الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

المستعدة الكامنة في الأرض المستعدّة بدورها ، لتبدأ حركتها التكاملية.

إنّ الطبقة الخارجية السميكة للبذور تلين قبال المطر ، وتسمح للبراعم في الخروج منها، وأخيرا تشق هذه البراعم التراب وتخترقه ، الشمس تشع ، النسيم يهب ، المواد الغذائية في الأرض تقدّم ما تستطيع ، تتقوى البراعم بسبب عوامل الحياة هذه ثمّ تواصل نموها ، بحيث ـ بعد فترة ـ نرى أن نباتات الأرض تتشابك فيما بينها : (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ).

الجبل والصحراء يتحولان إلى قوّة حياتية دافعة ، أمّا البراعم والفواكه والأوراد فإنّها تزيّن الأغصان ، وكأنّ الجميع يضحك ، يصرخون صراخ الفرح ، يرقصون فرحا!

لكن هذا الواقع الجذّاب لا يدوم طويلا ، حيث تهب رياح الخريف وتلقي بغبار الموت على النباتات ، يبرد الهواء ، وتشح المياه ، ولا تمضي مدّة حتى يمسى ذلك الزرع الجميل الأخضر ذو الأغصان المورقة ، ميتا ويابسا : (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) (١).

تلك الأوراق التي لم تتمكن العواصف الهوجاء من فصلها عن الأغصان في فصل الربيع ، قد أصبحت ضعيفة بدون روح بحيث أنّ أي نسيم يهب عليها يستطيع فصلها عن الأغصان ويرسلها إلى أي مكان شاء : (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) (٢).

نعم : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً).

الآية التي بعدها تذكر وضع المال والثروة والقوة الإنسانية اللذين يعتبران ركنين أساسيين في الحياة الدنيا ، حيث تقول : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا).

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيث ترتبط الأشياء الأخرى بهما ، إنّها تشير إلى (القوّة الاقتصادية) و (القوّة الإنسانية)

__________________

(١) «هشيم» من «هشم» بمعنى محطّم ، وهي هنا تطلق على النباتات المتيبسة والمتحطّمة.

(٢) «تذروه» من «ذرو» وتعني التشتيت.

٢٨١

لأنّ وجودهما ضروري لتحقيق أي هدف مادي ، خاصّة في الأزمنة السابقة إذ كان من يملك أبناء أكثر يعتبر نفسه أكثر قوة ، لأنّ الأبناء هم ركن القوّة ، وقد وجدنا في الآيات السابقة أنّ صاحب البستان الغني كان يتباهى بأمواله وأعوانه على الآخرين ويقول : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً).

لذا فإنّهم كانوا يعتمدون على «البنين» جمع (ابن) والمقصود به الولد الذكر ، حيث كانوا يعتبرون الولد رأسمال القوّة الفعّالة للإنسان ، وبالطبع ليس للبنات نفس المركز أو المقام.

المهم أنّ (الْمالُ وَالْبَنُونَ) بمثابة الورد والبراعم الموجودة على أغصان الشجر ، إنّها تزول بسرعة ولا تستمر طويلا ، وإذا لم تستثمر في طريق المسير إلى (الله) فلا يكتب لها الخلود ، ولا يكون لها أدنى اعتبار.

ورأينا أنّ أكثر الأموال ثباتا ودواما والمتمثلة في البستان والأرض الزراعية وعين الماء قد أبيدت خلال لحظات.

وفيما يخص الأبناء ، فبالإضافة إلى أنّ حياتهم وسلامتهم معرّضة للخطر دائما ، فهم يكونون في بعض الأحيان أعداء بدلا من أن يكونوا عونا في اجتياز المشاكل والصعوبات.

ثمّ يضيف القرآن : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مفهوم (الباقيات الصالحات) في دائرة خاصّة مثل الصلوات الخمس أو ذكر : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وأمثال هذه الأمور ، إلّا أنّ الواضح أنّ هذا التغيير هو من السعة بحيث يشمل كل فكره وقول وعمل صالح تدوم وتبقى آثاره وبركاته بين الأفراد والمجتمعات.

فإذا رأينا في بعض الرّوايات أنّ الباقيات الصالحات تفسّر بصلاة الليل ، أو مودة أهل البيت عليهم‌السلام ، فإن الغرض من ذلك هو بيان المصداق البارز ، وليس تحديد

٢٨٢

المفهوم ، خاصّة وإن بعض هذه الرّوايات استخدمت فيها كلمة (من) التي تدل على التبعيض.

