الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

لخصوصيات هذه القصّة.

على أية حال هناك قولان راجحان من بين الاحتمالات الكثيرة المطروحة عن مكان الكهف ، يمكن أن نجملهما بما يلي :

أوّلا : إنّ هذه الحادثة وقعت في مدينة (أفسوس) وهذا الكهف كان يقع بالقرب منها.

ويمكن في الوقت الحاضر مشاهدة خرائب هذه المدينة بالقرب من مدينة (أزمير) التركية ، وبالقرب من قرية (أياصولوك) في جبال (ينايرداغ) حيث يوجد كهف لا يبتعد كثيرا عن (أفسوس).

إنّ هذا الكهف هو غار وسيع ، ويقال بأنّه يمكن في داخله مشاهدة آثار مئات القبور ، ويعتقد الكثيرون بأنّ هذا الغار هو غار أصحاب الكهف.

وقد نقل من شاهد الكهف أنّ فتحة الغار باتجاه الشمال الشرقي ، وقد كان هذا الموقع سببا في ترجيح شك بعض المفسّرين الكبار بكون هذا المكان هو غير غار أصحاب الكهف ، في حين أنّ هذا الوضع يؤيد صحة الموضوع ويرجح كون الغار هو الكهف المقصود لأنّ دلالة أن تكون الشمس عند الشروق على يمين الغار ، وعند الغروب على يساره ، هو أن تكون فتحة الغار باتجاه الشمال أو تميل قليلا نحو الشمال الشرقي.

بالطبع لا يقلّل من صحة الموضوع عدم وجود مسجد أو معبد إلى جانبه ، حيث يمكن أن تكون آثاره قد اندثرت بعد مرور حوالي (١٧) قرن على الحادث.

ثانيا : يقع الغار بالقرب من (عمّان) عاصمة الأردن ، وبالقرب من قرية تسمّى «رجيب».

ويمكن مشاهدة آثار صومعة فوق الغار تعود ـ وفقا لبعض القرائن ـ إلى القرن الخامس الميلادي ، حيث تحوّلت إلى مسجد ذي محراب ومئذنة بعد

٢٤١

سيطرة المسلمين على ذلك المكان.

٣ ـ الجوانب التربوية لقصّة أهل الكهف

هذه القصّة التأريخية العجبية التي يذكرها القرآن خالية من أي خرافة أو وضع ، وفيها العديد من الدروس التربوية البنّاءة ، تماما كما في قصص القرآن الأخرى ، وإذا كنّا قد أشرنا إلى هذه الدروس ضمن تفسير الآيات ، فإنّنا نرى من الضروري الآن أن نشير إليها بشكل مجمل حتى نقترب أكثر من الهدف الأساس للقرآن ، وفيما يلي أبرز هذه الدروس :

أ: إنّ أول دروس هذه القصّة هو تحطيم حاجز التقليد ، والابتعاد عن التلوّن بلون المجتمع الفاسد. فهؤلاء الفتية حافظوا ـ كما لا حظنا ـ على استقلالهم الفكري في قبال الأكثرية المنحرفة المحيطة بهم ، وهذا الأمر أصبح سببا في نجاتهم وتحرّرهم.

وينبغي للإنسان أن يكون له تأثير بناء على مجتمعه لا أن يكون مسايرا له.

ب : الهجرة من الأوساط المنحرفة درس آخر في هذه القصّة ذات العبر ، فهم قد تركوا بيوتهم وحياتهم المرفّهة المليئة بألوان النعم المادية ، وتركوا مناصبهم ، ورضوا بأنواع الصعوبات وأشكال الحرمان ـ في الغار الذي كان يفتقد كل شيء ـ لكي يحفظوا إيمانهم ، ولا يكونوا من عوامل وأعوان جهاز الظلم والجور والكفر والشرك (١).

ج : التقية بمعناها البنّاء درس آخر نستفيده من هذه القصّة ، لقد كانوا يصرون على عدم اطّلاع أهل المدينة على حالهم وخبرهم ، واحتاطوا ليبقى أمرهم وحالهم مخفيا ، حتى لا يخسروا أنفسهم بدون سبب ، وكي يتجنبوا أن يجبروا

__________________

(١) من أجل المزيد من التفاصيل حول مسألة الهجرة وفلسفتها في الإسلام يمكن مراجعة ما جاء في تفسير الآية (١٠٠) من سورة النساء من تفسيرنا هذا.

٢٤٢

على الرجوع إلى المحيط المنحرف الذي تخلّصوا منه.

ونحن نعرف أنّ التقية ليست سوى أن يتكتم الإنسان على حقيقة أمره في الأماكن والمواقف التي لا يرتجي منها فائدة في ذكر الحقيقة ، بل تكون سببا للضرر. والتقية وقاية للنفس واحتفاظ بقوّة الإنسان لوقت جهاد العدو حيث لا تقية (١).

د : عدم وجود تفاوت بين الناس وهم في طريق الله ، فالوزير كان إلى جانب الراعي ، بل كان الاثنان إلى جانب الكلب كان يقوم بالحراسة. وهذا درس آخر يتّضح من خلاله أنّ امتيازات الدنيا المادية ، والمناصب المختلفة ليس لها أدنى نصيب أو تأثير على تصنيف الناس من أهل الحق وسالكية ، إذ الكل فيه سواء .. إنّ طريق الحق هو طريق التوحيد ، وطريق التوحيد هو طرق وحدة جميع الناس.

