بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-272-3
الصفحات: ٤٥٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٢١
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٢٢
 &

إنّ للإسماعيلية ذكراً في كتب الملل والنحل لا يتجاوز عن ذكر تاريخ إمامهم الأوّل ، إسماعيل بن جعفر الصادق ، وشيء يسير عن عقيدتهم فيه ، دون تبيين عقائدهم وأُصولهم التي يعتقدون بها ، والأحكام والفروع التي يصدرون عنها ، وكلّ أخذ عن الآخر ، وربما زاد شيئاً ، لا يُسمن ولا يغني من جوع ، وإليك نصوصهم :

١. قال النوبختي : فلمّا توفي أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام افترقت شيعته بعده إلىٰ ست فرق ـ إلى أن قال : ـ وفرقة زعمت أنّ الإمام بعد جعفر بن محمد ، ابنه إسماعيل بن جعفر ، وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه ، وقالوا كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس ، لأنّه خاف فغيّبه عنهم ، وزعموا أنّ إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض ، ويقوم بأمر الناس ، وأنّه هو القائم ، لأنّ أباه أشار إليه بالإمامة بعده ، وقلّدهم ذلك له ، وأخبرهم أنّه صاحبه ؛ والإمام لا يقول إلّا الحقّ ، فلما ظهر موته علمنا انّه قد صدَق ، وانّه القائم ، وانّه لم يمت ، وهذه الفرقة هي « الإسماعيلية » الخالصة. وأُمّ إسماعيل وعبد الله ابني جعفر بن محمد عليه‌السلام فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأُمّها أُمُّ حبيب بنت عمر بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأُمّها أسماء بنت عقيل بن أبي طالب عليهم‌السلام .

وفرقة ثالثة زعمت أنّ الإمام بعد جعفر بن محمد ، محمد بن إسماعيل بن جعفر ، وأُمّه أُمّ ولد ، وقالوا : إنّ الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه فلمّا توفي قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الأمرَ لمحمد بن إسماعيل ، وكان الحقّ له ، ولا يجوز غير ذلك لأنّها لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين عليهما‌السلام ، ولا تكون إلّا في

٢٣
 &

الأعقاب ، ولم يكن لأخوي إسماعيل عبد الله وموسى في الإمامة حق ، كما لم يكن لمحمد بن الحنفية حقّ مع علي بن الحسين ؛ وأصحاب هذا القول يسمّون « المباركية » برئيس لهم كان يسمى ( المبارك) مولى إسماعيل بن جعفر. (١)

٢. قال الأشعري : والصنف السابع عشر من الرافضة يزعمون أنّ جعفر بن محمد مات وأنّ الإمام بعد جعفر ، ابنه ( اسماعيل ) ، وأنكروا أن يكون إسماعيل ماتَ في حياة أبيه ، وقالوا : لا يموت حتى يملك ، لأنّ أباه قد كان يخبر أنّه وصيّه والإمام بعده.

والصنف الثامن عشر من الرافضة وهم « القرامطة » يزعمون أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص على علي بن أبي طالب ، وأنّ علياً نصّ على إمامة ابنه ( الحسن ) ، وانّ الحسنَ ابن علي نصَّ على إمامة أخيه الحسين بن علي ، وأنّ الحسين بن علي نصّ على إمامة ابنه علي بن الحسين ، وأنّ علي بن الحسين نصّ على إمامة ابنه محمد بن علي ، ونصَّ محمد بن علي ، على إمامة ابنه جعفر ، ونصّ جعفر على إمامة ابن ابنه « محمد بن إسماعيل » ، وزعموا أنّ « محمد بن إسماعيل » حيّ إلى اليوم لم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض ، وأنّه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به ، واحتجوا في ذلك بأخبار رووها عن أسلافهم ، يخبرون فيها أنّ سابع الأئمّة قائمهم.

