الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

ففي رواية نقرأ أنّه جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسأله قائلا : أحبّ أن يستجاب دعائي.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طهّر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام» (١).

ثانيا : التقية البنّاءة

نستفيد من تعبير الآيات أعلاه أنّ أصحاب الكهف كانوا يصرّون على أن لا يعرف أحد مكانهم حتى لا يجبرون على عبادة الأصنام ، أو يقتلون بأفجع طريقة من خلال رميهم بالحجارة. إنّهم كانوا يرغبون في أن يبقوا غير معروفين حتى يستطيعوا بهذا الأسلوب الاحتفاظ بقوّتهم للصراع المقبل ، أو على الأقل حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بإيمانهم.

وهذا المعنى تعبير عن أحد أقسام «التقية البنّاءة» حيث أنّ حقيقة التقية هو أن يحفظ الإنسان طاقته من الهدر بإخفاء نفسه أو عقيدته. يحفظ نفسه ويصونها حتى يستطيع ـ في مواقع الضرورة ـ الاستمرار في جهاده المؤثّر. وطبيعي عند ما تكون التقية وإخفاء العقيدة سببا لتصدّع الأهداف والبرنامج الكبرى ، فإنّها تكون ممنوعة وينبغي الجهر بالحق والصدع به بالغا ما بلغ الضرر.

ثالثا : اللطف مركز القرآن

إنّ قوله تعالى : (لْيَتَلَطَّفْ) ـ كما هو مشهور ـ هي نقطة الفصل بين نصفي القرآن من حيث عدد الكلمات. وهذا بنفسه يشير إلى معنى لطيف للغاية ، لأنّ الكلمة مشتقّة من اللطف ، واللطافة والتي تعني هنا الدقة. بمعنى أنّ المرسل لتهيئة الطعام عليه أن يذهب ويرجع بحيث لا يشعر أحد بقصتهم.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد الرابع ، أبواب الدعاء ، باب (٦٧) الحديث الرابع. ولمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية (١٨٦) من سورة البقرة.

٢٢١

بعض المفسّرين قالوا : إنّ الغرض من التلطّف في شراء الطعام هو أن لا يتصعّب في التعامل ، ويبتعد عن النزاع الضوضاء وينتخب أفضل البضاعة.

وهذا بذاته لطف أن تشكّل كلمة اللطف وسط القرآن ونقطة النصف بين كلماته الهادية.

* * *

٢٢٢

الآيات

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤))

التّفسير

نهاية قصّة أصحاب الكهف :

لقد وصلت بسرعة أصداء هجرة هذه المجموعة من الرّجال المتشخّصين

٢٢٣

إلى كلّ مكان وأغاظت بشدّة الملك الظالم ، حيث قدّر أن تكون هذه الهجرة مقدّمة ليقظة ووعي الناس ، أو قد يذهب أصحاب الكهف إلى مناطق بعيدة أو قريبة ويقومون بتبليغ مذهب التوحيد والدعوة إليه ، ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام.

لقد أصدر الحاكم تعليماته إلى جهاز شرطته للبحث عن أصحاب الكهف في كل مكان ، وعليهم أن يتبعوا آثارهم حتى إلقاء القبض عليهم ومعاقبتهم.

ولكن كلما بحثوا لم يعثروا على شيء ، وهذا الأمر أصبح بحدّ ذاته لغزا للناس ، ونقطة انعطاف في أفكارهم ، وقد يكون هذا الأمر ـ وهو قيام مجموعة من ذوي المناصب في الدولة بترك مواقعهم العالية في الدولة وتعريض أنفسهم للخطر ـ هو بحدّ ذاته سببا ليقظة الناس ومصدرا لوعيهم ، أو لوعي قسم منهم على الأقل.

ولكن في كل الأحوال ، فإنّ قصّة هؤلاء النفر قد استقرت في صفحات التأريخ وأخذت الأجيال والأقوام تتناقلها عبر مئات السنين.

والآن لنعد إلى الشخص المكلّف بشراء الطعام ولننظر ماذا جرى له.

لقد دخل المدينة ولكنّه فغرفاه من شدّة التعجّب ، فالشكل العام للبناء قد تغيّر ، هندام الجميع ولباسهم غريب عليه ، الملابس من طراز جديد ، خرائب الأمس تحولت إلى قصور ، وقصور الأمس تحوّلت إلى خرائب!

لقد ظنّ ـ للحظة واحدة ـ أنّه لا يزال نائما ، وأنّ ما يشاهده ليس سوى أحلام ، فرك عينيه ، إلّا أنّه التفت إلى ما يراه ، وهو عين الحقيقة ، وإن كانت عجيبة ولا يمكن تصديقها.