ه : الإمدادات الإلهية العجيبة عند ظهور المشاكل ، هي نتيجة أخرى يجب الاعتبار بها ، فقد رأينا كيف قام الخالق جلّ وعلا بإنامة أصحاب الكهف كل تلك المدّة الطويلة ، من أجل إنقاذهم من تلك الظروف الاجتماعية الصعبة التي كانت تحيط بهم.

وقد أيقظهم جلّ وعلا في الوقت المناسب ، أي في الوقت الذي أصبحوا رمزا من رموز التوحيد ، وقد رأينا ـ كشكل من أشكال العناية ـ كيف أنّ الله تعالى حفظ أجسادهم خلال هذه المدّة من تأثيرات الأحداث والعوامل المختلفة ، وجعل من الرعب والخوف أسلوبا للحفاظ عليهم في قبال أعدائهم.

و: لقد تعلّمنا من أصحاب الكهف قيمة (طهارة الطعام) حتى في أصعب الظروف وأدقّها ، لأنّ طعام الإنسان له آثار عميقة في روحه وفكره وقلبه ، وعند ما يختلط الطعام بالحرام والنجاسة ، يبتعد الإنسان عن طريق الله ؛ طريق

__________________

(١) حول كون التقية أسلوبا للدفاع والوقاية ، يمكن مراجعة ما ذكرناه لدى تفسير الآية (٦٢) من سورة يونس من تفسيرنا هذا ، وكذلك ملاحظة الملاكات الفقهية لهذه المسألة في كتابنا «القواعد الفقهية».

٢٤٣

التقوى.

ز : ضرورة الاعتماد على مشيئة الله وطلب العون من لطفه تعالى : وقول (إن شاء الله) في كل ما يتعلق بأمور المستقبل .. درس آخر نتعلمه من قصّة أصحاب الكهف.

ح : لقد رأينا أنّ القرآن سمّاهم : ب (الفتية) في حين أنّهم ـ طبقا للرّوايات ـ لم يكونوا شبابا من حيث العمر ، وإذا عرفنا أنّهم كانوا في البداية وزراء الملك الجبار ، يتأكد لنا أنّهم لم يكونوا صغارا من حيث العمر. ولكن تسمية القرآن لهم ب (الفتية) للدلالة على صفات الشهامة والرشد والطهر والفتوة العفو والتسامح.

ط : ضرورة النقاش المنطقي مع المعارضين درس آخر نستفيده من قصّة أصحاب الكهف ، حيث إنّهم عند ما أرادوا دحض الشرك الذي عليه مجتمعهم ، ذكروا أدلة منطقية قرأنا نماذج لها في الآيات (١٥ ـ ١٦) من هذه السورة.

إنّ أساس عمل جميع الأنبياء والقادة الإلهيين مع أعدائهم ومعارضين يستند ـ في العادة ـ إلى قاعدة الحوار المنطقي والنقاش الحر. أمّا استخدام القوة لأجل القضاء على الفتنة فهو أمر يلجأ إليه عند ما تفشل الحجة في أداء وظيفتها ، أو عند ما يقوم الخصم بعرقلة النقاش المنطقي.

ي : وأخيرا ، فإنّ إمكانية المعاد الجسماني وعودة الناس إلى الحياة مرّة أخرى عند البعث ، يعتبر عاشر وآخر درس نستفيده من هذه القصّة ، وسنقرأ عنه تفصيلا في بحوث قادمة إن شاء الله تعالى.

إنّنا لا نستطيع القول بأنّ الدروس التربوية في قصّة أصحاب الكهف تقتصر على ما ذكرناه ، ولكنّا نعتقد أنّه حتى لو كان هناك درس واحد نستفيده من هذه القصة لكفانا ذلك ، فكيف بنا وأمامنا هذه الدروس الكثيرة؟!

على أية حال ، إنّ هدف القرآن ليس قص القصص لغرض التسلية ، بل بناء الناس المقاومين المؤمنين الشجعان الواعين ، وأحد الطرق لذلك هو ذكر نماذج أصيلة مما حدث طوال التأريخ البشري المليء بالحوادث والمواقف.

٢٤٤

٤ ـ هل أنّ قصّة أصحاب الكهف علمية؟

من المسلّم به أنّ قصّة أصحاب الكهف لم تكن مذكورة في أي من الكتب السماوية السابقة (سواء الكتب الأصلية أو المحرّفة الموجودة الآن) ويجب أن لا تذكر ، لأنّ الحادثة ـ طبقا للتأريخ العام ـ كانت قد وقعت في القرون التي تلت ظهور المسيح عيسى عليه‌السلام.

إنّ حادثة أصحاب الكهف وقعت في زمان «دكيوس» (التي تعرّب بديقيانوس) حيث تعرّض المسيحيون في عصره إلى تعذيب شديد.

ويقول المؤرخون الأوربيون : إنّ هذه الحادثة وقعت في الفترة من ٤٩ ـ ٢٥١ ميلادي ، وبذلك يرى هؤلاء المؤرخون أنّ مدّة نوم أصحاب الكهف لم تستغرق سوى (١٥٧) سنة ، ويطلقون عليهم لقب (النائمون السبعة لأفسوس) في حين أنّهم يعرفون بيننا بأصحاب الكهف (١).

