الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

بأنّنا سنذهب إلى مكّة هذا العام ، بل في المستقبل القريب. (وهذا ما حصل بالفعل).

الاعتراض الذي يمكن أن يرد على هذا التّفسير ، هو أنّ سورة بني إسرائيل من السور المكّية ، بينما حادثة الحديبية وقعت في العام السّادس للهجرة المباركة!!

ج : مجموعة من المفسّرين الشيعة والسنة ، نقلوا أنّ هذه الرؤيا إشارة للحادثة المعروفة والتي رأى فيها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام أن عددا من القرود تصعد منبره وتنزل منه (تنزو على منبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقد حزن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا لهذا الأمر بحيث لم ير ضاحكا من بعدها إلّا قليلا (وقد تمّ تفسير هذه القرود التي تنزو على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببني أمية الذين جلسوا مكان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواحد تلو الآخر ، يقلّد بعضهم بعضا ، وكانوا ممسوخي الشخصية ، وقد جلبوا الفساد للحكومة الإسلامية ، وخلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ونقل هذه الرّواية (الفخر الرازي) في التّفسير الكبير ، و (القرطبي) في تفسيره الجامع و (الطبرسي) في مجمع البيان ، وغيرهم.

ويقول الفيض الكاشاني في تفسير الصافي ، بأنّ هذه الرّواية من الرّوايات المعروفة في أوساط العامّة والخاصّة.

ثمة إشارة نلاحظ فيها ، إنّ التفاسير الثلاثة هذه في «الرؤيا» من الممكن أن تشترك جميعا في تفسير الآية ، ولكن التّفسير الثّاني كما أشرنا ـ لا ينطبق مع مكّية السورة. وبالنسبة للمقصود من الشجرة الملعونة فقد واجهتنا أيضا مجموعة من التفاسير التي يمكن أن نجمل القول بها في الآراء الآتية :

أ: الشجرة الملعونة التي ورد ذكرها في القرآن هي (شجرة الزقوم) وهي الشّجرة التي تنمو في الجحيم طبقا للآية (٦٤) من سورة الصافات في قوله تعالى (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) ولهذه الشجرة طعم مج ومؤذ ، وثمارها طعام

٤١

للمذنبين طبقا للآيات ٤٣ ـ ٤٦ من سورة الدخان (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ، طَعامُ الْأَثِيمِ ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) وطعامها ليس كطعام الدنيا بل يشبه المعدن المذاب بالحرارة والذي يغلي في الأحشاء. وسيرد تفسيرها بشكل كامل في تفسير الآيات من سورة الدخان إن شاء الله.

إنّ شجرة الزقوم ـ بدون شك ـ لا تشبه أشجار الدنيا أبدا ، ولهذا السبب فإنّها تنمو في النار ، وطبيعي أنّنا لا ندرك هذه الأمور المتعلقة بالعالم الآخر إلّا على شكل أشباح وتصورات ذهنية.

لقد استهزأ المشركون بهذه التعابير والأوصاف القرآنية بسبب من جهلهم وعدم معرفتهم وعنادهم ، فأبو جهل ـ مثلا ـ كان يقول : إنّ محمّدا يهددكم بنار تحرق الأحجار، ثمّ يقول بعد ذلك بأنّ في النار أشجارا تنمو!

وينقل عن أبي جهل ـ أيضا ـ أنّه كان يهيئ التمر والسمن ويأكل منه ثمّ يقول لأصحابه : كلوا من هذا فإنّه الزقوم. (نقلا عن روح المعاني في تفسير الآية).

لهذا السبب فإنّ القرآن يعتبر الشجرة الملعونة في الآيات التي نبحثها ، وسيلة لاختبار الناس ، إذ كان المشركون يستهزئون بها ، بينما استيقنها المؤمنون الحقيقيون الذين كانوا يؤمنون بها.

ويمكن أن يطرح على هذا التّفسير السؤال الآتي : إنّ شجرة الزقوم لم تطرح في القرآن بعنوان الشجرة المعلونة؟

في الإجابة على ذلك نقول : يمكن أن يكون المقصود هو اللعن آكليها. بالإضافة إلى ذلك إنّه ما من شيء بعد رحمة الله سوى اللعن ، وطبيعي جدا أنّ مثل هذه الشجرة بعيدة جدّا عن رحمة الله.

ب : الشجرة الملعونة ، هم اليهود البغاة ، إذ أنّهم يشبهون الشجرة ذات الفروع والأوراق الكثيرة ، ولكنّهم مطرودون من مقام الرحمة الإلهية.

ج : جاء في الكثير من تفاسير الشيعة والسنة أنّ الشجرة الملعونة هم بنو

٤٢

أمية.

ينقل الفخر الرازي في تفسيره رواية في هذا المجال عن ابن عباس الذي أدرك الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتهر في التاريخ الإسلامي بكونه مفسرا للقرآن الكريم.

هذا التّفسير يتلاءم من جهة مع الرّواية التي ذكرناها أعلاه بخصوص رؤيا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أيضا يتلاءم مع الحديث المنقول عن عائشة والتي التفتت فيه إلى مروان وقالت له : «لعن الله أباك وأنت في صلبه ، فأنت بعض من لعنه الله» (١).

