الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

الآيتان

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

أسباب النّزول

المشهور أنّ هذه الآيات نزلت في أهل مكّة بعد أن قرروا إخراج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها. ثمّ بدّلوا رأيهم بعد ذلك وقرروا قتله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحاصروا بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنّ الله أنجاه من هذه المكيدة بشكل إعجازي واستطاع أن يهاجر إلى المدينة المنوّرة.

البعض يرى أنّ هذه الآيات نزلت بشأن اقتراح يهود المدينة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يخرج منها إلى بلاد الشام باعتبار أنّ المدينة ليست أرض الأنبياء ، بل إنّ أرض الأنبياء هي الشام ، لذلك قال اليهود لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كنت ترغب بانتشار دعوتك فهاجر إلى هناك ، إلى بلاد الشام.

ولكن لمّا كانت هذه السورة مكّية فيتّضح عدم صحّة هذا السبب للنزول ، فضلا عن أنّنا سوف نرى أثناء الحديث عن الآيات أنّها ـ أيضا ـ لا تتوافق مع السبب المذكور.

٨١

التّفسير

مؤامرة خبيثة أخرى :

في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ المشركين أرادوا من خلال مكائدهم المختلفة أن يحرفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الطريق المستقيم ، لكن الله أنجاه بلطفه له ورعايته إيّاه ، وبذلك فشلت خطط المشركين.

بعد تلك الأحداث ، وطبقا للآيات التي بين أيدينا ، وضع المشركون خطّة أخرى للقضاء على دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الخطّة تقضي بإبعاد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مسقط رأسه (مكّة) إلى مكان آخر قد يكون مجهولا وبعيدا عن الأنظار. إلّا أنّ هذه الخطّة فشلت أيضا بلطف الله أيضا.

الآية الأولى تقول : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) بخطة دقيقة.

وبما أنّ كلمة «يستفزونك» مشتقة من «استفزاز» التي تأتي في بعض الأحيان بمعنى قطع الجذور ، وفي أحيان أخرى بمعنى الإثارة مع السرعة والمهارة ، فإنّنا نفهم من ذلك أنّ المشركين وضعوا خطّة محكمة تجعل الوسط المحيط بالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مناسب له ، وتثير عامّة الناس ضدّه كي يخرجوه بسهولة من مكّة. لكن هؤلاء لا يعرفون أنّ هناك قوّة أعظم من قوّتهم ، وهي قوّة الخالق الكبير حيث تتلاشى إرادتهم دون إرادته عزوجل.

ثمّ يحذّرهم القرآن بعد ذلك بقوله : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) فهؤلاء سيبادون بسرعة بسبب ذنبهم العظيم في إخراج القائد الكفوء ـ الذي تذهب نفسه حسرات على العباد ـ من البلد ، إذ يعتبر ذلك أوضح مداليل كفران النعمة ، ومثل هؤلاء القوم لا يستحقون الحياة ويستحقون العذاب الإلهي.

إنّ هذا الأمر لا يخص مشركي العرب وحسب ، بل هو (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً). وهذه السنة تنبع من منطق واضح ،

٨٢

حيث أنّ هؤلاء القوم لا يشكرون النعم ، ويحطمون مصباح هدايتهم ومنبع النور إليهم بأيديهم ، إنّ مثل هؤلاء الأقوام لا يستحقون رحمة الخالق ، وإنّ العقاب سيشملهم. ونعلم هنا أنّ الله تبارك وتعالى لا يفرق بين عباده ، وبذلك فإنّ الأعمال المتشابهة في الظروف المتشابهة لها عقاب متشابه ، وهذا هو معنى عدم اختلاف سنن الخالق جلّ وعلا.

إنّ السنن الإلهية هي عكس السنن والقوانين التي يضعها البشر حيث تقتضي مصالحهم في يوم أن تكون هناك سنة أو قانون معين ، وفي يوم آخر يمكن أن تنقلب هذه السنّة أو القانون إلى عكسه تماما.

ونعرف هنا أنّ اختلاف السنن والقوانين البشرية إمّا أن يعود إلى عدم وضوح الأمور ، والتي عادة ما تتوضح بمرور الزمن ، وتنكشف للإنسان اشتباهاته وأخطاؤه ، أو أنّ السبب في ذلك يعود إلى مقتضيات المصالح الخاصّة وشروط الحياة التي تتحوّل وتتغيّر في كل وقت. ولمّا كانت هذه الأمور لا تؤثّر على الإرادة الإلهية ، فإنّ ما يصدر عن الحكمة الإلهية من سنن تكون ثابتة في جميع الحالات والشرائط.