والآن لنتعرف أين تقع (أفسوس) هذه؟ ومن أوّل عالم كتب كتابا عن قصّة هؤلاء السبعة النائمين؟ وفي أي قرن حصل ذلك؟

(أفسوس) أو (أفسس) بضم الألف والسين ، هي واحدة من مدن آسيا الصغرى (تركيا الحالية التي هي جزء من مملكة الروم الشرقية القديمة) وتقع بالقرب من نهر (كاستر) وعلى بعد (٤٠) ميلا تقريبا جنوب شرقي (أزمير) حيث كانت عاصمة الملك (الونى).

وقد اشتهرت (أفسوس) بسبب معبدها الوثني المعروف بـ «أرطاميس» الذي يعتبر أحد عجائب الدنيا السبع (٢).

ويقولون : إنّ قصة أصحاب الكهف شرحت لأول مرّة في رسالة باللغة السريانية كتبها عالم مسيحي يسمى (جاك) الذي كان رئيسا للكنيسة السورية ،

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ١٥٣.

(٢) الكلام مقتبس من كتاب «قاموس الكتاب المقدّس» ، ص ٨٧.

٢٤٥

وذلك في القرن الخامس الميلادي ، ثمّ شخص آخر يسمّى «جوجويوس» بترجمة تلك الرسالة إلى اللاتينية وسمّها بـ «جلال الشهداء» (١). وهذا الأمر يبيّن أنّ الحادثة كانت معروفة بين المسيحيين قبل قرن أو قرنين من ظهور الإسلام ، وكانت الكنائس تهتم بها.

بالطبع بعض أحداث هذه القصّة ـ مثل مدّة نوم أصحاب الكهف ـ تختلف عمّا ورد في المصادر الإسلامية ، فالقرآن يقول ـ وبصراحة ـ بأنّ نومهم كان (٣٠٩) سنة.

من جانب ثان وطبقا لما ينقله ياقوت الحموي في معجم البلدان (المجلد الثّاني ص ٨٠٦) وطبقا لما ينقله «ابن خردادبه» في كتاب «المسالك والممالك» (صفحة ١٠٦ ـ ١١٠) وطبقا ـ أيضا ـ لما يقوله ابو ريحان البيروني في الصفحة (٢٩٠) من كتاب «الآثار الباقية» : إنّ مجموعة من السوّاح القدماء قد وجدوا غارا في مدينة (آبس) فيه بعض الأجساد المتيبسة ، وقد احتملوا أن هذه الآثار تتعلق بقصّة أصحاب الكهف.

من سياق الآيات القرآنية في سورة الكهف ، وأسباب النّزول المذكورة في المصادر الإسلامية ، نستفيد أنّ الحادثة كانت أيضا معروفة بين علماء اليهود ، وأنّها كانت عندهم حادثة تأريخية مشهورة. وبذلك يتّضح ـ بدقة ـ أنّ قصّة النوم الطويل لأصحاب الكهف وردت في المصادر التأريخية للأقوام المختلفة (٢).

وهنا قد يشك البعض في طول المدة التي قضاها أصحاب الكهف في نومهم ، ويعتبر أنّ ذلك لا ينطق مع المعايير العلمية ، لذلك يضعها في قسم الأساطير والقصص الخرافية (!!) والذرائع التي يستند إليها هؤلاء هي :

أوّلا : إنّ هذا العمر الطويل أمر غير مألوف في حياة الأشخاص العاديين

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ١٥٤.

(٢) المعاد والعالم بعد الموت ، ص ١٦٣ ـ ١٦٥.

٢٤٦

المستيقظين ، فكيف يصح تصوره لناس نيام؟!

ثانيا : إذا اقتنعنا بهذا العمر الطويل بالنسبة للأشخاص العاديين الذين يمارسون الحياة بشكل طبيعي ، فإنّ ذلك غير ممكن بالنسبة للنائمين ، لأنّ هناك مشكلة الطعام والشراب،إذ كيف يمكن للإنسان أن يبقى طيلة هذه المدّة بدون طعام أو شراب ، وإذا افترضنا مثلا أنّ الإنسان يحتاج يوميا إلى كيلو غرام واحد من الطعام أو لتر واحد من الماء ، فإنّ أصحاب الكهف كانوا بحاجة ، أثناء نومهم ، إلى (١٠٠) طن من الطعام و (١٠٠٠٠٠) لتر من الماء، ومن الطبيعي أنّ الجسم لا يستطيع خزن كل هذه الأحجام والكميات من الماء والطعام.

ثالثا : إذا تجاوزنا كل الأمور السابقة ، فسوف تكون أمامنا مشكلة جديدة ، وهي أن جسم الإنسان لا يستطيع أن يبقى كل هذه الفترة الطويلة من دون أن تتأثّر أجهزته وتتضرّر بأضرار فادحة.