إنّه لا يزال يعتقد بأنّ نومهم في الغار كان ليوم أو بعض يوم ، فلما ذا هذا الاختلاف، وكيف تمّت كل هذه التغييرات الكبيرة والواسعة في ظرف يوم واحد؟!

٢٢٤

ومن جانب آخر كان منظره هو عجيبا للناس وغير مألوف. ملابسه ، كلامه ، شكله كل شيء فيه بدا غريبا للناس ، وقد يكون هذا الوضع قد لفت أنظارهم إليه ، لذا قام بعضهم بمتابعته.

لقد انتهى عجبه عند ما مدّ يده إلى جيبه ليسدّد مبلغ الطعام الذي اشتراه ، فالبائع وقع نظره على قطعة نقود ترجع في قدمها إلى (٣٠٠) سنة ، وقد يكون اسم (دقيانوس) الملك الجبار مكتوبا عليها ، وعند ما طلب منه توضيحا قال له بأنّه حصل عليها حديثا.

وقد عرف الناس تدريجيا من خلال سلسلة من القرائن أنّ هذا الشخص هو واحد من أفراد المجموعة الذين قرءوا عن قصّتهم العجيبة والتأريخية التي وقعت قبل (٣٠٠) سنة ، وأنّ قصّتهم كانت تدور على الألسن في اجتماعات الناس وندواتهم ، وهنا أحسّ الشخص بأنّه وأصحابه كانوا في نوم عميق وطويل.

هذه القضية كان لها صدى كالقنبلة في المدينة ، وقد انتقلت عبر الألسن إلى جميع الأماكن.

قال بعض المؤرّخين : إنّ حكومة المدينة كانت بيد حاكم صالح ومؤمن ، إلّا أنّ استيعاب وفهم قضية المعاد الجسماني وإحياء الموتى بعد الموت كان صعبا جدّا على أفراد ذلك المجتمع ، فقسم منهم لم يكن قادرا على التصديق بأنّ الإنسان يمكن أن يعود للحياة بعد الموت ، إلّا أنّ قصّة أصحاب الكهف أصبحت دليلا قاطعا لأولئك الذين يعتقدون بالمعاد الجسماني.

ولذا فإنّ القرآن يبيّن أنّنا كما قمنا بإنامتهم نقوم الآن بإيقاظهم حتى ينتبه الناس:(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ثمّ أضاف تعالى : (وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها).

حيث أنّ هذا النوم الطويل الذي استمرّ لمئات السنين كان يشبه الموت ، وأن إيقاظهم يشبه البعث. بل يمكن أن نقول : إنّ هذه الإنامة والإيقاظ هي أكثر إثارة

٢٢٥

للعجب من الموت والحياة في بعض جوانبها ، فمن جهة قد مرّت عليهم مئات السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفن أو تتأثّر ، وقد بقوا طوال هذه المدّة بدون طعام أو شراب ، إذن كيف بقوا أحياء طيلة هذه المدّة؟

أليس هذا دليلا قاطعا على قدرة الله على كل شيء ، فالحياة بعد الموت ، بعد مشاهدة هذه القضية ممكنة حتما.

بعض المؤرّخين كتب يقول : إنّ الشخص الذي أرسل لتهيئة الطعام وشرائه ، عاد بسرعة إلى الكهف وأخبر رفقاءه بما جرى ، وقد تعجب كل منهم ، وبعد أن علموا بفقدان الأهل والأولاد والأصدقاء والإخوان ، ولم يبق من أصحابهم أحد ، أصبحت الحياة بالنسبة إليهم صعبة للغاية ، فطلبوا من الخالق جلّ وعلا أن يميتهم ، وينتقلون بذلك إلى جوار رحمته. وهذا ما حدث.

لقد ماتوا ومضوا إلى رحمة ربّهم ، وبقيت أجسادهم في الكهف عند ما وصله الناس.

وهنا حدث النزاع بين أنصار المعاد الجسماني وبين من لم يعتقد به ، فالمعارضون للمعاد كانوا يريدون أن تنسى قضية نوم ويقظة أصحاب الكهف بسرعة ، كي يسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع ، لذا فقد اقترح هؤلاء أن تغلق فتحة الغار ، حتى يكون الكهف خافيا إلى الأبد عن أنظار الناس.

قال تعالى : (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً).

ولأجل إسكات الناس عن قصّتهم كانوا يقولون : لا تتحدثوا عنهم كثيرا ، إنّ قضيتهم معقدة ومصيرهم محاط بالألغاز!! لذلك فإن : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ). أي اتركوهم وشأنهم واتركوا الحديث في قصّتهم.