* * *

٨٣

الآيات

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١))

التّفسير

الفناء نهاية الباطل :

بعد سلسلة الآيات التي تحدثت عن التوحيد والشرك وعن مكائد المشركين ومؤامراتهم، تبحث هذه الآيات عن الصلاة والدعاء والارتباط بالله والتي تعتبر عوامل مؤثّرة في مجاهدة الشرك ، ووسيلة لطرد إغواءات الشيطان من قلب وروح الإنسان ، إذ تقول الآيات في البداية (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً).

«دلوك الشمس» يعني زوال الشمس من دائرة نصف النهار والتي يتحدّد معها

٨٤

وقت الظهر. وفي الأصل فإنّ (دلوك) مأخوذة من (دلك) حيث أنّ الإنسان يقوم بدلك عينيه في ذلك الوقت لشدّة ضوء لشمس. أو أنّ كلمة (دلك) تعني (الميل) حيث أنّ الشمس تميل من دائرة نصف النهار من طرف المغرب. أو أنّها تعني أنّ الإنسان يضع يده في قبال الشمس حيث يقال بأنّ الشخص يمنع النور عن عينيه ويميله عنه.

على أي حال ، في الرّواية التي وصلتنا عن أهل البيت عليهم‌السلام توضح لنا أنّ معنى (دلوك) هو زوال الشمس. فقد روى العاملي في (وسائل الشيعة) أنّ عبيد بن زرارة سأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن تفسير الآية فقال عليه‌السلام : «إنّ الله افترض أربع صلوات أوّل وقتها زوال الشمس إلى انتصاف الليل ، منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس ، إلّا أنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلّا أنّ هذه قبل هذه» (١).

وفي رواية أخرى رواها المحدّث الكبير (زرارة بن أعين) عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، في تفسير الآية قال عليه‌السلام : «دلوكها زوالها ، وغسق الليل إلى نصف الليل ، ذلك أربع صلوات وضعهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووقتهنّ للناس ، وقرآن الفجر صلاة الغداة» (٢).

لكن وضع بعض المفسّرين احتمالات أخرى لمعنى (دلوك) إلّا أنّا آثرنا تركها لأنّها لا تستحق الذكر.

وأمّا (غسق الليل) فإنّها تعني منتصف الليل ، حيث أنّ (غسق) تعني الظلمة الشديدة ، وأكثر ما يكون الليل ظلمة في منتصفه.

أمّا (قرآن) فهي تعني كلاما يقرأ. و (قرآن الفجر) هنا تعني صلاة الفجر.

وبهذا الدليل تعتبر هذه الآية من الآيات التي تشير بشكل إجمالي إلى أوقات

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ١١٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٠٥.

٨٥

الصلوات الخمس. ومع أخذ الآيات القرآنية الأخرى بنظر الإعتبار في مجال وقت الصلوات والرّوايات الكثيرة الواردة في هذا الشأن ، يمكن تحديد أوقات الصلوات الخمس بشكل دقيق.

ويجب الانتباه هنا إلى أنّ بعض الآيات تشير إلى صلاة واحدة فقط ، كقوله تعالى:(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (١). حيث (الصلاة الوسطى) وفقا لأصح التفاسير هي صلاة الظهر.

وفي بعض الأحيان تشير الآية إلى ثلاث صلوات من الصلوات الخمس كما في الآية (١١٤) من سورة هود ، في قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ). حيث يشير تعبير (طَرَفَيِ النَّهارِ) إلى صلاتي الصبح والمغرب ، وأمّا (زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) فهي إشارة إلى صلاة العشاء.

وفي بعض الأحيان تشير الآية إلى الصلوات الخمس بشكل إجمالي ، كما في الآية التي نبحثها (راجع للمزيد من التوضيح نهاية تفسير الآية (١١٤) من سورة هود).

على أي حال ، لا يوجد ثمّة شك في أنّ هذه الآيات لم توّضح جزئيات أوقات الصلاة ، بل تشير إلى الكليات والخطوط العامّة ، مثلها مثل الكثير من الأحكام الإسلامية الأخرى ، أمّا التفاصيل فإنّها وردت في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الصادقين من أهل بيتهعليهم‌السلام.

