الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

فأعرض الإمام عنه بوجهه فقال : «إذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في مالك، وتلا الآية (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (١).

إشارة إلى أنّك ضال ومضل ، ولا تستحق أن تكون نصيرا.

وعلى أية حال ، فإن البقاء دون نصير ومعين أفضل من طلب معونة الأشخاص الملوثين والضالين واتّخاذهم عضدا.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٦٨

٣٠١

الآيات

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦))

التّفسير

في انتظار العقاب :

تنطوي هذه الآيات على تلخيص واستنتاج لما ورد في الآيات السابقة ، وهي تشير ـ أيضا ـ إلى بحوث قادمة.

الآية الأولى تقول : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).

لقد ذكرنا نماذج من تأريخ الماضين المليء ، بالإثارة ، وقد أوضحنا للناس الحوادث المرّة للحياة واللحظات الحلوة في التأريخ ، وقد قلّبنا بيان هذه الأمور بحيث تتقبلها القلوب المستعدّة للحق ، وتكون الحجة على الآخرين تامّة ،

٣٠٢

ولا يبقى ثمّة مجال للشك.

ولكن بالرغم من هذا فإنّ مجموعة عصاة لم يؤمنوا أبدا : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً).

«صرّفنا» من «تصريف» وتعني التغيير والتحوّل من حال إلى حال. الهدف من هذا التعبير في الآية أعلاه هو أنّنا تحدثنا مع الناس بكل لسان يمكن التأثير به عليهم.

«جدل» تعني محادثة الآخرين على أساس المنازعة وإظهار نزعة التسلّط على الآخرين. ولهذا فإنّ (المجادلة) تعني قيام شخصين بإطالة الحديث في حالة من التشاجر ، وهذه الكلمة في الأصل مأخوذة ـ وكما يقول الراغب في المفردات ـ من (جدلت الحبل) أي ربطت الحبل بقوّة ، وهي كناية عن أنّ الشخص المجادل يستهدف من خلال جدله أن يحرف الشخص الآخر ـ بالقوّة ـ عن أفكاره.

وقال آخرون : إنّ أصل (الجدال) هو بمعنى المصارعة وإسقاط الآخر على الأرض. وهي تستعمل أيضا في الدلالة على الشجار اللفظي.

في كل الأحوال ، يكون المقصود بالناس في الآية هم تلك الفئة التي لا تقوم في وجودها وممارساتها على أصول التربية الإسلامية وقواعدها ، وقد أكثر القرآن في استعمال هذه التعابير ، وقد شرحنا هذه الحالة مفصلا في نهاية الحديث عن الآية (١٢) من سورة يونس.

الآية التي بعدها تقول : إنّه بالرغم من كل هذه الأمثلة المختلفة والتوضيحات المثيرة والأساليب المختلفة التي ينبغي أن تنفذ إلى داخل الإنسان المستعد لقبول الحق ، فإنّ هناك مجموعة كبيرة من الناس لم تؤمن : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي مصير الأمم السالفة : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) (١) فيرونه بامّ أعينهم.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ إشارة الى أنّ هذه المجموعة المعاندة والمغرورة

__________________

(١) (قبل) تعني (التقابل ، بمعنى مشاهدة العذاب الإلهي بالعين ، بعض المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان ، وأبي الفتوح في روح الجنان ، والآلوسي في روح المعاني احتملوا أن تكون (قبل) جمع (قبيل) وهي إشارة إلى الأنواع المختلفة من العذاب ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أقرب حسب الظاهر.

٣٠٣

لا تؤمن بإرادتها وبشكل طبيعي أبدا ، بل هم يؤمنون في حالتين فقط :

أوّلا : عند ما يصيبهم العذاب الأليم الذي نزل مثله في الأقوام والأمم السابقة.

ثانيا : عند ما يشاهدون العذاب الإلهي بأعينهم على الأقل وقد أشرنا مرارا إلى أنّ مثل هذا الإيمان هو إيمان عديم الفائدة.