إنّ هذه الأمور قد تبدو للوهلة الأولى مانعا من التصديق بقصّة أصحاب الكهف ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، إذ يمكن مناقشة الأمور السابقة وفقا لما يلي :

أوّلا : لا تعتبر قضية العمر الطويل قضية غير علمية ، حيث أنّنا نعلم أنّ طول عمر أي كائن حي ليس لها من الوجهة العلمية ميزان ثابت من حيث المدّة والعمر ، بحيث يكون موت الكائن عند هذا الحد المفترض أمرا حتميا.

بعبارة أخرى : صحيح أنّ الطاقة الجسمية للإنسان مهمّا بلغت فهي محدودة ولا بدّ أن تنتهي ، إلّا أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ جسم الإنسان ـ أو أي كائن حي آخر ـ ليست له قابلية البقاء أكثر من المقدار المألوف والمتعارف عليه.

أي إن المسألة ليست كالقوانين الطبيعية ، فمثلا الماء يغلي في درجة حرارة (١٠٠) مئوية ويتجمد في درجة الصفر المئوي ، فكذلك الإنسان إذا وصل إلى عمر المائة سنة أو المائة وخمسين سنة فإنّ قلبه سيتوقف عن العمل.

٢٤٧

إنّ المسألة ليست على هذه الشاكلة ، بل إنّ ميزان طول عمر الكائنات الحية يرتبط ارتباطا كبيرا بوضعهم المعيشي ، فعند ما تتغيّر الظروف بالكامل تكون الموازين قابلة للتغيير هي الأخرى.

والدليل على ما نقول ، هو أنّنا لم نر أحدا من علماء العالم قد حدّد ميزانا معينا لعمر الإنسان ، ومن جانب ثان استطاعوا من خلال تجارب مختبرية من زيادة عمر بعض الكائنات إلى الضعفين ، أو الثلاثة في بعض الأحيان ، واستطاعوا في أحيان أخرى أن يفعلوا ذلك بنسبة (١٢) مرّة أو أكثر قياسا للعمر المألوف.

واليوم فإنّ هؤلاء العلماء يأملون بأن الإنسان يمكنه ـ في المستقبل ومع ظهور أساليب علمية جديدة ـ أن يعيش عدّة أضعاف عمره الطبيعي.

هذا فيما يخص أصل قضية طول العمر.

ثانيا : أمّا فيما يخص الطعام والشراب أثناء فترة النوم الطويل ، فنقول : إنّ نوم أصحاب الكهف لو كان عاديا وطبيعيا فنستطيع عندها أن نقبل بالإشكالات والاعتراضات السابقة. أمّا من الوجهة العلمية فإنّ الأصول العلمية تقول : إنّ حاجة الجسم إلى الطاقة الغذائيه أثناء النوم أقل من حاجته إليها اليقظة ، إلّا أنّ الجسم مع ذلك لا يستطيع أن يدّخر ما يلزمه من طاقة غذائية لنوم طويل كنوم أصحاب الكهف.

وهنا ينبغي الالتفات إلى أنّ هناك أنواعا من النوم في عالم الطبيعة تكون فيها حاجة الجسم إلى الغذاء قليلة للغاية ، كما في حالة السبات مثلا.

حالة السبات :

هناك العديد من الأحياء تنام في فصل الشتاء ويسمّى نومها علميا بـ «السبات».

في هذا النوع من النوم تتوقف فعاليات الحياة تقريبا ، وتكون بأضعف حالة.

٢٤٨

فالقلب يتوقف عن العمل تقريبا ، وبعبارة أصح تكون ضرباته قليلة للغاية بحيث لا يمكن الإحساس بها أبدا.

في هذه الحالات يمكن تشبيه الجسم بالفرن العظيم الذي لا تبقى فيه بعد انطفائه سوى شعلة أو شمعة صغيرة دائبة الإشتغال. وواضح أنّ الطاقة التي تحتاجها هذه الأفران (من النفط أو غير) للاشتعال الطبيعي يعادل ما تحتاجه الشمعة الصغيرة من طاقة للاشتعال ، لعشرات أو مئات السنين. (يمكن أن نطبّق المثال على ما نحن فيه فتكون حالة اشتعال الفرن الطبيعي في شبيهة بحالة اليقظة ، أمّا حاله اشتعال الفرن على الشعلة الصغيرة فقط فهي شبيهة بحالة السبات والنوم الطويل).

من جهة أخرى يقول العلماء عن سبات بعض الأحياء : إنّنا إذا أخرجنا إحدى الزواحف وهي في حالة سبات ، فسوف نراها وكأنّها ميتة ، فلا هواء في رئتيها ، وضربات القلب ضعيفة بحيث لا يمكن الإحساس بها. ومن بين الحيوانات ذات الدم البارد نستطيع أن نعدّد الفراشات والحشرات والحلزون والزحافات وكلها تقوم بحاله السبات. كما أنّ بعض الحيوانات ذات الأثدية (ذات الدم الحار) تقوم بالسبات أيضا. وفي فترة السبات تكون الفعاليات الحياتية ضعيفة للغاية ، وتقوم الحيوانات السابتة باستهلاك المواد الدهنية المخزونة بالجسم بالتدريج» (١).

المقصود من كل هذا العرض هو أن نقول : إنّ هناك نوعا من النوم تكون الحاجة فيه إلى الطعام قليلة جدّا ، وقد تصل النشاطات الحياتية في مثل هذه الحالة إلى درجة الصفر.