فمثلا في رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لا تستصغر مودّتنا فإنّها من الباقيات الصالحات».

وفي حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ قوله : «لا تتركوا التسبيحات الأربع فإنّها من الباقيات الصالحات».

وحتى الأموال المتزلزلة أو الأبناء الذين يكونون أحيانا فتنة واختبارا ، إذ استخدمت في مسير الله تبارك وتعالى فإنّها ستكون من الباقيات الصالحات ، لأنّ الذات المقدسة الإلهية ذات أبدية ، فكل ما يرتبط بها ويسير نحوها سيكتب له البقاء والابدية.

* * *

بحوث

١ ـ المغريات

مرّة أخرى توظّف الآيات أعلاه دور المثال في تجسيد المعاني واستيعابها. إنّ القرآن ـ من خلال مثل واحد ـ يعكس مجموعة من الحقائق العقلية التي قد يكون من الصعب دركها من قبل الكثير من الناس.

يقول للناس : إنّ دورة حياة النبات وموته تتكرّر أمّا أعينكم في كل سنة مرّة ، فإذا كان عمر الإنسان (٦٠) سنة فإنّ هذا المشهد يتكرر أمامكم (٦٠) مرّة.

إذا ذهبتم في الربيع إلى الصحراء فستشاهدون تلك المناظر الجميلة والتي يدل كل ما فيها على الحياة ، ولكن لو ذهبتم في الخريف إلى نفس تلك الأماكن فسوف ترون الموت ينشر أجنحته في كل مكان.

إنّ مثل الإنسان في حياته كمثل النبتة ، فهو في يوم كان طفلا كالبرعم ، ثمّ

٢٨٣

أصبح شابا كالوردة المملوءة طراوة ، ثمّ يصبح كهلا ضعيفا كالنبتة الذابلة اليابسة ذات الأوراق الصفراء ، ثمّ إنّ عاصفة الموت تحصد هذا الإنسان لينتشر بعد فترة تراب جسده المتهرئ ـ بواسطة العواصف ـ إلى مختلف الاتجاهات والأماكن.

ولكن قد تنتهي دورة الحياة بصورة غير طبيعية ، بمعنى أنّها لا ترتقي إلى نهاية شوطها ، إذ من الممكن أن تنتهي في منتصف الشوط بواسطة صاعقة أو عاصفة كما في قوله تعالى في الآية (٢٤) من سورة يونس : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ).

وفي بعض الأحيان لا تكون الحوادث سببا لفناء الحياة في منتصف دورة الحياة ، بل يستمر السير الطبيعي حتى النهاية ، أي وصولا إلى مرحلة الذبول والتشتت والفناء كما أشارت إلى ذلك الآية التي نبحثها.

في كل الأحوال تنتهي الحياة الدنيا ـ سواء في الطريق الطبيعي أو غير الطبيعي ـ إلى الفناء الذي يحل بساحة الإنسان عاجلا أم آجلا.

٢ ـ عوامل تحطيم الغرور

قلنا : إنّ الكثير من الناس عند ما يحصلون على الإمكانات المادية والمناصب يصابون بالغرور ، وهذا الغرور هو العدو اللدود لسعادة الإنسان ، وفي الآيات السابقة رأينا كيف أنّ الغرور يؤدي إلى الشرك والكفر.

ولأنّ القرآن كتاب تربوي عظيم ، فهو يستفيد من عدة طرق لتحطيم الغرور.

ففي بعض الأحيان يجسّد لنا أنّ الفناء هو نهاية الثروات المادية كما في الآيات أعلاه.

وفي أحيان أخرى يحذّر من إمكانية تحوّل الثروات والأولاد إلى عدو

٢٨٤

للإنسان (كما في الآية ٥٥ من سورة التوبة).

وفي مرّات يحذّر الناس ويوقظ فيهم حسهم الوجداني ، عند ما يستعرض أمامهم عاقبة المغرورين في التأريخ من أمثال فرعون وقارون.

وقد رأينا القرآن يعالج إحساس الإنسان بالغرور من خلال تذكيره بماضيه ، عند ما كان نطفة عديمة الأهمية أو ترابا لا يذكر ، ثمّ يجسّد له مستقبله وما هو صائر إليه كي يعرف أنّ الغرور بين حدّي الضعف هذين يعتبر عملا جنونيا (كما في الآية ٦ من سورة الطارق ، والآية ٨ من سورة السجدة ، والآية ٣٨ من سورة القيامة).