الآية بعد ذلك تقول : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) وهنا يطرح سؤال حول هوية الذي يقوم بالمشاهدة ، من هو يا ترى؟ الرّوايات الواردة في تفسير هذه الآية تقول إنّ ملائكة الليل والنهار هي التي تشاهد ، لأنّه في بداية الصباح تأتي ملائكة النهار لتحل محل ملائكة الليل التي كانت تراقب العباد ، وحيث أنّ صلاة الصبح هي في أوّل وقت الطلوع ، لذلك فإنّ المجموعتين من الملائكة تشاهدها

__________________

(١) روح المعاني ، ج ١٥ ، ص ١٢٦.

٨٦

وتشهد عليها.

والرّوايات في هذه المجال نقلها علماء الشيعة والسنّة.

فمثلا ينقل أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفقا لما نقله عنهم صاحب تفسير (روح المعاني) أثناء تفسير الآية قولهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» (١).

أمّا البخاري ومسلم فقد نقلا نفس هذا المعنى في صحيحيهما وفقا لما نقله عنهم صاحب تفسير (روح المعاني) في المجلد الخامس عشر ، صفحة (١٢٦) من تفسيره.

ولمزيد الاطلاع على الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المورد يمكن مراجعة المجلد الثّالث من تفسير (نور الثقلين) في نهاية حديثه عن الآية الكريمة.

ومن هنا يتّضح أنّ أفضل وقت لأداء صلاة الصبح هي اللحظات الأولى لطلوع الفجر.

وبعد أن تذكر الآية أوقات الصلوات الخمس تنتقل الآية التي بعدها إلى قوله تعالى:(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) (٢) المفسّرون الإسلاميون المعروفون يعتبرون هذا التعبير إشارة إلى نافلة الليل التي وردت روايات عديدة في فضيلتها ، وبالرغم من أنّ الآية لا تصرّح بهذا الأمر ، إلّا أن هناك قرائن مختلفة ترجح هذا التّفسير.

ثمّ تقول الآية (نافِلَةً لَكَ) أي برنامج إضافي علاوة على الفرائض اليومية.

وهذا التعبير اعتبره الكثير بأنّه دليل على وجوب صلاة الليل على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّ هذه (النافلة) والتي هي بمعنى (زيادة في الفريضة)

__________________

(١) روح المعاني ، ج ١٥ ، ص ١٢٦.

(٢) «تهجّد» مأخوذة من (هجود) وهي تعني في الأصل : النوم ، حسبما يقول الراغب في المفردات. ولكن عند ما تكون على وزن (تفعل» فإنّها تعني إزالة النوم والانتقال إلى حالة اليقظة. أمّا الضمير في كلمة «تهجّد به» فإنّه يدل على القرآن. ولكن هذه الكلمة استخدمت عند أهل الشرع بمعنى صلاة الليل. ويقال للذي يصلّي الليل (المتهجّد).

٨٧

تخصك أنت دون غيرك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أمّا البعض الآخر فيعتقد بأنّ صلاة الليل كانت بالأصل واجبة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقرينة آيات سورة المزمّل ، إلّا أنّ هذه الآية نسخت الوجوب وأبدلته بالاستحباب.

ولكن هذا التّفسير ضعيف ، لأنّ النافلة لم تكن تعني (الصلاة المستحبّة) كما نسميها اليوم ، بل تعني الزيادة والإضافة ، ونعلم أنّ صلاة الليل كانت واجبة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذلك فهي إضافية على الفرائض اليومية.

على أية حال في ختام الآية تتوضح نتيجة هذا البرنامج الإلهي الروحاني الرفيع حيث تقول : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

ولا ريب فإنّ المقام المحمود هو مقام مرتفع جدّا يستثير الحمد ، حيث أن (محمود) مأخوذة من (الحمد). وبما أنّ هذه الكلمة وردت بشكل مطلق ، لذا فقد تكون إشارة إلى أنّ حمد الأوّلين والآخرين يشملك.

الرّوايات الإسلامية الواردة عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام أو عن طريق أهل السنة ، تشير إلى أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة الكبرى. فالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أكبر الشفعاء في ذلك العالم ، وشفاعته تشمل الذين يستحقونها.

أمّا الآية التي بعدها فإنّها تشير إلى أحد التعاليم الإسلامية الأساسية والذي ينبع من روح التوحيد والإيمان : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) (١). فأي عمل فردي أو اجتماعي لا أبدؤه إلّا بالصدق ولا أنهيه إلّا بالصدق ، فالصدق والإخلاص والأمانة هي الخط الأساس لبداية ونهاية مسيرتي.

