الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

أمّا «وقر» على وزن «جبر» فتعني ثقل السمع ، و «وقر» على وزن «رزق» تعني الحمل الثقيل.

٥ ـ تفسير جملة (بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ)

في معنى هذه الجملة ذكر تفسيرين :

الأوّل : الذي يذهب إليه العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والرازي في التّفسير الكبير ، إذ قالا بأنّها تعني «غرض الاستماع» يعني نحن نعلم الغرض من استماعهم لك ، فهو ليس لسماع الحق ، بل للاستهزاء وإلصاق التهم وتضليل الآخرين.

أمّا الثّاني : (كما ذهب إليه العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان) فقد اعتبرها «وسيلة الاستماع» بمعنى نحن نعلم بأي مسمع وأذن يستمعون إليك ، ونعلم ما في قلوبهم ونعلم نجواهم. (ويظهر أنّ التّفسير الأوّل أقرب).

٦ ـ لماذا اتهموا النّبي بأنّه مسحور؟

إنّ اتّهام النّبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل المشركين بأنّه (مسحور) لأنّهم أرادوا رميه بالجنون ، وأنّ السحرة أثروا على عقله وفكره بحيث أصيب في حواسه ، وأخذ يظهر ما يظهر ـ العياذ بالله!!

بعض المفسّرين احتملوا أن تكون كلمة (مسحور) بمعنى الساحر (لأنّه ـ كما أشرنا قبلا ـ فإنّ اسم المفعول قد يأتي في بعض الأحيان بمعنى اسم الفاعل) وبهذا الأسلوب أرادوا إعطاء صفة السحر لكلام الرّسول حتى يحولوا دون تأثيره في النفوس والقلوب. وهذا الاتهام بحدّ ذاته يعتبر اعترافا ضمنيا على مدى تأثير دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله على الناس.

٢١

٧ ـ تخوّف المشركين من نداء التوحيد

في الآيات السابقة عرفنا كيف أنّ المشركين كانوا يتخوفون من نداء التوحيد وكانوا يفرون منه ، لأنّ أساس حياتهم قائم على الشرك وعبادة الأصنام ، وكل النظم التي كانت تحكم مجتمعاتهم كانت تقوم على أساس قواعد الشرك وأصوله.

إذن ، فالتوحيد لا ينسف عقائدهم المذهبية وحسب ، بل يهدم نظامهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي الذي يقوم على أساس الشرك.

فالحكومة مثلا ستكون بيد المستضعفين ، وستسقط حكومة المستكبرين ، وسينتهي التقسيم الطبقي ، والاستغلال وغيرها من الظواهر السلبية التي تعتبر بأجمعها نتائج للأنظمة الكافرة. لذا فإنّ زعماء الشرك كانوا يحاولون ـ بقوة ـ ألّا يصل صوت التوحيد إلى آذان الآخرين ، ولكنّهم ـ كما تشير الآيات القرآنية ـ كانوا يظلمون المستضعفين وكانوا يظلمون أنفسهم أيضا ، لأنّ أي ظالم ومنحرف إنّما يحفر قبره بيده.

والطّريف أن القرآن يقول : إنّ هؤلاء المشركين ، ولأجل تبرير فجورهم واستمرار كفرهم كانوا يسألون دوما عن موعد يوم القيامة متى تقوم : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) (١) وهذه إشارة إلى تهربهم من تحمّل المسؤولية.

* * *

__________________

(١) سورة القيامة ، الآيتان ٥ ، ٦.

٢٢

الآيات

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))

التّفسير

حتمية البعث ويوم الحساب

الآيات السابقة تحدّثت عن التوحيد وحاربت الشرك ، أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدّث عن المعاد والذي يعتبر مكملا للتوحيد.

لقد قلنا سابقا : إنّ أهم العقائد الإسلامية تتمثل في الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ، والإعتقاد بهذين الأصلين يربيّان الإنسان عمليا وأخلاقيا ، ويصدّانه عن الذنوب ويدعوانه لأداء مسئولياته ويرشدانه إلى طريق التكامل.

الآيات التي نحن بصددها أجابت على ثلاثة أسئلة ـ أو شكوك ـ يثيرها

٢٣

منكر والمعاد ، ففي البداية تحكي الآيات على لسان المنكرين استفهامهم : (قالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (١). يقول هؤلاء : هل يمكن أن تجتمع هذه العظام المتلاشية الداثرة المتناثرة في كل مكان؟ وهل يمكن أن تعاد لها الحياة مرّة أخرى؟!. ثمّ أين هذه العظام النخرة المتناثرة في كل حدب وصوب من هذا الإنسان الحي القوي العاقل؟

إنّ التعبير القرآني في هذه الآية الكريمة يدلل على أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبيّن في دعوته (المعاد الجسماني) بعد موت الإنسان ، إذ لو كان الكلام عن معاد الروح فقط ، لم يكن ثمّة سبب لإيراد مثل هذه الإشكالات من قبل المعارضين والمنكرين.

