الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

ملكت عليه كل مشاعره وأحاسيسه ، إلى أن قال لها هيروديس يوما : اطلبي منّي كل ما تريدين فسأحققه لك قطعا ، فقالت هيروديا : لا أريد منك إلّا رأس يحيى! لأنّه قد شوّه سمعتي وسمعتك ، وقد أصبح كل الناس يعيروننا ، فإنّ كنت تريد أن يهدأ قلبي ويسر خاطري فيجب أن تقوم بهذا العمل!

فسلّم هيروديس ـ الذي أصبح مجنونا لا يعقل من عشق هذه المرأة ـ لما أرادت من دون أن يفكر ويتنبه إلى عاقبة هذا العمل ، ولم يمض قليل من الزمن حتى أحضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة ، إلّا أنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به ، وأخذت بأطرافه في النهاية (١).

ونقرأ في الرّوايات أن سيد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام كان يقول : «إنّ من هو ان الدنيا أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل» أي إن ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى ، لأنّ أحد أهداف ثورتي محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد.

* * *

__________________

(١) يستفاد من بعض الأناجيل وقسم من الرّوايات أنّ هيروديس قد تزوج امرأة أخيه ، وقد كان هذا الزواج ممنوعا في قانون التوراة ، وقد لامه يحيى على هذا العمل بشدّة ، ثمّ أن تلك المرأة حملت هيروديس على قتل يحيى بإغرائه بجمال بنتها. إنجيل متى باب ١٤ ، إنجيل مرقس باب ٦ ، الفقرة ١٧ وما بعدها.

٤٢١

الآيات

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١))

التّفسير

ولادة عيسى عليه‌السلام :

بعد ذكر قصّة يحيى عليه‌السلام ، حولت الآيات مجرى الحديث إلى قصّة عيسىعليه‌السلام لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جدا بين مجريات هاتين الحادثتين.

فإنّ كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة ، فإن ولادة عيسى من أم دون أب أعجب!

٤٢٢

وإن كان الوصول إلى مقام النّبوة وبلوغ العقل الكامل ـ في مرحلة الطفولة ـ باعثا على الحيرة ومعجزا ، فإنّ التحدث في المهد عن الكتاب والنّبوة أبعث على التعجب والحيرة ، وأكثر إعجازا.

وعلى كل حال ، فإنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال ، إحداهما أكبر من الأخرى ، وقد صادف أن تكون كلا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية ، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب ، حيث أن أم يحيى كانت أخت أم مريم ، وكانت كلاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.

تقول الآية الأولى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) فقد كانت تبحث عن مكان خال من كل نوع من التشويش والضوضاء حتى لا يشغلها شيء عن مناجاتها ويصرفها ـ ولو حينا ـ عن ذكر المحبوب ، ولذلك اختارت شرقي بيت المقدس ، ذلك المعبد الكبير ، لعله يكون مكانا أكثر هدوءا ، أو أنّه كان أنظف وأنسب من جهة أشعة الشمس ونورها.

كلمة «انتبذت» أخذت من مادة (نبذ) على قول الراغب ، وهي تعني إلقاء وإبعاد الأشياء التي لا تسترعي الانتباه ، وربّما كان هذا التعبير في الآية إشارة إلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الانتباه ، واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.

في هذه الأثناء من أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة ، فإنّها (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) ولم تصرح الآية بالهدف من اتّخاذ هذا الحجاب ، فهل أنّه كان من أجل أن تناجي ربّها بحرية أكبر ، وتستطيع عند خلو هذا المكان من كل ما يشغل القلب والحواس أن تتوجه إلى العبادة والدعاء؟ أو أنّها كانت تريد اتخاذه من أجل الغسل والاغتسال؟ الآية ساكتة من هذه الجهة.

على كل حال ، (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) والروح أحد

٤٢٣

الملائكة العظام حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه ولا نقص.

إنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّا ، فمريم التي عاشت دائما نقية الجيب ، وتربّت في أحضان الطاهرين ، وكان يضرب بها المثل بين الناس في العفة والتقوى ... كم داخلها من الرعب والاضطراب عند مشاهدة هذا المنظر ، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها! ولذلك فإنّها مباشرة (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.