ومن الضروري الانتباه هنا إلى أنّ مثل هؤلاء الناس لم يكونوا ينظرون مثل هذه العاقبة أبدا ، أمّا لأنّ هذه العاقبة كانت حتمية بالنسبة لهم وهي الشيء الوحيد الذي ينتهي إليه مصيرهم ، لذا نرى القرآن قد طرحها على شكل انتظار ، وهذا نوع من الكناية اللطيفة. ومثله أن تقول للشخص العاصي : إنّ أمامك ـ فقط ـ أن تنتظر لحظة الحساب ، بمعنى أنّ الحساب والعقاب أمر حتمي بالنسبة له ، وهو بذلك يعيش حالة انتظار للمصير المحتوم.

إنّ بعض حالات العصيان والغرور التي يصاب بها الإنسان قد تتسلّط عليه بحيث لا يؤثّر فيه لا الوحي الإلهي ، ولا دعوات الأنبياء الهادية ، ولا رؤية دروس وعبر الحياة الاجتماعية ، ولا مطالعة تأريخ الأمم السابقة. إنّ الذي ينفع مع هذه الفئة من الناس هو العذاب الإلهي الذي يعيد الإنسان إلى رشده ، ولكن عند نزول العذاب تغلق أبواب التوبة ، ولا يوجد ثمّة طريق للرجعة والاستغفار.

ومن أجل طمأنة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقابل صلافة وعناد أمثال هؤلاء ، تقول الآية:(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).

ثمّ تقول الآية : إنّ هذه القضية ليست جديدة ، بل إنّ من واقع هؤلاء الأشخاص المعارضة والاستهزاء بآيات الله : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ

٣٠٤

لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) (١).

وهذه الآية تشبه الآيات (٤٢ ـ ٤٥) من سورة الحج التي تقول : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ ...) إلى آخر الآيات.

ويحتمل في تفسير الآية أنّ الله تبارك وتعالى يريد أن يقول : إنّ عمل الأنبياء لا يقوم على الإجبار والإكراه ، بل إنّ مسئوليتهم التبشير والإنذار ، والقرار النهائي مرتبط بنفس الناس كي يفكروا بعواقب الكفر والإيمان معا ، وحتى يؤمنوا عن تصميم وإرادة وبيّنة ، لا أن يلجأوا إلى الإيمان الاضطراري عند نزول العذاب الإلهي.

لكن ، مع الأسف أن يساء استخدم حرية الإختيار هذه والتي هي وسيلة لتكامل الإنسان ورقيّه ، عند ما يقوم أنصار الباطل بالجدال في مقابل أنصار الحق ، إذ يريدون القضاء على الحق عن طريق الاستهزاء أو المغالطة. ولكن هناك قلوبا مستعدة لقبول الحق دوما والتسليم له ، وإنّ هذا الصراع بين الحق والباطل كان وسيبقى على مدى الحياة.

* * *

__________________

(١) (يدحضوا) مشتقة من (إدحاض) بمعنى الإبطال والإزالة ، وهي في الأصل مأخوذة من كلمة (دحض) بمعنى الانزلاق.

٣٠٥

الآيات

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

التّفسير

لا استعجال في العقاب الإلهي :

الآيات السابقة كانت تتحدّث عن مجموعة من الكافرين المتعصبين والمظلمة قلوبهم؛الآيات التي بين أيدينا تستمر في نفس البحث.

ففي البداية قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ).

إنّ استخدم تعبير (ذكّر) يوحي إلى أنّ تعليمات الأنبياء عليهم‌السلام هي بمثابة التذكير بالحقائق الموجودة بشكل فطري في أعماق الإنسان ، وإنّ مهمّة الأنبياء

٣٠٦

هي رفع الحجب عن نقاء وشفافية هذه الفطرة.

هذا المعنى ورد في الخطبة الأولى من خطب نهج البلاغة حيث يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا إليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول».

الطريف في الأمر أنّ الآية الكريمة رسمت ثلاثة مسالك ليقظة هؤلاء وإعادتهم إلى نور الهداية ، هي :

أوّلا : إنّ هذه الحقائق تلائم بشكل كامل ما هو مكنون في فطرتكم ووجدانكم وأرواحكم.

ثانيا : إنّها جاءت من قبل خالقكم.

ثالثا : عليكم أن لا تنسوا أنّكم اقترفتم الذنوب ، وأنّ منهاج عمل الأنبياء هو فتح باب التوبة من الذنوب والهداية للصواب.