ولكن مرّة أخرى يطرح هذا السؤال : في أي مكان من القرآن تمّ لعن بني أمية باعتبارهم الشجرة الخبيثة؟

في الجواب نقول : لقد تمّ ذلك في الآية (٢٦) من سورة إبراهيم عند الحديث عن الشجرة الخبيثة (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ). وذلك للمفهوم الواسع للشجرة الخبيثة ، ولما ورد من روايات في تفسيرها بأنّ المقصود منها هم بنو أميّة ، ثمّ إنّ (الخبيثة) تقترن من حيث المعنى ب (الملعونة) (٢).

وجدير بالذكر هنا ، أنّ الكثير من هذه التّفاسير أو كلّها لا تتعارض فيما بينها ، ومن الممكن أن تكون (الشجرة الملعونة) في القرآن إشارة إلى أي مجموعة منافقة وخبيثة ومطرودة من رحمة الله تعالى ومقام الربوبية ، خصوصا تلك المجاميع مثل بني أمية واليهود قساة القلب ، والمعاندين وكل الذين يسيرون على خطاهم. وشجرة الزقوم في القيامة تمثل الأشجار الخبيثة في العالم الآخر ، وكل هذه الأشجار الخبيثة (المجاميع المعنية) هي لاختبار وتمحيص المؤمنين الصادقين في الحياة الدنيا.

إنّ اليهود الذين سيطروا اليوم ـ زورا وغصبا ـ على المقدسات الإسلامية

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد السّادس ، ص ٣٩٠٢ ؛ وتفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٠ ، ص ٢٣٧.

(٢) يراجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثاني ، ص ٥٣٨.

٤٣

والذين يشعلون نار الفتنة والحرب في كل زاوية من زوايا العالم ، ويفتعلون العديد من الجرائم والمظالم بحق الشعوب ، إضافة إلى المنافقين الذين يتعاملون معهم تعاملا سياسيا وغير سياسي، وكذلك كل المتسلطين الذين يسيرون على خطى بني أمية في البلاد الإسلامية ، ويقفون ضدّ الإسلام ، ويبعدون المخلصين والمؤمنين من حركه المجتمع ، ويقومون بتسليط المجرمين والخبثاء على رقاب الناس ، ويقتلون أهل الحق والمجاهدين ، ويفتحون المجال لبقايا الجاهلية في استلام الأمور والتحكّم بالمقدرات ... إنّ هؤلاء جميعا هم فروع وأغصان وأوراق هذه الشجرة الخبيثة المعلونة ، وهم علامات اختبار ومواقع امتحان للمؤمنين ولعامّة الناس في هذه الحياة الدنيا.

٢ ـ أعذار منكري الإعجاز

إنّ بعض الجهلة والغافلين في عصرنا الحاضر ، يقولون : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن لديه من معجزة سوى القرآن الكريم ، ويقدمون مختلف الحجج من أجل إثبات أقوالهم ودعاواهم ، وممّا يحتجون به قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) حيث يعتبرونها دليلا على أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأت بمعجزة ، بخلاف باقي الأنبياء السابقين.

ولكن العجيب في أمر هؤلاء أنّهم التزموا بأوّل الآية وتركوا آخرها ، حيث تقول نهاية الآية (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) هذا التعبير القرآني يوضح أنّ المعجزات تقع على نوعين :

القسم الأوّل : المعجزات التي لها ضرورة لإثبات صدق دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتشوق المؤمنين ، وتخوّف المنكرين للنّبوة.

القسم الثّاني : المعجزات التي لها جانب اقتراحي ، أي إنّها تصدر من اقتراحات المعاندين وتنطلق من أمزجة ذوي الأعذار ، وفي تأريخ الأنبياء

٤٤

نماذج عديدة لهذه المعجزات ، التي وقع بعضها فعلا ، إلّا أنّ المنكرين والذين سبق لهم اقتراح هذه المعجزات كشرط لإيمانهم ، بقوا على إنكارهم ولم يؤمنوا بعد وقوع المعجزة ، لذلك أصيبوا بالبلاء والعذاب الإلهي. (لأنّه وقعت المعجزة المقترحة ولم يؤمن بها من اقترحها وطلبها فإنّه سيستحق العقاب الإلهي السريع).

بناء على ذلك ، فما نشاهده في الآية أعلاه والتي تخص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هي نفي للنوع الثّاني من المعجزات ، وليس للنوع الأوّل ، الذي يعتبر ملازما للنّبوة وضروريا لها.

صحيح أنّ القرآن يعتبر لوحده معجزة خالدة ، ويمكنه لوحده اثبات دعوى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إذا لم تكن معه معجزة أخرى) ، ولكن ـ بدون شك ـ فإنّ القرآن يعتبر معجزة معنوية ، وهو أفضل شاهد بالنسبة لأهل الفكر ، ولكن لا يمكن إنكار أهمية أن تكون مع هذه المعجزة ، معجزات مادية محسوسة بالنسبة للأفراد العاديين وعموم الناس ، خاصّة وأن القرآن يتحدث مرارا عن مثل هذه المعجزات التي وقعت للأنبياء السابقين ، وهذا الحديث يعتبر ـ بحدّ ذاته ـ سببا في أن يطالب الناس رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتقديم المعجزات التي تقع على منوال معجزات الأنبياء السابقين ، خصوصا وأنّ الناس كانوا يقولون لرسول الإسلام : كيف تدعي بأنّك أفضل الأنبياء وخاتمهم ولا تستطيع أن تقدّم لنا أصغر معجزة من معجزاتهم. (!!!)؟

إنّ أفضل جواب لهذا التساؤل هو مجيء رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنماذج من معجزات الأنبياء السابقين ، والتواريخ الإسلامية المتواترة تؤكّد بأنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جاء بمثل هذه المعجزات.