إنّ ذكر اسم الرحمان ، ووصفه برحمته العامّة من جهة ، وترغيب الرجل في التقوى والامتناع عن المعصية من جهة أخرى ، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إن كانت له نيّة سيئة في ارتكاب المعصية ، والأهم من ذلك كله هو الالتجاء إلى الله ، فالله الذي يلتجئ إليه الإنسان في أحلك الظروف ، ولا تقف أية قدرة أمام قدرته ، هو الذي سيحل المعضلات.

لقد كانت مريم تنتظر رد فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوهت بهذه الكلمات انتظارا مشوبا بالاضطراب والقلق الشديد ، إلّا أنّ هذه الحالة لم تطل ، فقد كلمها ذلك الشخص ، ووضّح مهمته ورسالته العظيمة (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ).

لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار ، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر،إلّا أنّ هذا الاطمئنان لم يدم طويلا ؛ لأنّه أضاف مباشرة (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).

لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام ، وغاصت مرّة أخرى في قلق شديد (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا).

لقد كانت تفكر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط ، وكانت تظن أن المرأة يمكن أن يكون لها ولد عن طريقين لا ثالث لهما : إمّا الزواج أو التلوّث بالرذيلة والانحراف ، وإنّي أعرف نفسي أكثر من أي شخص آخر ، فإنّي لم أختر

٤٢٤

زوجا لحد الآن ، ولم أكن امرأة منحرفة قط ، ولم يسمع لحد الآن أنّ شخصا يولد له ولد من غير هذين الطريقين!

إلّا أنّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول الله إليها ، فقد خاطب مريم بصراحة : (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيدا .. أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك. أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفتك وطهارتك .. أنت التي تعلمين أنّ جدك آدم قد خلق من التراب ، فلما ذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟

ثمّ أضاف : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا ، ونجعله معجزة ، وعلى كل حال (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا). فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.

* * *

بحثان

١ ـ ما هو المراد من روح الله؟

إنّ كل المفسّرين المعروفين تقريبا فسّروا الروح هنا بأنّه جبرئيل ملك الله العظيم ، والتعبير عنه الروح لأنّه روحاني ، ووجود مفيض للحياة ، لأنّه حامل الرسالة الإلهية إلى الأنبياء وفيها حياة جميع البشر اللائقين ، وإضافة الروح هنا إلى الله دليل على عظمة وشرف هذا الروح ، حيث أنّ من أقسام الإضافة هي (الإضافة التشريفية).

ويستفاد من هذه الآية بصورة ضمنية أنّ نزول جبرئيل لم يكن مختصا بالأنبياء ، وإن كان نزوله بالوحي والشريعة والكتب السماوية منحصرا فيه ، إلّا أنّه لا مانع من أن يواجه غير الأنبياء من أجل تبليغ رسائل وأوامر أخرى ، كرسالته المذكورة إلى مريم.

٤٢٥

٢ ـ ما هو التمثل؟

«التمثل» في الأصل من «المثول» ، أي الوقوف مقابل شخص أو شيء ، ويقولون للشيء الذي يظهر بصورة أخرى : ممثلا ، وعلى هذا فإنّ قوله : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) تعني أن ذلك الملك قد ظهر بصورة إنسان.

ولا شك أنّ هذا الكلام لا يعني أن جبرئيل قد تبدل إلى إنسان شكلا وسيرة ، لأنّ مثل هذا التحول والتبدل أمر غير ممكن ، بل المراد أنّه ظهر بصورة إنسان بالرغم من أنّ سلوكه كان نفس ذلك السلوك الملائكي ، إلّا أنّ مريم التي لم تكن تعلم بالأمر في البداية ، كانت تظن أن في مقابلها إنسانا سيرة وصورة.

وتلاحظ كثيرا في الرّوايات والتواريخ كلمة «تمثل» بمعناها الواسع ، ومن جملتها : إنّ إبليس لما اجتمع المشركون في «دار الندوة» وكانوا يخططون لقتل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ظهر بصورة شيخ كبير حصيف الرأي ، يهدف إلى الخير وشرع بإغواء رؤساء قريش.

أو أنّ الدنيا وباطنها تمثلت للإمام علي عليه‌السلام على شكل امرأة في غاية الجمال والجذابية ولم تستطع أن تنفذ إليه ، وقصتها مفصّلة معروفة.

ونقرأ أيضا في الرّوايات أنّ مال الإنسان وولده وعمله تتجسم أمامه عند الموت بصورة مختلفة وخاصّة.

أو أنّ أعمال الإنسان تتجسم في القبر ويوم القيامة ، ويظهر كل منها بشكل خاص.