بعض المفسّرين أراد تحديد المعنى الواسع لهذه الآية في مصداق أو مصاديق معنية ، فمثلا قال بعضهم : إنّ الآية تعني الدخول إلى المدينة والخروج

__________________

(١) (مدخل) و (مخرج) هي تعني الإدخال والإخراج ، تؤدي هنا المعنى المصدري.

٨٨

منها إلى مكّة المكرّمة ، أو الدخول إلى القبر والخروج منه يوم البعث ، وأمثال هذه الأمور ، ولكن من الواضح جدا أنّ التعبير القرآني الجامع في الآية الكريمة لا يمكن تحديده ، فهو طلب في الدخول والخروج الصادق من جميع الأمور وفي كل الأعمال والمواقف والبرامج.

وفي الحقيقة فإنّ سر الإنتصار يكمن هنا ، وهذا هو طريق الأنبياء والأولياء الرّبانيين حيث كانوا يتجنّبون كل غش وخداع وحيلة في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم وكل ما يتعارض مع الصدق.

وعادة فإنّ المصائب التي نشاهدها اليوم والتي تصيب الأفراد والمجتمعات والأقوام والشعوب ، إنّما هي بسبب الانحرافات عن هذا الأساس ، ففي بعض الأحيان يكون أساس علمهم قائما على الكذب والغش والحيلة ، وفي بعض الأحيان يدخلون إلى عمل معين بصدق ولكنهم لا يستمرون على صدقهم حتى النهاية. وهذا هو سبب الفشل والهزيمة.

أمّا الأصل الثّاني الذي يعتبر من ناحية ثمرة لشجرة التوحيد ، ومن ناحية أخرى نتيجة للدخول والخروج الصادق في الأعمال ، فهو ما ذكرته الآية في نهايتها : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) لماذا؟ لأنّني وحيد ، والإنسان الوحيد لا يستطيع أن ينجز عملا ، ولا يستطيع أن ينتصر في مقابل جميع هذه المشاكل فيما إذا اعتمد على قوته وحدها ، لذلك فسؤاله من الله تبارك وتعالى ، هو انصرني واجعل لي نصيرا.

أعطني يا إلهي ، لسانا ناطقا ، وأدلة قوية في مقابل الأعداء ، وأتباعا يضحّون بأنفسهم ، وإرادة قوية ، وفكرا وضّاء ، وعقلا واسعا بحيث تقوم كل هذه الأمور بنصرتي ، فغيرك لا يستطيع إعطائي هذه الأشياء كلها.

وبعد أن ذكرت الآيات (الصدق) و (التوكل) جاء بعدها الأمل بالنصر النهائى ، والذي يعتبر بحدّ ذاته عاملا للتوفيق في الأعمال ، إذ خاطبت الآية

٨٩

الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوعد الله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) (١) ، لأنّ طبيعة الباطل الفناء والدمار : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً). فللباطل جولة ، إلّا أنّه لا يدوم والعاقبة تكون لانتصار الحق وأصحابه وأنصاره.

* * *

بحوث

١ ـ صلاة اللّيل عبادة روحية عظيمة

إنّ التأثيرات المختلفة لضوضاء الحياة اليومية تؤثر على الإنسان وعلى أفكاره وتجرّه إلى وديان مختلفة بحيث يصعب معها تهدئة الخاطر ، وصفاء الذهن ، والحضور الكامل للقلب في مثل هذا الوضع. أمّا في منتصف الليل وعند السحر عند ما تهدأ هذه ضوضاء حياتية المادية ، ويرتاح جسم الإنسان ، وتهدأ روحه بعد فترة من النوم ، فإنّ حالة من التوّجه والنشاط الخاص تخالج الإنسان ، في مثل هذا المحيط الهاديء والبعيد عن كل أنواع الرياء ، مع حضور القلب ، يعيش الإنسان حالة خاصّة قادرة على تربيته وتكامل روحه.

لهذا السبب نرى أن عباد الله ومحبيه يتوقون إلى التعبّد منتصف الليل ، لأنّه يزكّي أرواحهم ، ويحيي قلوبهم ، ويقوي إرادتهم ، ويكمل إخلاصهم.

وفي بداية عصر الإسلام كان الرّسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستفيد من هذا البرنامج الروحي في تربية المسلمين ، وكانت يبني شخصياتهم بحيث كانوا يتغيّرون تماما عمّا كانوا عليه في السابق، يعني أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجعل منهم شخصيات جديدة ذات إرادة قوية وشجاعة ، ومؤمنين ذوي إخلاص ونقاء.