أمّا المؤمنون الحقيقيون الذين عرفوا حقيقة الأمر واعتبروه دليلا حيّا لإثبات المعاد بعد الموت ، فقد جهدوا على أن لا تنسى القصة أبدا لذلك اقترحوا أن يتخذوا قرب مكانهم مسجدا ، وبقرينة وجود المسجد فإنّ الناس سوف لن

٢٢٦

ينسوهم أبدا ، بالإضافة إلى ما يتبرك به الناس من آثارهم : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

وفي تفسير الآية ذكرت احتمالات أخرى سنقف على بعضها في البحوث.

الآية التي بعدها تشير إلى بعض الاختلافات الموجودة بين الناس حول أصحاب الكهف ، فمثلا تتحدث الآية عن اختلافهم في عددهم فتقول : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ). وبعضهم (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ). وذلك منهم (رَجْماً بِالْغَيْبِ). وبعضهم (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). أمّا الحقيقة فهي: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ). ولذلك لأنّه (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ).

وبالرغم من أنّ القرآن لم يشر إلى عددهم بصراحة ، لكن نفهم من العلامات الموجودة في الآية أنّ القول الثّالث هو الصحيح المطابق للواقع ، حيث أنّ كلمة (رَجْماً بِالْغَيْبِ) وردت بعد القول الأوّل والثّاني ، وهي إشارة إلى بطلان هذين القولين ، إلّا أنّ القول الثّالث لم يتبع بمثل الاستنكار بل استتبع بقوله تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) وأيضا بقوله (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وهذا بحدّ ذاته دليل على صحة هذا القول (الثّالث).

وفي كل الأحوال فإنّ الآية تنتهي بنصيحة تحت على عدم الجدال حولهم إلّا الجدل القائم على أساس المنطق والدليل : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً).

(مراء) كما يقول الراغب في مفرداته ، مأخوذة في الأصل من (مريت الناقة) بمعنى قبضت على (ضرع) الناقة لأحلبها ، ثمّ أطلق المعنى بعد ذلك ليشمل الأشياء الخاضعة للشك والترديد.

وقد تستخدم كثيرا في المجادلات والدفاع عن الباطل ، إلّا أنّ أصلها لا يختص بهذا المعنى ، بل تتسع لكل أنواع البحوث والمفاوضات حول أي موضوع كان موضعا للشك.

«ظاهر» تعني غالب ومسيطر ومنتصر. لذا فالآية تقول : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا

٢٢٧

مِراءً ظاهِراً) بمعنى قل لهم قولا منطقيا بحيث تتوضح رجحان منطقك.

وقد احتمل البعض أن تفسير هذه الآية هو : لا تتحدّث حديثا خاصّا مع المعارضين والمعاندين حيث أنّهم يحرّفون كلّ ما تقول ، بل تحدّث معهم علانية وأمام النّاس كي لا يستطيعوا أن يحرفوا حقيقة ما تقول ، ولا يستطيعوا إنكارها.

التّفسير الأوّل أكثر صحّة.

وعلى أي حال فإنّ مفهوم الكلام هو : عليك أن تتحدّث معهم بالاعتماد على الوحي الإلهي ، لأنّ أقوى الأدلة هو ما يصدر عن الوحي دون غيره : (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً).

الآية التي بعدها تعطي توجيها عاما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً).

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يعني يجب أن تقول (إن شاء الله) لكل ما يخص أخبار المستقبل وأحداثه ولكل تصميم تتخذه ، لأنّك أوّلا غير مستقل في اتّخاذ القرارات ، وإذا لم يشأ الله فإنّ كائنا من كان لا يستطيع القيام بأيّ عمل ، لذا ولأجل أن تثبت أنّ قوّتك قبس من قوّة الله الأزلية ، وأنّها مرتبطة بقدرته ، أضف عبارة (إن شاء الله) إلى كلامك.

ثانيا : لا يصح للإنسان ـ من الوجهة المنطقية ـ أن يقطع في أخباره المستقبلية ومواقفه وتصميماته ، لأنّ قدرته محدودة مع احتمال ظهور الموانع المختلفة ، لذلك الأفضل له ذكر جملة (إن شاء الله) مع كل تصميم لفعل شيء.

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون مراد الآية هو أن تنفي استقلال الإنسان في إنجاز الأعمال ، حيث يصبح مفهوم الآية : إنّك لا تستطيع أن تقول : إنّك ستقوم بالعمل الفلاني غدا إلّا أن يشاء الله ذلك.

بالطبع فإنّ لازم هذا القول أن الكلام سيكون تاما مع اضافة (ان شاء الله)

٢٢٨

ولكن هذا اللزوم سيكون للجملة لا للمتن كما هو الحال في التّفسير الأوّل (١).

سبب النّزول الذي أوردناه في بداية الآيات يؤيد التّفسير الأوّل ، حيث أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وعد بالإجابة على أسئلة قريش حول أصحاب الكهف وغيرها بدون ذكر جملة (إن شاء الله) لذلك تأخّر عنه الوحي فترة ، لكي يكون ذلك تحذيرا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكون عبرة لجميع الناس.