إن التمثّل في جميع هذه الوارد يعني أن شيئا أو شخصا يظهر بشكل آخر من ناحية الصورة والشكل فقط ، لا أن تتبدّل ماهيته وباطنة (١).

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٤ ، ص ٣٧.

٤٢٦

الآيات

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))

التّفسير

مريم في عاصفة :

وأخيرا حملت مريم ، واستقر ذلك الولد الموعود في رحمها : (فَحَمَلَتْهُ) ولم يتحدث القرآن عن كيفية نشوء وتكوّن هذا المولود ، فهل أنّ جبرئيل قد نفخ في ثوبها ، أم في فمها؟وذلك لعدم الحاجة إلى هذا البحث ، بالرغم من أنّ كلمات المفسّرين مختلفة في هذا الشأن.

وعلى كل حال ، فإنّ هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا).

٤٢٧

لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل ، حالة من القلق والاضطراب المشوب بالسرور ، فهي تفكر أحيانا بأن هذا الحمل سيفشو أمره في النهاية ، فالأفضل أن أبقى بعيدة عن أولئك الذين يعرفونني عدّة أيّام أو أشهر ، وأعيش في هذا المكان بصورة مجهولة ، وماذا سيحدث في النهاية؟

فمن الذي سيقتنع بأنّ امرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوثت بالرذيلة؟ فما ذا سأفعل تجاه هذا الاتهام؟ والحق أنّ من المؤلم جدّا بالنسبة لفتاة كانت لسنين طويلة نموذجا وقدوة للطهارة والعفة والتقوى والورع ، ومثالا في العبادة والعبودية لله ، وكان زهاد بني إسرائيل يفتخرون بكفالتها منذ الطفولة ، وقد تربت وترعرعت في ظل نبي كبير ، وقد شاع أمر سجاياها وقداستها في كل مكان ، أن تحس في يوم ما أن كل هذا الرصيد المعنوي مهدد بالخطر ، وستكون غرضا ومرمى لاتهام يعتبر أسوء وأقبح اتهام ، وكانت هذه هي المصيبة الثّالثة التي وقعت لها.

إلّا أنّها من جهة أخرى كانت تحس أنّ هذا المولود ، نبي الله الموعود ، تحفة سماوية نفيسة ، فإنّ الله الذي بشرني بمثل هذا الغلام ، وخلقه بهذه الصورة الإعجازية كيف سيذرني وحيدة؟ فهل من المعقول أن لا يدافع عني في مقابل مثل هذا الاتهام؟ أنا التي رأيت وجربت لطفه على الدوام ، وأحسست بيد رحمته على رأسي.

وهناك بحث بين المفسّرين في مدّة حمل مريم ، بالرغم من أنّه ذكر في القرآن بصورة مخفية ومبهمة ، فبعضهم حسبه ساعة واحدة ، وآخر تسع ساعات ، وثالث ستة أشهر ، ورابع سبعة ، وآخر ثمانية ، وآخر تسعة أشهر كسائر النساء ، إلّا أن هذا الموضوع ليس له ذلك التأثير في هدف هذه القصّة. والرّوايات الواردة في هذا المجال مختلفة أيضا.

وقد اعتقد الكثيرون أنّ المكان «القصي» هو مدينة «الناصرة» وربّما بقيت

٤٢٨

في تلك المدينة بصورة دائما وقلّما خرجت منها.

ومهما كان فقد انتهت مدّة الحمل ، وبدأت لحظات تلاطم أمواج حياة مريم ، وقد دفعها ألم الولادة الشديد الذي هاج فيها إلى ترك الأماكن المعمورة والتوجه إلى الصحاري الخالية من البشر ، والقاحلة التي لا عشب فيها ولا ماء ولا مأوى.

ومع أن النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إلى المعارف والأصدقاء ليساعدوهنّ على الولادة ، إلّا أن وضع مريم لما كان استثنائيا ، ولم تكن تريد أن يرى أحد وضع حملها مطلقا ، فإنّها اتّخذت طريق الصحراء بمجرّد أن بدأ ألم الولادة ويقول القرآن في ذلك:(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ).

إنّ التعبير بجذع النخلة ، وبملاحظة أن الجذع يعني بدن الشجرة ، يوحي بأنّه لم يبق من تلك الشجرة إلّا جذعها وبدنها ، أي إنّ الشجرة كانت يابسة (١).