ففي القرآن تواجهنا نماذج لهذه المعجزات ، مثل التنبؤ بحوادث مختلفة ، أو نصرة الملائكة لجيش الإسلام على الأعداء ، وأمور خارقة أخرى لا سيما ما كان يقع في الحروب الإسلامية.

٤٥

٣ ـ ما العلاقة بين المنكرين سابقا والمنكرين لا حقا؟

قد يطرح أحيانا هذا السؤال حيث يبيّن القرآن ـ في الآيات أعلاه ـ أنّ السابقين اقترحوا معجزات معيّنة ثمّ لم يؤمنوا بعد وقوعها ، بل استمروا في تكذيبهم وإنكارهم وعنادهم، لذا فقد أصبح هذا سببا لعدم إجابة مقترحاتكم.

والسؤال هنا : هل أنّ تكذيب السابقين يكون سببا لحرمان الأجيال اللاحقة ، أي كيف يؤخذ هؤلاء بجريرة أولئك؟

الجواب على هذا السؤال واضح من خلال ما ذكرناه أعلاه ، حيث يسود هذا التعبير ويروج في أوساطنا ، إذ نقول ـ مثلا ـ لأحدهم : لا نستطيع أن نسلّم بحججك ، فإذا سأل الطرف الآخر : لماذا؟ فإنّنا نقول له : إنّ هناك سوابق كثيرة لهذا العمل ، فهناك من قدّم اقتراحات إلّا أنّهم لم يستسلموا للحق لما جاءهم ، لذا فإنّ وضعكم وظروفكم تشابه أولئك. إضافة لذلك ، فإنّكم توافقون أولئك الأقوام على أساليبهم ، بل وتدعمونها ، وأثبتم عمليا أنّكم لا ترغبون في البحث عن الحق والحقيقة ، بل إنّ هدفكم هو مجرّد العناد والتحجج والبقاء في طور المعاذير ، ثمّ تتبعون ذلك كلّه بالعناد والمكابرة والإنكار ، لذا فإنّ الرضوخ إلى مقترحاتكم وإجابتها لا معنى له.

فهؤلاء القوم ـ مثلا ـ عند ما أخبرهم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ أهل النّار يأكلون من شجرة تسمّى (زقوم) وتخرج في أصل الجحيم ولها أوصاف معينة ، بدأوا بالسخرية والاستهزاء ـ كما ذكرنا سابقا ـ فالبعض منهم كان يقول : إنّ الزقوم هو التمر والسمن ، وبعض كان يقول : كيف تنمو الأشجار في الجحيم المستعر من الحجارة؟ في حين أن المعنى واضح ولا يحتاج إلى مثل هذه المكابرة والعناد ، إذ أنّ الشجرة المقصودة لا تشبه أشجار هذه الدنيا.

* * *

٤٦

الآيات

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

التّفسير

مكر إبليس :

هذه الآيات تشير إلى قضية امتناع إبليس عن إطاعة أمر الله في السجود لآدمعليه‌السلام،والعاقبة السيئة التي انتهى إليها.

إنّ طرح هذه القضية بعد ما ذكر عن المشركين المعاندين هو إشارة ـ في

٤٧

الواقع ـ إلى أنّ الشيطان يعتبر نموذجا كاملا للاستكبار والكفر والعصيان. ثمّ انظروا إلى أين وصلت عاقبته ، لذا فإنّ من يتبعه سيصير إلى نفس العاقبة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ إصرار الضالين عميان القلوب على مخالفة الحق ، لا يعتبر مدعاة للعجب والدهشة ، لأنّ الشيطان استطاع ـ وفقا لما يستفاد من هذه الآيات ـ أن يغويهم بواسطة عدّة طرق ، وفي الواقع حقق فيهم قولته (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).

الآية تقول : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ). لقد قلنا سابقا في نهاية الآيات الخاصّة بخلق آدم عليه‌السلام : إنّ هذه السجدة التي أمر الله تعالى بها هي في الحقيقة نوع من الخضوع والتواضع بسبب عظمة خلق آدم عليه‌السلام وتميزه عن سائر الموجودات ، أو هي سجود للخالق جلّ وعلا في قبال خلقه لهذا المخلوق المتميز.

وقلنا هناك أيضا : إنّ إبليس وبرغم ذكره هنا ـ استثناء ـ مع الملائكة ، إلّا أنّه ـ بشهادة القرآن ـ لم يكن من الملائكة ، بل كان مخلوقا ماديا ومن الجن ، وقد أصبح في صف الملائكة بسبب عبادته لله.