وقد يكون (المقام المحمود) الذي ورد ذكره في الآيات أعلاه نتيجة لصلاة

__________________

(١) (زهق) من مادة «زهوق» بمعنى الاضمحلال والهلاك والإبادة ، و (زهوق) على وزن «قبول» صيغة مبالغة وهي تعني الشيء الذي تمت إبادته بالكامل.

٩٠

الليل ، إشارة لهذه الحقيقة.

وعند ما نبحث الرّوايات الواردة في المصادر الإسلامية عن فضيلة صلاة الليل ، نرى أنّها توضح هذه الحقيقة. وعلى سبيل المثال يمكن أن نقف مع هذه النماذج :

١ ـ عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «خيركم من أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلّى بالليل والناس نيام» (١).

٢ – وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، أنّه عليه‌السلام قال : «قيام الليل مصحة للبدن ، ومرضاة للرّب عزوجل ، وتعرّض للرحمة ، وتمسك بأخلاق النّبيين» (٢).

٣ – وعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه أوصى أحد أصحابه بقوله : «لا تدع قيام الليل فإنّ المغبون من حرم قيام الليل» (٣).

٤ – وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من صلّى بالليل حسن وجهه بالنهار» (٤).

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ هذه العبادة (صلاة الليل) على قدر من الأهمية بحيث أنّ غير الطاهرين والمحسنين لا يوفقون إليها.

٥ ـ جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وقال له : إنّي محروم من صلاة الليل ، فأجابه عليه‌السلام : «أنت رجل قد قيدتك ذنوبك» (٥).

٦ ـ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ الرجل ليكذب الكذبة ويحرم بها صلاة الليل ، فإذا حرم بها صلاة الليل حرم بها الرّزق» (٦).

٧ ـ وبالرغم من أننا نعلم أن شخصا مثل علي بن أبي طالب لا يترك صلاة

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٨.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) المصدر السّابق.

(٤) المصدر السّابق.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٨.

(٦) المصدر السّابق.

٩١

الليل أبدا ، ونظرا لأهمية هذه الصلاة نرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصاه بها في جملة من وصاياه له ، إذ قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها ، ثمّ قال : اللهم أعنه ... وعليك بصلاة الليل ، وعليك بصلاة الليل ، وعليك بصلاة الليل!» (١).

٨ – وعن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لجبرئيل عليه‌السلام : عظني ، فقال جبرائيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد ، عش ما شئت فإنّك ميت ، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه ، واعلم أنّ شرف المؤمن صلاته بالليل ، وعزّه كفّه عن أعراض النّاس» (٢).

إنّ هذه الوصايا الملكوتية لجبرائيل تدل على أنّ صلاة الليل تضفي على الإنسان من الإيمان والروحانية وقوة الشخصية ما يكون سببا في شرفه كما أن كفّه الأذى عن الآخرين يكون سببا في عزته.

٩ ـ عن الإمام الصّادق عليه‌السلام قال : «ثلاثة هنّ فخر المؤمن وزينة في الدنيا والآخرة، الصّلاة في آخر الليل ويأسه ممّا في ايدي الناس وو الآية الإمام من آل محمّد».

١٠ ـ عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «ما من عمل حسن يعمله العبد إلّا وله ثواب في القرآن إلّا صلاة الليل ، فإنّ الله لم يبيّن ثوابها لعظيم خطرها عنده فقال : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفا وطمعا (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣).

ولصلاة اللّيل ـ بالطبع ـ آداب كثيرة ، ولكن لا بأس أن نذكر هنا أبسط شكل لها، حتى يستطيع عشاق ومحبّو هذه العبادة الروحية بها والاستفادة منها : وإنّ صلاة الليل تتكون بأبسط صورها من (٨٥) ركعة ، وهي مقسمة إلى ثلاثة أقسام هي :

أ ـ أربع صلوات ، ذات ركعتين ، يكون مجموعها ثماني ركعات وتسمّى

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٦٨.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٦٩.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، ص ١٤٠.

٩٢

(نافلة الليل).

ب ـ صلاة واحدة ذات ركعتين ، وتسمّى ب (الشفع).

ج ـ صلاة واحدة ذات ركعة واحدة ، وتسمّى ب (الوتر).

أمّا طريقة أداء هذه الصلاة فهي لا تختلف عن صلاة الصبح ، إلّا أنّها لا تحتوي على الأذان والإقامة ، والأفضل إطالة قنوت ركعة الوتر (١).