والصنف التاسع عشر من الرافضة يسوقون الإمامة من علي بن أبي طالب على سبيل ما حكينا عن « القرامطة » حتى ينتهوا ( بها ) إلى جعفر بن محمد ، ويزعمون أنّ جعفر بن محمد جعلها لإسماعيل ابنه ، دون سائر ولده ، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه صارت في ابنه محمد بن إسماعيل ، وهذا الصنف يُدعون ، « المباركية » نُسِبوا إلى رئيس لهم يقال له ( المبارك ) وزعموا أنّ محمد بن إسماعيل قد

______________________

١ . النوبختي : فرق الشيعة : ٦٦ ـ ٦٩ ، ولكلام النوبختي صلة سيوافيك عند التعرض لجذور المذهب الإسماعيلي.

٢٤
 &

مات ، وأنّها في ولده من بعده. (١)

٣. وقال البغدادي : الإسماعيلية وهؤلاء ساقوا الإمامة إلى جعفر ، وزعموا أنّ الإمام بعده ابنه إسماعيل ، وافترق هؤلاء فرقتين :

فرقة : منتظرة لإسماعيل بن جعفر ؛ مع اتّفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه.

وفرقة قالت : كان الإمام بعد جعفر ، سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر ، حيث إنّ جعفراً نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده ، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه ، علمنا أنّه إنّما نصبَ ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل. (٢)

٤. وقال الاسفرائيني : وهم يزعمون أنّ الإمامة صارت من جعفر إلى ابنه إسماعيل ، وكذّبهم في هذه المقالة جميعُ أهل التواريخ ، لِما صح عندهم من موت إسماعيل قبل أبيه جعفر ؛ وقوم من هذه الطائفة يقولون بإمامة محمد بن إسماعيل. وهذا مذهب الإسماعيلية من الباطنية. (٣)

٥. وقال الشهرستاني : الإسماعيلية الواقفية قالوا : إنّ الإمام بعد جعفر إسماعيل ، نصّاً عليه باتّفاق من أولاده ، إلّا أنّهم اختلفوا في موته في حال حياة أبيه. فمنهم من قال : لم يمت ، إلّا أنّه أظهر موته تقية من خلفاء بني العباس ، وعقد محضراً وأشهد عليه عامل المنصور بالمدينة.

ومنهم من قال : الموت صحيح ، والنصّ لا يَرجعُ قهقرى ، والفائدة في النص بقاء الإمامة في أولاد المنصوص عليه دون غيره. فالإمام بعد إسماعيل ، محمد بن إسماعيل ؛ وهؤلاء يقال لهم « المباركيّة » . ثمّ منهم من وقف على محمد بن

______________________

١. الأشعري : مقالات الإسلاميين : ٢٢ ـ ٢٧ ، ولكلام الأشعري صلة سيوافيك بيانها في محلّه.

٢. البغدادي : الفرق بين الفرق : ٦٢.

٣. الاسفراييني : التبصير : ٣٨.

٢٥
 &

إسماعيل وقال برجعته بعد غيبته.

ومنهم من ساق الإمامة في المستورين منهم ، ثمّ في الظاهرين القائمين من بعدهم ، وهم « الباطنية ».

وسنذكر مذاهبهم على الانفراد. وإنّما مذهب هذه الفرقة الوقف على إسماعيل بن جعفر ، ومحمد بن إسماعيل. والإسماعيلية المشهورة في الفرق منهم هم « الباطنية التعليمية » الذين لهم مقالة مفردة. (١)

٦. وقال المفيد : ولما مات إسماعيل رحمه‌الله انصرف القول عن إمامته من كان يظن ذلك ، فيعتقده من أصحاب أبيه ، وأقام على حياته شرذمة لم تكن من خاصة أبيه ، ولا من الرواة عنه ، وكانوا من الأباعد والأطراف.

فلما مات الصادق عليه‌السلام انتقل فريق منهم إلى القولِ بإمامة موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وافترق الباقون فريقين ، فريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل ، وقالوا : بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل ، لظنهم أنّ الإمامة كانت في أبيه ، وأنّ الابن أحقّ بمقام الإمامة من الأخ.