في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن ، وأحسست بأنّ اللحظة التي كانت تخشاها قد حانت ، اللحظة التي مهما أخفيت فإنّها ستتضح هناك ، وسيتجه نحوها سيل سهام الاتهام التي سيرشقها بها الناس.

لقد كان هذا الاضطراب والصراع صعبا جدّا ، وقد أثقل كاهلها إلى الحد الذي تكلمت فيه بلا إرادة و (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا).

إنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشيء الوحيد الذي كان يعصر قلب مريم ويقلقها ، وإن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أية مسألة أخرى ، إلّا أنّ مشاكل ومصائب أخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية ، وعدم وجود مكان للاستراحة ، وعدم وجود الماء للشرب ، والطعام للأكل ، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد ، وغير هذه الأمور كانت تهزّها من الأعماق بشدّة.

قد يتساءل البعض باعتراض : كيف أنّ مريم المؤمنة والعارفة بالتوحيد

__________________

(١) «جذع» على وزن «ذبح» في الأصل من مادة «جذع» على وزن «منع» بمعنى القطع.

٤٢٩

حيث رأت كل ذلك اللطف والإحسان الإلهي ، أجرت مثل هذه الجملة على لسانها وقالت: (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) ، إلّا أنّ هؤلاء لم يدركوا أبدا حال مريم في تلك الساعة ، ولو أنّهم أصابهم شيء قليل من هذه المشاكل فإنّهم سينسون حتى أنفسهم.

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا ، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت موجودة دائما في أعماق قلبها ، وطرق سمعها صوت (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) وانظري إلى الأعلى كيف أن هذا الجذع اليابس قد تحول إلى نخلة مثمرة (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) بالمولود الجديد (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا). وهذا الصوم هو المعروف بصوم السكوت.

وخلاصة الأمر ، إنّك لا تحتاجين إلى الدفاع عن نفسك ، فإنّ الذي وهبك هذا الوليد قد تعهد بمهمّة الدفاع عنك أيضا ، وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات ، ولا تدعي للهم طريقا إلى نفسك.

إن هذه الحوادث المتلاحقة التي سطعت كالشرر المضيء الوهاج في الظلام الدامس ، قد أضاءت كل أرجاء قلبها ، وألقت عليها الهدوء والاطمئنان.

* * *

بحوث

١ ـ ازدياد قوة مريم عند تراكم المشاكل

إنّ الحوادث التي مرّت على مريم في هذه المدّة القصيرة ، والمشاهد والمواقف التي تثير الإعجاب ، والتي حدثت لها بلطف الله ، كانت تهيؤها وتعدها من أجل تربية نبي من أولي العزم ، ولتستطيع أن تؤدي وظيفة الأمومة من خلال

٤٣٠

هذا الأمر الخطير على أحسن وجه.

إنّ سير الأحداث صاحبها حتى آخر مرحلة ، بحيث لم يبق بينها وبين الموت إلّا خطوة واحدة ، لكن فجأة يرجع كل شيء إلى وضعه ، ويهّب كل شيء لمساعدتها ، وتخطو في محيط هادئ مطمئن من كل الجهات.

جملة (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) التي تأمر مريم بتحريك النخلة لتستفيد من ثمره ، أعطت درسا لها ولكل البشر ، بأن لا يكفوا عن الجد والسعي حتى في أشد لحظات الحياة وأصعبها.

إنّه جواب لأولئك الذين يسألون عن الحاجة بأنّ مريم التي وضعت حملها لتوها تقوم وتهزّ النخلة ، ألم يكن من الأولى أن يرسل الله ـ الذي ـ بعث عين الماء العذب قرب مريم تلك الشجرة اليابسة ـ نسمة وريحا تهزّ النخلة وتسقط الثمر قرب مريم؟ فما الذي حدث ، حيث أن مريم عند ما كانت سالمة صحيحة كانت تحضر الفاكهة جنب محرابها ، أمّا الآن وقد ابتليت بكل هذه المشاكل فإنّ عليها أن تقطف الثمر بنفسها؟

أجل ، إن هذا الأمر الإلهي لمريم يوضح أنّه لا بركة بدون حركة ، وبتعبير آخر ، فإن على كل إنسان أن يبذل قصارى جهده عند ظهور المشاكل ، وما وراء ذلك فعلى الله.