على كل حال ، فقد سيطر الكبر والغرور على إبليس وتحكّمت الأنانية في عقله ، ظنا منه بأنّ التراب والطين اللذان يعتبران مصدرا لكل الخيرات ومنبعا للحياة أقل شأنا وأهمية عن النّار ، لذا اعترض على الخالق جلّ وعلا وقال : (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً).

ولكنّه عند ما طرد ـ إلى الأبد ـ من حضرة الساحة الإلهية بسبب استكباره وطغيانه في مقابل أمر الله له ، قال : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً). (١)

__________________

(١) ذهب المفسّرين إلى إنّ حرف الكاف في كلمة (أرأيتك) زائد ، أو هو حرف للخطاب وقد جاء للتأكيد ، وجملة

٤٨

«أحتنكن» مشتقّة من «احتناك» وهي تعني قطع جذور شيء ما ، لذا فعند ما يأكل الجراد المزروعات تقول العرب : احتنك الجراد الزرع ، لذا فإنّ هذا القول يشير إلى أن إبليس سيحرف كل بني آدم عن طريق الله وطاعته ، إلّا القليل منهم.

ويحتمل أن تكون كلمة (احتنكن) مشتقة من (حنك) وهي المنطقة التي تحت البلعوم ، فعند ما يوضع الحبل في رقبة الحيوان تقول العرب (احتنك الدابة) ، وفي الواقع ، فإنّ الشيطان يريد أن يقول بأنّه سيضع حبل الوسوسة في أعناق الناس ويجرهم إلى طريق الغواية والضلال.

وهكذا كان ، فقد أعطي الشيطان إمكانية البقاء والفعالية حتى يتحقق الاختبار للجميع ، ويكون وجوده سببا لتمحيص واختبار المؤمنين الحقيقيين لأنّ الإنسان يشتدّ عزمه عند ما تهاجمه الحوادث ويقوى عوده في مواجهة الأعداء ، لذلك قالت الآية : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً). وبهذه الوسيلة للاختبار ينكشف الفاشل من الناجح في الامتحان الإلهي الكبير.

ثمّ ذكرت الآيات بعد ذلك ـ بأسلوب جميل ـ الطرق التي ينفذ منها الشيطان والأساليب التي يستخدمها في الوسوسة والإغواء فقالت :

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ...)

(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ...)

(وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ...)

(وَعِدْهُمْ ...)

ثمّ يجيء التحذير الإلهي : (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً ...)

__________________

(أرأيتك) بمعنى (أخبرني) جوابها محذوف وتقديرها (أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ ، لم كرمته عليّ وقد خلقتني من نار؟). ولكن هناك احتمال آخر ، وهو أنّ (أرأيت) هي في نفس معناها الأصلي ولا يوجد محذوف في الجملة ، وبشكل عام تعطي هذا المعنى : هل لاحظت هذا الموجود الذي فضلته عليّ ، فإذا أبقيتني على قيد الحياة سترى بأنّي سأضل أكثر أبنائه. (احتمال الثّاني أوفق في تركيب الآية ومعناها).

٤٩

ثمّ اعلم أيّها الشيطان : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ... وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).

* * *

بحوث

١ ـ في معاني الكلمات

«استفزز» مشتقة من «استفزاز» وهي تعني الإثارة ؛ الإثارة السريعة والعادية ، ولكنّ الكلمة في الأصل تعني قطع شيء ما ، فالعرب تقول «تفزّز الثوب» إذا تقطّع أو انفصلت منه قطعة.

واستعمال هذه الكلمة هنا للدلالة على تحريك الشخص وإثارته لينقطع عن الحق يتوجه نحو الباطل.

«اجلب» مأخوذ من «إجلاب» وفي الأصل من «جلبة» وهي تعني الصرخة الشديدة ، والإجلاب تعني الطرد مع الأصوات والصرخات. وأمّا النهي عن «الجلب» الوارد في الرّوايات فهو إمّا أن يعني أنّ الذي يذهب إلى المزارع لجمع الزكاة يجب عليه أن لا يصيح ويصرخ بحيث يخيف الأحياء ، أو أنّه يعني أنّ على المتسابقين عند سباق الخيل أن لا يصرخوا في وجوه الخيل الأخرى لتكون لهم الأسبقية.

«خيل» لها معنيان ، فهي تعني «الخيول» وأيضا تعني (الخيالة) ، أمّا في هذه الآية فقد وردت للتدليل على المعنى الثّاني.

أمّا «رجل» فهي تعني معكوس (الخيالة) أي (جيش الرجّالة والمشاة) وبهذا يتكون جيش الشيطان من (الخيالة والرجّالة) من جنسه أو من غير جنسه ، وهذا يعني أنّ البعض يتأثر بسرعة بغواية الشيطان ويصبح من أعوانه ومساعديه

٥٠

فهؤلاء كالخيّالة. أمّا البعض الآخر فيتأثر ببطء وعلى مهل كالمشاة والرجّالة (١)!