القرآن في إجابته على هؤلاء يبيّن أنّ قضية بعث عظام الإنسان سهلة وممكنة ، بل وأكثر من ذلك ، فحتى لو كنتم حجارة أو حديدا : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) وحتى لو كنتم أشدّ من الحجر والحديد وأبعد منهما من الحياة : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) فإنّ البعث سيكون مصيركم.

من الواضح أنّ العظام بعد أن تندثر وتتلاشى تتحول إلى تراب ، والتراب فيه دائما آثار الحياة ، إذ النباتات تنمو في التربة ، والأحياء تنمو في التراب ، وأصل خلقه الإنسان هي من التراب ، وهذا كلام مختصر على أنّ التراب هو أساس الحياة.

أمّا الحجارة أو الحديد أو ما هو أكبر منهما تحدّى به القرآن منكري المعاد ، فإنّ كل هذه أمور بينها وبين الحياة بون شاسع ، إذ لا يمكن للنبات مثلا أن ينبت في الحديد أو الصخور أمّا القرآن فيبيّن أن لا فرق عند الخالق جلّ وعلا ، من أي مادة كنتم ، إذ أنّ عودتكم إلى الحياة بعد الموت تبقى ممكنة ، بل وهي المصير الذي لا بدّ وأن تنتهون إليه.

__________________

(١) «رفات» على وزن «كرات» وهو معنى يطلق على كلّ شيء قديم ومتلاش.

٢٤

إنّ الأحجار تتلاشى وتتحول إلى تراب ، وأصل الحياة ينبع من هذا التراب.

الحديد هو الآخر يتلاشى ويتفاعل مع باقي الموجودات على الكرة الأرضية ليدخل في أصل مادتها وفي تركيبها الترابي الذي هو أيضا أصل الحياة الذي تنبع من داخله ومن مادته الموجودات الحيّة. وهكذا تحتوي جميع موجودات الكرة الأرضية بما فيها الإنسان ، في بنائها وتركيبها على خليط من الفلزات واللافلزات. وهذا التحوّل والتغيّر في حركة الموجودات ، دليل على أنّ جميع مخلوقات عالم الوجود لها قابلية التحوّل إلى موجود حيّ باختلاف واحد يقع في الدرجة والمرحلة ، إذ بعضها يكون في مرتبة أقرب إلى الحياة مثل التراب ، بينما بعضها الآخر يكون في مرتبة أبعد مثل الحجارة والحديد.

السؤال التشكيكي الآخر الذي يثيره منكر والمعاد هو : إذا سلّمنا بأنّ هذه العظام المندثرة المتلاشية يمكن أن تعود إلى الحياة ، فمن يستطيع أن يقوم بهذا الأمر ؛ ومن الذي له قدرة القيام بهذه العملية المعقّدة للغاية؟

هذا السؤال تصوغه الآية بالقول على لسان المنكرين : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) القرآن يجيب على هذا السؤال حيث يقول : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

إذا كان شككم في (القابلية) فقد كنتم ترابا في أوّل الأمر ، فما المانع أن تصيرون ترابا ، ثمّ يعيدكم مرّة أخرى إلى الحياة من نفس التراب؟!

وإذا كان شككم في (الفاعلية) فإنّ الخالق الذي خلقكم في البداية من تراب يستطيع مرّة أخرى أن يكرّر هذا العمل لأنّ : «حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز سواء».

بعد الانتهاء من الشك الأوّل والثّاني الذي يطلقه المنكرون للمعاد ، تنتقل الآيات إلى الشك الثّالث الذي تصوغه على لسانهم بهذا السؤال : (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ).

«سينغضون» مشتقّة من مادة «انغاض» بمعنى مدّ الرأس نحو الطرف المقابل

٢٥

بسبب التعجّب.

ما يقصده هؤلاء من سؤالهم ـ في الواقع ـ هو قولهم : لو اعترفنا بقدرة الخالق على إعادة بعث الإنسان من التراب من جديد ، فإنّ هذا يبقى مجرّد وعد لا ندري متى يتحقق ، إذا كان سيحصل هذا في آلاف أو ملايين السنين القادمة فما تأثيره في يومنا هذا ... إنّ المهم أن نتحدّث عن الحاضر لا عن المستقبل!!