وبعد ذلك يقول القرآن : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) وهذه إشارة إلى أنّ الإنسان إذا نسي قول (إن شاء الله) وهو يتحدّث عن أمر مستقبلي ، فعليه أن يقولها فور تذكره ، حيث يعوّض بذلك عمّا مضى منه.

وبعد ذلك جاء قوله تعالى : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً).

* * *

بحوث

١ ـ قوله تعالى : (رَجْماً بِالْغَيْبِ)

كلمة (رجم) تعني في الأصل الحجارة أو رمي الحجارة ، ثمّ أطلقت بعد ذلك على أي نوع من أنواع الرمي. وتستخدم في بعض الأحيان كناية عن (الاتهام) أو (الحكم استنادا إلى الظن والحدس). وكلمة (بالغيب) تأكيدا لهذا المعنى ، يعني لا تحكم بدون الاستناد على مصدر أو علم.

٢ ـ الواو في قوله : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)

في الآيات أعلاه وردت جملة (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) و (سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) بدون

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أنّه طبقا للتفسير الأوّل فإنّ هناك جملة مقدّرة وهي (أن تقول) ويصبح المعنى بعد التقدير (إلّا أن تقول إن شاء الله) أمّا وفقا للتفسير الثّاني فليس ثمّة حاجة لهذا التقدير.

٢٢٩

(واو) في حين أنّ جملة (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) بدأت بالواو. ولأنّ جميع تعابير القرآن تنطوي على ملاحظات ومغاز ، لذلك نرى أنّ المفسّرين بحثوا كثيرا في معنى هذه الواو.

ولعل أفضل تفسير لها هو ما قيل من أنّ هذه (الواو) تشير إلى آخر الكلام وآخر الحديث ، كما هو شائع استخدامه في أسلوب التعبير الحديث ، إذ توضع الواو لآخر شيء من مجموعة الأشياء التي تذكر مثلا نقول (جاء زيد ، عمر ، حسن ، ومحمّد) فهذه الواو إشارة إلى آخر الكلام وتبيّن الموضوع والمصداق الأخير.

هذا الكلام منقول عن المفسّر المعروف (ابن عباّس) ، وقد أيده بعض المفسّرين ، واستفادوا من هذه (الواو) لتأييد القول في أنّ عدد أصحاب الكهف الحقيقي هو سبعة ، حيث أنّ القرآن بعد ذكر الأقوال الباطلة ، أبان في الأخير العدد الحقيقي لهم.

البعض الآخر من المفسّرين كالقرطبي والفخر الرازي ذكروا رأيا آخر في تفسير هذه (الواو) وخلاصته : «إنّ العدد سبعة عند العرب عدد كامل ، ولذلك فإنّهم يعدّون حتى السبعة بدون واو. أمّا بمجرّد أن يتجاوزوا هذا العدد فإنّهم يأتون بالواو التي هي دليل على بداية الكلام والاستئناف. لذلك تعرف (الواو) هذه عند الأدباء العرب بأنّها (واو الثمانية)».

وفي الآيات القرآنية غالبا ما يواجهنا هذا الموضوع ، فمثلا الآية (١١٢) من سورة التوبة عند ما تعدّد صفات المجاهدين في سبيل الله تذكر سبع صفات بدون واو وعند ما تذكر الصفة الثامنة فإنّها تذكرها مع الواو فتقول : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ).

وفي الآية (٥) من سورة التحريم ، تذكر الآية في وصف نساء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبع صفات ثمّ تذكر الثّامنة مع الواو حيث تقول : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً).

٢٣٠

وفي الآية (٧١) من سورة الزمر التي تتحدّث عن أبواب جهنّم تقول : (فُتِحَتْ أَبْوابُها) إلّا أنّها وبعد آيتين وعند الحديث عن أبواب الجنة تقول الآية : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها). أليس ذلك بسبب أنّ أبواب النار سبعة ، وأبواب الجنّة ثمانية؟

طبعا قد لا يكون هذا تعبيرا عن قانون كلّي ، ولكنّه ـ في الأغلب ـ يعبّر عن ذلك. في كل الأحوال يظهر من ذلك أنّ حرف (الواو) وهو مجرّد حرف ، له حساب خاص في الاستعمال ويظهر حقيقة معينة.

٣ ـ المسجد إلى جوار المقبرة

ظاهر تعبير القرآن أنّ أصحاب الكهف ماتوا أخيرا ودفنوا ، وكلمة «عليهم» تؤيّد هذا القول. بعد ذلك قرّر محبّوهم بناء مسجد بجوار مقبرتهم ، وقد ذكر القرآن هذا الموضوع في الآيات أعلاه بلهجة تنم عن الموافقة ، وهذا الأمر يدل على أنّ بناء المساجد لاحترام قبور عظماء الدين ليس أمرا محرما ـ كما يظن ذلك الوهابيون ـ بل هو عمل حلال ومحبّذ ومطلوب.