٢ ـ وسائل الشيطان المختلفة في الوسوسة والإغواء

بالرغم من أنّ المخاطب في الآيات أعلاه هو الشيطان ، وأنّ الله جلّ جلاله يتوعده ويقول له : افعل كل ما تريده في سبيل غواية الناس ، واستخدم كل طرقك في ذلك ، إلّا أنّ هذا الوعيد ـ في الواقع ـ هو تهديد وتنبيه لنا نحن بني الإنسان حتى نعرف الطرق التي ينفذ منها الشيطان والوسائل التي يستخدمها في وساوسه وإغوائه.

الطريف في الأمر أنّ الآيات القرآنية أعلاه تشير إلى أربعة طرق وأساليب مهمّة وأساسية من أساليب الشيطان ، وتقول للإنسان : عليك بمراقبة نفسك من خلال الجوانب الأربعة هذه :

أ: البرامج التبليغية التي تجد دلالتها في التعبير القرآني (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) حيث اعتبر بعض المفسّرين أنّها تعني ـ فقط ـ أنغام الموسيقي الشهوانية المثيرة ، والأغاني المبتذلة ، ولكن هذا المعنى يتسع حتى يشمل جميع البرامج الدعائية التي تقود للانحراف والتي تستخدم ـ عادة ـ الأجهزة الصوتية والسمعية.

لهذا فإنّ أوّل برامج الشيطان هو الاستفادة من هذه الأجهزة. هذه القضية تتوضح في زماننا هذا أكثر ، لأنّ عالمنا اليوم هو عالم الأمواج الراديوية ، وعالم الدعاية والتبليغ الواسع ، سواء كان على الصعيد السمعي أو البصري. حيث أنّ الشياطين وأحزابهم في الشرق والغرب يعتمدون على هذه الأجهزة ويخصصون قسما كبيرا من ميزانيتهم للصرف في هذا الطريق حتى يستعمروا عبيد الله ، ويحرفوهم عن طريق الحق والاستقلال ، ويزيغوا بهم عن طريق الهداية والإيمان

__________________

(١) في معاني المفردات تراجع مفردات الراغب ، ومجمع البيان.

٥١

والتقوى ، ويجعلون منهم عبيدا تابعين لا حول لهم ولا قوة.

ب : الاستفادة من القوة العسكرية : وهذا لا يخص زماننا حيث أنّ الشياطين يستخدمون القوّة العسكرية لأجل الحصول على مناطق للنفوذ. إنّ الأداة العسكرية تعتبر أداة خطرة لكل الظالمين والمستكبرين في العالم. فهؤلاء وفي لحظة واحدة يصرخون في قواتهم العسكرية ويرسلونها إلى المناطق التي تحاول الحصول على حريتها واستقلالها وتسعى إلى الاعتماد بقوات على قدراتها الخاصّة.

وفي عصرنا الحاضر نرى أنّهم نظّموا ما يسمونه بقوات (التدخل السريع) والذي هو نفس مفهوم (الإجلاب) القرآني ، وهذا يعني أنّهم جعلوا جزءا من قواتهم العسكرية على شكل قوات خاصّة كي يستطيعوا إرسالها في أسرع وقت إلى أي منطقة من مناطق العالم تتعرض فيها مصالحهم غير المشروعة للخطر ، لكي يقضوا بواسطة هذه القوات على أي حركة تطالب بالحق وتنادي بالاستقلال.

وقبل أن تصل القوات السريعة الخاصّة هذه ، يكون هؤلاء قد هيأوا الأرضية بواسطة جواسيسهم الماهرين ، والذين هم في الواقع كناية عن جيش المشاة (الرجّالة).

إنّ هؤلاء في مخططاتهم هذه قد غفلوا عن أنّ الله سبحانه وتعالى قد وعد أولياءه الحقيقيين ـ في نفس هذه الآيات ـ بأنّ الشيطان وجيشه لا يستطيع أن يسيطر عليهم.

ج : البرامج الاقتصادية ذات الظاهر الإنساني : من أساليب الشيطان الأخرى المؤثرة في النفوذ والغواية ، هي المشاركة في الأموال والأنفس ، وهنا نرى أيضا : أنّ بعض المفسّرين يخصص هذه المشاركة ب (الربا). أمّا المشاركة في الأولاد فيحصر معناها بـ «الأولاد غير الشرعين» (١).

__________________

(١) وردت روايات متعدّدة في أنّ مشاركة الشيطان في الأولاد تعني الأبناء غير الشرعيين ، أو المنعقدة نطفتهم من مال حرام ، أو انعقاد النطفة في لحظة غفلة الوالدين عن الخالق ، ولكن ـ كما قلنا مرّات ـ إنّ هذه التفاسير تبيّن جانبا من المصداق الواضح وهي ليست دليلا على حصر المعنى. (راجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ١٨٤).

٥٢

في حين أنّ هاتين الكلمتين لهما معاني أوسع ، إذ تشمل جميع الأموال المستحصلة عن طريق الحرام ، والأبناء غير الشرعيين وغيرهم. فمثلا في زماننا الحاضر نشاهد أنّ الشياطين المستكبرين يقترحون دائما استثمار وتأسيس الشركات ، وإيجاد مختلف المصانع والمصالح الاقتصادية في الدول الضعيفة ، وتحت غطاء هذه الشركات تتم مختلف أشكال النشاطات الخطرة والضارّة بالبلد المستضعف ، حيث يرسل الشياطين جواسيسهم تحت عنوان خبراء فنيين أو مستشارين اقتصاديين أو مهندسين تقنيين ، ويقوم هؤلاء جميعا بامتصاص خيرات البلد الذين هم فيه بأبرع الحيل وأظرفها ، ويقفون حائلا بين البلد وبين تحقيقه لاستقلاله الاقتصادي على بنية اقتصادية تحتية حقيقية.