٢ ـ ما هو المقام المحمود؟

المقام المحمود ـ كما هو واضح من اسمه ـ له معنى واسع بحيث يشمل كل مقام يستحق الحمد ، ولكن من المسلّم بأن المقصود به هنا ، هو الإشارة إلى المقام الممتاز والخاص الذي اختص به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبسبب عباداته الليلية ودعائه في وقت السحر.

والمعروف بين المفسّرين ـ كما قلنا سابقا ـ أنّ هذا المقام هو مقام الشفاعة الكبرى للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذا التّفسير ورد في روايات متعدّدة ، ففي تفسير العياشي عن الإمام الصادق أو الباقر عليهما‌السلام ، نقرأ في تفسير قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) أنّه قال : «هي الشّفاعة».

وقد حاول بعض المفسّرين الوصول إلى هذه الحقيقة من مفهوم الآية نفسها ، فهم يعتقدون أنّ جملة (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ) دليل على أنّ الله سوف يعطيك هذا المقام في المستقبل. المقام الذي سوف يحمده الجميع ، لأنّ فائدته سوف تنال الجميع (لأنّ محمود في الجملة أعلاه جاءت مطلقة غير مقيدة بشرط). إضافة إلى ذلك فإنّ الحمد في مقابل عمل معين هو أمر اختياري ، والشيء الذي يحتوي على جميع هذه الصفات لا يمكن أن يكون سوى الشفاعة الكبرى والعامّة

__________________

(١) بعض الفقهاء يحتاطون بعدم قراءة القنوت في ركعتي الشفع أو قراءتها بأمل الرجاء.

٩٣

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وهناك احتمال أن يكون المقام المحمود هو أقصى القرب من الخالق عزوجل ، والذي تكون إحدى آثاره هي الشفاعة الكبرى. (فتأمل ذلك).

وبالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية ـ ظاهرا ـ هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه يمكن تعميم الحكم والقول بأنّ جميع الأشخاص المؤمنين الذين يقومون ببرنامج التلاوة وصلاة الليل لهم نصيب في هذا المقام المحمود ، وسوف يقتربون من الساحة الإلهية بمقدار إيمانهم وعملهم ، وبنفس المقدار سوف يقيمون بالشفاعة للآخرين.

إنّنا نعلم أنّ أي مؤمن وبمقدار إيمانه له نصيب من مقام الشفاعة ، إلّا أنّ المصداق الأتم والأكمل لهذه الآية هو شخص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣ ـ العوامل الثّلاثة للانتصار

في ميادين الصراع بين الحق والباطل يكون جيش الباطل ـ عادة ـ ذا عدّة وعدد أكثر ، إلّا أن جيش الحق ـ بالرغم من قلّة أفراده ووسائله الظاهرية ـ يحصل على انتصارات عظيمة. ويمكن مشاهدة نماذج من ذلك في غزوات بدر والأحزاب وحنين ، وفي عصرنا الحاضر يمكن مشاهدة ذلك في الثورات المنتصرة للأمم المستضعفة في مقابل الدول المستكبرة.

وهذا الأمر يكون سبب تحلّي أنصار الحق بقوّة معنوية خاصّة بحيث تصنع من (الإنسان) أمّة. وفي الآيات أعلاه تمت الإشارة إلى ثلاثة عوامل للانتصار ، العوامل التي ابتعد عنها مسلمو اليوم ، ولهذا السبب نرى هزائمهم المتكرّرة في مقابل الأعداء والمستكبرين.

والعوامل الثلاثة هي : الدخول الصادق والخالص في الأعمال ، والاستمرار

__________________

(١) الميزان ، ج ١ ، ص ١٧٨.

٩٤

على هذه الحالة الصادقة حتى النهاية (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ). ثمّ الاعتماد على قدرة الخالق جلّ وعلا ، والاعتماد على النفس ، وترك أي اعتماد أو تبعية للأجانب (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً).

وبهذا الشكل فليست هناك أية سياسية تؤثر في الإنتصار كما في الصدق والإخلاص، ليس هناك أي اعتماد أفضل من الاعتماد على الخالق والاستقلال وعدم التبعية.