وفريق ثبتوا على حياة إسماعيل ، وهم اليوم شُذّاذ لا يعرف منهم أحد يومى إليه ، وهذان الفريقان يسميان بالإسماعيلية ، والمعروف منهم الآن مَنْ يزعم أنّ الإمامة بعد إسماعيل في ولده وولد ولده إلى آخر الزمان. (٢)

٧. وقال صاحب الأعيان : الإسماعيلية هم القائلون بإمامة إسماعيل هذا ، ويدل كلام المفيد ( الماضي ) على أنّ هذا القول كان موجوداً من عصر الصادق عليه‌السلام ، وأنّ شِرذمة اعتقدوا حياته ، أو بعد موت أبيه بقى بعضهم على القول بحياة إسماعيل ، وبعضهم قال : بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل ، ولقب الإسماعيلية يعم الفريقين ، وأنّ الموجود منهم في عصر المفيد من يزعم أنّ الإمامة بعد إسماعيل في

______________________

١. الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

٢. المفيد : الإرشاد : ٢٨٥.

٢٦
 &

ولده وولد ولده إلى آخر الزمان.

ويقال الإسماعيلية « السبعية » أيضاً باعتبار مخالفتهم للاثني عشرية في الإمام السابع. وفرقة من الإسماعيلية تدعىٰ الباطنية وكان لها ذكر مستفيض في التاريخ وصارت لها قوة ، وشدّة ، ووقائع عدّة مع الملوك والأُمراء ، كما فصلته كتب التاريخ.

وفي أنساب السمعاني : « الفرقة الإسماعيلية جماعة من الباطنية ينتسبون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ، لانتساب زعيمهم المغربي إلى محمد بن إسماعيل. وفي كتاب الشجرة انّه لم يعقب ( انتهى ).

و « الإسماعيلية » اليوم فرقتان : إحداهما :

الآغاخانية

يسوقون الإمامة في ذرية إسماعيل ، ويعدّون فيهم جملة من خلفاء مصر ، حتى ينتهوا إلى محمد شاه ( الآغا خان الثالث ) الموجود اليوم في بمبئ ، ويبعثون إليه بخمس أموالهم ، ومنهم الذين بسلْمية من بلاد حَماة.

والفرقة الثانية : البُهْرَة

بضم الباء وسكون الهاء وفتح الراء ، لفظ هندي ، معناه الجدّ والعمل ، وهم يسوقون الإمامة في ولد إسماعيل ، حتى ينتهوا إلى شخص يقولون : إنّه المهدي المنتظر ، وإنّه غائب. (١)

______________________

١. الأولى أن يقال : هم يسوقون الإمامة بعد المستنصر ، إلى المستعلي ، فالآمر بأحكام الله ، فالحافظ لدين الله ، فالظافر لدين الله ، فالظاهر بأمر الله ، فالفائز ، فالعاضد ، عند ذلك دخلت الدعوة المستعلية في كهف الاستتار بل دخلت بعد وفاة الآمر بأحكام الله ، وهؤلاء الأئمة الأربعة كانت دعاة ، لأنّ الأمر بأحكام الله مات بلا عقب وربما يقال ولد له باسم الطيب ، وثالثة بأنّ المولود كان أُنثى.

٢٧
 &

أمّا الذي يطلقون عليه اسم سلطان البهرة فالظاهر أنّه من قبيل النائب عن الإمام الغائب ، ويبلغ عدد البهرة في الهند واليمن وغيرها نحو أربعمائة ألف ، وهم أهل جدّ وكسب ، ولا يوجد بينهم فقير ، والفقير منهم يُوجِدون له عملاً من تجارة أو غيرها يكتفي به ، ولهم ملاجىٔ وتكايا عامة في البلاد التي يقصدونها للحج والزيارة ، في مكّة ، والمدينة ، والنجف ، وكربلاء ، وغيرها. وهي مبانٍ تامة المرافق يَنزلونها ولا يحتاجون إلى النزول في فندق أو خلافه ، وهم متمسكون بشرائع الدين. وكان خلفاء مصر الفاطميون على مذهب الإسماعيلية ، القائلين بانتقال الإمامة من الصادق عليه‌السلام إلى ولده إسماعيل ، ثمّ في أولاده ، وكانوا يقيمون شعائر الإسلام ، ويحافظون على أحكامه ، وما كان يذمهم أو بعضهم بعض المؤرّخين إلّا للعداوة المذهبية ، ولا يمكن التصديق بما ينسبه بعض المؤرّخين إلى بعضهم ، بعد تأصّل العداوة المذهبية في النفوس ، كما أنّ جماعة من أهل هذا العصر يخلطون بين الفريقين جهلاً أو تجاهلاً. (١)

* * *

هذه الأقوال والآراء فيهم ، توقفنا على أنّ القومَ لم يكن لهم موقف واحد تجاه سوق الإمامة بعد وفاة الإمام الصادق عليه‌السلام.