وعادة فإنّ بناء الأضرحة التي تخلّد الأشخاص الكبار أمر شائع بين أمم العالم وشعوبه، ويبيّن جانب الاحترام لمثل هؤلاء الأشخاص ، وتشجيع لمن يأتي بعدهم ، والإسلام لم ينه عن هذا العمل ، بل أجازه وأقرّه.

إنّ وجود مثل هذه الأبنية سند تأريخي للتدليل على وجود هذه الشخصيات والرموز وعلى منهجها ومواقفها ، ولهذا السبب فإنّ الأنبياء والشخصيات الذين هجرت قبورهم فإنّ تأريخهم أمسى موضعا للشك والاستفهام.

ويتّضح من ذلك أيضا أن ليس هناك تضاد بين بناء المساجد والأصرخة وبين قضية التوحيد واختصاص العبادة بالله تعالى ، بل هما موضوعان مختلفان.

بالطبع هناك بحوث كثيرة حول هذا الموضوع فليراجع إلى مظانها.

٢٣١

٤ ـ كل شيء يعتمد على مشيئته تعالى

إنّ ذكر جملة (إن شاء الله) عند اتّخاذ القرارات المرتبطة بالمستقبل ليس نوعا من الأدب في محضر الخالق جلّ وعلا وحسب ، بل هو بيان لحقيقة أنّنا لا نملك شيئا من عندنا، بل هو من عنده تعالى ، وكلنا نعتمد ونستند إليه لأنّه هو المستقل بالذات فقط ، فلو تحركت كل السكاكين والشفرات في العالم لتقطع عرقا واحدا فإنّها لا تستطيع من دون إذنه تعالى.

إنّ هذه الحقيقة هي نفسها (توحيد الأفعال) ففي الوقت الذي يملك الإنسان حريته وإرادته ، فإنّ تحقق أي شيء وأي عمل إنّما يرتبط بمشيئة الخالق جلّ وعلا.

إنّ تعبير (إن شاء الله) يزيد من توجهنا نحو الله تبارك وتعالى ، ويمنحنا القوّة والقدرة على الإنجاز ، وهو مدعاة إلى تزكية وطهارة وصحة الأعمال أيضا.

ونستفيد من بعض الرّوايات أنّ الإنسان إذا ذكر كلاما عن المستقبل بدون ذكر (إن شاء الله) فإنّ الله سوف يكله إلى نفسه ويخرجه من مظلة حمايته (١).

وفي حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام نقرأ أنّه عليه‌السلام أمر يوما بكتابة رسالة ، وعند ما جاؤوا بالرسالة إليه وجدها خالية من كلمة (إن شاء الله) فقال عليه‌السلام : «كيف رجوتم أن يتمّ هذا وليس فيه استثناء ، انظروا كل موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه».

٥ ـ الإجابة على سؤال

قرأنا في الآيات ـ محل البحث ـ أنّ الله يخاطب رسوله بقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (٢) وهي إشارة إلى أنك عند ما تنسى ذكر (إن شاء الله) وتتذكر بعد ذلك

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٥٣ و ٢٥٤.

(٢) المصدر السّابق.

٢٣٢

فعليك باستدراك الأمر بذكر (إن شاء الله).

وفي الأحاديث العديدة الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ـ في تفسير الآية ـ هناك تأكيد على هذا الموضوع حتى بعد مرور سنة إذا تذكرت فعليك أن تقول (إن شاء الله) عوضا عمّا فاتك وعمّا نسيته (١).

والآن قد يطرح هذا السؤال وهو : إذا جاز نسبة النسيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين أنّ الناس يعتمدون على أقواله وأعماله ، فكيف يستقيم ذلك مع دليل عصمة الأنبياء والرسل والأئمّة من الخطأ والنسيان؟

ولكن ينبغي الالتفات الى أنّ الكثير من الآيات القرآنية يكون الحديث فيها موجها إلى الرسل في حين أنّ المعنيّ بها عامّة الناس ، وهي كما يقول المثل العربي ، «إياك أعني واسمعي يا جارة».

بعض المفكرين الكبار ذكروا جوابا على هذا السؤال أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (٦٨) من سورة الأنعام.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٥٤ فما بعد.