ويجيب القرآن بقوله : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) إن يوم المعاد ـ طبعا ـ قريب ، لأنّ عمر العالم والحياة على الأرض ، مهما طالت ، فإنّها في قبال الحياة الأبدية تعتبر لا شيء ، إذ هي مجرّد لحظات سريعة وعابرة وسرعان ما تنتهي.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ القيامة إذا كانت في تصوراتنا المحدودة بعيدة فإنّ مقدمة القيامة والتي هي الموت ، تعتبر قريبة منّا جميعا ، لأنّ الموت هو القيامة الصغرى (إذا مات الإنسان قامت قيامته) ، صحيح أنّ الموت لا يمثل القيامة الكبرى ، ولكنّه علامة عليها ومذكّر بها.

كما إنّ استخدام كلمة «عسى» في الآية الشريفة هو إشارة إلى أنّ لا أحد يعرف ـ وبدقة ـ متى تقوم القيامة؟ حتى شخص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا الأمر هو من أسرار الكون والخليفة التي لا يعلمها سوى الله تبارك وتعالى.

في الآية التي بعدها إشارة إلى بعض خصوصيات القيامة في قوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي إن بعثكم يكون يوم يدعوكم من القبور فتمتثلون لأمره طوعا أو كرها ، والآية ـ بالطبع ـ تتحدث عن خصوصية يوم القيامة لا عن موعد القيامة.

في ذلك اليوم ستظنون أنّكم لبتثم قليلا في عالم ما بعد الموت (البرزخ) وهو قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) إنّ هذا الإحساس سيطغى على الإنسان في يوم القيامة ، وهو يظن أنّه لم يلبث في عالم البرزخ إلّا قليلا ، بالرغم من طول الفترة التي قضاها هناك ، وهذه إشارة إلى أنّ حياة البرزخ لا تعتبر في مدتها شيئا

٢٦

في قبال عالم الخلود الاخروي.

بعض المفسّرين يحتمل أنّ الغرض من الآية هو الإشارة إلى حياة الإنسان في الدنيا ، والمعنى أنّ الإنسان سيدرك في يوم القيامة أنّ الحياة الدنيوية لم تكن إلّا وقفة ، أو يوم ، بل وساعات قصار سريعة الزوال في مقابل الحياة الآخر الأبدية.

* * *

٢٧

الآيات

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧))

التّفسير

التعامل المنطقي مع المعارضين :

الآيات السابقة عرضت لقضية المبدأ والمعاد ، أمّا الآيات التي نحن بصددها فهي توضح أسلوب المحادثة والاستدلال مع المعارضين وخصوصا المشركين ،

٢٨

لأنّه مهما كان المذهب عالي المستوى ، والمنطق قويا ، فإنّ ذلك لا تأثير له ما دام لا يتزامن مع أسلوب صحيح للبحث والمجادلة مرفقا بالمحبّة بدلا من الخشونة. لذا فإنّ أوّل آية من هذه المجموعة تقول : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). الأحسن من حيث المحتوى والبيان ، والأحسن من حيث التلازم بين الدليل ومكارم الأخلاق والأساليب الإنسانية ، ولكن لماذا يستعمل هذا الأسلوب مع المعارضين؟

الجواب : إذا ترك الناس القول الأحسن واتبعوا الخشونة في الكلام والمجادلة ف (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) ويثير بينهم الفتنة والفساد ، فلا تنسوا : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً).

أمّا من هم (العباد) المقصودون في هذه الآية؟

في صدد الجواب هناك رأيان مختلفان بين المفسّرين ، وكل رأي مدعم بالقرآئن التي تؤيده ؛ هذان الرأيان هما :

أوّلا : المقصود من (عبادي) هم عبيده المشركون ، إذ بالرغم من أنّهم سلكوا طريقا خاطئا ، إلّا أنّ الله تبارك وتعالى يناديهم (عبادي) وذلك من أجل إثارة عواطفهم الإنسانية ، ويدعوهم إلى (القول الأحسن) ويعني هنا كلمة التوحيد وترك الشرك ومراقبة أنفسهم من وسواس الشيطان ، وهكذا يكون الهدف من هذه الآيات ـ بعد ذكر أدلة التوحيد والمعاد ـ هو النفوذ إلى قلوب المشركين حتى يستيقظ ذوي الاستعداد منهم.

الآيات التي تلي هذه الآية ـ كما سيأتي ـ تناسب هذا المعنى ، وكون هذه السورة مكّية يرجح هذا الرأي ، إذ لم يكن الجهاد قد فرض بعد وكانت الدعوة بالمنطق والأسلوب الحسن فقط هي المأمور بها.

