت الوجود والمجتمع البشري ، فالنتيجة لا تكون سوى الفساد والشرّ.

ج ـ إنّ الميول والأهواء ذات بعد واحد ، ولا تنظر إلى الأمور إلّا من زاوية واحدة وتغفل عن بقيّة الأبعاد ، ومن المعلوم أنّ أحد العوامل المهمّة في الفساد والخراب هو المنهج ذو البعد الواحد الذي يغفل عن الأبعاد الاخرى.

والآية محلّ البحث تشبه من بعض جوانبها ما ورد في الآية الثّانية والعشرين من سورة الأنبياء (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

وبديهي أنّ الحقّ كالصراط المستقيم واحد لا نظير له ، بينما الأهواء النفسية متعدّدة كأوثان المشركين. فأيّما نتّبع الحقّ أم الهوى؟ أنتّبع الهوى الذي هو مصدر الفساد في السّماء والأرض وفي جميع الموجودات ، أم الحقّ الذي هو رمز الواحدة ، والتوحيد والنظام والانسجام؟

الجواب في غاية الوضوح والإشراق.

٢ ـ صفات القائد

أوضحت الآيات السابقة عددا من صفات القادة إلى طريق الحقّ ، فهم

٤٨٠