٢ ـ لماذا طلبت مريم الموت من الله؟

لا شك أن طلب الموت من الله عمل غير صحيح ، إلّا أنّه قد تقع حوادث في حياة الإنسان يصبح فيها طعم الحياة مرّا ، وخاصّة إذا رأى الإنسان أهدافه المقدسة أو شرفه وشخصيته مهددة بالخطر ، ولا يملك قدرة الدفاع عن نفسه أمامها ، وفي مثل هذه الظروف يتمنى الإنسان الموت للخلاص من العذاب الروحي.

٤٣١

لقد خطرت في ذهن مريم في اللحظات الأولى هذه الأفكار ، وتصورت بأن كل وجودها وكيانها وماء وجهها مهدد بالخطر أمام هؤلاء الناس الجهلاء نتيجة ولادة هذا المولود، وفي هذه اللحظات تمنت الموت ، وهذا بحد ذاته دليل على أنّها كانت تحب عفتها وطهارتها وتهتم بهما أكثر من روحها ، وتعتبر حفظ ماء وجهها أغلى من حياتها.

إلّا أنّ مثل هذه الأفكار ربّما لم تدم إلّا لحظات قصيرة جدّا ، ولما رأت ذينك المعجزتين الإلهيتين ـ انبعاث عين الماء ، وحمل النخلة اليابسة ـ زالت كل تلك الأفكار عن روحها ، وغمر قلبها نور الاطمئنان الهدوء.

٣ ـ سؤال وجواب

يسأل البعض : إنّ المعجزة إذا كانت مختصة بالأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، فكيف ظهرت مثل هذه المعجزات لمريم؟

وقد اعتبر بعض المفسّرين ـ حلا لهذا الإشكال ـ هذه المعاجز جزءا من معاجز عيسى تحققت كمقدمة ، ويعبرون عن ذلك بالإرهاص.

إلّا أنّه لا حاجة لجواب كهذا أبدا ، لأنّه لا مانع مطلقا من ظهور الأمور الخارقة للعادة لغير الأنبياء والأئمّة ، وهذا هو الذي نسميه بالكرامة.

إنّ المعجزة هي عمل يقترن بالتحدي ، وتكون مقترنة بادعاء النّبوة والإمامة.

٤ ـ صوم الصمت

يدل ظاهر الآيات أعلاه على أنّ مريم كانت مأمورة بالسكوت لمصلحة ، وأن تمتنع عن الكلام بأمر الله في هذه المدّة المعينة ، حيت تتحرك شفتا وليدها عيسى بالكلام ويدافع عن عفتها ، وهذا أكثر تأثيرا من كل الجهات.

ويظهر من تعبير الآية أن نذر السكوت كان أمرا معروفا في ذلك المجتمع ،

٤٣٢

ولهذا لم يعترضوا عليها على هذا العمل. غير أنّ هذا النوع من الصوم غير جائز في شريعتنا.

ورد عن علي بن الحسين عليه‌السلام في حديث : «صوم السكوت حرام»(١) ، وذلك لاختلاف الظروف في ذلك الزمان عن ظروف زمن ظهور الإسلام.

إلّا أن أحد آداب الصوم الكامل في الإسلام أن يحفظ الإنسان لسانه من التلوّث بالمعاصي والمكروهات خلال صيامه ، وكذلك يصون عينه من الزلل والذنب ، كما نقرأ ذلك

في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب وحده ، إن مريم قالت : إنّي نذرت للرحمن صوما ، أي صمتا ، فاحفظوا ألسنتكم ، وغضوا أبصاركم، ولا تحاسدوا ولا تنازعوا» (٢).

٥ ـ غذاء مولد للطاقة

استفاد المفسّرون ممّا جاء صريحا في هذه الآيات ، أنّ الله سبحانه قد جعل غذاء مريم حين ولادة مولودها الرطب ، فهو من أفضل الأغذية للنساء بعد وضع الحمل ، وفي الأحاديث الإسلامية إشارة صريحة إلى ذلك أيضا : فيروي أمير المؤمنين علي عليه‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليكن أول ما تأكل النفساء الرطب ، فإن الله عزوجل قال لمريم عليها‌السلام:(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) (٣).

ويستفاد من آخر الحديث أن تناول هذا الغذاء لا يؤثر ويفيد الأم فقط ، بل إنّه سيؤثر حتى في لبنها ، وحتى أن بعض الرّوايات تؤكّد على أن أفضل غذاء ودواء للحامل هو الرطب : «ما تأكل الحامل من شيء ولا تتداوى به أفضل من

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الجزء ٧ ، ص ٣٩٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، حسب نقل تفسير نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٣٢.

(٣) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٣٠.