ثانيا : كلمة (عبادي) خطاب للمؤمنين ، حيث تعلّمهم الآية أسلوب النقاش مع الأعداء ، فقد يحدث في بعض الأحيان أن يتعامل المؤمنون الجدد بخشونة مع

٢٩

معارضي عقيدتهم ويقولون لهم بأنّهم من أهل النّار والعذاب ، وأنّهم ضالون ، ويعتبرون أنفسهم من الناجين ، قد يكون هذا الموقف سببا في أن يقف المعارضون موقفا سلبيا إزاء دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

اضافة لذلك ، فإنّ الاتهامات التي يطلقها المشركون ضدّ شخص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتهمونه فيها بالسحر والجنون والكهانة والشعر ، قد تكون سببا في أن يفقد المؤمنون السيطرة على أنفسهم ويبدأوا بالتشاجر مع المشركين ويستخدموا الألفاظ الخشنة ضدّهم ... القرآن يمنع المؤمنين من هذا العمل ويدعوهم إلى التزام اللين والتلطّف بالكلام واختيار أفضل الكلمات في أسلوب التخاطب ، حتى يأمنوا من إفساد الشيطان.

كلمة (بينهم) وفقا لهذا الرأي توضح أنّ الشيطان يحاول زرع الفساد بين المؤمنين ومن يخالفهم ؛ أو أنّه يحاول النفوذ إلى قلوب المؤمنين لإفسادها «ينزغ» مشتقة من «نزغ» وتعني الدخول إلى عمل بنيّة الإفساد.

بملاحظة مجموع هذه القرائن يتبيّن لنا أنّ التّفسير الثّاني ينطبق مع ظاهر الآية الكريمة أكثر من التّفسير الأوّل ، لأنّ كلمة (عبادي) في القرآن تستخدم عادة لمخاطبة المؤمنين ، إضافة إلى أنّ سبب نزول الآية يؤيد هذا المعنى ويدعم هذا التّفسير ، إذ ينقل بعض المفسّرين أنّ المشركين كانوا يؤذون أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة ويضيّقون عليهم ، وفي أثناء ذلك كان بعضهم يأتي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستأذنه ويلح عليه في مواجهة المشركين بالمثل (على الأقل الرد عليهم بألفاظ شديدة تناسب ألفاظ المشركين) والبعض يطلب الإذن بالجهاد ، ولكن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبيّن لهم بأنّه لم يؤذن له بعد القيام بهذه الأعمال. وفي هذه الأثناء نزلت الآيات أعلاه تؤكّد بأن التكليف ما زال يتمثل في استمرار الدعوة بالكلام ، والمجادلة باللطف وبالتي هي أحسن (١).

__________________

(١) إلى هذا الرأي يذهب الشّيخ الطبرسي في مجمع البيان ، والقرطبي في تفسيره. يراجح تفسيرهما للآية الكريمة.

٣٠

الآية التي بعدها تضيف : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ). بناء على الرأيين السابقين في تفسير من المخاطب في تعبير (عبادي) فإنّ هذه الآية أيضا ـ وتبعا لما سبق ـ تحتمل تفسيرين هما :

الأوّل : أيّها المشركون ؛ إنّ ربّكم ذو رحمة واسعة ، وذو عقاب اليم ، وسيشملكم منهما ما يلائم أعمالكم ، ولكن الأفضل أن تتوسلوا برحمته الواسعة وتحذروا عذابه.

الثّاني : لا تظنوا أيّها المؤمنون بأنّكم وحدكم الناجون ، وأن غيركم سيكون مصيره النّار ، فالله أعلم بأعمالكم ونواياكم ، ولو أراد عزوجل لأخذكم بذنوبكم ، ولو شاء لشملكم برحمته ، ففكروا قليلا في أنفسكم وليكن حكمكم على أنفسكم والآخرين بالانصاف.

وفي آخر الآية مواساة للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يتأذى ويتألم من عدم إيمان المشركين، إذ يقول تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً). إنّ مسئوليتك ـ يا رسول الله ـ هي الإبلاغ الواضح ، والدعوة الحثيثة نحو الحق ، فإذ آمنوا فهو الأفضل ، أمّا إن لم يؤمنوا فسوف لن يصيبك ضرر ، لأنك أنجزت مسئوليتك وقمت بواجبك.

وبالرغم من أنّ المخاطب في الآية هو الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ من غير المستبعد أن يكون هدف الخطاب جميع المؤمنين. وهذا دليل آخر على التّفسير الثّاني للمعنى من خطاب (عبادي) ، إذ يقول القرآن للمؤمنين : إنّ مسئوليتكم هي الدعوة سواء آمنوا أم لم يؤمنوا. لذا لا داعي لعدم ارتياحكم الذي قد يؤدي بكم إلى اتباع الخشونة مع غير المؤمنين ، والخروج بالتالي عن طريق التي هي أحسن ، ممّا يؤدي إلى نزغ الشيطان.