وعن طريق تأسيس المدارس والجامعات والمكتبات والمستشفيات والمراكز السياحية ، فإنّهم يشاركون هذه الدول الضعيفة في أبنائها حيث يحاولون أن يستميلوا هؤلاء نحوهم ، وأحيانا عن طريق توفير (المنح الدراسية) لشباب ، فإنّهم يقومون (بجلبهم) نحو ثقافتهم ويشاركونهم في أفكارهم ، وما يترتب على ذلك من فساد العقيدة.

ومن الأساليب الرائجة والمخربة لهؤلاء الشياطين إيجاد مراكز الفساد تحت غطاء الفنادق العالمية وإيجاد المناطق الترفيهية ودور السينما والافلام المبتذلة وأمثال ذلك ، حيث لا تكون هذه الوسائل أدوات لترويج الفحشاء وزيادة أولاد الزنا فحسب ، بل تؤدي إلى انحراف جيل الشباب وتميّعهم وتغرّبهم ، وتصنع منهم أشخاصا فاقدين للإرادة. وكلما أمعنا النظر في دسائسهم ومكرهم تكشفت لنا الأخطار الكبيرة الكامنة في هذه الوساوس الشيطانية.

د : برامج التخريب النفسي : من البرامج الأخرى التي يتبعها الشياطين ،

٥٣

الاستفادة من الوعود والأمنيات الكاذبة التي يطلقونها بمختلف الحيل ، فهؤلاء الشياطين يعدّون مجموعة ماهرة ومتمكنة من علماء النفس لغواية الناس البسطاء منهم والأذكياء ، كلا بما يناسب وضعه ، ففي بعض الأحيان يصورون لهم حالهم بأنّهم سيصبحون قريبا من الدول المتمدنة والكبيرة ، أو أنّ شبابهم لا مثيل له ، ويستطيع الشباب في بلدانهم أن يصل من خلال إتباعه برامجهم إلى أوج العظمة ، وهكذا في بلدانهم يغرقوهم في هذه الخيالات الواهية التي تتلخّص في جملة (وَعِدْهُمْ).

في أحيان أخرى يسلك الشياطين طريقا معكوسة ، إذ يصوّرون للبلد بأنّه لا يستطيع مطلقا مواجهة القوى الكبرى ، وأنّهم متأخرون عن هذه القوى بمائة عام أو أكثر ، وبهذا الأسلوب تزرع المبررات النفسية لاستمرار التخلف وعدم انطلاق جهود البلد الضعيف نحو العمل والبناء الحقيقي.

بالطبع هذه القصّة لها بدايات بعيدة ، وطرق نفوذ الشيطان فيها لا تنحصر بواحد أو اثنتين.

ولكنّ (عباد الله) الحقيقيين والمخلصين ، وبالاتكاء على الوعد القرآني القاطع بالنصر ، والذي تضمنته هذه الآيات ، سيقومون بمحاربة الشياطين ولا يسمحون بالتردد يساور أنفسهم ، وهم يعلمون ـ برغم الأصوات الكثيرة للشياطين ـ أنّهم سينتصرون ، وإنّهم بصبرهم وصمودهم وبإيمانهم وتوكلهم على الله سوف يفشلون الخطط الشيطانية ، وذلك قوله تعالى : (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).

٣ ـ أمّا لماذا خلق الله الشيطان؟ فقد بحثنا ذلك في الآية (٣٩) من سورة البقرة. وفيما يخص وساوس الشيطان وأشكالها ولبوساتها ، ومعنى الشيطان في القرآن ، فقد بحثنا كل ذلك في ذيل الآية (١٣) من سورة الأعراف. والآية (٣٩) من سورة البقرة من هذا التّفسير.

* * *

٥٤

الآيات

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩))

التّفسير

لماذا الكفران مع كلّ هذه النعم؟

هذه الآيات تابعت البحوث السابقة في مجال التوحيد ومحاربة الشرك ، ودخلت في البحث من خلال طريقين مختلفين ، هما : طريق الاستدلال والبرهان ، وطريق الوجدان ومخاطبة الإنسان من الداخل.

ففي البداية تشير الآية إلى التوحيد الاستدلالي فتقول : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي

٥٥

لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ).

طبعا هناك أنظمة لأجل حركة الفلك في البحار ، فمن جانب ينبغي وجود الماء بشكل يصلح لمسير السفن ، ومن جانب آخر لا بدّ من توفر بعض الأشياء التي تكون أخف من الماء كي يمكن لها أن تطفو على سطحه ، وإذا كانت أثقل فيمكن صناعتها بشكل بحيث تكون أخف من الماء وتستطيع أن تتحمّل وزن الأحمال الثقيلة والأعداد الكثيرة من البشر. ومن جانب ثالث يلزم وجود القوّة المحرّكة والّتي كان الهواء يمثلها في السابق ، حيث كان البحّارة يستفيدون من حركة التيارات الهوائية فوق المحيطات والبحار لتحديد أوقات وسرعة واتجاه السفن ، واليوم يستفاد من طاقة البخار وأشكال الطاقة الأخرى في حركة السفن.