فمنهم من أنكر الواضحات ، وقال : بأنّ إسماعيل لم يمت ، وإنّه القائم ، وهذه هي الإسماعيلية الخالصة. (٢)

وأمّا اشهاد الإمام على موته فلم يكن إلّا إظهاراً لموته تقيةً من خلفاء بني العباس ، وأنّه عقد محضراً ، وأشهدَ عليه عامل المنصور بالمدينة. (٣)

وهذه الطائفة لا تسوق الإمامة بعد إسماعيل إلى غيره ، وإنّما تنتظر خروج

______________________

١. السيد الأمين : أعيان الشيعة : ٣ / ٣١٦.

٢. النوبختي : فرق الشيعة : ٦٠.

٣. الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ١٦٧.

٢٨
 &

قائمهم.

ومنهم من قال : إنّ موته صحيح ، وإنّ الإمام الصادق لَمّا نصّ على إمامته ، والنص لا يرجع قهقرى ، ففائدة النص بقاء الإمامة في أولاد المنصوص عليه دون غيرهم ، فالإمام بعد إسماعيل ، محمد بن إسماعيل ، ثمّ إنّ هذه الطائفة على رأيين :

فمنهم : من وقف على محمد بن إسماعيل ، وقال : برجعته بعد غيبته ؛ وهؤلاء القرامطة.

ومنهم : من ساق الإمامة في المستورين منهم ، ثمّ في الظاهرين القائمين من بعدهم.

وقد سبقت الإشارة إلى نص الشيخ المفيد ، وأنّه لا يعرف من الواقفين على إسماعيل ، أو ابنه محمد المنتظرين لرجعته أحداً ؛ والمعروف هو سوق الإمامة في ولد إسماعيل إلى آخر الزمان.

وسيوافيك الكلام في الأئمة المستورين والظاهرين إن شاء الله.

هذا ما وقفنا عليه في معاجم الملل والنحل وهو ـ كما ترى ـ لا يغني الباحث ، فليس فيها شيء من أُصولهم وعقائدهم ، ولا من فروعهم ، وثوراتهم ، ودولهم ، وحضارتهم ، وكتبهم وآثارهم العلمية.

والمهم في المقام هو دراسة جذور المذهب وانّه كيف نشأ وهذا ما سنبحث عنه في الفصل القادم إن شاء الله.

٢٩
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٣٠
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٣١
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٣٢
 &

من المشاكل التي واجهت أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام هي الحركات الباطنية التي تزعّمها الموالي والعناصر المستسلمة ، المندسَّة بين أصحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في عصر الصادقين عليهما‌السلام.

فقد سنحت الظروف للإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام أن يؤسّسا جامعة إسلامية كبيرة دامت نصف قرن كان لها صدى كبير في العالم الإسلامي ، فقاما بتربية نخبة من الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين البارزين ، وحفظا بذلك السنّة النبوية من الاندثار بعدما كان التحدّث بها وكتابتها أمراً محظوراً أو مكروهاً إلى عهد الخليفة العباسي المنصور الدوانيقي.

فأضحت تلك الجامعة شوكة في أعين خصومها ، فقامت ثلة من العناصر الدخيلة بالانخراط في صفوف أصحاب الأئمّة بغية التخريب والتضليل ، وتشويه سمعة أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أوّلاً ، وهدم كيان الإسلام ثانياً. وقد شكَّلت تلك العناصر فيما بعد اللبنة الأُولى للحركات الباطنية التي جرّت الويلات على الإسلام والمسلمين ، فاتخذ الإمام الصادق عليه‌السلام موقفاً حازماً أمامها تجنباً لأخطارها ، فأعلن للملأ الإسلامي براءته من تلك الفئات المنحرفة عن الدين والإسلام وتكفيرها وانّ عاقبتها النار.