الآية التّالية ذهبت أكثر من الآية السابقة في التعبير عن إحاطه الله تبارك وتعالى وعلمه بأعمال ونيّات عباده ، فقالت : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ

٣١

وَالْأَرْضِ). ثمّ أضافت : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً).

هذا التعبير القرآني جواب على أحد أسئلة المشركين وشكوكهم ، حيث كانوا يقولون ـ بأسلوب استهزائي ـ لماذا انتخب الله للنّبوة محمّد اليتيم ، ثمّ ما الذي حصل حتى أصبح هذا اليتيم ليس نبيّا وحسب ، وإنّما خاتم الأنبياء؟

القرآن يقول لهؤلاء : لا تعجبوا من ذلك ، لأنّ الله عليم بقيمة كل إنسان ، وهو سبحانه وتعالى ينتخب أنبياءه من بين عامّة الناس ، ويفضل بعضهم على بعض ، إذ جعل أحدهم (خليل الله) والآخر (كليم الله) والثّالث (روح الله) ، أمّا نبيّنا فقد انتخبه بعنوان (حبيب الله). وباختصار : لقد فضل الله بعض النّبيين على بعض لموازين يعلمها هو وتختص بها حكمته جلّ وعلا.

أمّا لماذا اختار تبارك وتعالى (داود) من بين جميع الأنبياء ، وذكر (الزبور) من دون الكتب السماوية الأخرى؟ ... قد يكون السبب ما يلي :

أوّلا : يختص زبور داود عليه‌السلام من بين جميع كتب الأنبياء بأنّ جميعه على شكل مناجاة ودعاء ، وذكره هنا يتلائم أكثر مع موقع هذه الآيات وحديثها عن القول الحسن والكلام الجميل.

ثانيا : في زبور داود إخبار عن حكومة الصالحين الذين هم ظاهرا أناس فقراء ويتامى. وهذا الإخبار يتناسب مع دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين الذين يكونوا عادة في زمرة الفقراء، وهو رد على إشكال المشركين وأسئلتهم وشكوكهم (١).

ثالثا : بالرّغم من أنّ داود عليه‌السلام كان له حكم عظيم ودولة كبيرة وملك واسع ، إلّا

__________________

(١) في كتاب مزامير داود (الزّبور) والذي بين أيدينا الآن ، نقرأ في الزبور (٢٧) : «لأنّ الشريرين سوف ينقطعون ، أمّا المتوكلون على الله فسيرثون الأرض ، وبعد مدّة سوف لا يكون هناك شريرين ، أمّا الحكماء والصالحون فسيرثون الأرض». وفي المزمور في الجملة (٢٢) و (٢٩) نقرأ تعابير مشابهة. وهذا ينطبق مع ما جاء في القرآن الكريم في الآية (١٠٥) من سورة الأنبياء : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).

٣٢

أنّ الله سبحانه لم يجعل هذه الأمور سببا لافتخاره ، بل اعتبر كتاب الزّبور فخره ، حتى يدرك المشركون أنّ عظمة الإنسان ، ليس لها علاقة بالمال والثروة ووجود الحكومة والسلطة ، كما أنّ اليتم والفقر ليس مدعاة للذل أو دليلا على الحقارة.

رابعا : بعض اليهود قالوا : لا يمكن نزول كتاب سماوي آخر بعد موسى عليه‌السلام،والقرآن يقول لهم : إنّنا أعطينا داود زبورا ، فلما ذا تتعجبون من نزول القرآن؟ (بالطبع كتاب داود كان كتابا للأخلاق وليس للأحكام ، ولكنّه نزل من الله سبحانه وتعالى بعد التّوراة).

في كل الأحوال ، ليس هناك من مانع أن تكون النقاط الأربع أعلاه سببا لانتخاب داود وزبوره من بين جميع الأنبياء ، وجميع الكتب السماوية.

الآية التي تليها تستمر في اتجاه الآيات السابقة ، إذ تقول للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطب المشركين بقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً).

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ، كما في آيات أخرى كثيرة ـ تبطل منطق المشركين وتضرب ، صميم عقيدتهم من هذا الطريق ، وهو أنّ عبادة الآلهة من دون الله ، إمّا بسبب جلب المنفعة أو دفع الضرر ، في حين أنّ الآلهة التي يعبدونها ليس لها القدرة على حل مشكلة معينة أو حتى تحريكها ؛ أي نقل المشكلة من مستوى معين إلى مستوى أقل.