وبهذه الصورة حاول القرآن توظيف أي أسلوب ووسيلة لمعالجة عوامل الغرور في شخصية الإنسان ، هذه الصفة الشيطانية التي هي مصدر الكثير من الجرائم في طول التأريخ.

ولكن من المسلّم به أنّ المؤمنين الحقيقيين لا يصابون بهذه الخصلة القبيحة عند الوصول إلى منصب أو ثروة ، ليس هذا وحسب ، بل ترى أنّه لا يحدث أدنى تغيير في برنامج حياتهم ، إذ يعتبرون كل هذه الأمور عبارة عن زينة عابرة ، وبضاعة زائلة ، ومصيرها إلى فناء عند ما تهب أدنى عاصفة.

* * *

٢٨٥

الآيات

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

التّفسير

يا ويلتاه من هذا الكتاب!

تعقيبا لما كانت تتحدث به الآيات السابقة عن غرور الإنسان وإعجابه بنفسه ، وما تؤدي إليه هذه الصفات من إنكار للبعث والمعاد ، ينصب المقطع الراهن من الآيات التي بين أيدينا على تبيان المراحل الممهدة للقيامة وفق الترتيب الآتي :

١ ـ مرحلة ما قبل بعث الإنسان.

٢ ـ مرحلة البعث.

٢٨٦

٣ ـ قسم من مرحلة ما بعد البعث.

الآية الأولى تذكّر الإنسان بمقدمات البعث والقيامة فتقول : إنّ انهيار معالم الشكل الراهن للعالم هي أوّل مقدمات البعث ، وسيتمّ هذا التغيير لشكل العالم من خلال مجموعة مظاهر ، في الطليعة منها تسيير الجبال الرواسي وكل ما يمسك الأرض ويبرز عليها ، حتى تبدو الأرض خالية من أيّ من المظاهر السابقة : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً).

هذه الآية تشير إلى حوادث قبيل البعث ، وهي حوادث كثيرة جدّا.

والملاحظ أنّ السور القصار تتحدث عنها بشكل بارز في إطار حديثها عمّا بات يعرف اصطلاحا بـ «أشراط الساعة».

إنّ المستفاد من مجموعة تلك السور أنّ وجه العالم الراهن يتغيّر بشكل كليّ حيث تتلاشي الجبال ، وتنهار الأبنية والأشجار ، ثمّ تضرب الأرض سلسلة من الزلازل ، وتنطفئ الشمس ، ويخمد نور القمر ، وتظلم النجوم. وعلى حطام كل ذلك تظهر إلى الوجود سماء جديدة ، وأرض جديدة ، ليبدأ الإنسان حينئذ حياته الأخرى في مرحلة البعث والحساب.

بعد ذلك تضيف الآية قوله تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).

«نغادر» من «غدر» بمعنى الترك. ولذلك يقال للذي يخلف الوعد والميثاق ويتركه بأنّه «غدر» ويقال لمياه الأمطار المتجمعة في مكان واحد بـ «الغدير» لأنّها قد تركت هناك.

في كل الأحوال ، تؤكّد الآية الآنفة الذكر على أنّ المعاد هو حالة عامّة لا يستثنى منها أحد.

الآية التي بعدها تتحدّث عن كيفية بعث الناس فتقول : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا). إنّ استخدام هذا التعبير قد يكون إشارة إلى حشر كل مجموعة من الناس تتشابه في أعمالها في صف واحد ؛ أو أنّ الجميع سيكونون في صف واحد دون

٢٨٧

أية امتيازات أو تفاوت ، وسوف يقال لهم : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

فليس ثمّة كلام عن الأموال والثروات ، ولا الذهب والزينة ، ولا الامتيازات والمناصب المادية ، ولا الملابس المختلفة ، وليس هناك ناصر أو معين ، ستعودون كمثل الحالة التي خلقناكم فيها أوّل مرّة ، بالرغم من أنّكم كنتم تتوهمون عدم إمكان ذلك : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً).

وذلك في وقت سيطرت فيه حالة الغرور عليكم بما أوتيتم من إمكانات مادية غفلتم معها عن الآخرة ، وأصبحتم تفكرون في حياتكم الدنيا وخلودها ، وغفلتم عن نداء الفطرة فيكم.

ثمّ تشير الآيات إلى مراحل أخرى من يوم البعث والمعاد فتقول : (وَوُضِعَ الْكِتابُ). هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها : (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ). وذلك عند ما يطّلعون على محتواه فتتجلى آثار الخوف والوحشة على وجوههم.

في هذه الأثناء يصرخون ويقولون : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها).