٢٣٣

الآيات

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧))

التّفسير

نوم أصحاب الكهف :

من القرائن الموجودة في الآيات السابقة نفهم إجمالا أنّ نوم أصحاب الكهف كان طويلا جدّا. هذا الموضوع يثير غريزة الاستطلاع عند كل مستمع ، إذ يريد أن يعرف كم سنة بالضبط استمرّ نومهم؟

في المقطع الأخير من مجموعة الآيات التي تتحدث عن أصحاب الكهف ، تبعد الآيات الشك عن المستمع وتقول له : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ

٢٣٤

وَازْدَادُوا تِسْعاً) (١).

ووفقا للآية فإنّ مجموع نومهم وبقائهم في الكهف هو (٣٠٩) سنة. والبعض يرى أن ذكر ثلاثمائة وتسعة مفصولة بدلا عن ذكرها في جملة واحدة ، يعود إلى الفرق بين السنين الشمسية والسنين القمرية حيث أنّهم ناموا (٣٠٠) سنة شمسية ، وبالقمري تعادل (٣٠٩). وهذا من لطائف التعبير حيث أوجز القرآن بعبارة واحدة صغيرة ، حقيقة كبيرة تحتاج إلى شرح واسع (٢).

ومن أجل وضع حد لأقاويل الناس حول مكثهم في الكهف تؤكّد الآية : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) لماذا؟ لأن : (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

والذي يعرف خفايا وظواهر عالم الوجود ويحيط بها جميعا ، كيف لا يعرف مدّة بقاء أصحاب الكهف : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) (٣) ولهذا السبب فإنّ سكان السماوات والأرض:(ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ).

أمّا من هو المقصود بالضمير (هم) في (مالهم) فقد ذكر المفسّرون أقوالا كثيرة ، إذا يعتقد البعض أنّها اشارة إلى سكان السماوات والأرض ، أمّا البعض الآخر فيعتقد أن الضمير إشارة إلى أصحاب الكهف ، بمعنى أنّ أصحاب الكهف لا يملكون وليا من دون الله، فهو الذي تولاهم في حادثة الكهف ، وقام بحمايتهم.

ولكن بالنظر إلى الجملة التي قبلها ، يكون التّفسير الأوّل أقرب.

وفي نهاية الآية يأتي قوله تعالى : (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً). هذا الكلام هو في الحقيقة تأكيد على الولاية المطلقة للخالق جلّ وعلا ، إذ ليس هناك قدرة

__________________

(١) طبقا للقواعد النحوية يجب أن تأتي كلمة (سنة) والتي هي مفرد بدلا من (سنين) التي هي جمع ، ولكن بما أن النوم كان طويلا للغاية ، وعدد السنوات كثيرا ، لذا ذكرت الكلمة بصيغة الجمع حتى توضّح الموضوع وتبيّن كثرته.

(٢) الفرق بين السنة الشمسية والقمرية هو (١١) يوم تقريبا ، فإذا ضربنا ذلك (٣٠٠) وقسمنا الناتج على عدد أيّام السنة القمريّة أي على (٣٥٤) يكون العدد (٩) طبعا يبقى باق قليل ، أهمل لأنّه لا يصل إلى السنة الكاملة.

(٣) جملة (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هي صيغة تعجّب ، تبيّن لنا عظمة علم الخالق جلّ وعلا ، والمعنى أنّه بصير سميع بحيث أنّ الإنسان يعجب من ذلك.

٢٣٥

أخرى لها حق الولاية المطلقة على العالمين ، ولا يوجد شريك له تعالى في ولايته ، يعني ليس ثمّة قدرة أخرى غير الله لها حق الولاية في العالم ، لا بالاستقلال ولا بالاشتراك.

وفي آخر آية يتوجّه الخطاب إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول الله له : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ). أي لا تعر أية أهمية إلى أقوال الآخرين المخلوطة بالكذب والخرافة والوضع ، يجب أن يكون اعتمادك في هذه الأمور على الوحي الإلهي فقط. لأنّه لا يوجد شيء يستطيع أن يغيّر كلامه تعالى : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ).

فكلام الله تعالى وعلمه ليس من سنخ علم الإنسان الذي يخضع يوميا للتغيّر والتبديل بسبب الاكتشافات الجديدة والمعرفة الحديثة. لذلك لا يمكن الاعتماد عليها والركون إليها مائة في المائة ، ولهذه الأسباب : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً).

«ملتحد» مشتقّة من «لحد» على وزن «مهد» وهي الحفرة التي يميل وسطها إلى أحد الأطراف (كاللحد الذي يحفر لقبر الإنسان).

ولهذا السبب يقال للمكان الذي يميل إليه الإنسان (ملتحد) ، ثمّ استخدمت بعد ذلك بمعنى «ملجأ».

ومن المهم أن نلاحظ أنّ الآيتين الأخيرتين بينتا إحاطة علم الخالق جلّ وعلا بجميع كائنات الوجود ، وذلك من خلال عدّة طرق.