ومن جملة الذين أبدعوا الحركات الباطنية وأغروا جماعة من شيعة أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام هو محمد بن مقلاص المعروف بأبي الخطاب الأسدي ، وزملاؤه ، نظير : المغيرة بن سعيد ، وبشار الشعيري وغيرهم ، فقد تبرّأ منهم الإمام عليه‌السلام على رؤوس الأشهاد. ونركز البحث هنا على رئيس الفرقة الباطنية ، أعني : أبا زينب محمد بن مقلاص الأسدي.

٣٣
 &

ولعرض صورة صحيحة عن عقائد الخطابية ، نأتي بنصوص علماء الفريقين ليتبين من خلالها جذور الدعوة الإسماعيلية ، وانّها ليست سوى استمراراً لتلك الحركة الباطنية التي تزعّمها أبو زينب :

١. الكشي والخطابية

إنّ الكشي أحد الرجاليين الذي عاش في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع ، ووضع كتابه في الرجال على أساس الروايات المروية عن أئمة أهل البيت في حقّ الرواة ، فقال ما هذا نصّه :

١. روى أبو أُسامة قال : قال رجل لأبي عبد الله عليه‌السلام : أُؤخر المغرب حتى تستبين النجوم ؟ فقال : « خطابية ؟! انّ جبرئيل أنزلها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سقط القرص ».

٢. كتب أبو عبد الله إلى أبي الخطاب : « بلغني أنّك تزعم أنّ الزنا رجل ، وأنّ الخمر رجل ، وأنّ الصلاة رجل ، والصيام رجل ، والفواحش رجل ، وليس هو كما تقول ، أنا أصل الحقّ وفروع الحقّ طاعة الله ، وعدونا أصل الشر وفروعهم الفواحش ، وكيف يطاع من لا يعرف وكيف يعرف من لا يطاع ؟ »

٣. قيل للإمام الصادق عليه‌السلام روي عنكم أنّ الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال ، فقال : « ما كان الله عزّ وجلّ ليخاطب خلقه بما لا يعلمون ».

٤. روى أبو بصير قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : « يا أبا محمد : أبرأ ممّن يزعم انّا أرباب » قلت : برئ الله منه ، فقال : « أبرأ ممّن زعم أنّا أنبياء » قلت : برئ الله منه.

٥. روى عبد الصمد بن بشير عن مصادف قال : ما لبّى القوم الذين لبّوا بالكوفة ـ أي قالوا : لبيك جعفر ، وهؤلاء هم الغلاة فيه ـ دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فأخبرته بذلك ، فخرّ ساجداً ودق جؤجؤه بالأرض وبكى ـ إلى أن قال : ـ فندمت على إخباري إيّاه ، فقلت : جعلت فداك وما عليك أنت من ذا ، فقال :

٣٤
 &

« إنّ عيسى لو سكت عمّا قالت النصارى فيه لكان حقاً على الله أن يصم سمعه ويعمي بصره ، ولو سكت عمّا قال فيّ أبو الخطاب لكان حقاً على الله أن يصم سمعي ويعمي بصري ».

٦. روى علي بن حسان عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله ، قال : ذكر عنده جعفر بن واقد ونفر من أصحاب أبي الخطاب فقيل انّه صار إلى ببروذ ، وقال فيهم وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله قال هو الإمام ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « لا والله لا يأويني وإياه سقف بيت أبداً ، هم شر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا ، والله ما صغر عظمة الله تصغيرهم شيئاً قط ، وانّ عزيراً جال في صدره ما قالت اليهود فمحا الله اسمه من النبوة ».

٧. روى الحسن الوشاء عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من قال بأنّنا أنبياء الله ، فعليه لعنة الله ».

٨. روى ابن مسكان عمّن حدّثه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا ، ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا ».

٩. عن حنان بن سدير ، عن أبيه قال : قلت لأبي عبد الله : إنّ قوماً يزعمون انّكم آلهة يتلون علينا بذلك قرآناً : يا أيّها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون عليم ، قال : « يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء ، برئ الله منهم ورسوله ما هولاء على ديني ودين آبائي ». (١)

فلما نهض أبو الخطاب بدعوته الفاسدة ، ووصلت إلى مسامع عامل الخليفة دعا عيسى بن موسى للقضاء عليها واجتثاث جذورها.