وبالمناسبة ، نذكر هنا أنّ هذا الأمر يساعد في منع تلاشي أعضاء الجسم أو تضرّر الأجهزة الجسمية ، ويعين ـ أيضا ـ على طول عمر الكائن الحي.

__________________

(١) اقتباس عن دائرة المعارف الفارسية الجديدة ، مادة (سبات).

٢٤٩

إنّ السبات بالنسبة للحيوانات التي لا تستطيع الحصول على غذائها فرصة ثمينة للغاية لكي تديم حياتها عن هذا الطريق.

نموذج آخر : دفن المرتاضين

فيما يخص المرتاضين يشاهد أنّ بعضهم يتمّ وضعه بالتابوت ويدفن أحيانا تحت التراب لمدّة أسبوع ، وذلك أمام عيون المشاهدين الحيارى التي لا تكاد تصدّق ما ترى ، وبعد أن تنتهي المدّة المقرّرة يتمّ إخراجه ويجري له التدليك والتنفس الاصطناعي حتى يعود إلى حالته الطبيعية.

وحتى لو افترضنا أن حاجة أجسادهم إلى الطعام غير ملحّة ، فإنّ الحاجة إلى الأوكسجين حاجة مهمّة للغاية ولا يمكن للجسم التخلّي عنها ، إذا نعرف هنا أنّ حساسية الخلايا المخية للاوكسجين وحاجتها إليه كبيرة للغاية ، بحيث إذا حرمت منها لبضعة دقائق فإنّها ستتلف.

والآن يتساءل : كيف يتحمّل الشخص المرتاض قلّة الأوكسجين مثلا لمدّة قد تصل إلى حدود الأسبوع؟

الجواب على هذا السؤال ـ ومع مراعاة ما ذكرناه قبل قليل ـ ليس بالأمر الصعب ، ففي هذه المدّة تتوقف (تقريبا) الفعاليات الحياتية لجسم المرتاض ، لذا فإنّ حاجة الخلايا للأوكسجين واستهلاكها لها ستقل بشدّة ، بحيث أنّ الهواء الموجود في فضاء التابوت يكفي في هذه المدّة لتغذية الخلايا.

تجميد جسم الإنسان وهو حي :

اليوم ثمّة نظريات كثيرة حول تجميد جسم الأحياء بما فيهم الإنسان (لزيادة العمر) وقد تمّ تنفيذ قسم من هذه النظريات في الوقت الحاضر.

طبقا لهذه النظريات ، فإنّه عند وضع جسم الإنسان أو أي حيوان في درجة

٢٥٠

حرارة تحت الصفر ـ بأسلوب خاص ـ فإنّ حياته ستتوقف بدون أن يموت. وبعد مدّة معينة يوضع الكائن في درجة حرارية معينة حيث يرجع إلى الحالة العادية.

وقد تمّ اقتراح مجموعة حالات من هذه الحالة للإفادة منها في الرحلات الفضائية إلى الكواكب البعيدة التي يستغرق الوصول إليها مئات أو آلاف السنين ، حيث يتمّ تجميد أجسام روّاد الفضاء في محفظة خاصّة ، وبعد سنين طويلة ، وعند الاقتراب من الكواكب المعنية ترجع الحرارة العادية إلى تلك المحفظة بشكل أوتوماتيكي ، وعندها سيعود هؤلاء الروّاد إلى حالتهم العادية دون أن يحدث أي ضرر لهم.

ذكرت إحدى المجلات العلمية أنّ كتابا صدر مؤخرا حول تجميد جسم الإنسان بهدف إطالة عمره بقلم «روبرت نيلسون» وكان لهذا الكتاب صدى واسعا في عالم المعرفة. ففي المقالة التي نشرتها تلك المجلة في هذا المجال ، ذكر الكاتب أنّه تمّ أخيرا إضافة فرع علمي جديد إلى الفروع العلمية الأخرى ، يتكفل التخصص في هذا المجال.

ونقرأ في تلك المقالة أيضا : «لقد كانت الحياة الأبدية ـ على طول التأريخ ـ حلما من الأحلام الذهبية والقديمة للإنسان ، وفي الوقت الحاضر فقد تحقق هذا الحلم ، والسبب يعود إلى التقدّم العجيب لعلم حديث يسمّى (كريونيك) وهو علم يرسل الإنسان إلى عوالم الانجماد ، ويحفظه على شكل جسد منجمد على أمل أن يستطيع العلماء إعادته يوما إلى الحياة مرّة أخرى.

هل يمكن تصديق هذا الكلام؟ هناك العديد من العلماء البارزين الذين يقومون بالتفكير في هذا الأمر من جوانبه المختلفة. وهناك نشريات كثيرة تقوم ببحث هذا الموضوع مثل (لايف) و (اسكواير) والصحف العالمية في مختلف أنحاء العالم. والأهم من ذلك أنّ هناك برنامج في هذا المجال هو قيد التنفيذ في

٢٥١

الوقت الحاضر (١).

لقد أعلنت الصحف قبل مدّة عن اكتشاف سمكّة منجمدة بين ثلوج القطب الشمالي يعود عمرها إلى آلاف السنين ، كما تبيّن ذلك من طبقات الثلج القشرية ، وبعد أن وضعت السمكّة في ماء معتدل عادت إلى حياتها الطبيعية وبدأت بالحركة وسط دهشة الجميع.