* في البداية تبيّن الآيات : أنّ غيب السماوات والأرض من عنده ، ولهذا فهو تعالى محيط بها جميعا.

* ثمّ تضيف : إنّه سميع وبصير لأقصى حد ولأبلغ غاية.

* مرّة أخرى تقول : إنّه الولي المطلق ، وإنّه أعلم الجميع.

* ثمّ تضيف مرّة أخرى : لا يشاركه أحد في حكمه حتى يتحدّد علمه أو معرفته.

٢٣٦

* ثمّ تقول : لا يتغيّر ولا يتبدّل علمه وكلامه.

* وفي آخر جملة تقول الآية : أنّه تعالى هو الملجأ الوحيد في الوجود لا سواه نعلمه محيط بكلّ اللاجئين إليه سبحانه وتعالى.

* * *

بحوث

١ ـ قصّة أصحاب الكهف في الرّوايات الإسلامية

هناك روايات كثيرة في المصادر الإسلامية حول أهل الكهف ، ولكن بعضها لا يعتمد عليها لضعف في سندها ، والبعض الآخر تتضاد وتختلف فيما بينها.

ومن الرّوايات المختلفة اخترنا رواية علي بن إبراهيم القمي التي ينقلها في تفسيره ، وقد لاحظنا في هذه الرّواية أنّها الأفضل من حيث المتن والمضمون الذي يتناسق مع الآيات القرآنية.

في رواية علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عات ، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله ، وكانوا هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون الله عزوجل ، ووكل الملك بباب المدينة وكلاء ولم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للأصنام ، فخرج هؤلاء بعلة الصيد ، وذلك أنّهم مرّوا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب ، فأجابهم الكلب وخرج معهم ، فقال الصادق عليه‌السلام : لا يدخل الجنة من البهائم إلا ثلاثة حمار بلعم بن باعور ، وذئب يوسف عليه‌السلام وكلب أصحاب الكهف.

فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلّة الصيد هربا من دين ذلك الملك ، فلمّا أمسوا دخلوا إلى ذلك الكهف ، والكلب معهم فألقى الله عزوجل عليهم النعاس ، كما قال الله تبارك وتعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) فناموا حتى أهلك الله عزوجل الملك وأهل مملكته وذهب ذلك الزمان ، وجاء زمان آخر وقوم

٢٣٧

آخرون ثمّ انتبهوا ، فقال بعضهم لبعض : كما نمناها هنا فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت فقالوا : نمنا يوما أو بعض يوم. ثمّ قالوا لواحد منهم : خذ هذه الورق وادخل في المدينة متنكرا لا يعرفوك فاشتر لنا ، فإنّهم إن علموا بنا وعرفونا قتلونا أو ردّونا في دينهم ، فجاء ذلك الرجل فرأى المدينة بخلاف الذي عهدها ، ورأى قوما بخلاف أولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغتهم ، ولم يعرف لغتهم ، فقالوا له : من أنت ومن أين جئت ، فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه ، والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف ، فأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم : هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم ، وقال بعضهم : هم خمسة وسادسهم كلبهم ، وقال بعضهم : هم خمسة وسادسهم كلبهم ، وقال بعضهم : هم سبعة وثامنهم كلبهم ، وحجبهم الله عزوجل بحجاب من الرعب فلم يكن أحد يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنّه لمّا دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكون صحاب [الملك] «دقيانوس» شعروا بهم ، فأخبرهم صاحبهم أنّهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل ، وأنّهم آية للناس ، فبكوا وسألوا الله تعالى أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا ، ثمّ قال الملك : «ينبغي أن يبنى هنا مسجد ونزوره ، فإنّ هؤلاء قوم مؤمنون».

وهنا أضاف الإمام عليه‌السلام : فلهم في كل سنة نقلة ، نقلتان ، ينامون ستة أشهر على جنبهم الأيمن ، وستة أشهر على جنبهم الأيسر ، والكلب معهم قد بسط ذراعيه بفناء الكهف» (١).

وفي رواية أخرى عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ورد حديث مفصّل عن قصّة أصحاب الكهف مفاده ما يلي :

لقد كان هؤلاء في الأصل ستة نفر اتّخذهم (ديقيانوس) وزراءه ، فأقام ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن يساره ، واتّخذ لهم عيدا في كل سنة مرّة ، فبينا هم ذات يوم في عيد والبطارقة عن يمينه والهراقلة عن يساره ، إذ أتاه بطريق فأخبره أنّ

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٢٣٨

عساكر الفرس قد غشيته ، فاغتمّ لذلك حتى سقط التاج عن رأسه ، فنظر إليه أحد الثلاثة الذين كانوا عن يمينه ويقال له (تلميخا) فقال في نفسه : لو كان (ديقيانوس) إلها كما يزعم إذا ما كان يغتم وما كان يبول ولا يتغوّط ، وما كان ينام ، وليس هذا من فعل الإله.