الجميع مدعوون للحساب عن كل شيء مهما دنا وصغر ، إنّه موقف موحش .. لقد نسينا بعض أعمالنا وكأن لم نفعلها ، حتى كنّا نظن بأنّنا لم نقم بعمل مخالف ، لكن نرى اليوم أنّ مسئوليتنا أصبحت ثقيلة جدّا ومصيرنا مظلم.

بالإضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً). وجدوا الحسنات والسيئات ؛ الظلم والعدل ، السلبيات والخيانات ، كل هذه وغيرها وجدوها متجسّدة أمامهم.

في الواقع إنّهم يلاقون مصير أعمالهم : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً). الذي سيشملهم هناك ، هو ـ لا محالة ـ ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا ، لذلك فلا يلومون أحدا سوى أنفسهم.

* * *

٢٨٨

بحوث

١ ـ سر انهدام الجبال

قلنا : إنّه في يوم الحشر والنشور سيتغير نظام العالم المادي ، وقد وردت صياغات مختلفة حول انهدام الجبال في القرآن الكريم ، يمكن أن تقف عليها من خلال ما يلي :

في الآيات التي نبحثها قرأنا تعبير (نُسَيِّرُ الْجِبالَ) وإنّ نفس هذه الصيغة التعبيرية يمكن ملاحظتها في الآية (٢٠) من سورة النبأ. والآية (٣) من سورة التكوير.

ولكنّنا نقرأ في الآية (١٠) من سورة المرسلات قوله تعالى : (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ).

في حين أنّنا نقرأ في الآية (١٤) من سورة الحاقة قوله تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً).

وفي الآية (١٤) من سورة المزمّل قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً).

وفي الآية (٥) من سورة الواقعة قوله تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا).

أخيرا نقرأ قوله تعالى في الآية (٥) من سورة القارعة : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ).

ومن الواضح أن ليس هناك تناف أو تضاد بين مجموع الآيات أعلاه ، بل هي صيغ لمراحل مختلفة لزوال جبال العالم ودمارها ، هذه الجبال التي تعتبر أكثر أجزاء الأرض ثباتا واستقرارا ، حيث تبدأ العملية من نقطة حركة الجبال حتى نقطة تحوّلها إلى غبار وتراب بحيث لا يرى في الفضاء سوى لونها!

ترى ما هي أسباب هذه الحركة العظيمة المخفية؟

٢٨٩

إنّها غير معلومة لدينا ، إذ قد يكون السبب في ذلك هو الزوال المؤقت لظاهرة الجاذبية حيث تكون الحركة الدورانية للأرض سببا في أن تتصادم الجبال فيما بينها ثمّ حركتها باتجاه الفضاء. وقد يكون السبب هو الإنفجارات الذرية العظيمة في النّواة المركزية للأرض ، وبسببها تحدث هذه الحركة العظيمة والموحشة.

وعلى كل حال ، فهذه الأمور تدلّ على أنّ حالة البعث والنشور هي ثورة عظيمة في عالم المادة الميت ، أيضا في تجديد حياة الناس ، حيث تكون كل هذه المظاهر هي بداية لعالم جديد يكون في مستوى أعلى وأفضل ، إذ بالرغم من أنّ الروح والجسم هما اللذان يحكمان طبيعة ذلك العالم ، إلّا أنّ جميع الأمور ستكون أكمل وأوسع وأفضل.

إنّ التعبير القرآني يتضمّن هذه الحقيقة أيضا ، وهي أنّ عملية فناء عيون الماء ودمار البساتين هي أمور سهلة في مقابل الحدث الأعظم الذي ستتلاشى عنده الجبال الراسيات ، ويشمل الفناء كل الموجودات بما في ذلك أعظمها وأشدّها.

٢ ـ صحيفة الأعمال

يرى العلّامة الطباطبائي في تفسير (الميزان) أنّ في يوم القيامة ثلاثة كتب ، أو ثلاثة أنواع من صحف الأعمال :

أوّلا : كتاب واحد يوضع لحساب أعمال جميع البشر ، ويشير لذلك قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها (وَوُضِعَ الْكِتابُ).

الثّاني : كتاب يختص بكل أمّة ، إذ لكل أمة كتاب قد كتب فيه أعمالها كما يصرّح بذلك قول الحق سبحانه وتعالى في الآيتين ٢٨ ، ٢٩ من سورة الجاثية في قوله تعالى: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا).

الثّالث : كتاب لكل انسان بصورة مستقلة كما ورد في سورة الأسراء : الآية (١٣) (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ...).