٤٣٣

الرطب». (١)

إلّا أن من المسلّم أن الاعتدال والتوسط في كل شيء يجب أن يراعى حتى في هذه المسألة ، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الواردة في هذا المجال. ويستفاد أيضا أنّ الرطب إن لم يكن موجودا ، فلا بأس بأكل التمر المتعارف.

يقول علماء التغذية : إنّ السكر الكثير الموجود في التمر من أصح السكريات وأسلمها ، وحتى المبتلين بمرض السكر فإنّهم يستطيعون تناول التمر.

ويقول هؤلاء العلماء : إنّ في التمر (١٣) مادة حيوية ، واكتشفوا خمسة أنواع من الفيتامينات ، جمعها التمر وأظهرها على هيئة مصدر غذائي غني (٢) ، ونحن نعلم أن النساء في مثل هذه الأوضاع بحاجة شديدة إلى غذاء يولد الطاقة ومليء بالفيتامينات.

لقد ثبتت أهمية التمر بتقدم علم الطب ، ففي التمر يوجد «الكالسيوم» ، وهو عامل مهم في تقوية العظام ، وكذلك يوجد «الفسفور» وهو من العناصر الأساسية في تكوين المخ ، ويمنع من ضعف الأعصاب والتعب ، وكذلك يوجد «البوتاسيوم» الذي يسبب فقدانه في قرحة المعدة (٣).

__________________

(١) المصدر السّابق.

(٢) من كتاب أول جامعة وآخر نبي ، الجزء ٧ ، ص ٦٥.

(٣) المصدر السابق.

٤٣٤

الآيات

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣))

التّفسير

المسيح يتكلم في المهد :

وأخيرا رجعت مريم عليها‌السلام من الصحراء إلى المدينة وقد احتضنت طفلها (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) فلمّا رأوا طفلا حديث الولادة بين يديها فغروا أفواههم تعجبا ، فقد كانوا يعرفون ماضي مريم الطاهر ، وكانوا قد سمعوا بتقواها وكرامتها ، فقلقوا لذلك بشدّة ، حيث وقع شك بعضهم وتعجّل آخرون في القضاء والحكم

٤٣٥

وأطلق العنان للسانه في توبيخها وملامتها ، وقالوا : إن من المؤسف هذا الانحدار مع ذلك الماضي المضيء ، ومع الأسف على تلوّث سمعه تلك الأسرة الطاهرة (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) (١).

والبعض الآخر واجهها ، بالقول : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) فمع وجود مثل هذا الأب والأم الطاهرين ، ما هذا الوضع الذي نراك عليه؟ فأي سوء رأيت في سلوك الأب وخلق الأم حتى تحيدي عن هذا الطريق؟

قولهم لمريم : (يا أُخْتَ هارُونَ) وقع مثار الاختلاف بين المفسّرين ، لكن يبدو أنّ الأصح هو أنّ هارون رجل طاهر صالح إلى الدرجة التي يضرب به المثل بين بني إسرائيل ، فإذا أرادوا أن يصفوا شخصا بالطهارة والنزاهة ، كانوا يقولون : إنّه أخو أو أخت هارون ، وقد نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان هذا المعنى في حديث قصير عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وفي حديث آخر ورد كتاب سعد السعود ، عن المغيرة ، أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثه إلى نجران لدعوتهم الى الإسلام فقالوا (معترضين على القرآن) : ألستم تقرؤون (يا أُخْتَ هارُونَ) وبينهما كذا وكذا» (حيث تصوروا أنّ المراد هو هارون أخو موسى) فلمّا لم يستطع المغيرة جوابهم ذكر ذلك للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمفقال : «ألا قلت لهم : إنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين منهم» (٣) أي ينسبون الأشخاص الصالحين منهم الى الأنبياء.

في هذه الساعة ، سكتت مريم بأمر الله ، والعمل الوحيد الذي قامت به ، هو أنّها أشارت إلى وليدها (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ). إلّا أنّ هذا العمل جعل هؤلاء يتعجبون

__________________

(١) «فريا» بناء على قول الراغب في المفردات ـ جاءت بمعنى العظيم أو العجيب ، وفي الأصل من مادة فري، أي قص وقطع الجلد إمّا لإصلاحه أو إفساده.

(٢) نور الثقلين ، الجزء ٣ ، ص ٣٣٣.

(٣) المصدر السّابق.

٤٣٦

أكثر ، وربما حمل بعضها على السخرية ، ثمّ غضبوا فقالوا : مع قيامك بهذا العمل تسخرين من قومك أيضا؟ (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا).