لكن هذه الفئة من الناس لم تؤمن برغم كل ذلك : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) (١) وبذلك لا تنفع معهم دعوتك : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً).

ولا نعتقد أننا بحاجة إلى أن نوضح أن سبب انعدام قابلية التشخيص والقدرة والإحساس والسمع لدى هؤلاء ، إنّما كان من عند الله ، ولكن بسبب (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) وبسبب الأعمال التي قاموا بها سابقا ، وهذا هو الجزاء المباشر لأعمالهم ولما كسبت أيديهم. بعبارة أخرى : إنّ الأعمال القبيحة السيئة والمخزية تحوّلت إلى ستار وثقل ، أي (كنان ووقر) على قلوبهم وآذانهم ، وهذه الحقيقة تذكرها

__________________

(١) كما قلنا سابقا (أكنة) جمع (كنان) على وزن كتاب ، وتعني الستار أو الحجاب و (وقر) تعني ثقل الأذن عن السماع.

٣٠٧

الكثير من الآيات القرآنية ، إذ نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى في الآية (١٥٥) من سورة النساء : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

ولكن هناك من يتذرّع بشتى الحجج والذرائع لإثبات فكرة الجبر ودعم مذهبه في ذلك، دون أن يأخذ بنظر الاعتبار بقية هذه الآية ، وسائر الآيات القرآنية الأخرى التي تفسرها ، بل يعتمد على ظواهر ألفاظ الآيات ويتخذها سندا لإثبات مقولة الجبر ، في حين أنّ الجواب على ذلك ـ كما أسلفنا ـ واضح بدرجة كبيرة.

إنّ البرنامج التربوي للخالق جلّ وعلا هو أن يعطي لعباده الفرصة بعد الأخرى ، وهو جلّ وعلا لا يعاقب بشكل فوري مثل الجبارين والظالمين ، بل إنّ رحمته الواسعة تقتضي دوما إعطاء أوسع الفرص للمذنبين ، لذا فإنّ الآية التي بعدها تقول : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ).

(لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ). فإذا كانت الإرادة الإلهية تقتضي إنزال العذاب بسبب ارتكابهم للذنوب لتحقّق ذلك فورا.

(بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (١).

فغفرانه تعالى يقضي أن يرحم التوابين ، ورحمته تقضي أن لا يعجّل عذاب غيرهم ، إذ من المحتمل أن يلتحق بعضهم بصفوف التوابين ، إلّا أن عدالته تعالى تقتضي مجازاة المذنبين العاصين الظالمين عند ما يصل طغيانهم وتمردهم إلى أقصى درجاته ، وعند ما يكون بقاء مثل هؤلاء الأفراد الفاسدين المفسدين الذين لا يوجد أمل في إصلاحهم ، عبثا وبدون فائدة ، لذا ينبغي تطهير الأرض منهم ، ومن لوث وجودهم.

__________________

(١) (موئل) من كلمة (وئل) وتعني الملجأ ووسيلة النجاة.

٣٠٨

وأخيرا تنتهي هذه المجموعة من الآيات إلى توجيه التحذير الأخير من خلال التذكير بالعاقبة المؤلمة المرّة لمن ظلم من السابقين ليكون مصيرهم عبرة لمن يسمع ، فتقول : إنّ هذه المدن والقرى أمامكم ، ولكم أن تشاهدا خرائبها والدمار والذي حلّ فيها ، وقد أهلكنا أهلها بما ارتكبوا من ظلم ، في نفس الوقت الذي لم نعجّل فيه لهم العذاب ، بل جعلنا موعدا لمهلكهم : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً).

* * *

٣٠٩

الآيات

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤))

التّفسير

لقاء موسى والخضر عليهما‌السلام :

ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات أنّ مجموعة من قريش جاؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسألوه عن عالم كان موسى عليه‌السلام مأمورا باتباعه ، وفي الجواب على ذلك نزلت هذه الآيات.

لقد ذكرت في سورة الكهف ثلاث قصص متناسقة وهذه القصص هي : قصّة

٣١٠

أصحاب الكهف التي انتهينا منها ؛ وقصّة موسى والخضر عليهما‌السلام ؛ وقصّة ذي القرنين التي سنقف على ذكرها فيما بعد.