٢٩٠

وطبيعي أنّه لا يوجد أي تعارض بين هذه الآيات ، لأنّه ليس ثمّة مانع من أن تدوّن أعمال الإنسان في عدّة كتب ، كما نشاهد نظير ذلك في برامج دنيا اليوم ، إذ من أجل التنظيم الدقيق لتشكيلات دولة ما ، هناك نظام وحساب لكل قسم ، ثمّ إنّ هذه الأقسام وفي ظل أقسام أكبر لها حساب جديد.

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ صحيفة أعمال الناس في يوم القيامة لا تشبه الدفتر والكتاب العادي في هذا العالم ، فهي مجموعة ناطقة غير قابلة للنكران ، وقد تكون الناتج الطبيعي لأعمال الإنسان نفسه.

في كل الأحوال ، نرى أنّ الآيات التي نبحثها تظهر أنّه علاوة على تدوين أعمال الناس في الكتب الخاصّة ، فإنّ نفس الأعمال ستتجسّد هناك وستحضر : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً).

فالأعمال التي تكون شكل طاقات متناثرة في هذا العالم وتكون محجوبة عن الأنظار وتبدو وكأنّها قد تلاشت وانتهت ، هي في الحقيقة لم تنته (وقد أثبت العلم اليوم أنّ أي مادي أو طاقة لا يمكن أن تفنى ، بل يتغير شكلها دائما).

ففي ذلك اليوم تتحوّل هذه الطاقة الضائعة بإذن الله إلى مادة ، وتتجسّد على شكل صور مناسبة ، فالأعمال الحسنة على شكل صور لطيفة وجميلة ، والأعمال السيئة على شكل صور قبيحة ، وهذه الأعمال ستكون معنا ، ولهذا السبب نرى أنّ آخر جملة في الآيات أعلاه تقول : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لأنّ الثواب والعقاب يترتبان على نفس أعمال الإنسان.

بعض المفسّرين اعتبر جملة (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) تأكيدا على قضية صحيفة الأعمال ، وقالوا : إنّ معنى الجملة هو أنّنا سنجد جميع أعمالنا مدوّنة في ذلك الكتاب (١).

البعض الآخر اعتبر كلمة (جزاء) في هذه الآية مقدّرة وقالوا : إنّ المعنى هو

__________________

(١) الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، والقرطبي في التّفسير الجامع.

٢٩١

أنّهم في ذلك اليوم «سيشاهدون جزاء أعمالهم جاهزا» (١).

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أكثر ملاءمة مع ظاهر الآيات.

أمّا فيما يخص تجسّد الأعمال فقد ذكرنا شرحا مفصلا لذلك في نهاية الآية (٣٠) من سورة آل عمران ، وسنبحثه أكثر مرّة أخرى أثناء الحديث عن الآيات التي تناسب الموضوع.

٣ ـ الإيمان بالمعاد ودوره في تربية الناس

حقّا إنّ القرآن كتاب تربوي عجيب ، فعند ما يذكر للناس جانبا من مشاهد القيامة يقول : إنّ الجميع سيعرضون على محكمة الخالق العادلة على شكل صفوف منظمة ، في حين أن تشابه عقائدهم وأعمالهم هو المعيار في الفرز بين صفوفهم! إنّ أيديهم هناك فارغة من كل شيء ، فقد تركوا كل متعلقات الدنيا ، فهم في جمعهم فرادى ، وفي فرديتهم مجموعين، تعرض صحائف أعمالهم.

هناك يذكر كل شيء ، صغائر وكبائر الناس ، والأكثر من ذلك أنّ الأعمال والأفكار نفسها تحيا .. تتجسّد .. تحيط الأعمال المتجسّدة بأطراف كل شيء ، فالناس مشغولون بأنفسهم بحيث أنّ الأم تنسى ولدها ، والابن ينسى الأب والأم بشكل كامل.

هذه المحكمة الإلهية ـ والجزاء العظيم ـ التي تنتظر المسيئين ، ستلقي بظلها الثقيل والموحش على جميع الناس ، حيث تحبس الأنفاس في الصدور ، وتتوقف العيون عن الحركة! ترى ما مقدار ما يعكسه الإيمان بهذا اليوم ـ بهذه المحكمة بكل ما تتخلله من مشاهد ومواقف ـ على قضية تربية الإنسان ودفعه لمسك زمام شهواته!؟

في حديث عن الإمام الصادق نقرأ وصفه عليه‌السلام لهذا اليوم : «إذا كان يوم القيامة

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢٩٢

دفع للإنسان كتاب ، ثمّ قيل له : اقرأ» قلت : فيعرف ما فيه؟ فقال : «إنّه يذكره ، فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شيء فعله إلّا ذكره ، كأنّه فعله تلك الساعة ، ولذلك قالوا : يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها» (١).