______________________

١. الروايات مأخوذة من رجال الكشي : ٢٤٦ ـ ٢٦٠ ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت. ولاحظ الوسائل ، الجزء ٣ الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، فقد جاءت فيه روايات تذم عمل أبي الخطاب وتحذر الشيعة من اتباعه.

٣٥
 &

١٠. كان سالم من أصحاب أبي الخطاب ، وكان في المسجد يوم بعث عيسى ابن موسى بن علي بن عبد الله بن العباس ـ وكان عامل المنصور على الكوفة ـ إلى أبي الخطاب لمّا بلغه انّهم أظهروا الإباحات ، ودعوا الناس إلى نبوة أبي الخطاب ، وانّهم يجتمعون في المسجد ولزموا الأساطين يرون الناس انّهم قد لزموها للعبادة ، وبعث إليهم رجلاً فقتلهم جميعاً لم يفلت منهم إلّا رجل واحد أصابته جراحات فسقط بين القتلى يعدّ فيهم ، فلمّا جنّه الليل خرج من بينهم فتخلص ، وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقب بأبي خديجة. (١)

هذه نصوص عشرة توقفك على جلية الحال ، وانّ الحركة الباطنية أُسست بيد الخطابية ، وسيظهر انّ أتباع أبي زينب تحولوا فيما بعد إلى جانب محمد بن إسماعيل ووجدوه مرتعاً خصباً ، عندها تألّق نجم ابن إسماعيل بعد انتمائهم له.

هذه الروايات التي رواها الكشي تعرب عن وجود القول بالإلوهية والمقامات الغيبية للأئمّة حتى انّ الحلول في الأئمّة كان من نتاج أفكار أبي زينب وأصحابه في أواسط القرن الثاني ، حتّىٰ طردهم الإمام الصادق ولعنهم وتبرّأ منهم ، ونهى أصحابه عن مخالطتهم.

٢. الأشعري والخطابية

وليس الكشي ممّن انفرد في نقل تلك العقائد ، فقد نسبها إليهم الأشعري أيضاً في « مقالات الإسلاميين » وذكر ما هذا نصه :

الخطابية على خمس فرق : كلّهم يزعمون انّ الأئمة أنبياء محدَّثون ، ورسل الله وحججه على خلقه لا يزال منهم رسولان : واحد ناطق والآخر صامت ، فالناطق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والصامت علي بن أبي طالب ، فهم في الأرض اليوم طاعتهم مفترضة على جميع الخلق ، يعلمون ما كان ، وما هو كائن ، وزعموا أنّ أبا الخطاب نبي ، وانّ

______________________

١. رجال الكشي : ٣٠١. وقد اقتصرنا من الكثير بالقليل ، ومن أراد التفصيل فليرجع إليه.

٣٦
 &

أُولئك الرسل فرضوا عليهم طاعة أبي الخطاب ، وقالوا : الأئمة آلهة ، وقالوا في أنفسهم مثل ذلك ، وقالوا : ولد الحسين أبناء الله وأحباؤه ، ثمّ قالوا ذلك في أنفسهم ، وتأوّلوا قول الله تعالى : ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (١) قالوا : فهو آدم ونحن ولده ، وعبدوا أبا الخطاب وزعموا أنّه إله ، وزعموا أنّ جعفر بن محمد إلههم أيضاً إلّا أنّ أبا الخطاب أعظم منه ، وأعظم من عليّ ، وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر فقتله عيسى بن موسى في سبخة الكوفة ، وهم يتديّنون بشهادة الزور لموافقيهم.

والفرقة الثانية من « الخطابية » : وهي الفرقة السابعة من الغالية يزعمون أنّ الإمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له « معمر » وعبدوه كما عبدوا أبا الخطاب ، وزعموا أنّ الدنيا لا تفنى ، وانّ الجنّة ما يصيب الناس من الخير والنعمة والعافية ، وانّ النار ما يصيب الناس من خلاف ذلك ، وقالوا بالتناسخ ، وانّهم لا يموتون ، ولكن يرفعون بأبدانهم إلى الملكوت ، وتوضع للناس أجساد شبه أجسادهم ، واستحلوا الخمر والزنا واستحلوا سائر المحرمات ، ودانوا بترك الصلاة ، وهم يُسمّون « المعمرية » ويقال انّهم يسمّون « العمومية ».