من جانب آخر ينبغي وجود أسلوب لتحديد الطرق ، وهذا الأسلوب كان سابقا يعتمد على الشمس والنجوم في السماء ، أمّا اليوم فإنّ السفن تستفيد من البوصلات والخرائط والإحداثيات الدقيقة. على أي حال ، إذا لم تتوافر هذه الشروط الأربعة ولم يكن ثمّة تنسيق بينها فإنّ حركة السفن تصبح أمرا مستحيلا ، ولا يكون الإنسان قادرا على الاستفادة من هذه الوسيلة المهمّة.

تعلمون ـ طبعا ـ بأنّ السفن تعتبر أضخم وسيلة لحمل الإنسان ، واليوم فإنّ هناك من السفن العملاقة ما يكون بعضها بمساحة مدينة صغيرة.

ثمّ يضيف تعالى : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). حتى تساعدكم في أسفاركم ونقل أموالكم وتجارتكم وتعينكم في كل ما يخص أمور دنياكم ودينكم. أمّا لماذا؟ فلأنّ الله تبارك وتعالى (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

من هذا التوحيد الاستدلالى والذي يعكس جانبا صغيرا من نظام الخلق ، وعلم وقدرة وحكمة الخالق جلّ وعلا ، تنتقل الآية إلى أسلوب الاستدلال الفطري فتقول : لا تنسوا (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).

أن يضل أي شيء من دون الله ، لأنّ ضرر البحر إذا وقع ، كالطوفان وغيره

٥٦

يذهب بكل الحواجز وأستار التقليد والتعصّب اللاصقة على صفاء الفطرة الإنسانية،لينكشف نور الفطرة الذي هو نور التوحيد والإيمان والعبودية لله دون غيره.

نعم في هذه اللحظات ، في لحظات الضرّ ينقطع الإنسان عن جميع المعبودات التصورية والوهمية والخيالية التي سبق وأن أعطاها قوّة بسبب أوهامه ، وتمحى من ذهنه فاعليتها ووجودها وتتلاشى وتذوب تماما كما يذوب الجليد في شمس الصيف ولا يبقى حين ذاك سوى نور الأنوار ... نور الله جلّ جلاله.

إنّ الآية تعبّر عن قانون عام ، عرفه كلّ من جرّب ذلك ، حيث تؤدي المشاكل والصعوبات الحادة التي يمرّ بها الإنسان ـ ويصل السكين العظم ـ إلى الغاء كل الأسباب الظاهرية التي كان يتعلق بها الإنسان ، وتنعدم فاعلية العلل المادية التي كان يتشبث بها ، وتنقطع كل الأسباب ، إلّا السبب الذي يصل الإنسان بمصدر العلم والقدرة المطلقتين ، والذي هو ـ لوحده سبحانه وتعالى ـ قادر على حال أعقد المشكلات ... ليس مهمّا هنا ما الذي نسمّي فيه هذه الحالة ، وإنّما المهم أنّ نعلم أن قلب الإنسان في هذه الحالة ينفتح على الأمل بالخلاص ، وتغمر القلب بنور خاص لطيف. وهذه المنعطفات هي واحدة من أقرب الطرق إلى الله ، إنّها طريق ينبع من داخل الروح ومن سويداء القلب. (١)

ثمّ تضيف الآية : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً).

مرّة أخرى تغطي حجب الغرور والغفلة والتعصب هذا النور الإلهي ، ويغطي غبار العصيان والذنوب وملاهي الحياة المادية فطرة الإنسان ووجدانه.

ولكن هل تظنون أنّ الله لا يستطيع أن ينزل بكم عقابه الشديد وأنتم على

__________________

(١) طالع الشّرح الكامل للتوحيد الفطري في كتاب (خالق العالم) ، ولا حظه أيضا في نهاية الآية (١٤) من سورة النحل حيث أشرنا إلى هذه المسألة.

٥٧

اليابسة وفي قلب الحصاري والبراري؟

لذلك تقول الآية (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) ثمّ أضافت : (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) ، حيث تغشيكم عاصفة محمّلة بالحصى والحجارة وتدفنكم تحتها ولا تجدون من ينقذكم منها (وفي ذلك من العذاب ما هو أشدّ من الغرق في البحر).

إنّ المتجولين في الصحاري وأهل البوادي يدركون أكثر من غيرهم رهبة هذا التهديد الرّباني والوعيد القرآني ، إذ يعرفون كيف تؤدي ثورة الكثبان الرملية في الصحراء إلى دفع الرمال والأحجار إلى غير مواقعها لتشكّل تلالا تدفن في ثناياها وبطونها قوافل الجمال ومن عليها.

بعد ذلك تضيف الآية مذكّرة أمثال هؤلاء بأنّكم هل تظنون أنّ هذه هي المرّة الأخيرة التي تحتاجون فيها إلى السفر في البحر : (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) ، أي لا أحد حينئذ يطالب بدمكم ويثأر لكم منّا.