لذا فإنّ ذكر جملة (وَلا تَحْوِيلاً) بعد قوله (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ) إشارة إلى أنّ هؤلاء ليست لهم القدرة للتأثير الكامل في حل المشاكل بشكل نهائي ، ولا القدرة للتأثير الناقص في تغيير هذه المشاكل وحلّها بشكل جزئي.

«زعمتم» مأخوذة من «زعم» وهي عادة ما تعني المعنى الناقص ، لذا نقل عن ابن عباس أنّه متى ما جاءت كلمة (زعم) في القرآن فإنّها تعني الكذب والعقائد الباطلة.

٣٣

أمّا الراغب الأصفهاني في كتاب المفردات فيقول : «الزعم حكاية قول يكون مظنّة للكذب». لذا فإنّ هذه الكلمة وردت مذمومة في جميع الموارد التي ذكرت في القرآن الكريم.

أمّا كلمة (كشف) ففي الأصل تعني إبعاد الستار أو اللباس أو ما شابهه عن شي معين. وإذا استخدمت في تعبير (كشف الضر) فتعني إبعاد الحزن والغم والمرض ؛ والسبب في ذلك أنّ هذه الأمور تعتبر كالستار التي يغطي وجه الإنسان وجسمه ، إذ تغطي الوجه الحقيقي الذي هو عبارة عن السلامة والراحة والهدوء ، لذلك فإنّ إزالة هذا الغم والحزن يعتبر (كشفا للضر).

من الضروري أيضا الالتفات هنا إلى ملاحظة مهمّة هي أنّ استخدام تعبير «الذين» في هذه الآية لا يشمل جميع المعبودات التي يشركها الإنسان مع الله (كالأصنام وغيرها) بل يشمل الملائكة والمسيح وأمثالهم ، لأنّ (الذين) في اللغة العربية هي اسم إشارة يستخدم عادة للعاقل.

بعد ذلك تؤكّد الآية التالية على ما ذكرناه في الآية السّابقة ، فتقول : هل تعلمون لماذا لا يستطيع الذين تدعونهم من دون الله أن يحلّوا مشاكلكم ، أو أن يجيبوا لكم طلباتكم بدون إذن الله سبحانه وتعالى؟

الآية تجيب على ذلك بأنّ هؤلاء أنفسهم يذهبون إلى بيت الله ، ويلجأون للتقرب من الذات الإلهية المقدّسة لقضاء حوائجهم وحل مشاكلهم وتحقيق ما يريدونه : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ... أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ... وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ... وَيَخافُونَ عَذابَهُ ... إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً).

في تفسير قوله تعالى (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) لمفسري القرآن العظيم آراء مختلفة في ذلك ، نحاول استعراضها فيما يلي :

ذهب بعض كبار مفسري الإسلام إلى : أنّ التعبير القرآني يشير إلى أنّ أولياء الله يذهبون إلى الملائكة والأنبياء (الذين يعبدهم المشركون من دون الله) ، أيّهم

٣٤

أقرب إلى الله فيقربون إليه أكثر. وهؤلاء لا يملكون شيئا من عندهم ، بل كل ما يملكونه هو من الله ، وكلما يرتفعون في المقام تزداد طاعتهم وعبوديتهم (١).

البعض الآخر من المفسّرين يعتقد بأنّ مفهوم التعبير القرآني هو أنّهم يحاولون التسابق في التقرّب من الخالق ، ففي طريق طاعة الله والتقرب من ذاته المقدّسة اشترك هؤلاء في مسابقة معنوية ، حيث يحاول كل واحد منهم أن يتقدم على الآخر في الميدان.

والآية ـ بعد ذلك ـ تقول : الذين يتصفون بهذه الصفات هل يمكن عبادتهم من دون الله ، وهل هم مستقلون (٢)؟

أمّا التّفسير الذي يقول : إنّهم يسلكون أي وسيلة تقربهم من الله ، فاحتماله بعيد جدّا ، لأنّ ضمير (هم) في «أيّهم» والذي يستخدم لجمع المذكر ، لا يتلائم مع هذا المعنى ، بل كان يجب أن يكون «أيّها» ليستقيم الرأي وبالإضافة إلى ذلك فإنّ جملة (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) تقع على شكل مبتدأ وخبر ، في حين أنّها وفقا لهذا المعنى يجب أن تكون على شكل مفعول أو بدلا عن المفعول.

ما هي الوسيلة؟

هذه الكلمة استخدمت في موضعين في القرآن الكريم ، الموضع الأوّل في هذه الآية ، والآخر في الآية (٣٥) من سورة المائدة في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وقد قلنا هناك : إنّ (الوسيلة) تعني (التقرب) أو الشيء الذي يبعث على التقرّب (أو النتيجة التي يمكن الحصول عليها من التقرّب).