من هنا يتّضح الدور المؤثر للإيمان بالقيامة في تربية الإنسان ، وإلّا فهل يمكن أن يجمع الإنسان بين الذنب ، وبين إيمانه ويقينه بهذا اليوم!؟

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٦٧.

٢٩٣

الآيات

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))

التّفسير

لا تتخذوا الشياطين أولياء :

لقد تحدثت الآيات مرّات عدّة عن خلق آدم وسجود الملائكة له ، وعدم انصياع إبليس. وقد قلنا : إنّ هذا التكرار يطوي دروس متعدّدة ، وفي كل مقطع مكرّر هناك دروس وعبر جديدة.

٢٩٤

بعبارة أخرى نقول : إنّ للحادثة المهمّة عدّة أبعاد ، وفي كل مرّة تذكر فيها يتجلى واحد من أبعادها.

ولأنّ الآيات السابقة ذكرت مثالا واقعيا عن كيفية وقوف الأثرياء المستكبرين والمغرورين في مقابل الفقراء المستضعفين وتجسّد عاقبة عملهم ، ولأنّ الغرور كان هو السبب الأصلي لانحراف هؤلاء وانجرارهم إلى الكفر والطغيان ، لذا فإنّ الآيات تعطف الكلام على قصة إبليس وكيف أبى السجود لآدم غرورا منه وعلوا ، وكيف قاده هذا الغرور والعلو إلى الكفر والطغيان.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ هذه القصّة توضّح أنّ الانحرافات تنبع من وساوس الشيطان ، كم تكشف أنّ الاستسلام إلى وساوس الشيطان الذي أصرّ على عناده وعداوته للحق تعالى يعدّ غاية الجنون والحمق.

في البداية تقول الآيات : تذكروا ذلك اليوم الذي فيه : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ). هذا الاستثناء يمكن أن يوهمنا بأنّ إبليس كان من جنس الملائكة ، في حين أنّ الملائكة معصومون ، فكيف سلك إبليس ـ إذا ـ طريق الطغيان والكفر إذا كان من جملتهم؟

لذلك فإنّ الآيات ـ منعا لهذا الوهم ـ تقول مباشرة إنّه : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).

إنّه إذا لم يكن من الملائكة ، لكنّه ـ بسبب عبوديته وطاعته للخالق جلّ وعلا ـ قرّب وكان في صف الملائكة ، بل وكان معلما لهم ، إلّا أنّه ـ بسبب لحظة من الغرور والكبر ـ سقط سقوطا بحيث أنّه فقد معه كل ملاكاته المعنوية ، وأصبح أكثر الموجودات نفرة وابتعادا عن الله تبارك وتعالى.

ثمّ تقول الآية : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي).

والعجب أنّهم : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ).

وهذا العدو ، هو عدوّ صعب مصمّم على ضلالكم وأن يوردكم سوء العاقبة ،

٢٩٥

وقد أظهر عدوانه منذ اليوم الأوّل لأبيكم آدم عليه‌السلام.

فاتّخاذ الشيطان وأولاده. بدلا من الخالق المتعال أمر قبيح : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(١).

حقّا إنّه لأمر قبيح أن يترك الإنسان الإله العالم الرحيم العطوف ذا الفيوضات والرحمات والألطاف ، ويتمسك بالشيطان وأصحابه ، إنّه أقبح إختيار ، فأي عاقل يقبل أن يتخذ من عدوّه الذي ناصبه العداء ـ منذ اليوم الأوّل وليا وقائدا ودليلا ومعتمدا؟!

الآية التي بعدها هي دليل آخر على إبطال هذا التصوّر الخاطئ ، إذ تقول : عن إبليس وابنائه أنّهم لم يكن لهم وجود حين خلق السماوات والأرض ، بل لم يشهدوا حتى خلق أنفسهم : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ). حتى نطلب العون منهم في خلق العالم ، أو نطلعهم على أسرار الخلق.

لذا فإنّ الشخص الذي ليس له أي دور في خلق العالم ، وحتى في خلق من يقع على شاكلته ومن هو من نوعه ، ولا يعرف شيئا من أسرار الخلق ، كيف يكون مستحقا للولاية ، أو العبادة ، وأي قدرة أو دور يملك؟

إنّه كائن ضعيف وجاهل حتى بقضاياه الذاتية ، فكيف يستطيع أن يقود الآخرين ، أو أن ينقذهم من المشاكل والصعوبات؟

ثمّ تقول : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً).