* * *

بحوث

١ ـ الشّخصية المتقلّبة

إنّ الكثير من الناس لا يذكرون الله إلّا عند بروز المشاكل. وينسونه في الرخاء ، إنّ نسيان الله في حياة هؤلاء هو القاعدة والأصل ، أي أنّه صار طبيعة ، ثانية لهؤلاء ، لذا فإنّ ذكر الله بالنسبة لهؤلاء والالتفات إلى وقائع الحياة الحقّة تعتبر حالة استثنائية في وجودهم ، تحتاج في حضورها إلى عوامل إضافية ، فما دامت هذه العوامل الإضافية موجودة فهم يذكرون الله ، أمّا إذا زالت فسوف يرجعون إلى طبيعتهم المنحرفة وينسون الله.

٥٨

والخلاصة ، أنّنا لا نجد من الناس بصورة عامّة من لا يلجأ إلى الله ولا يخضع له عند ما تضغطه المشاكل الحادّة والصعبة ، ولكن ينبغي أن نعرف أن الوعي وذكر الله تعالى في مثل هذه الظروف في مثل هذه والذي نستطيع أن نصفه بالوعي الإجباري ، هو وعي عديم الفائدة.

إنّ المؤمنين والمسلمين الحقيقيين ، يذكرون الله في الراحة والبلاء والسلامة والمرض والفقر والغنى ، في السجن وعلى كرسي الحكم ، وفي أي وضع كان. إنّ تغيير الأوضاع وتبدّل الحالات لا يغيّر هؤلاء. إنّ أرواحهم كبيرة بحيث تستوعب كل هذه الأمور ، مثلهم في ذلك علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، حيث كانت عبادته وزهده ومتابعته لأمور الفقراء لا تختلف عند وجوده في السلطة ، أو عند ما كان جليس بيته.

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ـ يقول في وصف المتقين : «نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء» (١).

وخلاصة القول : إنّ الإيمان والارتباط بالله وعبادته والتوسل به والتوبة إليه والتسليم له سبحانه وتعالى ، كل هذه الأمور تكون مهمّة وثمينة وذات أثر عند ما تكون دائمية وثابتة ، أمّا الإيمان الموسمي والتوبة والعبادات الموسمية ، والتي تفرضها حالات خاصّة يمرّ بها الإنسان ويبغي من خلالها جلب بعض المنافع له ، فليس لها أثر ولا قيمة. والآيات القرآنية توبخ أمثال هؤلاء الأشخاص دائما.

٢ ـ لا يمكن الهروب من حكومة الله

البعض يتوجه إلى الله (مثل عبدة الأصنام في الجاهلية) عند ما يكون في وسط البحر أو عند ما يكون على هاوية السقوط والخطر أو في حال مرض

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٩٣.

٥٩

شديد ، في حين أنّنا إذا فكّرنا بشكل صحيح نرى أنّ الإنسان معرض للخطر والضرر في كل الأزمنة والحالات والأوقات ، فالبحر والبر والصحراء والمرض والهاوية وغيرها ، هي في الواقع متساوية الخطورة. إنّ هزة أرضية واحدة يمكنها أن تدمّر بيتنا الآمن الهاديء ، وإنّ تخثرا بسيطا في الدم يمكنه أن يغلق مسير الدم في الشريان الأبهر فيؤثر على القلب أو على الدماغ فتحدث السكتة القلبية أو الدماغية ، وبعد ثانية واحدة يكون الموت هو المصير المحتوم. مع وجود كل هذه الأمور نعلم أنّ الغفلة عن الله تعالى كم هي مجانبة للصواب!!

قد يقوم هنا أنصار نظرية تعليل الإيمان ـ والدين بشكل عام ـ على أساس الخوف، بتبرير هذه الحالة بقولهم : طالما أنّ الخوف في الإنسان غريزي وفطري ، فإنّ خوفه من العوامل الطبيعية يجعل الإنسان يتوجه نحو الخالق. ومثل هذه الحالات والأوضاع التي تحدثت عنها الآيات تدعم هذا التصوّر وتعضده.

الآيات القرآنية أجابت على هذه الأوهام ، إذ أبانت أنّ القرآن لم يجعل ـ أبدا ـ معرفة الخالق قائمة على هذه الأمور ، بل إنّ الأساس هو قراءة في نظام الكون والوجود ومعرفة الله تعالى من خلال هذا الخلق. وحتى في الآيات أعلاه نرى أنّها ذكرت أوّلا الإيمان الاستدلالي قبل ذكر التوحيد والإيمان الفطري ، وفي الواقع فإنّها تعتبر هذه الحوادث بمثابة تذكير بالخالق لا من أجل معرفته ، إذ أن معرفته لطلاب الحق تتوضح من خلال أسلوب الاستدلال وعن طريق الفطرة.

ثالثا : معاني الكلمات

«يزجي» مأخوذة من «إزجاء» وهي تعني تحريك شيء ما بشكل مستمر.

«حاصب» تعني الهواء الذي يحرّك معه الأحجار الصغيرة ثمّ تضرب الواحدة بعد الأخرى مكانا معينا ، وهي مشتقّة أصلا من (حصباء) التي تعني الأحجار

٦٠