__________________

(١) وفقا لهذا التّفسير تكون «أيّهم» بدل من ضمير «يبتغون» ، أو مبتدأ لخبر محذوف ، وفي التقدير تكون الآية : (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أيّهم أكثر دعاء وابتغاء للوسيلة.

(٢) في هذه الحالة «أيّهم» من حيث التركيب النحوي يمكن أن تكون ـ فقط ـ بدلا من ضمير (يبتغون).

٣٥

على هذا الأساس فإنّ هناك مفهوما واسعا جدّا لكلمة (الوسيلة) يشمل كل عمل جميل ولائق ، وتدخل في مفهومها كل صفة بارزة أخرى ، لأنّ كل هذه الأمور تكون سببا في التقرب من الله.

ونقرأ في الكلمات الحكيمة للإمام علي عليه‌السلام في الخطبة (١١٠) من نهج البلاغة قوله عليه‌السلام : «إنّ أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى ، الإيمان به وبرسوله ، والجهاد في سبيله ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت واعتماره، وصلة الرحم ، وصدقة السّر ، وصدقة العلانية ، وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان»(١).

شفاعة الأنبياء والصالحين والمقرّبين التي تكون مقبولة في حضرة الله تبارك وتعالى ، كما تصرح بذلك الآيات القرآنية ، تعتبر أيضا من وسائل التقرّب.

وينبغي هنا عدم التباس الأمور ، إذ أنّ التوسّل بالمقربين من الله تعالى لا يعني أنّ الإنسان يريد شيئا من النّبي أو الإمام بشكل مستقل ، أو أنّهم يقومون بحل مشاكله بشكل مستقل عن الله ، بل الهدف هو أن يضع الإنسان نفسه في خطّهم ويطبق برامجهم ، ثمّ يطلب من الله بحقهم ، حتى يعطي الله إذن الشفاعة لهم. (لمزيد من التفاصيل يراجع التّفسير الأمثل ، الآية (٥٣ : من سورة المائدة).

* * *

__________________

(١) ملخص من الخطبة (١١٠) من نهج البلاغة. وقد شرحنا هذه الخطبة في تفسيرنا هذا ، ذيل الآية (١٣) من سورة المائدة.

٣٦

الآيات

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

التّفسير

بعد أنّ تحدثت الآيات السابقة مع المشركين في قضايا التوحيد والمعاد ، تبدأ أوّل آية من هذه الآيات بكلام على شكل نصيحة لتوعيتهم ، حيث تجسّم هذه الآية النهائية الفانية لهذه الدنيا أمام عقولهم حتى يعرفوا أنّ هذه الدنيا دار زوال وأنّ البقاء الأبدي في مكان آخر، لذلك ما عليهم إلّا تهيئة أنفسهم لمواجهة نتائج أعمالهم ، حيث تقول الآية : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ

٣٧

الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً).

فالطغاة والظالمون نبيدهم بواسطة العذاب ، أمّا الآخرون فيهلكون بالموت أو الحوادث الطبيعية.

وأخيرا ، فإنّ هذه الدنيا زائلة والكل يسلك طريق الفناء (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً). والكتاب هنا هو نفس اللوح المحفوظ وهو العلم اللامتناهي للخالق جلا وعلا ، ومجموعة القوانين الإلهية التي لا يمكن التخلّف عنها في عالم الوجود هذا.

ونظرا لهذا القانون الحتمي الذي لا يمكن تغييره يجب على المشركين والظالمين والمنحرفين ـ من الآن ـ أن يحاسبوا أنفسهم لأنّهم حتى لو بقوا أحياء حتى نهاية هذه الدنيا، فإنّ عاقبتهم ستكون الفناء ثمّ الحساب والجزاء.

وهنا قد يقول المشركون : نحن لا مانع لدينا من الإيمان ولكن بشرط أن يقوم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجميع المعجزات التي نقترحها عليه ، أي أن يستسلم لحججنا.

القرآن يجيب أمثال هؤلاء بقوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ).

الآية تشير إلى أنّ الله تبارك أرسل معجزات كثيرة وكافية لدلالة على صدق الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا ما تقترحونه من معجزات فهي غير مقبولة ، لأنّكم بعد وقوعها ومشاهدتها سوف لا تؤمنون ، بدليل أنّ الأمم السابقة والتي كانت أوضاعها وحالاتها مماثلة لأوضاعكم وحالاتكم ، اقترحت نفس الاقتراحات ثمّ لم تؤمن بعد ذلك.