يعني أنّ الخلق قائم على أساس الصدق والصحة والهداية ، أمّا الكائن الذي يقوم منهج حياته على الإضلال والإفساد ، فليس له مكان في إدارة هذا النظام ، لأنّه يسير في اتجاه معاكس لنظام الخلق والوجود ؛ إنّه مخرّب ومدمّر وليس مصلحا متكاملا.

آخر آية من الآيات التي نبحثها ، تحذّر مرّة أخرى ، وتقول : تذكروا يوما يأتي

__________________

(١) «بدلا» من حيث التركيب اللغوي ، تمييز. وفاعل «بئس» هو الشيطان وعصابته ، أو عباد الشيطان وعصابته.

٢٩٦

فيه النداء الإلهي : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ).

لقد كنتم تنادونهم عمرا كاملا ، وكنتم تسجدون لهم ، واليوم وبعد أن أحاطت بكم أمواج العذاب في ساحة الجزاء ، نادوهم ليأتوا لمساعدتكم ولو لساعة واحدة فقط.

هناك ينادي الأشخاص الذين لا تزال ترسبات أفكار الدنيا في عقولهم : (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ). فلم يجيبوا على ندائهم ، فكيف بمساعدتهم وانقاذهم!!

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) (١).

ثمّ تقول الآية التي بعدها موضحة عاقبة الذين اتبعوا الشيطان والمشركين :(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ).

لقد انكشفت لهم النّار التي لم يكونوا يصدّقون بها أبدا ، وظهرت أمام أعينهم ، وحينئذ يشعرون بأخطائهم ، ويتيقنون بأنّهم سيدخلون النّار وستدخلهم : (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها).

ثمّ يتيقنون أيضا أنّ لا منقذ لهم منها : (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً).

فلا تنقذهم اليوم منها لا معبوداتهم ولا شفاعة الشفعاء ، ولا الكذب أو التوسّل بالذهب والقوّة ، إنّها النّار التي يزداد سعيرها بسبب أعمالهم.

ينبغي الالتفات هنا إلى أنّ جملة «ظنّوا» بالرغم من أنّها مشتقّة من «الظن» إلّا أنّها في هذا المورد ، وفي موارد أخرى تأتي بمعنى اليقين ، لذا فإنّ الآية (٢٤٩) من سورة البقرة تستخدم نفس التعبير بالرغم من أنّها تتحدث عن المؤمنين الحقيقيين والمجاهدين المرابطين الذين كانوا مع طالوت لقتال جالوت الجبّار الظالم ، إذ تقول : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ).

__________________

(١) «موبق» من «وبوق» على وزن «نبوغ» وهي تعني الهلاك ، و (موبق) تقال للمهلكة.

٢٩٧

فإنّ كلمة «موقعوها» مشتقّة من «مواقعة» بمعنى الوقوع على الآخرين ، وهي إشارة إلى أنّهم يقعون على النّار ، وأنّ النّار تقع عليهم ؛ فالنّار تنفذ فيهم وهم ينفذون في النّار ، وقد قرأنا في الآية (٢٤) من سورة البقرة قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ).

* * *

بحثان

١ ـ هل كان الشيطان ملكا؟

كما نعلم أنّ الملائكة أطهار ومعصومون كما صرّح بذلك القرآن الكريم : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١).

ويعود سبب عدم وجود التكبر والغرور ودوافع ارتكاب الذنوب لدى الملائكة ، إلى أن العقل لا الشهوة يتحكم في أعماقهم.

من ناحية ثانية ، يتداعى إلى الذهن من خلال استثناء إبليس في الآيات المذكورة أعلاه (وآيات أخرى في القرآن الكريم) أنّه من صنف الملائكة ، بأنّه كان منهم. وهنا يرد على عصيانه وتمرده والإشكال التالي : كيف تصدر ذنوب كبيرة عن ملك من الملائكة؟ و

قد جاء في نهج البلاغة «ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخراج به منها ملكا» (٢).

الآيات المذكورة تحل لنا رموز هذه المشكلة حينما تقول : (كانَ مِنَ الْجِنِ) ، والجن كائنات خفية عن أنظارنا لها عقل وإحساس وغضب وشهوة ، ومتى ما وردت في القرآن كلمة «الجن» فإنّها تعني هذه الكائنات ... لكن من يعتقد من المفسّرين بأن إبليس كان من الملائكة ، فإنّما يفسر الآية المذكورة آنفا

__________________

(١) الأنبياء ، ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) نهج البلاغة الخطبة (١٩٢) «الخطبة القاصعة».