ويتّضح من ذلك أنّ الأجهزة الحياتية لا تتوقف بالكامل في حالات الانجماد ، ولكن في هذه الظروف التي لا يمكن معها ممارسة الحياة الطبيعية يصبح عمل تلك الأجهزة بطيئا للغاية.

ومن مجموع هذه الأحاديث يتبيّن أنّه بالإمكان إيقاف الحياة أو تعويق حركتها بشدة والبحوث العلمية دعمت إمكانية ذلك من جوانب مختلفة. وفي مثل هذه الحالة يصل استهلاك البدن للطعام لدرجة الصفر تقريبا ، وبذا يكفيه المخزون القليل المدّخر في الجسم لإدامة الحياة البطيئة لسنوات طويلة.

ويجب أن لا يفسّر كلامنا هذا بأنّنا نستهدف انكار الجانب الإعجازي في نوم أصحاب الكهف ، بل نريد أن نقرّب الأمر للأذهان من وجهة نظر العلم. إذ من المحتم أنّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوما عاديا كمنامنا في الليل ، لقد كان نومهم ذا جنبة استثنائية، لذلك فلا عجب في نوم هؤلاء هذه المدّة الطويلة (بإرادة الله) من دون أن يكونوا بحاجة إلى الشراب والطعام ، ومن دون أن تتضرّر أجسامهم وأجهزتهم الحيويه.

والطريف في الأمر أنّنا نستفيد من آيات سورة الكهف أنّ طبيعة نومهم كانت تختلف عن النوم العادي : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ... لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (٢). إنّ هذه الآية تدل على أن نومهم لم

__________________

(١) مجلة «دانشمند» ، عدد ٤٧ ، ص ٤.

(٢) الكهف ، ١٨.

٢٥٢

يكن نوما عاديا ، بل هو أشبه ما يكون بحالة الميت. (ذي العيون المفتوحة).

إضافة إلى ذلك تفيد آيات السورة أنّ نور الشمس لم يكن يشع داخل كهفهم ، ولأنّه من المحتمل أن يكون الكهف في جبال آسيا الصغرى ، وفي منطقة باردة ، فإنّ ذلك يعدّ مؤشرا على الحالة الاستثنائية لنومهم ، ومن جانب آخر فإنّ القرآن يقول : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) (١).

ومن الآية يتبيّن أنّهم لم يكونوا على حالة واحدة ، وأنّ هناك عوامل وقوى غيبية خفية غير واضحة لنا كانت تقلبهم نحو اليمين واليسار (احتمالا في كل سنة مرّة واحدة) حتى لا تتضرّر أجسامهم.

والآن وبعد أن اتّضحت الجوانب العلمية في هذا البحث ، فإنّ المعاد لم يعد يحتاج إلى كلام كثير ، لأنّ اليقظة بعد ذلك النوم الطويل تشبه الحياة بعد الموت وتقرّب إلى الأذهان قضية المعاد (٢)

* * *

__________________

(١) الكهف ، ١٨.

(٢) لتفاصيل أكثر يراجع كتاب : المعاد والحياة بعد الموت.

٢٥٣

الآيات

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

٢٥٤

سبب النّزول

يروي المفسّرون في سبب نزول الآيات الأولى في هذا المقطع من سورة الكهف المباركة (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ...) أنّ مجموعة من أشراف قريش ومن المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : يا رسول الله ، إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء وروائح صنانهم (كانت عليهم جباب الصوف) (١) جلسنا نحن إليك ، وأخذنا عنك ، لأنّه لا يمنعنا من الدخول عليك إلّا هؤلاء.

لقد كان هؤلاء الأشراف والمؤلفة قلوبهم يقصدون في كلامهم المستضعفين والفقراء من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمثال سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وصهيب وعمّار بن ياسر وخباب وغيرهم ممن كان على شاكلتهم ، إذ كان هؤلاء ممن التفّ حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممن قربه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه.

لذلك اشترط الأشراف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطرد أمثال هؤلاء الفقراء عن مجلسه ونعتوهم بشتى النعوت.

وهنا نزلت الآية الكريمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ ...) فلمّا نزلت الآية قام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتمسهم فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون الله عزوجل ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي. معكم المحيا ومعكم الممات».

التّفسير

الحفاة الأطهار!

من الدروس التي نستفيدها من قصّة أصحاب الكهف أنّ مقياس قيمة البشر

__________________

(١) هذه الصفات أطلقها أشراف قريش والمؤلفة قلوبهم على المستضعفين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأبي ذر وغيره.

٢٥٥

ليست بالمنصب الظاهري أو بالثروة ، بل عند ما يكون المسير في سبيل الله يتساوى الوزير والراعي ، والآيات التي نبحثها تؤكّد هذه الحقيقة المهمّة وتعطي للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الأمر:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) إنّ استخدام تعبير (اصْبِرْ نَفْسَكَ) هو إشارة إلى حقيقة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد تعرّض إلى ضغط الأعداء المستكبرين والمشركين حتى يبعد عنه مجموع المؤمنين الفقراء ، لذلك جاءه الأمر الإلهي بالصبر والاستقامة أمام هذا الضغط المتزايد وأن لا يستسلم له. إنّ استخدام تعبير (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) إشارة إلى أنّهم كانوا دائما وأبدا يذكرون الله.