تشير الآية بعد ذلك إلى نموذج واضح لهذه الحالة فتقول : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) لقد طلب قوم صالح الناقة فأخرجها الله لهم من الجبل ، وأجيبت بذلك المعجزة التي طلبوها ، وقد كانت معجزة واضحة وموضّحة!

ولكن بالرغم من كل ذلك (فَظَلَمُوا بِها).

٣٨

وعادة فإنّه ليس من مقتضيات البرنامج الإلهي أن يستجيب لأي معجزة يقترحها إنسان ، أو أن ينصاع إلى تنفيذها الرّسول ، ولكن الهدف هو : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً). إنّ أنبياء الله ليسوا أفرادا خارقي العادة حتى يجلسوا وينفذوا أيّ اقتراح يقترح عليهم وإنّما مسئوليتهم إبلاغ دعوة الله والتعليم والتربية وإقامة الحكومة العادلة ، إلّا أنّهم يظهرون المعجزات من أجل إثبات علاقتهم بالخالق جلّ وعلا ، وبالقدر الذي يناسب هذا الإثبات ليس أكثر.

ثمّ يواسي الله تبارك وتعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقابل عناد المشركين وإلحاحهم بالباطل ، إذ يبيّن له أن ليس هذا بالشيء الجديد : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ). ففي قبال دعوة الأنبياء عليهم‌السلام هناك دائما مجموعة مؤمنة نظيفة القلب نقية السريرة ، صافية الفطرة ، في مقابل مجموعة أخرى معاندة مكابرة لجوجة تتحجج وتجد لنفسها المعاذير في معاداة الدعوات وإيذاء الأنبياء. وهكذا يتشابه الحال بين الأمس واليوم.

ثمّ يضيف تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) وامتحانا لهم ، وكذلك الشجرة الملعونة هي أيضا امتحان وفتنة للناس : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ).

فيما يخص المقصود من (الرؤيا) و (الشجرة الملعونة) فسنبحث ذلك في مجموعة الملاحظات التي ستأتي بعد قليل إن شاء الله.

وفي الختام يأتي قوله تعالى : (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً). لماذا؟ لأنّه ما دام قلب الإنسان غير مستعد لقبول الحق والتسليم له ، فإنّ الكلام ليس لا يؤثر فيه وحسب ، بل إنّ له آثارا معكوسة ، حيث يزيد في ضلال هؤلاء وعنادهم بسبب تعصبهم ومقاومتهم السلبية وانغلاق نفوسهم عن الحق. (تأمّل ذلك).

* * *

٣٩

بحوث

١ ـ رؤيا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والشّجرة الملعونة

كثر الكلام بين المفسّرين عن المقصود بالرؤيا ونجمل هذه الأقوال بما يلي :

أ: بعض المفسّرين قالوا : إنّ هذه الرؤيا لا تعني رؤيا المنام ، بل تعني المشاهدة الحيّة الحقيقية للعين ، ويعتبرونها (أي الرؤيا) إشارة إلى قصّة المعراج التي ورد ذكرها في بداية هذه السورة.

فالقرآن ووفقا لهذا التّفسير يقول : إنّ حادثة المعراج هي بمثابة اختبار للناس ، لأنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما إن شرع بذكر قصّة المعراج والإخبار عنها ، حتى ارتفعت أصوات الناس ، بآراء مختلفة حولها ، فالأعداء استهزؤا بها ، وضعيفو الإيمان نظروا إليها بشيء من التردّد والشك ، أمّا المؤمنون الحقيقيون فقد صدّقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخبر ، واعتقدوا بالمعراج بشكل كامل ، لأنّ مثل هذه الأمور تعتبر بسيطة في مقابل القدرة المطلقة للخالق جلّ وعلا.

الملاحظة الوحيدة التي يمكن درجها على هذا التّفسير ، هي أنّ الرؤيا عادة ما تطلق على رؤيا المنام ، لا الرؤيا في اليقظة.

ب : نقل عن ابن عباس ، أنّ المقصود بالرؤيا ، هي الرؤيا التي رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنّة السّادسة من الهجرة المباركة (أي عام الحديبية) في المدينة ، وبشرّ بها الناس أنّهم سينتصرون على قريش قريبا وسيدخلون المسجد الحرام آمنين.

ومن المعلوم أنّ هذه الرؤيا لم تتحقق في تلك السنة ، بل تحققت بعد سنتين أي في عام فتح مكّة. وهذا المقدار من التأخير جعل أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقعون في بوتقة الاختبار ، إذ أصيب ضعيفو الإيمان بالشك والريبة من رؤيا الرّسول وقوله ، في حين أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن لهم ـ بصراحة ـ بأنّني لم أقل لكم

٤٠