هذه القصص الثلاث تخرجنا من الأفق المحدود في حياتنا وما تعدونا عليه وألفناه ، وتبيّن لنا أن حدود العالم لا تنحصر في نطاق ما نرى وما نشاهد ، وأنّ الشكل العالم للحوادث والأحداث ليس هو ما نفهمه من خلال النظرة الأولى.

وإذا كانت قصّة أصحاب الكهف تتحدث عن فتية تركوا كلّ شيء من أجل أن يحافظوا على إيمانهم ، وقد أدى بهم ذلك إلى حوادث عظيمة ذات أبعاد تربوية لجميع الناس ، فإنّ قصّة موسى والخضر لها أبعاد عجيبة أخرى. ففي القصّة يواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيّا من أولي العزم بكل وعيه ومكانته في زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته من بعض النواحي ، وهو لذلك يذهب إلى معلم (هو عالم زمانه) ليدرس ويتعلم على يديه ، ونرى أنّ المعلم يقوم بتعليمه دروسا يكون الواحد منها أعجب من الآخر. ثمّ إنّ هذه القصّة تنطوي ـ كما سنرى ـ على ملاحظات مهمّة جدّا.

في أوّل آية نقرأ قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً).

إنّ المعنى بالآية هو بلا شك موسى بن عمران النّبي المعروف من أولي العزم ، بالرغم ممّا احتمله بعض المفسّرين من أنّ موسى المذكور في الآية هو غير موسى بن عمران عليه‌السلام ، وسوف نرى ـ فيما بعد ـ أنّ اعتماد هذا الرأي كان بسبب عدم استطاعتهم حل بعض الإشكالات الواردة في القصّة ، في حين أنّه كلما ورد اسم (موسى) في القرآن فالمراد به موسى بن عمران.

أمّا المعني من (فتاه) فهو كما يقول أكثر المفسّرين ؛ كما تشير إلى ذلك العديد من الرّوايات : يوشع بن نون ، الرجل الشجاع الرشيد المؤمن من بني إسرائيل.

واستخدام كلمة (فتى) في وصفه قد يكون بسبب هذه الصفات البارزة ، أو بسبب

٣١١

خدمته لموسى عليه‌السلام ومرافقته له.

(مجمع البحرين) بمعنى محل التقاء البحرين ، وهناك كلام كثير بين المفسّرين عن اسم هذين البحرين ، ولكن ـ بشكل عام ـ يمكن إجمال الحديث بثلاثة احتمالات هي :

أوّلا : المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال «خليج العقبة» مع «خليج السويس» (إذا المعروف أنّ البحر الأحمر يتفرع شمالا إلى فرعين : فرع نحو الشمال الشرقي حيث يشكّل خليج العقبة ، والثّاني نحو الشمال الغربي ويسمى خليج السويس ، وهذان الخليجان يرتبطان جنوبا ويتصلان بالبحر الأحمر).

ثانيا : المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال المحيط الهندي بالبحر الأحمر في منطقة «باب المندب».

ثالثا : محل اتصال البحر المتوسط (الذي يسمّى ـ أيضا ـ ببحر الروم والبحر الأبيض) مع المحيط الأطلسي ، يعني نفس المكان الذي يطلق عليه اسم (مضيق جبل طارق) قرب مدينة «طنجة».

الاحتمال الثّالث مستبعد بحكم بعد مكان موسى عليه‌السلام عن جبل طارق الذي يبعد عنه مسافة كبيرة جدّا ، قد تصل فترة وصوله عليه‌السلام إليه عدّة أشهر إذا انتقل بالوسائل العادية.

أمّا الاحتمال الثّاني ، فمع أنّ المسافة ما بينه وبين مكان موسى عليه‌السلام أقرب ، إلّا أنّه مستبعد ـ أيضا ـ بحكم الفاصل الكبير بين الشام وجنوب اليمن.

يبقى الاحتمال الأوّل هو الأقرب من حيث قربه إلى مكان موسى عليه‌السلام. وما يرحج هذا الرأي هو ما نستفيده من الآيات ـ بشكل عام ـ من أنّ موسى عليه‌السلام لم يسلك طريقا طويلا بالرغم من أنّه كان مستعدا للسفر إلى أي مكان لأجل الوصول إلى مقصوده (فدقق في ذلك).