والفرقة الثالثة من « الخطابية » : وهي الثامنة من الغالية يقال لهم « البزيغية » أصحاب « بزيغ بن موسى » يزعمون أنّ جعفر بن محمد هو الله ، وأنّه ليس بالذي يرون ، وأنّه تشبّه للناس بهذه الصورة ، وزعموا أنّ كلّ ما يحدث في قلوبهم وحي ، وأنّ كلّ مؤمن يوحى إليه وتأوّلوا في ذلك قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (٢) أي بوحي من الله ، وقوله : ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ). (٣) و ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ ) (٤) ، وزعموا أنّ منهم من هو خير من جبريل وميكائيل

______________________

١. ص : ٧٢.

٢. آل عمران : ١٤٥.

٣. النحل : ٦٨.

٤. المائدة : ١١١.

٣٧
 &

ومحمد ، وزعموا أنّه لا يموتُ منهم أحد ، وأنّ أحدهم إذا بلغت عبادَته رُفع إلى الملكوت ، وادّعوا معاينة أمواتهم ، وزعموا أنّهم يرونَهم بكرة وعشية.

والفرقة الرابعة من « الخطابية » : وهي التاسعة من الغالية يقال لهم « العميرية » أصحاب « عمير بن بيان العجلي » وهذه الفرقة تكذِّب من قال منهم انّهم لا يموتون ، ويزعمون أنّهم يموتون ، ولا يزال خلف منهم في الأرض أئمّة أنبياء ، وعبدوا جعفراً كما عبده « اليعمريون » ، وزعموا أنّه ربهم ، وقد كانوا ضربوا خيمة في كناسة الكوفة ، ثم اجتمعوا إلى عبادة جعفر ، فأخذ يزيد بن عمر ابن هبيرة ، « عمير بن البيان » فقتله في الكناسة ، وحبس بعضهم.

والفرقة الخامسة من « الخطابية » : وهي العاشرة من الغالية يقال لهم « المفضلية » لأنّ رئيسهم كان صيرفياً يقال له « المفضّل » يقولون بربوبية جعفر ، كما قال غيرهم من أصناف الخطابية ، وانتحلوا النبوة والرسالة وإنّما خالفوا في البراءة من « أبي الخطاب » لأنّ جعفراً أظهر البراءة منه. (١)

٣. النوبختي والخطابية

وقد ذكر النوبختي فرقهم ، وأضاف : إنّ الخطابية هم الذين خرجوا في حياة أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما‌السلام فحاربوا عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس ، وكان عاملاً على الكوفة ، فبلغه عنهم أنّهم أظهروا الإباحات ، ودعوا إلى نبوة أبي الخطاب ، وأنّهم مجتمعون في مسجد الكوفة ، فبعث إليه فحاربوه وامتنعوا عليه ، وكانوا سبعين رجلاً ، فقتلهم جميعاً ، فلم يفلت منهم إلّا رجل واحد أصابته جراحات فعدّ في القتلى ، فتخلّص ، وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقّب بأبي خديجة وكان يزعم أنّه مات فرجع ، فحاربوا عيسى محاربة شديدة بالحجارة والقصب والسكاكين ، لأنّهم جعلوا القصب مكان الرماح.

______________________

١. الأشعري : مقالات الإسلاميين : ١٠ ـ ١٣.