أمّا استخدام مصطلح (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (١) فهو دليل على إخلاصهم وإشارة إلى أنّهم يعبدون الله لذاته لا طمعا بالجنة (بالرغم من نعمها الكبيرة والثمينة) ولا خوفا من الجحيم وعذابه (بالرغم من شدّة عذابها) بل يعبدون الله لأجل ذاته المنزّهة ، وهذه أعلى مرتبة في الطاعة والعبودية والحبّ والإيمان بالله تعالى.

ثمّ تستمر الآيات مؤكّدة خطابها للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) فلا تنظر إلى هؤلاء المستكبرين بدل المستضعفين من أجل بهارج الدنيا وزخارفها.

ثمّ من أجل التأكيد مجددا يقول تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا).

(وَاتَّبَعَ هَواهُ) والمطيع لاهوائه النّفسية ، والمفرط في أفعاله دائما (وَكانَ

__________________

(١) فيما يخص معنى (وجه) وأنها تأتي في بعض الأحيان بمعنى (الذات) وأحيانا بمعنى (وجه الإنسان) وفي سبب انتخاب ذلك في هذه الموارد .. فيما يخص كل ذلك يمكن مراجعة ما كتبناه مفصلا لدى تفسير الآية (٢٧٢) من سورة البقرة في تفسيرنا هذا.

(٢) (لا تعد) مأخوذة من كلمة «عدا يعدو و...» وهي بمعنى تجاوز الشيء وبذا يصبح مفهوم الجملة (لا تبعد عينيك عنهم كي تنظر إلى الآخرين).

٢٥٦

أَمْرُهُ فُرُطاً) (١).

الطريف هنا أنّ القرآن وضع هاتين المجموعتين في مقابل بعضهما من حيث الصفات، وكان الأمر كما يلي :

مؤمنون حقيقيون إلّا أنّهم فقراء ، ولهم قلوب مملوءة بحبّ الله ، يذكرونه باستمرار ويسعون إليه.

الأغنياء المستكبرون الغافلون عن ذكر الله ، والذين لا يتبعون سوى هواهم ، وخارجون عن حدّ الاعتدال في كل أمورهم ويفرطون ويسرفون.

إنّ الموضوع ـ أعلاه ـ من الأهمية بمكان ، بحيث أنّ القرآن يقول للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بصراحة ـ في الآية التي بعدها : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).

ولكن اعلموا أنّ هؤلاء عباد الدنيا الذين يسخرون من الألبسة الخشنة التي يرتديها أمثال سلمان وأبي ذر خاصّة ، والذين يعيشون حياة مرفهة باذخة ومليئة بالزينة ، ستنتهي عاقبهم إلى سوء وظلام وعذاب : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها).

نعم ، إنّهم كانوا اعطشوا في هذه الدّنيا كان الخدم يجلبون لهم أنواع المشروبات ، ولكنّهم عند ما يطلبون الماء في جهنّم يؤتي إليهم بماء كالمهل : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) (٢).

(بِئْسَ الشَّرابُ).

ثمّ (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (٣).

__________________

(١) «فرط» تعني التجاوز عن الحد ، وكل شيء يخرج عن حدّه ويتحول إلى إسراف يقال له (فرط).

(٢) «مهل» على وزن «قفل» وهي تعني كما يقول الراغب في المفردات : هي المقدار المترسب من الدهن والذي يكون عادة ملوثا بأشياء وسخة ورديئة الطعم ، إلّا أنّ بعضا آخر من المفسّرين يقولون بأنّها تعني أي معدن مذاب.

والظاهر أنّ تعبير (يشوي الوجوه) يرجّح المعنى الثّاني.

(٣) «مرتفق» من كلمة «رفق ورفيق» بمعنى محل اجتماع الأصدقاء.

٢٥٧

تصوروا هل يمكن شرب الماء الذي إذا اقترب من الوجه فإنّ حرارته ستشوي الوجه؟إن ذلك بسبب أنّهم شربوا في الدنيا أنواع المشروبات المنعشة والباردة ، في حين أنّهم أجّجوا في قلوب المحرومين نيرانا ، إنّ هذه النار هي نفسها التي تجسدت في الآخرة بهذا الشكل.

والطريف في أمر هؤلاء أنّ القرآن ذكر لهم بعض «التشريفات» وهم في جهنّم. لقد كان لهؤلاء في حياتهم الدنيا (سرادق) عالية وباذخة ليس فيها نصيب للفقراء ، وهذه السرادق ستتحوّل إلى خيام عظيمة من لهيب نار جهنّم!

وفي هذه الدنيا تتوفر لديهم أنواع المشروبات التي تحضر بين أيديهم بمجرّد مناداة الساقي ، وفي جهنّم يوجد أيضا ساق وأشربة ، أمّا ما هو نوع الشراب؟ إنّه ماء كالمعدن المذاب! حرارته كحرارة دموع اليتامى وآهات المستضعفين والفقراء الذين ظلمهم هؤلاء الأغنياء! نعم ، إنّ كل ما هو موجود هناك (في الآخرة) هو تجسيد لما هو موجود هنا (في الدنيا).