وفي بعض الرّوايات إشارة إلى هذا المعنى أيضا.

٣١٢

كلمة «حقب» تعني المدّة الطويلة والتي فسّرها البعض بثمانين عاما ، وغرض موسى عليه‌السلام من هذه الكلمة ، هو أنّني سوف لا أترك الجهد والمحاولة للعثور على ما ضيعته ولو أدّى ذلك أن أسير عدّة سنين.

ومن مجموع ما ذكرنا أعلاه يتبيّن لنا أن موسى عليه‌السلام كان يبحث عن شيء مهم وقد أقام عزمه ورسّخ تصميمه للعثور على مقصوده وعدم التهاون في ذلك إطلاقا.

إنّ الشيء الذي كان موسى عليه‌السلام مأمورا بالبحث عنه له أثر كبير في مستقبله ، وبالعثور عليه سوف يفتتح فصل جديد في حياته.

نعم ، إنّه عليه‌السلام كان يبحث عن عالم يزيل الحجب من أمام عينيه ويريه حقائق جديدة ، ويفتح باب العلوم أمامه ، وسنعرف سريعا أنّ موسى عليه‌السلام كان يملك علامة للعثور على محل هذا العالم الكبير ، وكان عليه‌السلام يتحرك باتجاه تلك العلامة.

قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما) أي السمكّة التي كانت معهما ، أمّا العجيب في الأمر فإنّ الحوت : (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (١).

وهناك كلام كثير بين المفسّرين عن نوعية السمك الذي كان معدا للغذاء ظاهرا هل كانت سمكّة مشوية ، أو مملّحة أو سمكّة طازجة حيث بعثت فيها الحياة بشكل اعجازي وقفزت الى الماء وغاصت فيه ، هناك كلام كثير بين المفسّرين.

وفي بعض كتب التّفسير نرى أنّ هناك حديثا عن عين تهب الحياة ، وأنّ السمكة عند ما أصابها مقدار من ماء تلك العين عادت إليها الحياة.

وهناك احتمال آخر وهو أن السمكّة كانت حيّة ، بمعنى أنّها لم تكن قد ماتت بالكامل ، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فترة بعد إخراجه

__________________

(١) (سرب) على وزن (جرب) كما يقول الراغب في مفرداته ، وهي تعني السير في الطريق المنحدر ، و (سرب) على وزن (حرب) تعني الطريق المنحدر.

٣١٣

من الماء ، ويعود إلى الحياة الكاملة إذا أعيد في هذه الفترة إلى الماء.

وفي تتمة القصّة ، نقرأ أنّ موسى وصاحبه بعد أن جاوزا مجمع البحرين شعرا بالجوع ، وفي هذه الأثناء تذكّر موسى عليه‌السلام أنّه قد جلب معه طعاما ، وعند ذلك قال لصاحبه :(فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً).

(غداء) يقال للطعام الذي يتمّ تناوله في أوّل اليوم أو في منتصفه. ولكنّا نستفيد من التعابير الواردة في كتب اللغة أنّهم في الأزمنة السابقة كانوا يطلقون كلمة (غداء) على الطعام الذي يتمّ تناوله في أوّل اليوم (لأنّها مأخوذة من كلمة «غدوة» والتي تعني بداية اليوم) في حين أنّ كلمة «غداء» و «تغدّى» تطلق اليوم على تناول الطعام في وقت الظهيرة.

على أي حال ، إنّ هذه الجملة تظهر أنّ موسى ويوشع قد سلكا طريقا يمكن أن نسميه بالسفر ، إلّا أنّ نفس هذه التعابير تفيد أنّ هذا السفر لم يكن طويلا.

وفي هذه الأثناء قال له صاحبه : (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) (١).

ولأنّ هذا الحادث والموضوع ـ بشكل عام ـ كان علامة لموسى عليه‌السلام ، لكي يصل من خلاله إلى موقع (العالم) الذي خرج يبحث عنه ، لذا فقد قال : (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ).

وهنا رجعا في نفس الطريق : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً).