٣٨
 &

وقد كان أبو الخطاب قال لهم : قاتلوهم فإنّ قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف ، ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضرّكم ولا تخلّ فيكم ، فقدّمهم عشرة عشرة للمحاربة ، فلمّا قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً ، قالوا له : ما ترى ما يحل بنا من القوم وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يُؤثر ، وقد عمل سلاحهم فينا وقُتل من ترى منهم ، فذكر لهم ما رواه العامة أنّه قال لهم : إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي ، وقال لهم ما رواه الشيعة : يا قوم قد بُليتم وامتحنتم وأُذن في قتلكم ، فقاتلوا على دينكم وأحسابكم ، ولا تعطوا بلدتكم ، فتذلّوا مع أنّكم لا تتخلصون من القتل فموتوا كراماً ، فقاتلوا حتى قُتلوا عن آخرهم ، وأُسر أبو الخطاب فأُتي به عيسى بن موسى فقتله في دار الرزق على شاطئ الفرات ، وصلب مع جماعة منهم ، ثمّ أمر بإحراقه فأُحرقوا ، وبعث برؤوسهم إلى المنصور فصلبها على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام ، ثمّ أُحرقت. (١)

٤. الطبري والحركات الباطنية

يظهر ممّا رواه الطبري في تاريخه وابن الجوزي في منتظمه تفشّي هذا النوع من الإلحاد عند غير الخطابية أيضاً ، وإليك نص ابن الجوزي في هذا المقام :

خروج الراوندية ، وهم قوم من أهل خراسان كانوا على رأي أبي مسلم ، إلّا أنّهم يقولون بتناسخ الأرواح ، ويدّعون أنّ روح آدم عليه‌السلام في عثمان بن نهيك ، وأنّ ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور ، وأنّ الهيثم بن معاوية جبرائيل.

وهؤلاء طائفة من الباطنية يسمّون السبعية يقولون : الأرضون سبع ، والسماوات سبع ، والأُسبوع سبعة يدل على أنّ دور الأئمّة يتم بسبعة. فعدوا : العباس ، ثمّ ابنه عبد الله ، ثمّ ابنه علي ، ثمّ محمد بن علي ، ثمّ إبراهيم ، ثمّ السفاح ،

______________________

١. النوبختي : فرق الشيعة : ٦٩ ـ ٧٠.

٣٩
 &

ثمّ المنصور ، فقالوا : هو السابع. وكانوا يطوفون حول قصر المنصور ويقولون : هذا قصر ربنا.

فأرسل المنصور ، فحبس منهم مائتين ـ وكانوا ستمائة ـ فغضب أصحابهم الباقون ودخلوا السجن ، فأخرجوهم وقصدوا نحو المنصور ، فتنادى الناس ، وغلقت أبواب المدينة ، وخرج المنصور ماشياً ولم يكن عنده دابة ، فمن ذلك الوقت ارتبط فرساً ، فسمى : فرس النوبة ، يكون معه في قصره ، فأتى بدابة فركبها وجاء معن بن زائدة فرمى بنفسه وقال : أُنشدك الله يا أمير المؤمنين إلّا رجعت ، فإنّي أخاف عليك. فلم يقبل وخرج ، فاجتمع إليه الناس ، وجاء عثمان بن نهيك فكلّمهم ، فرموه بنشابة وكانت سبب هلاكه ، ثمّ حمل الناس عليهم فقتلوهم ، وكان ذلك في المدينة الهاشمية بالكوفة في سنة إحدى وأربعين. (١)

تحول الخطابية إلى الإسماعيلية

إنّ الخطابية بعد قتل زعيمهم توجهوا إلى محمد بن إسماعيل ، وقد كان بعض الضالين يؤم والده إسماعيل بن جعفر ، ولكن الإمام الصادق عليه‌السلام آيسه من إضلاله.

روى الكشي عن حماد بن عثمان قال : سمعت أبا عبد الله يقول للمفضل بن عمر الجعفي : « يا كافر ، يا مشرك ما لك ولإبني » ـ يعني : إسماعيل بن جعفر ـ وكان منقطعاً إليه يقول فيه مع الخطابية ، ثمّ رجع عنه. (٢)

والذي يدل على أنّ المذهب الإسماعيلي نشأ وترعرع في أحضان الخطابية ، وإن لم يتبنىٰ كل ما تبنّته الخطابية ، هي النصوص التاريخية التي سنتلوها عليك واحداً تلو الآخر :

______________________

١. ابن الجوزي : المنتظم : ٨ / ٢٩ ـ ٣٠ ، تاريخ الطبري : ٦ / ١٤٧ ـ ١٤٨.

٢. الكشي : الرجال : ٣٢١ برقم ٥٨١ ، في ترجمة المفضل بن عمر.

٤٠