كيف يريد المسلمون أن ينتصروا على الأعداء الذين قاموا بغصب أراضيهم وصادروا مصادرهم الحياتية في حين أنّهم مرتبطون بأعدائهم في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية؟ هل نستطيع أن ننتصر على العدو بواسطة السلاح الذي نشتريه منه؟

٤ ـ حتمية انتصار الحق وهزيمة الباطل

نواجه في الآيات أعلاه أصلا تاما ، وأساسا آخر ، وسنة إلهية خالدة تزرع الأمل في قلوب أنصار الحق ، هذا الأصل هو أنّ عاقبة الحق الإنتصار ، وعاقبة الباطل الاندحار، وأنّ للباطل صولة وبرق ورعد ، وله كر وفر ، إلّا أن عمره قصير ، وفي النهاية يكون مآله السقوط والزوال .. الباطل كما يقول القرآن : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (١).

والدليل على هذا الموضوع كامن في باطن كلمة الباطل ، حيث أنّه لا يتفق مع القوانين العامّة للوجود ، وليس له من رصيد من الواقعية والحقيقة.

إنّ الباطل شيء مصنوع ومزوّر ، ليست له جذور ، أجوف ، والأشياء التي لها صفات كهذه ـ عادة ـ لا يمكنها البقاء طويلا.

أمّا الحق فله أبعاد وجذور متناسقة مع قوانين الخلق والوجود ، ومثله ينبغي

__________________

(١) الرعد ، ١٧.

٩٥

أن يبقى.

أنصار الحق يعتمدون سلاح الإيمان ، منطقهم الوفاء بالعهد ، وصدق الكلام ، والتضحية ، وهم مستعدون أن يضحوا بأنفسهم والاستشهاد في سبيل الله ، قلوبهم منوّرة بنور المعرفة ، لا يخافون أحدا سوى الله ، ولا يعتمدون إلّا عليه ، وهذا هو سر انتصارهم.

٥ ـ آية جاء الحق ... وقيام المهدي عليه‌السلام

في بعض الرّوايات تمّ تفسير قوله (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) بقيام دولة المهديعليه‌السلام، فالإمام الباقر يبيّن أنّ مفهوم الكلام الإلهي هو : «إذا قام القائم ذهبت دولة الباطل» (١).

وفي رواية أخرى نقرأ أنّه حينما ولد المهدي عليه‌السلام كان مكتوبا على عضده قوله تعالى (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٢).

إنّ مفهوم هذه الأحاديث لا يحصر المعنى الواسع للآية بهذا المصداق ، بل إنّ ثورة المهدي عليه‌السلام ونهضته هي من أوضح المصاديق حيث تكون نتيجتها الإنتصار النهائي للحق على الباطل في كل العالم.

وبالنسبة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل في يوم فتح مكّة ، المسجد الحرام وحطم (٣٦٠) صنما كانت لقبائل العرب ، وكانت موضوعة حول فناء الكعبة، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحطمها الواحد تلو الآخر بعصاه ، وهو يقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

وخلاصة القول : إنّ حقيقة انتصار الحق وانهزام الباطل هي تعبير عن قانون عام يجري في مختلف العصور ، وانتصار الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الشرك والأصنام ،

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢١٢ و ٢١٣.

(٢) المصدر السّابق.

٩٦

ونهضة المهدي عليه‌السلام الموعودة وانتصاره على الظالمين في العالم ، هما من أوضح المصاديق لهذا القانون العام.

وهذا القانون يبعث الأمل في نفوس أهل الحق ، ويعطيهم القوة على مواجهة مشاكل الطريق في عملهم ومسيرهم الإسلامي.

* * *

٩٧

الآية

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢))

التّفسير

القرآن وصفة للشفاء

الآية التي نبحثها الآن تشير إلى التأثير الكبير للقرآن الكريم ودوره البنّاء في هذا المجال حيث تقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أمّا الظالمون فإنّهم بدلا من أن يستفيدوا من هذا الكتاب العظيم ، فإنّهم يتمسكون بما لا ينتج لهم سوى الذل والهوان (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

* * *

بحوث

١ ـ مفهوم كلمة (من) في (مِنَ الْقُرْآنِ)

نعرف أنّ كلمة (من) في مثل هذه الموارد تأتي للتبعيض ، إلّا أنّ الشفاء والرحمة لا تخص قسما من القرآن ، بل هي صفة لكل آياته ، لذا فإنّ كبار المفسّرين يميلون إلى اعتبار (من) هنا بيانية. ولكن البعض احتمل أن تكون

٩٨

تبعيضية كذلك ، وهي بذلك تشير إلى النزول التدريجي للقرآن ـ خاصّة وأنّ (ننزل) فعل مضارع ـ لذا فإنّ معنى الجملة يكون : (إنّنا ننزل القرآن وكل قسم ينزل منه ، هو بحدّ ذاته ولوحده يعتبر شفاء ورحمة) (فتدبرّ جيدا).