لقد بحث المفسّرون هنا وتناقشوا كثيرا في شأن كلمة «كان» الدالة على الماضي ، إلّا أنّ الظاهر هو أن هذه الكلمة تشير هنا إلى ثبوت ولزوم وصف موجود ، وبتعبير أوضح:إنّ هؤلاء قالوا لمريم : كيف نكلم طفلا كان ولا يزال في المهد؟

والشاهد على هذا المعنى آيات أخرى من القرآن ، مثل (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) سورة آل عمران ، فمن المسلم أن «كنتم» لا تعني الماضي هنا ، بل هي بيان لثبوت واستمرار هذه الصفات للمجتمع الإسلامي.

وكذلك بحثوا حول «المهد» ، فإنّ عيسى لم يكن قد وضع في المهد ، بل إنّ ظاهر الآيات هو أن مريم بمجرّد أن حضرت بين الناس ، وفي الوقت الذي كان عيسى على يديها، جرى هذا الحوار بينها وبينهم.

إلّا أنّ الالتفات إلى معنى كلمة «المهد» في لغة العرب سيوضح جواب هذا السؤال، فإنّ كلمة المهد تعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ المكان الذي يهيئونه للطفل ، سواء كان المهد ، أو حجر الأم ، أو الفراش ، والمهد والمهاد ورد كلاهما في اللغة بمعنى:المكان الممهد الموطأ ، أي : للاستراحة والنوم.

على كل حال ، فإنّ الناس قلقوا واضطربوا من سماع كلام مريم هذا ، بل وربما غضبوا وقالوا لبعضهم البعض ـ حسب بعض الرّوايات ـ : إنّ استهزاءها وسخريتها أشدّ علينا من انحرافها عن جادة العفة!

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا ، لأن ذلك الطفل الذي ولد حديثا قد فتح فاه وتكلم : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ)، ومفيدا من كل الجهات للعباد (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا).

٤٣٧

وكذلك جعلني مطيعا ووفيا لأمي (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) (١) (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا).

كلمة «جبار» تطلق على الشخص الذي يعتقد بأنّ له كل الحق على الناس ولا يعتقد بأنّ لأحد عليه حقا.

وكذلك يطلقونها على الذي يضرب الناس ويقتلهم إذا غضب ، ولا يتبع ما يأمر به العقل ، أو أنّه يريد أن يسد نقصه ويغطيه بادعاء العظمة والتكبر ، وهذه كلها صفات بارزة للطواغيت المستكبرين في كل زمان (٢).

و «الشقي» تقال للشخص الذي يهيء أسباب البلاء والعقاب لنفسه ، وبعضهم فسر ذلك بالذي لا يقبل النصيحة ، ومن المعلوم أن هذين المعنيين لا ينفصلان عن بضعهما.

ونقرأ في رواية ، أن عيسى عليه‌السلام يقول «قلبي رقيق وأنا صغير في نفسي» (٣)وهو إشارة إلى أن هذين الوصفين يقعان في مقابل الجبار والشقي.

وفي النهاية يقول هذا المولود ـ أي المسيح ـ (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) وكما قلنا في شرح الآيات المتعلقة بيحيى عليه‌السلام ، فإنّ هذه الأيّام الثلاثة في حياة الإنسان أيّام مصيرية خطرة ، لا تتيسر السلامة فيها إلّا بلطف الله ، ولذلك جاءت هذه الآية في حق يحيى عليه‌السلام كما وردت في شأن المسيح عليه‌السلام ، مع الاختلاف بأنّ الله هو الذي قالها في المورد الأوّل ، أمّا في المورد الثّاني فإنّ المسيح قد طلب ذلك.

* * *

__________________

(١) البر ـ بالفتح ـ بمعنى الشخص المحسن ، في حين أن البر ـ بالكسر ـ بمعنى صفة الإنسان ، وينبغي الالتفات إلى أن هذه الكلمة في الآية عطف على (مباركا) لا على الصلاة والزكاة ، والمعنى في الواقع : جعلني برا بوالدتي.

(٢) لزيادة التوضيح حول (جبار) ، وجواب هذا السؤال ، وهو أنّه كيف تكون إحدى صفات الله سبحانه أنّه جبار؟يراجع ذيل الآية (٥٩) من سورة هود من هذا التّفسير.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، آخر الآية.