وبما أنّ أسلوب القرآن أسلوب تربوي وتطبيقي ، فإنّه بعد ما بيّن أوصاف وجزاء عبيد الدنيا ، ذكر حال المؤمنين الحقيقيين وجوائزهم الثمينة الغالية التي تنتظرهم جزاء ما فعلوا. لقد أجملت الآية كل ذلك بشكل مختصر ، ثمّ بشكل تفصيلي نوعا ما.

ففي البدء قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) أي إنّنا لا نضيع أعمال العاملين قليلة كانت أو كثيرة ، كلية أو جزئية ، ومن أي شخص وفي أي عمر كان :

(أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) (الجنات الخالدة).

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) (من تحت الأشجار والقصور).

(يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) (١).

__________________

(١) «أساور» جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) و (كتاب) وهي في

٢٥٨

(وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) (من حرير ناعم وسميك).

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) (١).

(نِعْمَ الثَّوابُ).

(وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (وحسنت مجمعا للأحبّة).

* * *

بحوث

١ ـ الرّوح الطبقية مشكلة اجتماعية كبيرة

ليست الآيات الآنفة الذكر ـ وحدها ـ تحارب تقسيم المجتمع إلى مجموعتين من الأغنياء والفقراء ، بل إنّنا نجد الكثير من الآيات القرآنية الأخرى ، ممّا ذكرنا سابقا أو سنذكرها لاحقا ، تؤكّد جمعها على هذا الموضوع.

إنّ المجتمع الذي تكون فيه مجموعة (وهي أقلية في الغالب) مرفهة وغارقة في الإسراف والتبذير وملوّثة بأنواع المفاسد ، سيكون في مقابل هؤلاء مجموعة أخرى ، هم الأكثرية التي لا تملك أبسط وسائل الحياة الإنسانية. ومثل هذا المجتمع يرفضه الإسلام وليس مجتمعا إنسانيا.

مثل هذا المجتمع سوف لا يرى الاستقرار أبدا ، وسوف يلقي الاستعمار والاستكبار وأشكال الظلم والعبودية بضلال عليه. وغالبا ما تقوم الحروب الدامية في مثل هذه المجتمعات ولا تنتهي الاضطرابات فيها أبدا.

ومن الطبيعي أن يتساءل المرء عن أسباب تكدّس النعم الإلهية بيد حفنة معدودة من الناس وبدون سبب ، بينما الأكثرية تعيش الفقر والألم والعذاب

__________________

الأصل مأخوذة من كلمة فارسية عرّبت واشتقت منها الأفعال العربية.

(١) «أرائك» جمع «أريكة» وتطلق على السرير الذي تكون جوانبه جميعا مغطاة ، وهي في الأصل ـ كما يقول الراغب ـ مأخوذة من (أراك) وهي شجرة معروفة كان العرب يصنعون منها مظلّة ؛ أو من (أروك) بمعنى الإقامة والتوّقف.

٢٥٩

والمرض؟

إنّ مثل هذا المجتمع يكون مملوءا ـ حتما ـ بالكراهية والحسد والكبر والعداء والغرور والظلم والتكّبر ، وكل عوامل الفساد الأخرى.

ولو دققنا النظر في تأريخ النّبوات لرأينا أنّ الأنبياء عليهم‌السلام بأجمعهم ، وخصوصا رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجهوا هذا النظام المنحرف والظالم ورموزه من الأغنياء الظالمين من أجل تأمين عوامل الاستقرار داخل المجتمع.

في مثل هذه المجتمعات الطبقية تكون جلسات واجتماعات المترفين منفصلة عن مجالس الفقراء ، وأماكنهم ، وكذا الحال بالنسبة لمراكز الترفيه وما إلى ذلك. (هذا إذا كان الفقراء يملكون في الأصل مراكز للترفيه). ثمّ إنّ العادات والتقاليد تختلف بين المجموعتين تماما.

إنّ هذا الانفصال المجافي للروح الإنسانية ، وروح كل القوانين السماوية ، لن يتحملها أي رجل إلهي. وقد كان مثل هذا الوضع حاكما بشدّة في المجتمع العربي الجاهلي ، حتى كان هؤلاء يعتبرون التفاف الفقراء من أمثال سلمان وأبو ذر حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أكبر العيوب (!!) ولكن لم يعلم هؤلاء الأغنياء أن قلوب الفقراء هؤلاء مملوءة بحب الله والإيمان وبصفات الشهامة والإيثار.

في المجتمع الجاهلي الذي عاصر النّبي المصلح نوح عليه‌السلام ، قال المترفون من الملأ عبيد الدنيا مخاطبين نوحا عليه‌السلام : لماذا اتبعك الذين هم أراذلنا (على حدّ قولهم) ولقد حكى القرآن اعتراضهم هذا في الآية (٢٧) من سورة هود في قوله تعالى : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا).

وهكذا نرى أنّ عبيد الدنيا وأتباع الهوى هؤلاء يرفضون الجلوس ـ حتى للحظات ـ قرب الفقراء المؤمنين!

ولاحظنا ـ أيضا ـ كيف أن رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرده للمجموعة الأولى

٢٦٠