وهنا قد يطرح هذا السؤال : هل يمكن لنبي مثل موسى عليه‌السلام أن يصاب بالنسيان حيث يقول القرآن (نَسِيا حُوتَهُما) ثمّ لماذا نسب صاحب موسى عليه‌السلام

__________________

(١) إن جملة (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) جملة اعتراضية تقع في وسط الكلام ، ولأنّ هذه الجملة تذكر ـ في الواقع ـ سبب النسيان ، لذا فقد وقعت في وسط الكلام ، وهذا الأسلوب شائع خصوصا للأشخاص الذين يكونون موضع عتاب شخص أكبر ، حيث أنّهم يذكرون العلة الأصلية ضمن الكلام بشكل اعتراضي ، حتى يكون الاعتراض عليهم أقل.

٣١٤

نسيانه إلى الشيطان؟

في الجواب نقول : إنّه لا يوجد ثمّة مانع من الإصابة بالنسيان في المسائل والموارد التي لا ترتبط بالأحكام الإلهية والأمور التبليغية ، أي في مسائل الحياة العادية (خاصّة في المواقع التي لها طابع اختبار ، كما هو الحال في موسى هنا ، وسوف نشرح ذلك فيما بعد).

أمّا ربط نسيان صاحبه بالشيطان ، فيمكن أن يكون ذلك بسبب أن قضية السمكة ترتبط بالعثور على ذلك الرجل العالم ، وبما أنّ الشيطان يقوم بالغواية ، لذا فإنّه أراد من خلال هذا العمل (النسيان) أن يصلا متأخرين إلى ذلك العالم ، وقد تكون مقدمات النسيان قد بدأت من (يوشع) نفسه حيث أنّه لم يدقق ويهتم بالأمر كثيرا.

* * *

٣١٥

الآيات

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠))

التّفسير

رؤية المعلم الكبير :

عند ما رجع موسى عليه‌السلام وصاحبه إلى المكان الأوّل ، أي قرب الصخرة وقرب (مجمع البحرين) ، فجأة : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).

إنّ استخدام كلمة «وجدا» تفيد أنّهم كانوا يبحثون عن نفس هذا الرجل العالم ، وقد وجداه أخيرا.

أمّا استخدام عبارة (عَبْداً مِنْ عِبادِنا) فهي تبيّن أن أفضل فخر للإنسان هو

٣١٦

أن يكون عبدا حقيقيا للخالق جلّ وعلا ، وإنّ مقام العبودية هذا يكون سببا في شمول الإنسان بالرحمة الإلهية ، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه.

كما أنّ استخدام عبارة (مِنْ لَدُنَّا) تبيّن أنّ علم ذلك العالم لم يكن علما عاديا ، بل كان يعرف جزءا من أسرار هذا العالم ، وأسرار الحوادث التي لا يعلمها سوى الله تعالى.

أمّا استخدام (علما) بصيغة النكرة فهو للتعظيم ، ويتبيّن من ذلك أنّ ذلك الرجل العالم قد حصل من علمه على فوائد عظيمة.

أمّا ما هو المقصود من عبارة (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) فقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة ، فقال بعضهم : إنّها إشارة إلى مقام النبوة ، والبعض الآخر اعتبرها إشارة للعمر الطويل. ولكن يحتمل أن يكون المقصود هو الاستعداد الكبير والروح الواسعة ، وسعة الصدر التي وهبها الله تعالى لهذا الرجل كي يكون قادرا على استقبال العلم الإلهي.

أمّا ما ذكر من أنّ هذا الرجل اسمه (الخضر) وفيما إذا كان نبيّا أم لا ، فسوف نبحث كل ذلك في البحوث القادمة.

في هذه الأثناء قال موسى للرجل العالم باستفهام وبأدب كبير : (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً).

ونستفيد من عبارة «رشدا» أنّ العلم ليس هدفا ، بل هو وسيلة للعثور على طريق الخير والهداية والصلاح ، وأنّ هذا العلم يجب أن يتعلّم ، وأن يفتخر به.

في معرض الجواب نرى أنّ الرجل العالم مع كامل العجب لموسى عليه‌السلام (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).

ثمّ بيّن سبب ذلك مباشرة وقال : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً).