٤٣٨

بحوث

١ ـ أوضح تصوير عن ولادة عيسى عليه‌السلام

يمكن إدراك فصاحة وبلاغة القرآن الكريم ، وخاصّة في مثل هذه الموارد ، وذلك عند ملاحظة طريقة طرحه لمسألة مهمّة اختلطت بكل تلك الخرافات ، في عبارات قصيرة وعميقة، وحية ، وغنية المحتوى ، وناطقة تماما ، بحيث تطرح جانبا كل أنواع الخرافات.

الملفت للنظر أنّ الآيات المذكورة ذكرت «سبع صفات» ممتازة و «برنامجان» و «دعاء واحد».

فالصفات السبعة عبارة عن كونه «عبدا لله» وذكرها في بداية كل الصفات إشارة إلى أن أعلى وأكبر مقام يصله الإنسان هو مقام العبودية.

وبعد ذلك ، كونه «صاحب كتاب سماوي» ثمّ «مقام النبوة» (مع العلم أن مقام النبوة لا يقترن دائما بالمجيء بكتاب سماوي).

وبعد مقام العبودية والإرشاد ، ذكر كونه «مباركا» أي مفيدا لوضع المجتمع ، وفي حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام نقرأ أن معنى المبارك : «النفّاع» ، أي كثير المنفعة.

ثمّ ذكرت الآيات كونه «بارا بأمه» وفي النهاية أنّه «لم يكن جبارا شقيا» بل كان متواضعا ، عارفا بالحق ، وسعيدا.

ومن بين جميع البرنامج الالهي للإنسان تؤكّد الآية على وصية الله سبحانه بالصلاة والزكاة ، وذلك للأهمية الفائقة لهذين الأمرين ، لأنّهما رمز الارتباط بالخالق والخلق ، ويمكن تلخيص كل البرامج والأهداف الدينية والمذهبية فيهما ، لأن أحدهما يشخصّ ارتباط الإنسان بالخلق ، والآخر يشخصّ ارتباطه بالخالق.

وأمّا الدعاء الذي دعاه لنفسه ، ويرجوه فيه من ربّه في بداية عمره ، فهو أن يجعل هذه الأيّام الثلاثة سلاما عليه : يوم الولادة ، ويوم الموت ، واليوم الذي

٤٣٩

يبعث فيه ، وأن يمن عليه في هذه المراحل الثلاثة بالشعور بالأمن والطمأنينة!

٢ ـ منزلة الأم

بالرغم من أنّ المسيح عليه‌السلام قد ولد بأمر الله النافذ من امرأة بدون زوج ، إلّا أنّ ما نقرأه في الآيات ـ محل البحث ـ عن لسانه ، والذي يعدّ فيه «ضمن تعداده لميزاته وأوسمته» برّه بأمه ، دليل واضح على أهمية مقام الأم ، وهي توضح بصورة ضمنية أنّ هذا الطفل الصغير ـ الذي نطق بالإعجاز ـ كان عالما ومطلعا على أنّه ولد نموذجي بين البشر، وأنّه ولد من أمه فقط دون أن يكون للأب دخل في تكونه وولادته.

وعلى كل حال ، فبالرغم من أنّ ثقافة العصر الحاضر فيها الكثير من الحديث عن مقام ومكانة الأم ، حتى أنّه خصص يوما وسمي ب (يوم الأم) ، إلّا أن التطور الآلي ـ وللأسف الشديد ـ يقطع بسرعة علاقة الآباء والأمهات بالأولاد بحيث يلاحظ ضعف الروابط العاطفية بين هؤلاء في السنين المتقدمة من أعمارهم.

ولدينا في الإسلام روايات تثير العجب والحيرة في هذا الباب ، توصي المسلمين بالأم وتشيد بمكانتها الفائقة الأهمية ، وتأمرهم أن يسعوا عمليا ـ وليس في الكلام وحسب ـ في برّ الوالدين ، فنطالع في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إن رجلا أتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله ، من أبرّ؟ قال : أمك ، قال : ثمّ من؟ قال : أمك ، قال : ثمّ من؟قال : أمك ، قال : ثمّ من؟ قال : أباك» (١)!

وفي حديث آخر : أن رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للجهاد ـ حيث لم يكن الجهاد واجبا عينيا ـ فقال : «ألك والدة»؟ قال : نعم ، قال : «فألزمها فإنّ الجنّة تحت قدمها» (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الجزء ١٥ ، ص ٢٠٧.

(٢) جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٦١.

٤٤٠