وقد كان هؤلاء الوزراء الستة يجتمعون كل يوم عند أحدهم ، وكانوا ذلك اليوم عند (تلميخا) فاتّخذ لهم من طيّب الطعام ثمّ قال لهم : يا إخوتاه ، قد وقع في قلبي شيء منعني الطعام والشراب والمنام. قالوا : وما ذاك يا تلميخا؟ قال : أطلت فكري في هذه السماء فقلت من رفع سقفها محفوظة بلا عمد ولا علاقة من فوقها ، ومن أجرى فيها شمسا وقمرا ، آيتين مبصرتين ، ومن زيّنها بالنجوم! ثمّ أطلت الفكر في الأرض فقلت : من سطحها على صميم الماء الزخّار ، ومن حبسها بالجبال أن تميد على كل شيء؟ وأطلت فكري في نفسي من أخرجني جنينا من بطن أمي ومن غذّاني ومن ربّاني؟ إنّ لها صانعا ومدبرا غير (ديقيانوس الملك) ، وما هو إلّا ملك الملوك وجبّار السماوات.

فانكب الفتية (الوزراء) على رجليه يقبلونها وقالوا : بك هدانا الله تعالى من الضلالة إلى الهدى فأشر علينا. وهنا وثب (تمليخا) فباع تمرا من حائط له بثلاثة آلاف درهم وصرّها في ردائه وركبوا خيولهم وخرجوا من المدينة ، فلما ساروا ثلاثة أميال قال لهم تمليخا: يا إخوتاه جاءت مسكنة الآخرة وذهب ملك الدنيا ، انزلوا عن خيولكم وامشوا على أرجلكم لعلّ الله أن يجعل لكم من أمركم فرجا ومخرجا ، فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجلهم سبعة فراسخ في ذلك اليوم ، فجعلت أرجلهم تقطر دما.

وهنا استقبلهم راع ، فقالوا : يا أيّها الراعي هل من شربة لبن أو ماء؟ فقال الراعي:عندي ما تحبّون ، ولكن أرى وجوهكم وجوه الملوك ، وما أظنّكم إلّا هرّابا من «ديقيانوس» الملك.

٢٣٩

قالوا : يا أيّها الراعي لا يحلّ لنا الكذب أفينجينا منك الصدق؟ فأخبروه بقصّتهم ، فانكب الراعي على أرجلهم يقبلها ويقول : يا قوم لقد وقع في قلبي ما وقع في قلوبكم ، ولكن أمهلوني حتى أردّ الأغنام على أربابها وألحق بكم ، فتوقفوا له ، فردّ الأغنام ، وأقبل يسعى يتبعه الكلب ... فنظر الفتية (الوزراء) إلى الكب وقال بعضهم : إنّا نخاف أن يفضحنا بنباحه ، فألحّوا عليه بالحجارة ، فأنطق الله تعالى جلّ ذكره ، الكلب [قائلا]:ذروني حتى أحرسكم من عدوّكم.

فلم يزل الراعي يسير بهم حتى علا بهم جبلا ، فانحطّ بهم على كهف يقال له (الوصيد) فإذا بفناء الكهف عيون أشجار مثمرة فأكلوا من الثمر ، وشربوا من الماء ، وجنّهم الليل ، فآووا إلى الكهف وربض الكلب على باب الكهف ومدّ يديه عليه ، فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بقبض أرواحهم. (فأنامهم الله نوما طويلا وعميقا) (١).

وفيما يخص ديقيانوس قال بعض المفسّرين : إنّه كان امبراطور الروم وحكم منذ عام ٢٤٩ ـ ٢٥١ ميلادي ، وقد كان عدوا شديدا للمسيحيين ، وكان يؤذيهم ويعذبهم ، وذلك قبل اعتناق ملك الروم لدين المسيحية.

٢ ـ أين كان الكهف؟

للمفسّرين والعلماء كلام كثير حول أصحاب الكهف ، أين كانت منطقتهم؟ وأين يقع الكهف الذي مكثوا فيه؟

وهنا ينبغي أن نلاحظ أنّه بالرغم من أنّ العثور على المكان الدقيق لهذه الحادثة لا يؤثّر كثيرا على أصل القصّة ودروسها التربوية وأهميتها التأريخية ، وبالرغم من أنّ هذه القصّة ليست الوحيدة التي نعرف أصلها ولا نعرف بعض جزئياتها وتفصيلاتها ، إلّا أنّ معرفة محل الحادث يساعدنا حتما في فهم أكثر

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٣٨٢ مادة فكر.

٢٤٠