٢٩٨

بمفهومها اللغوي ، ويقول : إنّه يفهم من عبارة (كانَ مِنَ الْجِنِ) أنّه كان خفيا عن الأنظار كسائر الملائكة ، وهذا المعنى خلاف الظاهر تماما.

ومن الدلائل الواضحة التي تؤكّد ما ذهبنا إليه من المعنى ، أنّ القرآن الكريم يقول في الآية (١٥) من سورة الرحمن : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) أي من نيران مختلطة ومن جانب آخر كان منطق إبليس عند ما امتنع عن السجود لآدم : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١).

هذا بالإضافة إلى أن الآيات الشريفة أعلاه أشارت إلى أن لإبليس (ذرية) في حين أن الملائكة لا ذرية لهم.

إن ما ذكرناه آنفا ، مضافا إليه التركيبة الجوهرية للملائكة تثبت أن إبليس لم يكن ملكا ، لكن آية السجود لآدم شملته ـ أيضا ـ لانضمامه إلى صفوف الملائكة ، وكثرة عبادته لله وطموحه للوصول إلى منزلة الملائكة المقربين.

وإنّما بيّن القرآن امتناع إبليس عن السجود بشكل استثنائي ، وأطلق عليه الأمام عليّعليه‌السلام في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة كلمة (الملك) كتعبير مجازي.

وجاء في كتاب (عيون الأخبار) عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : «إنّ الملائكة معصومون ومحفوظون من الكفر بلطف الله تعالى» قالا : قلنا له : فعلى هذا لم يكن إبليس أيضا ملكا؟ ، فقال : «لا ، بل كان من الجن ، أما تسمعان الله تعالى يقول : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) فأخبر عزوجل أنّه من الجن ، ...» (٢)

وفي حديث آخر نقل عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، بأن أحد أصحابه المخلصين وهو جميل بن دراج قال : سألته عن إبليس كان من الملائكة وهل كان يلي من أمر السماء شيئا؟قال : «لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي من السماء شيئا ، أنّه

__________________

(١) الأعراف ، ١٢.

(٢) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٦٧.

٢٩٩

كان من الجن وكان مع الملائكة ، وكانت الملائكة تراه أنّه منها ، وكان الله يعلم أنّه ليس منها ، فلمّا أمر بالسجود كان منه الذي كان» (١).

وعند ما صدر أمر السجود تحقق الشيء الذي نعرفه (كشفت الأستار واتضحت ماهية إبليس).

وهناك بحوث تفصيلية ذكرناها حول إبليس والشيطان بشكل عام في ذيل الآيات (١١ ـ ١٨) من سورة الأعراف ، وفي ذيل الآية (١١٢) من سورة الأنعام ، وفي ذيل الآية (٣٤) من سورة البقرة.

٢ ـ لا تستعينوا بالضالّين

مع أن هذه الآيات ، صادرة عنه تعالى وتنفي وجود عضد له من الضالين ، ونعلم أنّه تعالى ليس بحاجة إلى من يعينه سواء كان المعين ضالا أم لم يكن ، لكنها تقدم لنا درسا كبيرا للعمل الجماعي ، حيث يجب أن يكون الشخص المنتخب للنصرة والعون سائرا على منهج الحق والعدالة ويدعو إليها ، وما أكثر ما رأينا أشخاصا طاهرين قد ابتلوا بمختلف أنواع الانحرافات والمشاكل وأصيبوا بالخيبة وسوء الحظ جراء عدم الدقّة في انتخاب الأعوان ، حيث التفّ حولهم عدد من الضالّين والمضلّين حتى تلفت أعمالهم ، وكانت خاتمة أمرهم أن فقدوا كل ملكاتهم الإنسانية والاجتماعية.

إنّنا نقرأ في تاريخ كربلاء أن سيد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام قام يتمشى إلى (عبيد الله بن الحر الجعفي) وهو في فسطاطه حتى دخل عليه وسلم عليه ، فقام ابن الحر وأخلى له المجلس ، فجلس ودعاه إلى نصرته ، فقال عبيد الله بن الحر : والله ما خرجت من الكوفة إلّا مخافة أن تدخلها ، ولا أقاتل معك ، ولو قاتلت لكنت أوّل مقتول ، ولكن هذا سيفي وفرسي فخذهما ...

__________________

(١) المصدر السّابق.

٣٠٠