٢ ـ الفرق بين الشّفاء والرّحمة

إنّ (الشفاء) هو في مقابل الأمراض والعيوب والنواقص ، لذا فإنّ أوّل عمل يقوم به القرآن في وجود الإنسان هو تطهيره من أنواع الأمراض الفكرية والأخلاقية الفردية منها والجماعية.

ثمّ تأتي بعدها مرحلة (الرحمة) وهي مرحلة التخلّق بأخلاق الله ، وتفتّح براعم الفضائل الإنسانية في أعماق الأفراد الذين يخضعون للتربية القرآنية.

بعبارة أخرى : إنّ الشفاء إشارة إلى (التطهير) و (الرحمة) إشارة إلى (البناء الجديد). أو بتعبير الفلاسفة والعارفين ، فإنّ الأولى تشير إلى مقام (التخلية) بينما الثّانية تشير إلى مقام (التحلية).

٣ ـ الظّالمون ونصيبهم من القرآن

ليس في هذه الآية القرآنية وحسب ، بل في الكثير من الآيات الأخرى ، نقرأ أنّ الظالمين يزداد جهلهم وبؤس حالهم ، بدل الاستفادة من نور الآيات الإلهية!!

إنّ ذلك يعود إلى أنّ وجودهم قائم بالأساس على قواعد الكفر والظلم والنفاق ، لذلك فإنّهم أين ما يجدون الحق يحاربونه ، وهذه الحرب للحق وأهله تزيد فى بؤسهم وتقوي روح الطغيان والتمرّد عندهم.

فإذا أعطينا ـ مثلا ـ وجبة طعام متكاملة لعالم مجاهد ، فإنّه سيستفيد من تلك الطاقة لأجل التربية والتعليم والجهاد في طريق الحق ، أمّا إذا أعطينا نفس وجبة الطعام هذه إلى شخص ظالم ، فأنّه سيستفيد من هذه الطاقة في تموين قدرة الظلم

٩٩

لديه أكثر ، وهذا المثال يكشف عن أنّه لا يوجد اختلاف في المادة الإلهية نفسها (المعنى هنا القرآن الكريم) بل الاختلاف في أمزجة وأفكار واستعداد الإنسان المتلقي.

فالآيات القرآنية طبقا للمثال ، هي كقطرات الماء التي تكون سببا في إنبات الورود في البساتين ، بينما تنبت الأشواك في الأرض السبخة.

ولهذا السبب ينبغي أن تتهيأ مسبقا الأرضية حتى تتم الاستفادة من القرآن ، إضافة إلى أنّ فاعلية الفاعل يشترط فيها قابلية المحل كما يصطلح.

وهنا تتّضح الإجابة على السؤال الذي يقول : كيف لا يهدي القرآن أمثال هؤلاء الأشخاص في حين أنّه كتاب هداية؟ إذ لا ريب أنّ القرآن قادر على هداية الضالين ، ولكن بشرط أن يبحث هؤلاء عن الحق ، ويكونوا في مستوى قبوله والإذعان له. أمّا واقع المعاندين وأعداء الحق فإنّه يكشف عن تعامل هؤلاء سلبيا مع القرآن ، ولذلك لا يستفيدون من القرآن ، بل يزداد عنادهم وكفرهم ، لأنّ تكرار الذنب يكرس في روح الإنسان حالة الكفر والعناد.

٤ ـ القرآن دواء ناجع لكل الأمراض الاجتماعية والأخلاقية

إنّ الأمراض الروحية والأخلاقية لها شبه كبير بالأمراض الجسمية للإنسان ، فالإثنان يقتلان ، والاثنان يحتاجان إلى طبيب وعلاج ووقاية ، والاثنان قد يسريان للآخرين ، ويجب في كل منهما معرفة الأسباب الرئيسة ثمّ معالجتها.

وفي كل منهما قد يصل الحال بالمصاب الى عدم امكانية العلاج ، ولكن في أكثر الأحيان يتم علاجها والشفاء منها ، إلّا أنّ العلاج قد لا ينفع في أحيان أخرى.

إنّه شبه جميل وذو معاني متعدّدة ؛ فالقرآن يعتبر وصفة شفاء للذين يريدون محاربة الجهل والكبر والغرور والحسد والنفاق ... القرآن وصفة شفاء لمعالجة الضعف والذّلة والخوف والاختلاف والفرقة. وكتاب الله الأعظم وصفة شفاء

١٠٠