وكما سنرى فيما بعد ، فإنّ هذا الرجل العالم كان يحيط بأبواب من العلوم التي تخص أسرار وبواطن الأحداث ، في حين أنّ موسى عليه‌السلام لم يكن مأمورا

٣١٧

بمعرفة البواطن ، وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير ، وفي مثل هذه الموارد يحدث كثيرا أن يكون ظاهر الحوادث يختلف تمام الاختلاف عن باطنها ، فقد يكون الظاهر قبيحا أو غير هادف في حين أنّ الباطن مفيد ومقدّس وهادف لأقصى غاية.

في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسكه فيقوم بالاعتراض وحتى بالتشاجر.

ولكن الأستاذ العالم والخبير بالأسرار بقي ينظر إلى بواطن الأعمال ، واستمر بعمله ببرود ، ولم يعر أي أهمية إلى اعتراضات موسى وصيحاته ، بل كان في انتظار الفرصة المناسبة ليكشف عن حقيقة الأمر ، إلّا أنّ التلميذ كان مستمرا في الإلحاح ، ولكنّه ندم حين توضحت وانكشفت له الأسرار.

وقد يكون موسى عليه‌السلام اضطرب عند ما سمع هذا الكلام وخشي أن يحرم من فيض هذا العالم الكبير ، لذا فقد تعهد بأن يصبر على جميع الحوادث وقال : (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً).

مرّة أخرى كشف موسى عليه‌السلام عن قمة أدبه في هذه العبارة ، فقد اعتمد على خالقه حيث لم يقل للرجل العالم : إنّي صابر ، بل قال : إن شاء الله ستجدني صابرا.

ولأنّ الصبر على حوادث غريبة وسيئة في الظاهر والتي لا يعرف الإنسان أسرارها ، ليس بالأمر الهيّن ، لذا فقد طلب الرجل العالم من موسى عليه‌السلام أن يتعهد له مرّة أخرى ، وحذّره : (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (١). وقد أعطى موسى العهد مجددا وانطلق مع العالم الأستاذ.

* * *

__________________

(١) إن عبارة (أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) يكون مفهوما بعد الأخذ بنظر الإعتبار كلمة (أحدث) هو : إنّي أنا الذي أبدأ بالكلام وأكشف للمرّة الأولى ؛ أمّا أنت فلا تتكلم.

٣١٨

الآيات

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨))

٣١٩

التّفسير

المعلم الإلهي والأفعال المنكرة!!

نعم ، لقد ذهب موسى وصاحبه وركبا السفينة : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ).

من الآن فصاعدا نرى القرآن يستخدم ضمير المثنّى في جميع الموارد ، والضمير إشارة إلى موسى والعالم الرّباني ، وهذه إشارة إلى انتهاء مهمّة صاحب موسى عليه‌السلام (يوشع) ورجوعه ، أو أنّه لم يكن معنيا بالحوادث بالرغم من أنّه قد حضرها جميعا. إلّا أنّ الاحتمال الأوّل هو الأقوى.

عند ما ركبا السفينة قام العالم بثقبها : «خرقها».

«خرق» كما يقول الراغب في المفردات : الخرق ، قطع الشيء على سبيل الإفساد بلا تدبّر ولا تفكر حيث كان ظاهر عمل الرجل العالم على هذا المنوال.

وبحكم كون موسى عليه‌السلام نبيّا إلهيا كبيرا فقد كان من جانب يرى أن من واجبه الحفاظ على أرواح وأموال الناس ، وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، ومن جانب آخر كان وجدانه الإنساني يضغط عليه ولا يدعه يسكت أمام أعمال الرجل العالم التي يبدو ظاهرها سيئا قبيحا ، لذا فقد نسي العهد الذي قطعه للخضر (العالم) فاعترض وقال : (قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً).

لا ريب إنّ هدف العالم (الخضر) لم يكن إغراق من في السفينة ، ولكنّ النتيجة النهائية لخرق السفينة لم يكن سوى غرق من في السفينة ، لذا فقد استخدم موسى عليه‌السلام (اللام الغائية) لبيان الهدف.

مثل ذلك ما نقوله للشخص الذي يأكل كثيرا ، عند ما نقول له : أتريد أن تقتل نفسك؟!

بالطبع مثل هذا لا يريد قتل نفسه بكثرة الطعام ، إلّا أنّ نتيجة عمله قد تكون هكذا.

٣٢٠